المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف - التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق

[محمد بن علي بن غريب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ ما ورد إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الرسائل:

- ‌سبب تأليف الرسالة:

- ‌ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر من أخذ عنه العلم:

- ‌تعصب الراوي وكبره:

- ‌ما ذكره الراوي في شأن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

- ‌رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونقد الراوي لها:

- ‌رد الشيخ على قول الخصم:

- ‌تعريف المرتد:

- ‌حكم التوسل بالأعمال الصالحة وبأسماء الله وصفاته:

- ‌تعريف الدليل لغة واصطلاحاً:

- ‌قصائد في مدح الشيخ من علماء الأقطار:

- ‌رد قول الخصم أن الشيخ أخذ علمه من كتب ابن تيمية:

- ‌تعريف التقليد:

- ‌تعريف الإجماع:

- ‌رجوع إسماعيل بن اسحق الأشعري عن معتقداته:

- ‌تعريف السلف

- ‌حدوث العالم وأنه لا خالق سوى الله:

- ‌المعاد الجسماني والمجازاة:

- ‌جواز العفو عن المذنبين:

- ‌شفاعة الرسل:

- ‌إنكار الخوارج والمعتزلة للشفاعة:

- ‌عقيدة السلف الصالح في الشفاعة:

- ‌بعثة الرسل بالمعجزات حق:

- ‌أهل الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة:

- ‌وجوب نصب الإمام على المكلفين:

- ‌الإمام الحق بعد الرسول أبو بكر ورد قول الرافضة:

- ‌الأفضلية على ترتيب الخلافة

- ‌عدم تكفير أحد من أهل القبلة:

- ‌التوحيد وما يتعلق به:

- ‌الاعتقاد المكفر أقسام:

- ‌تارك الصلاة كافر، وإقامة الدليل عليه:

- ‌الأدلة على كفر تارك الصلاة:

- ‌الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة:

- ‌مسائل الإيمان والإسلام والفرق الضالة:

- ‌حكم الفاسق:

- ‌كفر دون كفر:

- ‌الحكم بغير ما أنزل الله كفر عملي:

- ‌الجمع بين حديثي "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " وبين حديث " لا يزني الزاني

- ‌النفاق نفاقان

- ‌حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف

- ‌حمل نصوص القرآن وغيرها على ظواهرها

- ‌تعريف العبادة

- ‌حمل المؤمن عل الصلاح

- ‌وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف

- ‌زيارة القبور الشرعية وما ورد في ذلك

- ‌الشفاعة الثابتة والمنفية والمنهي عنها

- ‌الدعاء عند الموتى أو بهم ليس من الوسائل المشروعة

- ‌مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور

- ‌حكم المتهاون بصلاته

- ‌المسابقة مع الإمام يبطل الصلاة وكلام الإمام أحد فيها

- ‌لبس الخلقة والخيط لدفع البلاء أو رفعه من الشرك

- ‌حكم التبرك بالشجر والحجر

- ‌الدلائل القائمة على ألوهية الخالق

- ‌تعريف النذر لغة وشرعاً وحكم النذر لغير الله

- ‌الاستعاذة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌نداء غير الله هو الدعاء الذي هو العبادة

- ‌الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌قول البوصيري يا أكرم الخلق وحديث بن مظعون وتزكية الناس ورد قول الخصم فيما يتعلق بقول البوصيري

- ‌بحث قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

- ‌الكلام في العبادة والعبودية

- ‌قول الخصم لا يلزم من دعاء الغير أن يكون شركاً في العبادة والجواب عنه

- ‌قول الخصم كيف يقال طلب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إشراك والجواب عنه

- ‌الشفاعة ومعناها ورد قول المخالف

- ‌الاعتصام بالكتاب والسنة

الفصل: ‌وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف

‌وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف

(وأما قولكم يجب الترضي والاستغفار لمن سلف من المؤمنين والكف عن مساويهم قال عز من قائل {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ومرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مخلد في النار لقوله تعالى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} ، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

فنقول: أما محبة جميع المؤمنين بعضهم بعضاً ومودتهم بينهم وسؤال الله المغفرة لهم فأمر مستحسن مطلوب لا يشك فيه شاك، ولا ينفيه إلَاّ هالك، قال سبحانه وتعالى آمراً نبيه أن يستغفر للمؤمنين:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} وسمع ابن عباس رضي الله عنهما رجلاً ينال من بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أمن المهاجرين الأولين أنت، قال لا. قال أمن الأنصار أنت، قال لا. قال فاشهد أنك لست من التابعين بإحسان. فكل من لم يترض عن أصحاب محمد والتابعين لهم بإحسان وكان في قلبه غل لأحد منهم فانه ليس ممن عناه الله بهذه الآية. والله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصفين بالإحسان، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً عن المؤمنين، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " وفي رواية لمسلم: "المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه

ص: 201

تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي رواية له أيضاً: " المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله" وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلَاّ رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم وفي روايةله: " تعرض الأعمال في كل يوم خميس أو اثنين وذكر نحوه". فالمؤمنون تجب موالاتهم ومحبتهم، والكف عن أعراضهم، ويحسن الدعاء والاستغفار لهم، وتحرم معاداتهم وتتبع عوراتهم، والبحث عن عثراتهم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " رواه البخاري عن يحيى بن بكير، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الليث قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} قال الزجاح علم الله سبحانه ان الدين يجمعهم وأنهم أخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب لأبيهم من آدم وحواء، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك" رواه مسلم وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامه بن سهل عن أبيه سهل بن حنيف مرفوعاً: "من أذل عنده مسلماً فلم ينصره وهو يقدر أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة" ولأبي داود مرفوعاً: "ما من امرىء يخذل امرأ مسلماً في موضع تهتك فيه حرمته وينتقص فيه عرضه إلَاّ خذله الله في موضع يحب فيه نصرته وما من امرىء

ص: 202

ينصر امرأ مسلماً في موضع ينقص فيه من عرضه وتهتك فيه حرمته إلَاّ نصره الله في موضع يحب فيه نصرته " وروى مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلَاّ قال ملك ولك بمثل" وعنه أيضاً أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المرىء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل" رواه مسلم وفي حديث آخر: "أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب" وقد أثنى الله على الذين يثنون على المؤمنين خيراً ويدعون لهم به قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو له وان كان الداعي دون المدعو له رتبة، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يعتمر وودعه لا تنسنا يا أخي من دعائك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته الدعاء، ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم، بل هو كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها مع أنه عليه الصلاة والسلام له مثل أجورهم في كل ما يعملون لأنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كل عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً وهو عليه الصلاة والسلام داعي الأمة إلى هدى فله مثل أجورهم، في كل ما اتبعوه فيه، وكذلك إذا صلوا عليه فان الله يصلي على أحدهم عشراً وله صلى الله عليه وسلم مثل أجورهم مع ما يستجيبه الله تعالى من دعائهم له فكذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجرهم عليه وصار ما يحصل له به من النفع نعمة من الله عليه، ومن قال لآخر ادع لي وقصد انتفاعهما جميعاً بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى، فالسائل نبه المسؤول وأشار عليه بما ينفعهما، والمسؤول قد فعل ما هو نفع لهما، فهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى فيثاب المأمور على فعله، والآمر يثاب لكونه دعا إليه، لاسيما إذا فعل من الأدعية ما أمر الله به العبد كما قال:{َاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فأمره بالاستغفار ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} فذكر الله استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك

