المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها - التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق

[محمد بن علي بن غريب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ ما ورد إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الرسائل:

- ‌سبب تأليف الرسالة:

- ‌ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر من أخذ عنه العلم:

- ‌تعصب الراوي وكبره:

- ‌ما ذكره الراوي في شأن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

- ‌رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونقد الراوي لها:

- ‌رد الشيخ على قول الخصم:

- ‌تعريف المرتد:

- ‌حكم التوسل بالأعمال الصالحة وبأسماء الله وصفاته:

- ‌تعريف الدليل لغة واصطلاحاً:

- ‌قصائد في مدح الشيخ من علماء الأقطار:

- ‌رد قول الخصم أن الشيخ أخذ علمه من كتب ابن تيمية:

- ‌تعريف التقليد:

- ‌تعريف الإجماع:

- ‌رجوع إسماعيل بن اسحق الأشعري عن معتقداته:

- ‌تعريف السلف

- ‌حدوث العالم وأنه لا خالق سوى الله:

- ‌المعاد الجسماني والمجازاة:

- ‌جواز العفو عن المذنبين:

- ‌شفاعة الرسل:

- ‌إنكار الخوارج والمعتزلة للشفاعة:

- ‌عقيدة السلف الصالح في الشفاعة:

- ‌بعثة الرسل بالمعجزات حق:

- ‌أهل الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة:

- ‌وجوب نصب الإمام على المكلفين:

- ‌الإمام الحق بعد الرسول أبو بكر ورد قول الرافضة:

- ‌الأفضلية على ترتيب الخلافة

- ‌عدم تكفير أحد من أهل القبلة:

- ‌التوحيد وما يتعلق به:

- ‌الاعتقاد المكفر أقسام:

- ‌تارك الصلاة كافر، وإقامة الدليل عليه:

- ‌الأدلة على كفر تارك الصلاة:

- ‌الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة:

- ‌مسائل الإيمان والإسلام والفرق الضالة:

- ‌حكم الفاسق:

- ‌كفر دون كفر:

- ‌الحكم بغير ما أنزل الله كفر عملي:

- ‌الجمع بين حديثي "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " وبين حديث " لا يزني الزاني

- ‌النفاق نفاقان

- ‌حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف

- ‌حمل نصوص القرآن وغيرها على ظواهرها

- ‌تعريف العبادة

- ‌حمل المؤمن عل الصلاح

- ‌وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف

- ‌زيارة القبور الشرعية وما ورد في ذلك

- ‌الشفاعة الثابتة والمنفية والمنهي عنها

- ‌الدعاء عند الموتى أو بهم ليس من الوسائل المشروعة

- ‌مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور

- ‌حكم المتهاون بصلاته

- ‌المسابقة مع الإمام يبطل الصلاة وكلام الإمام أحد فيها

- ‌لبس الخلقة والخيط لدفع البلاء أو رفعه من الشرك

- ‌حكم التبرك بالشجر والحجر

- ‌الدلائل القائمة على ألوهية الخالق

- ‌تعريف النذر لغة وشرعاً وحكم النذر لغير الله

- ‌الاستعاذة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌نداء غير الله هو الدعاء الذي هو العبادة

- ‌الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌قول البوصيري يا أكرم الخلق وحديث بن مظعون وتزكية الناس ورد قول الخصم فيما يتعلق بقول البوصيري

- ‌بحث قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

- ‌الكلام في العبادة والعبودية

- ‌قول الخصم لا يلزم من دعاء الغير أن يكون شركاً في العبادة والجواب عنه

- ‌قول الخصم كيف يقال طلب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إشراك والجواب عنه

- ‌الشفاعة ومعناها ورد قول المخالف

- ‌الاعتصام بالكتاب والسنة

الفصل: ‌الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

لنفسه ودفع الضر عنها، فكيف يقدر على ذلك لغيره، وسؤاله إقامة له مقام من يقدر وليس هو بقادر، ويشهد لهذا المعنى الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم:" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص الخيط إذا أدخل البحر" وفي الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث: " وذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون" فكيف يسأل الفقير العاجز ويترك الغني القادر إن هذا إلَاّ عجب العجب.