ص: 203

الوقت حيث أمره الله تعالى أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولم يأمر الله مخلوقاً ان يسأل مخلوقاً شيئاً، لم يأمر الله المخلوق المسؤول به، فما أمر الله العبد به أمر إيجاب أو استحباب ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة لله وصلاح لفاعله وحسنة منه، وإذا وفق لفعل ذلك كان من أعظم إحسان الله إليه وإنعامه عليه، بل أجل نعمة أنعمها الله على عبده أن هداه للإيمان وأرشده التوفيق إليه ومحبة المؤمنين وموالاتهم والدعاء والاستغفار لهم، ومجانبة أهل الشرك والطغيان والجور والبهتان العاملين بالجهل والابتداع والتاركين للأمر المنزل المطاع فعملوا بضده على يقين منهم في ذلك واختراع زاعمين أنه هو المطلوب وأنه هو الوسيلة إلى المحب المحبوب ومعاداتهم وجهادهم عليه وتذكير الله وادعائه إليه، هذا هو الإنعام الحقيقي المذكور في قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وهي الطاعة لله التي من عمل بها يكون مع أوليائه. قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} ذلك الفضل من الله، بل نعم الدنيا بدون الدين هل تسمى نعمة أم لا؟ فيه قولان للعلماء مشهوران، والتحقيق انها نعمة من وجه، وان لم تكن نعمة تامة من وجه، وأما الانعام بالدين ومنه حب أهله وموالاتهم، ومعاداة ضدهم فلا يتم بدون ذلك، فهو الخير الذي ينبغي طلبه باتفاق المسلمين، وهو النعمة الحقيقية عند أهل السنة، قال سبحانه وتعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فضل الله الإسلام والقرآن ورحمته ان جعلنا من أهله، وكما أن المؤمنين تجب محبتهم وموالاتهم، والكف عن أعراضهم، ويحسن الدعاء والاستغفار لهم، كذلك أعداء الله من المشركين الكافرين تحبب معاداتهم وتحرم موالاتهم وتذكر مساويهم ليرتدعوا عما هم عليه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} وعدم الرضا بدينه صلى الله عليه وسلم وما جاء به والعمل به أكبر من إخراج ذات الرسول فانه لم يخرج إلَاّ بسبب ذلك، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ

ص: 204

آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم قال جهاراً: " أن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين"، ومعناه إنما وليي من كان صالحاً وان بعد نسبه مني، وليس وليي من كان غير صالح وان كان نسبه قريباً، قال القاضي عياض قيل ان المكنى عنه هنا هو الحكم ابن أبي العاص، وذلك لأن بعض الرواة كنوا فقالوا في أوله إلَاّ أن آل أبي يعني فلانا ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، وإنما كنى خشية أن يسميه فيترتب عليه مفسدة، إما في حق نفسه وإما في حقه وحق غيره، فكنى عنه فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن بطن قريب النسب منه أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياء له إنما وليه الله وصالح المؤمنين من جميع الأصناف، ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة أن العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها، كالمؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل لا بالنسب، ومن هذا قول بعضهم:

لعمرك ما الأنساب إلَاّ ابن دينه

فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب

لقد رفع الإسلام سلمان فارس

ووضع الشرك الشقي أبا لهب

وكذالك تجب مقاطعتهم والبراء منهم وعدم الاستغفار لهم، قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. .. الآية} وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وتحقيق وجود الشرك يقوم مقام من علم أنه من أصحاب الجحيم في عدم جواز الاستغفار والحالة هذه قال الله لنبيه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار للمشركين والمنافقين وأخبر سبحانه أنه لا يغفر لهم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} وهو تعالى لا يحب المعتدين في الدعاء، ومنه سؤال

ص: 205

المغفرة للمشركين أو ما فيه معصية لله كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان، فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة شفاعته من الدعاء الذي ليس فيه عدوان، وهو لا يكون إلَاّ للموحدين لا للمشركين الذين حرم الله عليهم الجنة ومأواهم النار، وإن لم نقطع لمعين بجنة ولا نار إلَاّ لمن نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنا مأمورون ان نعامل بالظاهر والأمور مرجعها إليه سبحانه وتعالى، ولو سأل واحد من الأنبياء عليهم السلام فدعا دعاء لا يصلح له لم يقر عليه فإنهم معصومون ان يقروا على ذنب لو صدر منهم جهلاً بحكمه أولاً، ولهذا قال نوح عليه السلام:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} قال الله: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وأما استغفار إبراهيم لوالديه في قوله ربنا اغفر لي ولوالدي، فللوعد الذي وعد به أباه، وعده أن يستغفر له إن آمن، وهو قوله سأستغفر لك ربي فاستغفر له لمكان الوعد راجياً أن يسلم، فلما تبين له أنه عدو لله لموته على الكفر تبرأ منه، وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول له أبوه اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني انك لا تخزني يوم القيامة يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله تبارك وتعالى إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم انظر ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بضبع ملطخ بالدم فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار فيتبرأ منه يومئذ" فقد بين الله عذر خليله عليه الإسلام في استغفاره لأبيه، وأما أمه فقد أسلمت، وقيل المراد بالوالدين في قوله لوالدي آدم وحوى عليهما السلام، والأول عليه الأكثر.

وأما قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ..} الآية فالذرة هي النملة الصغيرة وعمم فيهما مع أن حسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيئات المؤمن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، لأن معنى فمن يعمل مثقال ذرة من فريق السعداء خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة من فريق الأشقياء شراً يره، وقد ذكر الله سبحانه ذلك بعد قوله:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} يعني يرجع الناس عن موقف الحساب بعد

ص: 206

العرض متفرقين أهل التوحيد والإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة، كقوله يومئذ يتفرقون ويومئذ يصدعون ليروا أعمالهم، قال ابن عباس ليروا جزاء أعمالهم، والمعنى أنهم يرجعون عن الموقف فرقاً لينزلوا منازلهم من الجنة والنار. قال مقاتل فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيراً يره يوم القيامة في كتابه فيفرح بذلك، وكذلك من الشر يراه في كتابه فيسوؤه ذلك، قال وكان أحدهم يستقل أن يعطى اليسير، ويقول إنما نؤجر على ما نعطى ونحن نحبه واليسير ليس مما نحب ونتهاون بالذنب اليسير، ونقول إنما وعد الله النار على الكبائر فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير ويحذرهم اليسير من الشر، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"قلت يا رسول الله ما ينتهي الناس يوم القيامة، قال إلى أعمالهم من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" واستدلال صاحب المقدمة بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر لا يصلح له دليلاً إذ للمكفر بها من الخوارج والمبتدعة أن يقولوا فمن يعمل مثقال ذرة من فريق المسلمين، وأما الكافرون فيرجع فيه إلى قوله وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً، ولكن الدليل لأهل السنة والجماعة، ونحن ان شاء الله منهم ما قدمناه وقلناه وبيناه في بحث أهل الإيمان. ومما أجمع عليه صالح سلف الأمة من دلائل الكتاب والسنة وعند قوله نقلاً عن ابن القيم، وهذا الجمع والتوقيف بهذا التفصيل هو قول الصحابة وعليه الاعتماد لأن أمثال هذه المسائل لا تتلقى إلَاّ منهم ولا تؤخذ إلَاّ عنهم فلله الحمد والمنة، وهو مما قاله من الاستدلال يزعم أنا نكفر بالذنوب، وقد تكرر ذلك منه وهو بهتان علينا وجور وادعاء بلا تثبت وقول زور، ومن وفق الإنصاف حقق أمرنا ونهينا، ومن الذي كفرنا وجاهدنا، وكلامنا ودلائلنا، فلا يقول علينا إلَاّ حقاً ولا يعمل إلَاّ به.

وأما قولكم (إذا تمهد هذا فنقول أما ما ذكرت من تعطيم القبور وتشديد المنكر على من يفعله فهذا أمر مجمع عليه وعلى تحريمه ولا يفعله إلَاّ جهلة الرعاع من العوام والأعراب وأشباههم بل نقول ان الصلاة تكره كراهة تحريم بحضرة أي قبر كان بل عند الإمام أحمد لا تنعقد أصلاً لكن لا يلزم من ذلك تكفير مرتكبه كفراً يخرج به عن الملة ويباح دمه وماله وعرضه نعم هو كفر عملي حيث يكون بفعله مرتكباً للمنهي عنه وحكمه كما قدمناه النصيحة والوعظ والزجر لا غير ذلك) .

فنقول معنى تمهد أي انتشر مبسوطاً لسامعه من تمهدت الأرض تمهداً إذا

ص: 207

اتسعت فراشاً مبسوطة، وتمهد الصبي تمهداً إذا سكن اضطرابه في المهاد، ومهد إذا وضع فيه، قاله أهل المعاني، وأما تعظيم القبور بمعنى احترامها، فإن كانت للمسلمين فواجب لا يجوز بول ولا تغوط ولا جلوس ووطء عليها لما في صحيح مسلم عن أبي مرشد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وفيه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد اتكأ على قبر فقال: "لا تؤذوا صاحب القبر" وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر مسلم" وأما تعظيمها بمعنى عبادتها فهو أكبر الكبائر عند الخاص والعام، وأصل فتنة عباد الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين الذين في قلوبهم وقار لله فيغضبون لأجله ويغارون على توحيده ويقبحون الشرك وأهله ويجاهدون أعداء الله من أجله، ولكن من خالفهم فما الحيلة. ما لجرح بميت إيلام. ولا لمن خالف هؤلاء احترام. وان منشأ هذه الفتنة في الإسلام الفتنة في القبور حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم واتخذت أوثاناً وبنيت عليها الهياكل فصارت تدعى وترجى وتخشى، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح. كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره منهم ابن كثير وأبو الحسين البغوي وعلي بن أحمد الواحدي والرازي قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة} قال على الاسلام وكان أول ما كادهم به الشيطان من تعظيم الصالحين، كما ذكر الله ذلك في كتابه في قوله:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قال الكلبي كان هؤلاء قوماً صالحين فماتوا في شهر فجزع عليهم أقاربهم وصوّروا صورهم، وفي غير حديثه قال أصحابهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فكان الرجل يأتي أخاه وابن عمه فيعظمه حتى ذهب ذلك القرن، ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من الأول، ثم جاء القرن الثالث فقالوا ما عظم أولنا هؤلاء إلَاّ وهم يرجون شفاعتهم، فلما بعث الله نوحاً وغرق من غرق أهبط الماء هذه الأصنام

ص: 208

من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة، فلما نضب الماء بقيت على الشط فسفت الريح عليها حتى وارتها، ثم عمر نوح عليه السلام وذريته الأرض وبقوا على الإسلام ما شاء الله ثم حدث فيهم الشرك، وما من أمة تخرج إلَاّ ويبعث الله فيهم رسولاً يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن الشرك، فمنهم عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد بعث الله لهم هوداً وكانوا في ناحية الجنوب بين اليمن وعمان فكذبوه فأرسل الله عليهم الريح فأهلكتهم ونجى الله هوداً ومن آمن معه، ثم بعث الله صالحاً إلى ثمود وكانوا بالشمال بين الشام والحجاز فاستحبوا العمى على الهدى فأرسل الله عليهم صيحة فأهلكتهم ونجى الله صالحاً ومن معه، ثم بعد ذلك أخرج الله إبراهيم عليه السلام وأهل الأرض إذ ذاك كلهم كفار فكذبوه إلَاّ ابنة عمه سارة زوجته وآمن له لوط فأكرمه الله تعالى ورفع قدره وجعله إماماً للناس وجعل في ذريته الكتاب والنبوة ومنذ ظهر إبراهيم لم يعدم التوحيد في الأرض، كما قال تعالى:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وكان له ابنان اسحق عليه السلام وهو أبو بني إسرائيل، وإسرائيل يعقوب بن اسحق، والثاني إسماعيل عليه السلام وهو أبو العرب وقصته وأمه مشهورة لما وضعها عليه السلام في مكة فنشأ إسماعيل في أرض العرب وصار له ولأولاده ولاية البيت ومكة فلم يزالوا على دين أبيهم إسماعيل حتى نشأ فيهم عمرو بن لحى فملك مكة وكان معظماً فيهم بسبب الدين والدنيا فسافر إلى الشام ورآهم يعبدون الأوثان فاستحسن ذلك منهم وزينه لأهل مكة، ثم اقتدى بهم أهل الحجاز فلم تزل تعبد حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها وقال:" رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار"، وكانت الجاهلية فيهم بقايا من دين إبراهيم مثل تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة وإهداء البدن وكانت تزار تقول في اهلالها لبيك لا شريك لك إلَاّ شريك هو لك تملكه وما ملك، وروى محمد بن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى ابن محمد بن قيس قال كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا قوماً صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم اتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى عبادة ربنا إذا ذكرناهم فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم بدعائهم فبهم يستشفعون ربهم يستسقون المطر فعبدوهم بذلك، قال سفيان عن أبيه عن

ص: 209

عكرمة قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وقال محمد بن كعب هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فنشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة فقال لهم إبليس لو صورتموهم كان أنشط لكم وأشوق إلى عبادة ربكم ففعلوا، ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: ان الذين من قبلكم كانوا يستسقون ويتشفعون بهم ويدعونهم ليشفعوا لهم فعبدوهم بذلك. وابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت تلك الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم المسلمين بهذه الأسماء. وقال قتادة في هذه الآية يعني قوله ولا تذرن آلهتكم قال: كانت آلهة يعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد ذلك، فكان ود لكلب بدومة الجندل، وكان سواع لهذيل، وكان يغوث لبني غطيف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لذي الكلاع من حمير، وقال ابن عباس هذه أصنام كانت تعبد زمان نوح، وقال البخاري عن عطاء عن ابن عباس صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ليشفعوا لهم فهؤلاء قد جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وقال "أو لئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" وهذه الفتنة هي السبب في عبادة اللات. فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله أفرأيتم اللات والعزى، قال كان يلت السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو أبو الجوزاء عن ابن عباس، كان يلت السويق للحجاج، فسبب عبادة يغوث ويعوق ونسر واللات إنما كانت من تعظيم قبور الأموات وهذه العلة التي نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور لأجلها هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في

ص: 210

الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فان النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا أهل الشرك كثيراً ما يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت الأسحار، ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة والدعاء عندها ما لا يرجونه في المساجد، فهم يعبدون أصحابها بدعائهم ورجائهم والاستغاثة بهم وسؤالهم النصرة والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وبذل النذر لجلب ما أملوه ودفع الشرور مع اتخاذ قبورهم أعياداً، والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترباتها، وغير ذلك من أنواع العبادات، والطلبيات التي كانوا عليها عباد الأوثان يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم، فهؤلاء المشركون الغلاة قد جعلوا لأهل القبور أصناف العبادات، وإذا قدموا إلى القبر عقروا له العقائر وتقربوا إليه بأنواع القربات، وقد أخرج أحمد وأبو داود من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا عقر في الإسلام" وقال عبد الرزاق كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة فنهوا عن ذلك، وأخبر أنه فعل عباد الأصنام وإذا رأوا قبته من مكان بعيد نزلوا عن الدواب واشتغلوا بدعائه والنحيب ووضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض كشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج ورأوا أنهم قد زادوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوه ولكن من مكان بعيد، حتى إذا وصلوا إليه صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد حازوا من الأجر كمن صلى إلى القبلتين، فهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملؤا أكفهم خيبة وخسراناً فللشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع بالدعاء من الأصوات ويطلب من الميت أنواع الحاجات ويسأل من تفريج الكربات واغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، كأنه الحجر الأسود وما يفعل به وفد بيت الله الحرام، ثم عفروا عنده تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك القبر فلم يكن لهم عند الله من

ص: 211

خلاق، وقربوا لذلك القرابين فكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير رب العالمين، وقد آل الأمر إلى فعل أنواع المنكرات من بذل الفروج ثلاثة أيام من كل سنة في مولد أحمد البدوي ومشهده الذي في القاهرة يخرجن إليه الغواني جاعلين ذلك في صحائفه، ولينالوا من بركته وأنهم محسوبون إليه، زيادة على فعلهم عند قبر الست نفيسة، ومشهد الحسين، هذا والعلماء حاضرون والعباد شاهدون والمردان مع الفجار المدعين الولاية والمتزينين بها، مجمعون وفي فراش واحد بلا حائل ليلاً ينامون وفي النهار معهم مختلون، ويدعون أنهم لهم يربون، والعلماء والحالة هذه لا ينكرون، والعباد لله لا يغارون، ولا الحق يقولون، بل كلا الفريقين يصنفون الكتب في ذلك ويعتذرون عنه بأجوبة ليست صواباً ولا سديدة بل عن الحق بعيدة.