(ومنها أن الله) يحب أن يسأل ويغضب على من لا يسأله فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه ويحب الملحين في الدعاء.

(ومنها) أن الله يستدعي من عباده سؤله وينادي كل ليلة هل من سائل فأعطه سؤله هل من داع فأستجيب له وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} فأي وقت دعاه العبد وجده سميعاً قريباً مجيباً ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب.

ص: 303

‌الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

(وأما قولكم وقوله من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.

فنقول إن أراد بالاستغاثة، التي جعل مرتكبها كافراً، الاستغاثة به على اعتقاد أن غيره تعالى قادر بقدرة مؤثرة على جلب نفع له أو دفع مضرة عنه فلا شبهة في كفر من يعتقد ذلك، وإن أراد بمطلق الاستغاثة، يكون المرتكب مشركاً فغير مسلم إذ لا شك في أن للعبد قدرة كاسبة وما يفعل من فعل فهو بتأثير الله وكسب من العبد وحال دعاء غيره تعالى قد علم مما تقدم آنفاً والآية المذكورة لله معرض الاستدلال لا تصلح له دليلاً) فنقول هذا مما يؤيد ما قلناه من أن صاحب المقدمة إنما يقول من

ص: 303

عندياته وأنه لم يعلم معاني كلام الله وآياته، وسنة الرسول وأصحابه، وما قاله أهل اللغة في معنى الاستغاثة من أنها طلب الغوث من الغير، قال أهل اللغة المستغاث به هو المطلوب منه الغوث، والمستغيث هو الذي يطلب الإغاثة من غيره، وكذلك ما ذكره النحاة كلهم في باب الاستغاثة، وما نقلوه عن العرب من الفرق بين المستغاث به والمستغاث من أجله، كقولهم يالله للمسلمين بفتح لام المستغاث به وخفض لام المتسغاث من أجله، ومنه قول المهاجري يا للمهاجرين وقول الأنصاري يا للأنصار فاستغاث هذا بالمهاجرين وهذا بالأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ " فالمستغاث به عندهم هو الذي يدعى ويسأل ويطلب منه الغوث، والمنادي هو داعي المنادى لكن فرقوا بين دعاء المستغاث به وغيره، كما فرقوا بين دعاء الندبة وغيره، كقوله يا حسرتا على ما فرطت، وقولهم يا أبتاه يا عمران ونحو ذلك مما يلحقون في آخره ألفاً لأجل مد الصوت إذ النادب الحزين يمد صوته وهو يندب ما قد فات فيمد الصوت في آخر دعائه كقوله يا أسداه يا ركناه يا أبتاه حتى قالوا يا أمير المؤمنيناه يا عبد الملكاه إذ نداء الندبة يقوله الإنسان عند حدوث أمر عظيم، ويقوله للتوجب، كقول سارة حين بشرت بإسحق يا ويلتي، بخلاف المستغيث فإنه يدعو المستغاث به كما يدعو غيره فيقول يا لزيد كقوله يا زيد لكن دل بهذه الصيغة أنه يطلب منه الإعانة على ما يهمه من أموره مطلقاً، بخلاف النداء المجرد فإنه لا يدل على ذلك فالمستغيث بالشيء داعيه مع زيادة طلب الإغاثة، ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب، وهو موجود في جميع الكتب المتداولة التي يذكر فيها مثل هذا في كتب اللغة والنحو والتفسير ودواوين العرب وغير ذلك، أن المستغيث بالشيء هو الذي يطلب منه الغوث، وهم يقولون استغثته واستغثت به، كما يقولون استعنته واستعنت به، ودعوته ودعوت به، وبين المعنيين فرق لطيف، وهو أنهم إذا عدوه بنفسه لاحظوا أنه فاعل الغوث بنفسه، وإذا عدوه بالباء لاحظوا أنه معين على ذلك، فكأنه إذا قال استغثت فلاناً قال طلبت منه أن يغيثني وإذا قال استغثت به تضمن معنى استغثته واستغثت به على أن يغيثني، فالباء فيه متضمنة معنى كتبت بالقلم فالاستغاثة عامة في المعنى الاستغاثة وزيادة، هذا هو معناها في القرآن في قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم أي تستجيرون به من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر عليه وكذلك السنة في قوله صلى الله عليه وسلم:

ص: 304

" والله لا يأخذ أحدكم شيئاً بغير حقه إلَاّ لقي الله يحمله يوم القيامة فيأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك شيئاً قد بلغت ويأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغت" رواه البخاري فالمستغاث به مسؤول مطلوب. ومن المعلوم ضرورة أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع فيه للأمة أن تدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا غيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا غيرها كما أنه لم يشرع لها السجود لغيره تعالى، بل نهى عن ذلك كله وأخبر أنه من الشرك المنافي لما جاء به، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة جعل ذلك مما لا بأس به، ولهذا عمت دعوة الأموات والاستغاثة بهم عند نزول الكربات يسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، فكان ما يفعلونه بالأموات أعظم من عبادتهم واعتقادهم في رب الأرض والسموات، لأنهم أنما يقصدونهم في ضرورة نزلت بهم فيدعونهم دعاء المضطرين ولقضاء حاجاتهم منهم أو بهم راجين، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه، فإنما يفعلونه على وجه العادة، واشتراط صاحب المقدمة اعتقاد قدرة مؤثرة على جلب نفع له أو دفع مضرة عنه، دال على عدم معرفة أقسام الشرك الموجب للكفر الاعتقادي وخلود أهله في النار فإن ذلك المشروط إنما هو شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدوماً أصلاً بل لم يزل ولا يزال والموجد للحوادث أسباب أثرت فيها واقتضت إيجادها هي بنفسها أو شرك القدرية القائلين بأن الحيوان توجد منه قدرة على خلق أفعال نفسه وأنها تحدث بدون مشيئة الله تعالى، أو شرك الجهمية والقرامطة الذين لم يبقوا لله اسماً ولا صفة ولا قدرة تامة، بل جعلوا المخلوق له قدرة مؤثرة وأما تعطيل معاملته تعالى عما أوجب على عبيده والشرك فيها فليس عنده من ذلك تمييز ولا معرفة، والحاجب عن ذلك شهود القيومية التي يشترك فيها وفي معرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأما شهود الألوهية التي دعت إليه الرسل حيث أمروا بعبادة الله وحده وطاعته فإن العبد إذا فتحت عين بصيرته له فرق بينه وبين قسيمه الأول ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وعلم حكم المأمور به فعلاً وتركاً وكفراً أو معصية، والمنهي عنه كذلك ووالى أولياء الله وعادى أعداءه وصار على ملة إبراهيم ودين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن لم يقل بالفرق بين القسمين كان خارجاً عن حقيقة الإيمان كما أنه خارج عن شريعة

ص: 305

الإسلام فليس معه حقيقة إيمانية ولا شريعة إسلامية وإنما معه حقيقة خلقية قد أقر بها عباد الأصنام الذين هم مشركون، وذلك أن شهود القيومية بلا جمع بينه وبين شهود الألوهية ممتنع طبعاً وشرعاً إذ لا يغني أحدهما عن الآخر، فمن لم يشهد الفرق الشرعي الإلهي كان مع الفرق الطبيعي النفساني أو فرق شيطاني، ومن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ

} إلى قوله {.. فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وذكر الرحمن يراد به الذكر الذي أنزله الله، كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى

} إلى قوله.. {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} فمن أعرض عن هدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه فلم يفرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه كان معرضاً عن ذكره المنزل فيقيض له شيطاناً يصده عن سبيل الله، فيقول ويعمل بمجرد هواه، ومن أضل من اتبع هواه بغير هدى من الله، ولو كان مثل هذا ذكر الله ولم يشهد إلَاّ القيومية العامة لم يشهد ما جاء به الكتاب المنزل بل يكون من أعظم أتباع الشياطين الخارجين من الدين، كما تخرج الشعرة من العجين، ومع كون العبدله قدرة كسبية لا يخرج من مشيئة رب البرية، فلا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلَاّ الله ولا يستعان به، ولا يتوكل عليه فيه، ولا يطلب من الغائب أو الميت ما يطلب من الحي الحاضر، فليس في المخلوقات شيء ينفع ويضر استقلالاً، إذ ليس فيها ما يستقل بأحداث غيره ونفعه، ولا يفعل شيئاً إلَاّ بإذن الله، كما ليس فيها من يعطي ويمنع بهذا الاعتبار، وكما أن من أسمائه تعالى المعطي المانع الضار النافع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة:" اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وكان يقول في رقيته: " اذهب الباس رب البأس رب الناس لا شفاء إلَاّ شفاؤك" وفي رواية: "لا شافي إلَاّ أنت شفاء لا يغادر سقماً" وكذلك النفع والضر المعتاد كالصحة والمرض والغنى والفقر والأمن والخوف واليسر والعسر الحقيقيين لا يفعله رسول ولا غيره، وهذا ليس بخفي على عموم المؤمنين فضلاً عن علمائهم، وان وقع في كثير من ذلك ما وقع من العامة ونحوهم ممن ينتسب إلى الزهد والصلاح فهؤلاء وأمثالهم حقهم أن يرجعوا إلى العلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتكون عبادتهم وأعمالهم مقيدة بالشريعة النبوية والعلم الموروث لا بما يخطر لهم من الآراء والأهواء، قال سبحانه وتعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وفي الصحيحين من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

ص: 306

قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وقال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، وقد اتفق المسلمون على أنه ليس لأحد أن يعبد الله بما أحبه ورآه بل لا يعبده إلَاّ بما كان عبادة عند الله وهى العبادة الشرعية، ودين الإسلام مبني على أصلين (أحدهما) أن لا نعبد إلَاّ الله (الثاني) أن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع، كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملاً قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه، قال ان العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ولهذا قال الإمام أحمد إن أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث، حديث الحلال بين والحرام بين الحديث، وحديث إنما الأعمال بالنيات الحديث، وحديث من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، وذلك أن الدين فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، فالمنهي عنه ذكره في حديث الحلال بين والحرام بين، والمأمور به أمران: عمل باطن وهو إخلاص الدين لله، وعمل ظاهر وهو ما شرع لنا من واجب ومستحب، وأهل الضلال كالمشركين والنصارى يفارقون هذين الأصلين يعبدون غير الله ويبتدعون عبادة لم يأذن بها الله كما ذكر الله ذلك عنهم في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور وقد أمرنا الله أن نقول في صلاتنا:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون" وهم مبتدعون والمشركون يذهبون إلى ما ذهب إليه الضالون ابتداعاً يشرعون ديناً لم يأذن به الله فهم يدعون غير الله ويستغيثونه بما لا يقدر عليه الخلق فلا يكون عملهم لله خالصاً ولا للشريعة موافقاً وبذلك كانوا ضالين، فإن قيل يجوز أن يكون لفظ الاستغاثة بغير الله بمعنى التوسل فمعنى قول المستغيث أستغيث برسول الله وبفلان الولي أي أتوسل برسول الله أو بالولي، ويصح حينئذ أن يقال نجوز الاستغاثة في كل ما يطلب من الله بالأنبياء والصالحين، بمعنى أنه يجوز التوسل بهم في ذلك ويصح لفظاً ومعنى. الجواب أن هذا باطل من وجوه:

أحدها: أن لفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل

ص: 307

بمعنى الطلب من المستغاث به فقول القائل استغثت فلاناً واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به، وقد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن الاستغاثة لا تجوز بغير الله فيما لا يقدر عليه إلَاّ الله، وقول القائل استغثت به بمعنى توسلت بجاهه، هذا كلام لم ينطق به أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازاً ولم يقل أحد مثل هذا ولا معناه لا مسلم ولا كافر، والقائل أستغيث بفلان عندك أن تفعل بي كذا وكذا ناطق بما لم ينطق به أحد في اللغة بل ولا من سائر الأمم.