(ومنها قولهم تنبيه) اعلم أنه قد يعترض بعض الناس على أحمد البدوي، وعلى هؤلاء المجتمعين عنده في حضرة ضريحه ويقولون إذا كان له هذا المولد العظيم والتصرف التام النافذ بعد الممات فكيف لا يتصرف في دفع أصحاب المعاصي عن حضور مولده فالجواب عن ذلك من أوجه.

أحدها أنه في عناية من ربه فكل من حضر مولده من أهل العصيان وافق نزول الرحمة والغفران فغفر له بسببه وتيب عليه ولو بعد حين من الزمان.

الثاني أن الغالب على حاله البسط وجاهه عريض يسع الخلق ولو وافقه جميع فساق أهل الأرض كذلك كان مغفوراً لهم بسببه.

الثالث أنه قد خرج إلى مقام لا تكليف فيه، وهؤلاء العاملون عملهم لهم وعليهم ومنهم من صنف في ذلك طبقات كبرى وقال فيها إن سبب حضوري مولد أحمد البدوي عند ضريحه ان شيخي العارف بالله الشناوي أحد أعيان بيته وكان قد أخذ على العهد في قبته تجاه القبر أن لا أخرج عن طريقته ثم أخذ بيدي وسلمني إلى أحمد البدوي وقال يكون خاطرك على عبد الوهاب فاحفظه واجعله تحت نظرك فسمعته يقول من داخل القبر نعم من آوى إلينا وجب حقه علينا، سم أنه تراءى لي فرأيته وأنا بمصر هو وعبد العال وهما يقولان لي زرنا في مكاننا ونحن نطبخ لك ملوخية ضيافتك فجئت إلى قبرهما وأضافني غالب أهل الضيعة وجماعة المقام ملوخية، ثم رأيته وقد وافقني على جسر قحافة تجاه طنده فوجدته كالسور محيطاً بها فقال لي قف ههنا

ص: 212

وادخل من شئت وامنع من شئت، قال ولما دخلت بزوجتي أم عبد الرحمن وهي بكر مكثت خمسة أشهر لم أقدر عليها ولم أقرب منها فأتاني من قبره ليلة من الليالي فأخذ بيدي وهي معي في فراشي وفرش لنا فراشاً بيده فوق ركن القبة الذي على يسار الداخل وأتى لنا بحلوى ودعا الأحياء والأموات من الأولياء، وقال لي أزل بكارتها ههنا وهم مشغولون بالأكل فكان من أمرنا ما كان في تلك الليلة، قال وقد تخلفت سنة من السنين عن الحضور للمولد وقد كان هناك الأولياء، فأخبرت أن أحمد البدوي كان يكشف الستر ذلك اليوم عن ضريح قبره ويقول أبطأ علينا عبد الوهاب ما جاءنا يحضر، قال وأردت التخلف سنة من السنين فرأيت أحمد وفي يده جريدة خضراء قد خرج بها من قبره وهو يدعو الناس من سائر الأقطار والناس خلفه وأمامه ويمينه وشماله وهم خلائق لا يحصون فمر علي وأنا بمصر، وقال لي أما تذهب فتحضرنا فقلت إني وجميع فقال الوجع لا يمنع المحب. ومنهم من يحكي عن القبور ويقول فلان استغاث بالقبر الفلاني في شدته فخلصه منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت له، وفلان نزل به ضر فاشتكى إلى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، وعند هؤلاء العلماء في دين الشيطان وجنوده الجهلة بالله وما أنزل على رسوله وسدنة الأضرحة والمقابرية الذين هم من أشر البرية شيء كثير من هذه الحكايات والإيرادات والاعتقادات ما لو ذكرناه لاحتمل مجلدات، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوس مولعة في قضاء حوائجها وإزالة ضررها، وإذا سمعوا من هؤلاء الجهلة الضلال أن قبر فلان الترياق المجرب في إجابة الدعوة كشف الشدة سمعوا لهم وأجابوا وخضعوا للقبور ودعوهم، وأنابوا والشيطان له تلطف فيما يجلب إليه الدعوة فيدعوا أولاً هذا الداعي إلى أن يدعو صاحب القبر أو عنده فيقع دعاء هذا الداعي للملعون لا له، وهذا نتيجة الجهل بحقيقة ما بعث الله به الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فلم يكن له نصيب فيما جهلوه وادعوه وقد دعاهم إبليس إلى الفتنة ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وادعوا بقدر ما معهم من العلم الذي ظاهره قول معرب وحقيقة لا جهل مركب، حيث أوردوا فيما اعتقدوه وقالوه أحاديث مكذوبة مخلقة موضوعة اختلقها عباد الأصنام من السدنة والمقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض دينه وما جاء به كحديث " إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث "لو حسن

ص: 213

أحدكم ظنه بحجر نفعه" وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها المشركون وراجت على المدعين من الجهال والضلال الذي هم عن الحق معرضون والله بعث رسوله يقتل من حسن ظنه بالأحجار، وجنب أمته الفتنة بالقبور، كما جاءت به الآثار واستفاضت عنه في ذلك الأخبار بنقل أهل الصحيح ونقد أهل التصحيح، فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي رواية لمسلم: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون إلى منكم خليل فان الله قد اتخذني خليلاً كما أتخذ إبراهيم خليلاً وان كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة كانت على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر أمته ما صنعوا " متفق عليه قالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً" متفق عليه، وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ان من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن يسجد للقبر نفسه، أو دعاه وعدل عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع الجهال والطغام وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم فسهلت لهم وطابت بها قلوبهم من تعظيم القبور وإكرامها بما تهى عنه الشارع ومن عبادتها بدعائها ورجائها والالتجاء إليها والتوكل عليها والنذر. لها وكتب الرقاع فيها وخطاب الموتى بالحوائج يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها والخرق التي عليها تبركاً وإيقاد السرج عليها وتقبيلها وتخليقها، وشد الرحال إليها، وينضاف إلى ذلك إلقاء الخرق على الشجرة ودعاؤها والذبح والنذر لها

ص: 214

إقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل كل الويل عندهم لمن أعاب وأنكر عليهم، ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يتخذون عليها القبب والمساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقادها بالقناديل والسرج فيها، ونهى عن اتخاذها أعياداً، وهؤلاء يتخذونها مناسك وأعياداً يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، ونهى عن العقر والذبح لها، وهؤلاء يعقرون عليها وينذرون لها ويدعونها، وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي واسمه حيان بن حصين قال:"قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالاً إلَاّ طمسته ولا قبراً مشرفا إلَاّ سويته" وفي صحيحه أيضاً عن ثمامة بن شفي الهمداني قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبر فسوي، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، فيرفعونها من الأرض كالبيت ويعقدون عيها القباب ويضعون عليها التوابيت ويكسونها كما يكسى بيت الله الحرام، ويفعلون عندها الموالد العظام ويجعلون لها السوائب من بهيمة الأنعام، ويكثر لديها رفع الأصوات والضجيج واختلاط الرجال بالنساء كالحجيج، ومن ذلك ما يفعله عباد الشيطان عند قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث خارج مكة وخديجة في المعلى كل سنة ثلاثة أيام مولد يحصل فيه من الضجيج وارتفاع الأصوات والدعاء بالاستغاثات واختلاط النساء مع الرجال في تلك الساحات، وكذلك عند قبر عبد الرحمن المحبوب بالدفوف ذوات الصنوج والطبول والبيارق والنحائر داعين مستغيثين به راجينه بذلك ليكون علم ناظراً ولهم حافظاً لأنه المحب المحبوب، وهكذا عند قبر أبي طالب، وهم يعلمون ظاهر حاله وما هو عليه قبل الممات فالحكم لعلام الغيوب، ولو تعلق مظلوم بأستار الكعبة جذبوه من تحتها وفعلوا به ما أرادوا ولو دخل ظالم بسرقة أو قتل أو نهب مال على قبر أحد هذين الرجلين اللذين الله أعلم بهما من خلقه وهم فقراء إليه لم يقدموا ليأخذوه منه، ولم يقدموا حدود الله عليه، بل عندهم من فعل ذلك فقد تعدى وظلم ومآله إلى

ص: 215

الندم، ومن نهى عن فعل ما تقدم وأمر بما أرسل الله به الرسل إلى سائر الأمم والعمل بالأحاديث النبوية والآيات القرآنية التي هي نص على توحيده خرجوه وبدعوه وكفروه ونسبوه إلينا وان كان لا يعرفنا، وما ذنبنا إلَاّ أن أمرنا بما أمر الله به رسله ونهينا عما نهى الله ورسوله، فبسبب ذلك عادونا وجلبوا بخيلهم ورجالهم ومدافعهم علينا وعن حج بيت الله الحرام الذي قال الله فيه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} صدونا ومنعونا، وهدى النبي صلى الله عليه وسلم صار شعارنا واتباع سنته علماً علينا، فهم بذلك يعابوننا ويوبخوننا ويسبوننا ويجاهدوننا وما ذاك منهم علينا إلَاّ إتباع الأهواء وعموم البلوى والطعن في الدين والعناد في اليقين. {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله} وهم يفعلون المنكرات ويجعلونها قربات ونتيجتها صدقات زيادة على الشرك الأكبر في تلك المعتقدات، وذلك كله موجود في حرم الله وغيره من الساحات، وهل هذا كله إلَاّ لفقد الإسلام وجهله والاستهانة به عند هؤلاء الخاص منهم والعام، حيث جعلوا المنكر ديناً ونتيجة حسنة يقيناً، لكن مصيبة فقد الدين تهون ما هو فعل الظالمين المعاندين ونهى عن الكتابة عليها كما روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وان يقعد عليه وأن يبنى عليه، وروى أبو داود في سننه عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها" قال الترمذي حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن والأشعار ويعلقون عليها بيض النعام وقناديل الفضة والرخام، فهؤلاء المعظمون للقبور المتخذونها أعياداً الموقدون عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر، ومن يزعم أنا نكفر بمجردها فهو كاذب جائر، إنما نكفر بالشرك الذي لا يغفر، وهو دعاؤها ورجاؤها والاستغاثة بها وذبح القربان والنذر لها لتدفع سوءاً أو تجلب خيراً، أو تكون واسطة في ذلك، نعم نحن نهدم القباب التي على القبور، ونأمر بهدمها كما هدم النبي صلى الله عليه وسلم قبة اللات في الطائف، وأمر علي رضي الله عنه بهدمها وخفض القبور المشرفة مطلقاً وتسويتها، وقد أمر به وفعله الصحابة والتابعون والأئمة

ص: 216

المجتهدون، قال الشافعي في الأم ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور ويؤيد الهدم قوله ولا قبراً مشرفاً إلَاّ سويته، وحديث جابر المتقدم ذكره الذي في صحيح مسلم. ولأنها أسست على معصية الرسول لنهيه فبناء أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً، وأولى من هدم مسجد الضرار المأمور بهدمه شرعاً، إذ المفسدة هنا أعظم حماية للتوحيد، وأما هذه الكبائر فقد صرح الفقهاء من أصحاب مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الصحابة والتابعين على تحريمها وأنها بدعة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، قال أبو محمد المقدسي لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة، وافراطاً في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام، هذا وبيوت الله ظلمات لا يوقد فيها نور، بل يرون أن الفضل عليها في ذلك القبور، وقد آل الأمر بهؤلاء المعتقدين تعظيم القبور تعظيم عبادة للاحترام في الصدور إلى أن شرعوا لها حجاً ووضعوا له وقتاً وجعلوه أضعاف حج بيت الله الحرام سبعاً هذا قبر ابن علي الذي في مرباط من بلاد اليمن قد شاع عند الخاص منهم والعام ان زيارته والتبتل إليه في رجب تعدل سبع حجات وكذا الزيلعي الذي في اللحية قد شاع عندهم وذاع ان من مات فيها ودفن حوله في تلك البلاد انه في لحيته ليس عليه حساب ولا عذاب، وكذا قبر العيدروس الذي في عدن، وكذا قبر الشاذلي في المخافان أهل البر والبحر ليس لهم لهجة في الشد والرخاء إلَاّ بذكره زاعمين أنهم في أمانه وتحت نظره، وانه يغيث من دعاه في الشدة نائياً كان، أو قريباً في البر أو في البحر، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه مناسك حج مشاهد الأبرار لمن عني إليهم من المقيمين والزوّار، وصنف بعضهم كتاباً سماه روضة الأبرار في دعوة الأولياء الأخيار عند الشدائد المدلهمة الغزار، ولا يخفى أن هذا بعينه مفارق دين الإسلام والدخول في عبادة الأصنام، ومن نظر منصفاً بإخلاص إلى هذا التباين العظيم في هؤلاء المعتقدين من الناس عن الدين القويم والصراط المستقيم ماز وفرق بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور والاعتقاد وجاهد عليه وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه واعتقدوا فيه ودعوه ودعوا إليه، وحينئذ يحق أنا إنما ندعوا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، إلَاّ إلى الله تصير

ص: 217

الأمور، ويحقق تك المفاسد الناشئة من خبث العقائد التي يعجز العادّون عن حصرها، وتشمئز قلوب العارفين لذكرها.

(فمنها) : تعظيمها الموقع في الافتتان بها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور والألواح وبيض النعام وقناديل الفضة والرخام عليها وسدنتها وعبادتها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند البيت والمسجد الحرام، ويرون أن سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها.

(ومنها) : بذل النذور لها ولسدنتها لجلب الخير ودفع الشرور.

(ومنها) : اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء، وينزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الحائف، ويأمن الحوادث، إلى غير ذلك من الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.

(ومنها) : الدخول في اللعنة، لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج والقناديل فيها ووقفه عليها.

(ومنها) : اجتماع الرجال مع النساء واختلاطهم وضجيجهم ودعاؤهم إياهم.

(ومنها) : جعل المنكرات قربات.

(ومنها) : إيذاء أصحابا بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح يكره ما تفعله النصارى عند قبره إذا وجد في الأرض وما يعتقدونه في قلوبهم من الإفراط والتفريط في الحب، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله المعتقدون أشباه النصارى وأشكالهم عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} قال الله للمشركين فقد كذبوا بما تقولون وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً

ص: 218

ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} .

(ومنها) : مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها.

(ومهنا) : محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها.

(ومنها) : التعب والنصب بالبناء والتشييد ووضع الأبواب ونقشها والجدران والاعتقاد، والتعظيم مع الوزر الكثير والإثم العظيم.

(ومنها) : ان هذا الاعتقاد يؤول إلى حبط العمل والخسران.

(ومها) : إماتة السنن وإحياء البدع.

(ومنها) : جعل البدعة واجباً وسنة، والواجب والمسنون بدعة وإثماً، وهم في ذلك لا يعون ولا يتذكرون بل لمن خالفهم فيه ونهاهم عنه يبدعون ويخرّجون ويكفرون.