الثاني: أنه لا يقال إستغثت إليك يا فلان بفلان أن تفعل بي كذا، وإنما يقال استغثت بفلان أن يفعل بي كذا، فأهل اللغة يجعلون فاعل المطلوب هو المستغاث به نفسه، ولا يجعلون المستغاث به واحداً والمطلوب آخر، فالاستغاثة طلب منه لا به، وقولهم يالله للمسلين أحدها مطلوب، والآخر مطلوب له لا مطلوب به.

الثالث: أن من سأل بشيء أو توسل به لا يكون مخاطباً له ولا مستغيثاً به، لأن قول السائل المتوسل أتوسل إليك يا الهي بفلان إنما هو خطاب لله لا لذلك المتوسل به بخلاف المستغاث به فإنه مخاطب مسؤول منه الغوث فيما سأل من الله فحصلت المشاركة في سؤال ما لا يقدر عليه إلَاّ الله وكل دعاء شرعي لابد أن يكون الله هو المدعو فيه كالأدعية التي جاء بها الكتاب والسنة مما قص الله عن عباده الصالحين من أهل السموات والأرضين ومما شرعه لعباده المؤمنين ومما أخبر به عن خلقه واحتج به عليهم في أن لا يعبدوا غيرهم كما قال تعالى:{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وقال {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وقال عن إبراهيم {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، فالاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بغيرهم من الأنبياء والصالحين وغيرهم في كل ما يستغاث الله فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله قول لم يقل به أحد من علماء المسلمين، ولا من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا أئمة الفتيا المعتد بهم ولا علماء الحديث والتفسير، بل قائل هذا القول مغتر على الله ملبس على المسلمين، ولا يخرج مدلول قائل ذلك في اللغة المعروفة عن أن يكون

ص: 308

كفراً، إذ معناه طلب الإغاثة والتخليص من جنس الكربة والشدة، سواء كان طلب ذلك من الخالق أو المخلوق، وإذا كان كذلك فهذا القول يقتضي أنه يطلب من المخلوق الحي أو الميت إزالة الأمراض والأسقام، وكشف الجدب والقحط بإنزال المطر وإسقام الأنام، وكشف كل شدة وتفريج كل غمة، والنصر على الأعداء في الدين وإزالة الكفار والمشركين، وذلك هو الكفر برب العالمين، والمضاهاة للنصارى والمشركين، مع اعتقاد هذا المستغيث السائل أن لمن استغاثه وسأله من المخلوقين قدرة كاسبة وأن سائر فعله كائن بتأثير الله وكسب من العبد، ولكنه سأله ما استغاث فيه ملاحظاً ومجرد المسؤول إما نفس المخلوق المستغاث، أو على معنى أن جاهه قادر على تحصيل ما طلب منه استقلالاً، ولا يخرج مدلول استغاثته عن أن يكون مسؤولاً مأمولاً هو بنفسه ما طلب منه مما لا يقدر عليه إلَاّ الله زيادة على اعتقاده قدرة الجاه على إيجاد المطلوب وتحصيله.

الرابع: أن لفظ التوسل والتوجه ومعناهما يراد به أن يتوسل إلى الله ويتوجه إليه بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم عند خالقهم في حال دعائهم إياه فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف من الصحابة رضوان الله عليهم كما في صحيح البخاري: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون) فهذا إخبار عن عمر رضي الله عنه عما كانوا يفعلون وتوسل منهم بدعاء العباس كما كانوا يفعلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما استسقى بأهل الشام توسل بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي، وهذا هو الذي عناه الفقهاء في كتاب الاستسقاء في قولهم يستحب أن يستسقي بالصالحين وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، وكذلك الأعمى الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافيني قال:"ان شئت دعوت لك وإن شئت صبرت فهو خير لك" قال ادع لي فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك سيدنا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم فشفعه في" وقد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء ليشفعه الله بدعائه صلى الله عليه وسلم، كما طلب الصحابة من النبي الاستسقاء فدعا الله له وأمره صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله قبول شفاعته