(ومنها) : تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فان عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة والعزم على الموتى بما لا يفعلون في المساجد ربع عشرة ويحصل لهم فيها نظير ولا قريب من مثليه.

(ومنها) : أن ذلك تضمن عمارة القبب والمشاهد وتنويرها وتعطيل المساجد من بيوت الله وعدم توقيرها، ودين الله الذي بعث به رسله وأنزل كتبه بضد ذلك كله.

(ومنها) : ان الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكار الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤاله العافية للزائر وله فيكون الزائر محسناً إلى الميت وإلى نفسه حتى لو كان نبياً أو ولياً فالدعاء له مطلوب وهو إليه محبوب، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده وذلك له محقق ولكن تنويهاً بذكره ورفعاً لقدره وليعود ثواب الدعاء إلى الداعي، والكامل يقبل الكمال، فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين، وكانوا من الفريقين المغضوب عليهم والضالين بقصدهم زيارة الشرك الأموات

ص: 219

يدعونهم، ويدعون بهم، ويسألونهم حوائجهم، واستنزال الرحمة والبركات بهم ونصرتهم لهم على أعدائهم وتفريج كرباتهم، وكشف شدائدهم، وإقالة عثراتهم، والعفو عن زلاتهم والهتف بذكرهم لحاجاتهم، فهم مسيئون إلى أنفسهم، محبطون لأعمالهم، مؤذون للأموات غالون في العقائد والمعتقدات معرضون عن شريعة الرسول، وما قاله الله في الآيات. وقد روى خالد بن دينار قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر ابن الحطاب رضي الله عنه فدعا له كعباً فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن، قال خالد فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت فما صنعتم بالرجل قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان بالليل دفناه وواسينا القبور كلها مع الأرض لنعمّيه على الناس لا ينبشونه فقلت وما يرجون منه، قال كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات قال: منذ ثلاثمائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلَاّ شعيرات من قفاه ان لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به هؤلاء المشركون وعلموا حقيقته وما يكون لجادلوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله، فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً من لا يداني هذا ولا يقاربه، بل لعله عدو لله وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد أعظم من المساجد، وهم يقولون ويعتقدون أن الصلاة عندها والدعاء حولها والتبرك بها لها أفضلية مخصوصة ليست في المساجد، ولو كان الأمر كما زعموا بل لو كان مباحاً لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علماً لذلك ولما أخفوا قبره خشية الفتنة به وعليه بل دعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله من هؤلاء الخلوف التي خلفت بعدهم، ولو حضروهم لجادلوهم لأنهم قد اعتقدوا وقالوا ضد ما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان عليه، وما أحسن ما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى لن يصلح آخر هذه الأمة إلَاّ ما أصلح أولها ولكن، كلما ضعفت تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من

ص: 220

البدع والشرك، ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا.

وقال سلمة بن وردان رأيت أنس ابن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو، ونص على ذلك الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى ان المسلم إذا فرغ من السلام وأراد الدعاء استقبل القبلة حتى لا يدعو عند القبر، فان الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره مرفوعاً:"الدعاء هو العبادة " فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلَاّ ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن فيه من السلام كلى أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم، فان الميت قد انقطع عمله، وهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوباً واستحباباً ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي، وعلى هذا مضى الصحابة والتابعون لهم بإحسان، فقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استسقى به، ولا انتصر به. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأصحابها أفضل منه في غير تلك البقعة أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خفي علماً وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علماً وعملاً بهذا الفضل العظيم، وتظاهر به الخلوف علماً وعملاً، ولا يجوز أن يعلم السابقون الأولون علماً ويزهدون فيه عملاً وهو يحثهم على الطاعة ويرغبهم فيها ثم لا ينقلونه أيضاً إلى من بعدهم مع حرصهم على كل خير لاسيما الدعاء فان المضطر يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعاً وان كان فيه كراهة هذا، وهم قد عرضت عليهم شدائد واضطرارات وفتن وازعاجات وقحط وسنون مجدبات أفلا جاؤا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شاكين وله بها مخاطبين وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم إياه داعين أم كيف يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونها، هذا محال طبعاً وشرعاً، وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم ما هو دون هذا بكثير، فروي غير واحد عن المعرور بن سويد قال صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل

ص: 221

ولئيلاف قريش ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال أين يذهبون هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم يتخذونها كنائس وبيعاً يرغبون عن هديه ويعرضون عما جاء به فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها، وكذلك أرسل عمر رضي الله عنه وأمر بقطع الشجرة السمرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وذكرها الله في القرآن لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة فقطعت بأمره، بل قد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم وأمتعتهم بخصوصها يعظمونها بذلك ويتنوطون أي يجتمعون عندها ويعلقون أسلحتهم عليها لتعظيمها كما في حديث أبي راقد الليثي قال:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم" فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها لتعظيمها إلهاً مع الله وهم لا يدعونها مع ذلك ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعاؤه ورجاؤه والتوكل عليه والذبح والنذر له ليجلب خيراً أو يدفع سوءاً، وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، ولكن لو كان أهل الشرك يعون ويعلمون الحق ولا فيه يعاندون ولا به يكذبون لما كانوا لنا يكفرون والفتنة يعتقدون والكفر يقولون ويفعلون، قال أهل العلم من أصحاب مالك وغيرهم انظروا أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء منها والشفاء من قبلها أو يضربون بها المسامر ويعقدون بها الخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها، وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه الذي ألفه وبين فيه الحوادث والبدع وسماه كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، ومن هذا القسم أيضاً قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وتعظيم مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم بها حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن اشتهر بالصلاح والولاية أو فلان الولي له فيها وطأة

ص: 222

فيعظمون تلك الأماكن في قلوبهم وألسنتهم ويأتونهم لشفاء أمراضهم وقضاء حوائجهم بدعائها والنذر لها وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر فهم يفعلون هذا الشرك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه ويظنون أنهم يتقربون بذلك إليه إلى ان قال فيه كلاماً مجانساً لما ذكرنا فما أسرع هذا الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت، ويقولون ان هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه الوطأة وهذه العين يضر وينفع ويشفع ويقبل النذر أي يقبل العبادة من دون الله فان النذر عبادة قربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، فهم يتمسحون بتلك الأنصاب ويستلمونها ولقد أنكر السلف التمسح بحجر مقام إبراهيم عليه السلام الذي أمرنا الله أن نتخذ منه مصلى كما ذكر ذلك الأزريقي في كتاب مكة عن قتادة في قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها ولو ذكر أثر قدم أو أصبع عكفوا عليه ومسحوه حتى اخلولق الدين وغرب الإسلام، وعاد اعتقاد المشركين وعظمت الفتنة بهذه الأنصاب كفتنة أصحاب القبور التي هي أصل فتنة عباد الأصنام ذكره السلف من الصحابة والتابعين ولم يكفهم التسمح الآن بالمقام بل يدعونه ويرجونه وينذرون له ويسألونه شفاعته ويخاطبونه بقضاء حوائجهم وردهم إلى أوطانهم ومن عاب ذلك وأنكره عليهم فهو عندهم منسوب إلينا وقالوا له وهابي أو عارضي أو شرقي أو خارجي وما ذنب هذا المعيب المنكر إلَاّ أنه شاكنا أو وافقنا بالأمر فيما أمر الله به ورسوله والنهي عما نهى الله عنه ورسوله، والعلماء بذلك يعلمون وقلوبهم مطمئنة غير كارهة فهم لا ينكرون ولا الحق يقولون. وفي مقابلة المسجد الحرام. والبيت والمقام جهة الشرق زقاق يقال له زقاق الحجر فيه حجر موضوع عرض الحائط يتمسحون به ويدعونه زاعمين أنه الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذب وبهتان ليس هو، فإنه صلى الله عليه وسلم قال وهو في المدينة أني لأعلم حجراً بمكة يسلم عليّ ولم يعينه خشية الافتتان به، بل لو تحقق أنه هو ليس هو بأفضل من مقام إبراهيم وجدار الكعبة المشرفة، والسلف الصالح ينهون عن التمسح بشيء من ذلك إلَاّ الحجر الأسود سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة حب الله وذكره وان من شيء إلا يسبح بحمده وجميع المخلوقات حتى الجمادات تعرفه صلى الله عليه وسلم لما جعل الله فيها من قوة الادراكات وإذاً فلا مزية في حجر أو

ص: 223

شجر إلَاّ الحجر الأسود خاصة فانه يمين الله في الأرض، ومع سنية تقبيله ووضع الجبين عليه لا يدعى ولا يرجى ولا يتوكل عليه وان اعتقدنا شفاعته في الآخرة ليس هو بأفضل من الأنبياء والأولياء ومع ذلك لا يشفعون إلَاّ من بعد إذن الله لمن يرضى عنه وإذاً فسؤال الشفاعة إنما هو من الله فسأل منه كما يسأل تعالى الثبات على الدين والوفاة على الإيمان وهو أرحم الراحمين. ويقابله حجر منقور على قدر المرفق يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تمرفق عليه فأثر به وهو أيضاً كذب لم ينقل عن الصحابة ولا عن التابعين ولا تابعيهم ولا عمن يعتد به من أهل العلم ولم ينقل ولا في حديث ضعيف انه صلى الله عليه وسلم وجد له أثر قدم أو أثر مرفق أو وضع في حجر، وإنما ذلك من تلبيس إبليس على هؤلاء ليغويهم ويحسن لهم شركهم وهم يزعمون أنه حب لنبيهم، وما محبته إلَاّ اتباع شرعه، وما جاء به والعمل به، ودحض ضده، ومعاداته، زيادة على حب ذاته صلى الله عليه وسلم ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده " وفيه أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفيه أيضاً عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبداً لا يحبه إلَاّ لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النا ر" وفيه أيضاً عن عبد الله بن هشام قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلَاّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فانه الآن يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر" وليس حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم إلَاّ مجتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال وإيثار طاعتهم ومتابعتهم في ستهم وهديهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم، كما ان عامة من يشرك بهم شيئاً أكبر أو أصغر يترك ما عليه من طاعتهم بقدر ما ابتدعه من الإشراك به، فليس على المؤمن ولا له إلَاّ طلب طاعتهم قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وكذلك حقوق الصديقين المحبة في

ص: 224

القلب وتوقيرهم وإجلالهم فيه، ونحو ذلك من الحقوق التي جاء بها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة لا عبادتهم ولا عبادة قبورهم أو آثارهم وقد قال صلى الله عليه وسلم" اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" وفي المعلى زاوية تنسب لعبد القادر رحم الله روحه ونوّر ضريحه فيه دوحة عظيمة يعلقون عليها الخرق ويجعلون فيها البيارق والأعلام يرجونها وبركتها ويدعونها وليست إلَاّ ذات أنواط، وفي المدعى زاوية أخرى فيها مثلها غير الزوايا والبنايا التي على القبور تدعى وترجى، فقد وجد في حرم الله طهره الله وصانه وجعل المتقين أولياءه وسكانه جميع ما نهى الله عنه في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فأما الخمر والميسر والأزلام والزنا واللواط فهذا أمر مشهور دلائله قائمة عليه حتى في المسجد الحرام تجاه الكعبة المشرفة، وأما الأنصاب فهي كل ما نصب يعبد من دون الله أو معه من حجر أو شجر أو وثن أو قبر وأحدها نصب كطنب والجمع أنصاب كأطناب، قال ابن عباس كل معبود من دون الله أو معه فهو نصب قبراً كان أو حجراً أو شجراً. وقال الزجاج أصلها الحجارة التي تتخذ على صورة من يعبدونه ثم استعملت في كل الأوثان وقال مجاهد وقتادة وابن جريح كانت الأنصاب حول البيت أحجاراً كان أهل الجاهلية يذبحون عليها وكانوا يعظمونها ويدعونها لتشفع لهم ويعبدونها وكل ما اتخذ لذلك فهو نصب، والأصنام أخص من ذلك، وقال الفراء الأنصاب هي الآلهة التي كانت تعبد من أحجار أو أشجار أو قبور أو غيرها، وأصله من الشيء المنصوب الذي يقصده من أراده ورآه ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قال ابن عباس إلى غاية أو علم يسرعون وهو قول أكثر المفسرين وقال الحسن يعني إلى أنصابهم أيهم يستلمها أول. قال الزجاج وهذا على قراءة من قرأ نصب بضمتين كقوله وما ذبح على النصب. قال ومعناه أصنام لهم فالشيطان قد نصب للمشركين ما قصدوه فدعوه واعتقدوه وعبدوه كائناً من كان في أي مكان كان ولا يخفى ما اعتقدوا في عبد الرحمن المحجوب وأبي طالب ومحمود ولد إبراهيم بن أدهم وولد البدوي وسائر عباد الله من الأنبياء والأولياء وابن عباس أو غيرهم من الشياطين والأخشاب والأحجار

ص: 225

والأشجار والاعتقادات الغزار والمعتقدات حتى الطين والفخار فإنهم يزعمون أن حماية مكة المشرفة بالقبرين المكتنفين لها اللذين في أطرافها من أسفلها وأعلاها أحدهما محمود والآخر أبو طالب وأنها في حفظ البنايا التي بين ذلك وحماها ولم يحققوا معنى قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً..} الآية فبعث عليهم بخت نصر فقتل منهم ألوفاً وسبى ذريتهم وخرب بيت المقدس، وهو أكثر أرض الله أنبياء فما حموه ولا أغنوا عنه من الله شيئاً، ولكن الله الحافظ لبيته ولحرمه كما حفظه من أبرهة وأمثاله. فبهذا يتبين أن الشيطان اللعين نصب لأهل الشرك قبوراً يعظمونها ويعبدونها أوثاناً من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه ان من نهى عن عبادتها واتخاذها أعياداً وجعلها والحالة هذه أوثاناً فقد انتقصها وغمصها حقها وسبها، فيسعى الجاهلون المشركون في قتالهم وعقوباتهم وما ذنبهم عند هؤلاء المشركين إلَاّ أنهم أمروهم بإخلاص توحيده ونهوهم عن الشرك بأنواعه قالوا وتعطيله نعند ذلك غضب المشركون واشمأزت قلوبهم فهم لا يؤمنون وقالوا قد انتقصوا أهل المقامات والرتب فاستحقوا الويل والعتب، وفي زعمهم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، ويسري ذلك في نفوس الجهال والطغام كثير ممن ينتسب إلى العلم والدين وحب الأولياء وإتباع المرسلين، وبسبب ذلك عادوناً وبالعظائم الكبائر والجرائم الغزار رمونا ونسبوا كل فعل قبيح إلينا ونفروا الناس عنا وعما ندعوا إليه، والوا أهل الشرك وظاهروهم علينا وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله وكتابه، ويأبى الله ذلك، فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلَاّ المتقون له الموافقون له العارفون به، وبما جاء به والعاملون به والداعون إليه لا المتشبعون بما لم يعطوا، اللابسون ثياب الزور الذين يصدون الناس عن دين نبيهم وهديه وسنته ويبغونها عوجاً يحسبون أنهم يحسنون صنعاً بإتباعه واحترامه والعمل به تعظيم الأنبياء والأولياء واحترامهم ومتابعتهم لهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه وهم أعصى الناس لهم وأبعدهم منهم ومن هديهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي، وأهل التوحيد أين كانوا أولى بهم وبمحبتهم ونصرة طريقتهم وسنتهم وهديهم ومنهاجهم، وأولى بالحق قولاً وعملاً من أهل الباطل، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والمنافقون والمنافقات