ص: 309

فيه، وقوله يا محمد إني أتوجه بك إلى الله في حاجتي هذه لتقضي خطاب لحاضر معاين في قلبه، كقولنا في صلاتنا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وكاستحضار الإنسان محبه أو مبغضه في قلبه فيخاطبه بما يهواه بلسانه، وهذا كثير في لسان الخاصة دون العامة ومعناه أتوجه إليك بدعاء نبيك أو شفاعته المشتملة على الدعاء لي ولهذا قال في تمام الحديث اللهم شفعه في وهذا متفق على جوازه وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه سواء كان بلفظ الاستغاثة أم بغيرها ومنه ما قص الله عن الإسرائيلي المستغيث بموسى على القبطي لط قوله تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى} أو كاستشفاع الأمة من أهل الموقف بالأنبياء والطواف عليهم يسألونهم أن يشفعوا إلى الله من أهل الموقف عامة، وأما المخلوق الغائب أو الميت فلا يستغاث ولا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلَاّ الله البتة.

الخامس: أن التوسل فيه اجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة والتابعين طلب الدعاء من النبي أو الصالح أو التوجه بدعائه كما تقدم عنهم، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل عند الله، وأما معناه في لغة هؤلاء المعاندين فهو أن يسأل الله عز وجل بذات ذلك المخلوق ويقسم عليه تعالى به، أو يسأل ذلك المخلوق نفسه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله يتقرب بذاته ويسأل منه شفاعته، والله تعالى واحد لا شريك له في عبادته ولا في معاملته، بل هو أحد صمد متعال عن الأنداد والأضداد، ولا يقسم عليه تعالى بشيء من مخلوقاته فلا يقال أقست عليك يا رب بنبيك أو بجاهه، ولا بملائكتك ولا بعبادك الصالحين ولا بكعبتك كما لا يجوز القسم بهذه الأشياء، ومجرد ذوات الأنبياء والصالحين ومحبة الله لهم وحصول الجاه لهم عنده ليس بها ما يوجب حصول مقصود السائل بلا سبب بينه وبينهم من محبتهم وطاعتهم وإتباعهم فيما جاءت الرسل به فيثاب على ذلك، ويكون محباً لله طائعاً أمره راضياً عنه فيستجيب له ويزيده من فضله ويقبل دعاءهم له وشفاعتهم فيه كما قال جل شأنه:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وعلامة محبة الله إتباع الرسول في كل ما جاء به، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فأما مجرد سؤاله بهم وبجاههم من غير

ص: 310

إتباع لما جاء به الرسول فلا ينفعه وان عظم جاه المسؤول به عند الله، ولا ينال نصيباً من شفاعته لوجود المنافي الذي هو عدم الاتباع فيما جاء به الرسول من التوحيد لإله كل العبيد، ومع عدم المنافي ووجود التوحيد فلا نقول إن سؤال الله بأحد من خلقه كفر، بل مكروه كراهة تحريم على الأصح، كما قال به جمهور العلماء لما فيه من الأقسام على الله بخلقه، وهو تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات ولكن كثير من الناس تعود ذلك كما تعود الحلف بهم، حتى يقول أحدهم وحقك على الله أو وحق هذه الشيبة على الله، والله إنما يقسم عليه بأسمائه وصفاته؛ كما قال جل شأنه:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وكالأحاديث الواردة في السنن عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا اله إلَاّ أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يلد ولم يكن له كفواً أحد فقال: "لقد سألت بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" أخرجه أبو داود وغيره وأخرجه أبو حاتم في صحيحه ولفظه عن بريدة أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فإذا رجل يصلي ويدعو اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا اله إلَاّ أنت الأحد الصمد

وذكر الحديث بتمامه وفي السنن عن أنس أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في حلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا اله إلَاّ أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون بما دعا" فقالوا الله ورسوله أعلم فقال: " والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" ورواه أبو داود وغيره ورواه أبو حاتم في صحيحه واللفظ له عن أنس، ومن قال أسألك بإيماني بك وبرسولك ومحبتي له ونحو ذلك فقد أحسن، قال تعالى في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا

} الآية وقال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقال تعالى عن الحواريين: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول اللهم إنك أمرتني فأطعتك ودعوتني فأجبتك فاغفر لي، ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر فآووا إلى الغار فانطبقت عليهم الصخرة ثم دعوا الله بأعمالهم ففرج عنهم

ص: 311