ص: 226

والمشركون والمشركات بعضهم من بعض، ومن أصغى إلى كلام الله بكلية قلبه وتدبره وتفهمه أغناه عن إتباع الشيطان وشركه الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول بكليته وحدث نفسه وعمل باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن البدع والشرك والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس الشيطان والنفوس وتخيلات الهوى والبؤس، ومن بعد عن ذلك فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه بل مضرة عليه كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وذكره وخشيته والتوكل عليه والإنابة إليه أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه عن عشق الصور وإذا خلا من ذلك عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده، فالمعرض عن التوحيد عابداً الشيطان مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله وذكره عبد الصور شاء أم أبى، والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وأما الصلاة في المقبرة فقد اختلف الفقهاء فيها هل هي محرمة أو مكروهة وإذا قيل هي محرمة فهل تصح مع التحريم أم لا والمشهور عن الإمام أحمد وموافقيه أنها تحرم ولا تصح لما روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن الصلاة في سبعة مواطن وعد منها المقبرة" وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وقال أبو سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرض كلها مسجد إلَاّ المقبرة والحمام" رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة وصححه أبو حاتم بن حبان وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر فقال القبر القبر. وهذا يدل بصريحه على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور، وفعل أنس لا يدل على اعتقاد جوازه فإنه فلعله لم يره أو لم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه فلما نبهه عمر تنبه ولم يصل، ومن تأمل النصوص المتقدمة تبين له أنها محرمة بلا شك وأن الصلاة فيها لا تصح، وفي هذا إبطال قول من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول وهو باطل من عدة أوجه:

ص: 227

منها أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقوله المعللون بالنجاسة.

ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة فان ذلك لا يختص بقبور الأنبياء ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع ليس للنجاسة عليها طريق البتة، فان الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون. ومنها أنه نهى عن الصلاة إليها.

(ومنها) : أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلَاّ المقبرة والحمام ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر أولى من ذكر القبور ولما ذكر الحمام.

(ومنها) : ان موضع مسجده صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين فنبشوا مكان قبورهم وسواها واتخذه مسجداً، ولم ينقل ذلك التراب بل سوى الأرض ومهدها على ذلك كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل بأعلاها في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤا متقلدين السيوف وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا فقالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلَاّ إلى الله. فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالحرب فسويت وبالنخيل فقطعت فصفوا النخيل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون وذكر الحديث.

(ومنها) : ان فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإذا نهى عن ذلك سداً لذريعة التشبه الذي لا يكاد يخطر ببال المصلى فكيف بهذه الذريعة القربة التي كثيراً ما تدعو صاحبها إلى

ص: 228

الشرك من دعاء الموتى واستجابتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد، وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله، فان فصد الصلاة عندها عين المحادة لله ولرسوله، فأنى التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة، ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد منع الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم.

(ومنها) : أنه لعن المتخذين عليها المساجد ولو كان ذلك لأجل النجاسة لا يمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر فتزول اللعنة وهو باطل قطعاً.

(ومنها) : أنه قرن في اللعنة متخذي المساجد عليها ومرقدي السرج عليها فهما في اللعنة قرينان وفي ارتكاب الكبيرة من أصل واحد مجتمعان، فان كل ما لعن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصباً يقصده المشركون لينالوا منه ما طلبوه ويحصل لهم ما قصدوه، كما هو الواقع الآن من مشركي هذا الزمان، فهكذا اتخاذ المساجد عليها، ولهذا قرن بينهما فان اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها، ألا ترى إلى ما حكى الله عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا لنتخذن عليهم مسجداً.

(ومنها) : أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فذكر ذلك عقيب قوله اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثاناً تعبد بدعائها ورجائها،

وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزماً لا احتمال معه للنقيض ان هذه المبالغة منه واللعن والنهي بصيغته صيغة لا تفعلوا أو صيغة إني أنهاكم عن ذلك ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكاب ما عنه نهاه وإتباع هواه وعموم بلواه، ولم يخش الله ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم من تحقيق شهادة أن لا إله إلَاّ الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه

ص: 229

وتجريداً له وغضباً لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلَاّ معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم فيهم أشد غلواً كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ووالله ان من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقهم، وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم والعمل بهديهم وانزلهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الألوهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم، وأما المشركون فعصوا أمرهم وخالفوا طريقتهم فانتقصوهم بذلك وان عظموا صورهم، قال الشافعي رحمه الله: أكره شديداً أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. وقال مالك: لا يزاد القبر عن السلام عليه والدعاء له ولا يتحرى الدعاء ولا الصلاة عنده، هذا شعار اليهود والنصارى المشركين. وقال أبو حنيفة: يسلم على الميت ويدعو له ولا يدعو به ولا يصلى عنده لأنه من فعل المشركين، وكذا قال أبو يوسف، وممن علل بالشرك أيضاً ومشابهة اليهود والنصارى الأثرم في كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه، فقال بعد أن ذكر حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جعلت لي الأرض مسجداً طهوراً إلَاّ القبر والحمام" وحديث سعيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الصلاة في سبع مواطن" فذكر منها المقبرة إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم مساجد. وهذه المسائل المشهورة عند أربابها معروفة إنما الغرض التنبيه على ما يخفى من غيرها فما دخل في هذا قصد القبور للدعاء عندها أو بها فان الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين:

(أحدهما) : أن يحصل الدعاء في البقعة اتفاقياً لا قصد الدعاء فيها كمن يدعو الله في طريقه ويتفق أن مروره بالقبور أو كمن يزورها فيسلم على أهلها فيسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فهذا ونحوه لا بأس به بل الثاني مأمور به.

(الثاني) : أن يتحري الدعاء عندها بحيث يعتقد أن الدعاء هناك أحق بالإجابة منه في غيره، فهذا النوع منهي عنه نهي تحريم وما جاء عن الله أو رسوله

ص: 230

كالدعاء والذكر في أماكن نسك الحج التي هي من شعائر الله فالعمل به هو المندوب والقصور عليه هو المطلوب.

(وقول صاحب المقدمة) لكن لا يلزم من ذلك تكفير مرتكبه

الخ دليل على أمور:

(الأول منها) : أنه لم يعرف الشرك وحقيقته لأنه جعل تعظيم القبور وعبادتها بدعائها برجائها والاستغاثة بما والنذر لها لتدفع سوءاً أو تجلب خيراً إنما فيه مجرد الحرمة فقط.

(الثاني) : أنه جاهل حقيقة ما عليه عباد الأوثان كيف كان عبادتهم لها فإنه يعتقد أن عبادتها مجرد السجود لها أو أنها شريكة مع الله في ملكه والله يقول: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .

(الثالث) : أنه ناقض لحكم الله ورسوله في أهل الشرك الأكبر فان حكم الله فيهم القتل والسبي ما لم يتوبوا قبل القدرة عليهم، وهذا حكمه فيهم عدم القتل والسبي لأنه قال وحكمه كما قدمناه النصيحة والوعظ والزجر لا غير ذلك.

(الرابع) : حصر هذا الشرك في العوام والأعراب ولم يعلم أنه في أكثر قلوب مدعي العلم والعبادة والزهاد ويتخذونه سبباً من جملة الأسباب.

(الخامس) : زعمه أنا نكفر بمجرد الصلاة في المقبرة وهذا أيضاً مما يدل على عدم تحقيقه أمرنا ونهينا وأنه من قول الزور والبهتان علينا لكن له فيمن قبله أسوة قبيحة حيث رمونا بأكبر من ذلك فقالوا عنا أنهم الكفرة الفجرة ونحن إنما نكفر من قصد أصحاب القبور ليفرجوا كربته ويكشفوا شدته أو هتف بذكرهم نائياً عنهم أو قريباً منهم يدعوهم ويرجوهم ويتوكل عليهم وينذر ويقرب لهم ليجلبوا له خيراً أو يدفعوا عنه سوءاً أو ليكونوا واسطة ووسيلة ليشفعوا له في ذلك أو من اعتقد ذلك في

ص: 231