الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه لما في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتخذ قبره مسجداً وقال: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" بعد قوله: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها بل لما يخاف على القاصدين لها من الفتنة بدعائها أو الدعاء عندها. فإن أصل عبادة الأوثان بذلك سببها انخاذ المساجد على القبور وقصدها لدعائها والدعاء عندها كما تقدم بيان ذلك. فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف به الافتتان لما نهى الناس عن ذلك ولهذا لم يقصد القبر للدعاء عنده أحد من الصحابة مع شدة احتياجهم واضطرارهم بكثير الأمور والنوائب المدلهمة التي قرعتهم ولا أيضاً التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولو ذكره أحد من العلماء الصالحين المتقدمين بل كلهم كانوا ينهون عن ذلك، وقد قال الشافعي في الأمم أكره تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها ومراده بتعظيمها الصلاة بحضرتها والدعاء عندها فضلاً عن السجود لها أو دعائها، وما يحكى عنه أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة فهو كذب ظاهر لأن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن بها قبر ينتاب للدعاء عنده البتة ولم يكن هذا عل عهده معروفاً، وقد رأى بالحجاز واليمن والشام من قبور الأنبياء والتابعين من كان عنده أفضل من أبي حنيفة فما باله لم يتوخ الدعاء إلَاّ عنده. وقد قال في كتابه ما هو ثابت عنه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها وإنما يضع هذه الحكاية وأمثالها من قل علمه ودينه ممن لا خلاق له.
مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور
…
مسئلة شد الرحال إلى زيارة القبور
(وأما النهي) عن اتخاذه عيداً بالاجتماع عنده والسفر إليه فلما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" وهذا إسناده حسن ورواته كلهم ثقات مشاهير وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده إلى أن ساق سند الحديث عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه علي بن الحسين وقال ألا أحدثكم حديثاً سمعته
من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يصلني أينما كنتم" رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته وعند سعيد بن منصور في السنن عن أبي سعيد مولى المهدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً، صلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وقال سعيد عن أبي سهيل قال لما رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده. فقال مالي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، صلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلَاّ سواء" فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدور على ثبوت الحديث لاسيما وقد احتج به من أرسله، ولو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين لكفى فكيف وقد تقدم مسنداً. وقبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان. ثم إنه أعقب النهي بقوله:"وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" وفي الحديث الآخر "فان تسليمكم يبلغني أيما كنتم" يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً. والأحاديث عنه بان صلاتنا وسلامنا يعرض عليه كثيرة:
(منها) ما روى أبو داود في سننه من حدث أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم علي إلَاّ رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" وهذا الحدث على شرط مسلم.
(ومنها) ما روى أبو داود أيضاً عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال: "إن الله حرم
على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء".
ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيرهم، فتبين بهذا أن قصده للدعاء ونحوه هو اتخاذه عيداً وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عنده غير دخول المسجد والصلاة فيه ورأى أن قصده ذلك من اتخاذه عيداً. فقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجعلوا قبري عيداً" مأخوذ من المعاودة والاعتياد. ومنه ما هو اسم للزمان كقوله صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام" رواه أبو داود وغيره. ومنه ما هو اسم للمكان كما روى أبو داود في سننه: "إن رجلاً قال يا رسول الله إني نذرت أن أنحر ببوانة فقال أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قال لا قال: أوف بنذرك" وإذا كان اسماً للمكان، فهو الذي يقصد للاجتماع فيه وإتيانه للعبادة أو لغيرهما كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر كلها جعلها الله أعياداً للحنفاء مثابة للناس كما جعل أيام التعبد فيها عيداً وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد النحر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعباد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام وعرفة ومنى والمشاعر، فاتخاذ القبور عيداً هو من أعياد المشركين التي كانوا عليها قبل الإسلام، فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصد قبره من بعيد أو للدعاء عنده أو للاجتماع لديه، فإنه بذلك يكون عيداً، وحينئذ فقصد القبر مجردة من الأمصار في وقت معين أو في غير وقت معين هو الذي نهى عنه السلف الصالح لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه في قوله لا تتخذوا قبري عيداً. ولما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وسعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تشد الرحال إلَاّ إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" وقد روي هذا من وجوه أخر وهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم يتلقى بالقبول عنه، فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف هو من الأعمال الصالحة، وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده
من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحال إليه من بعيد. فإن في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً. وكان ابن عمر يفعله. وفي لفظ مسلم فيصلي فيه ركعتين وذكره البخاري بغير إسناد. وذلك أن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام في مسجد الضرار، وأمره بالقيام في المسجد الذي أسس على التقوى، ومسجده أعظم في تأسيسه على التقوى من مسجد قباء، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه سأل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال مسجدي هذا، فكلا المسجد أسس على التقوى، ولكن اختص مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي مسجد قباء يوم السبت. فإذا كان السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة ممتنع شرعاً مع أن قصده لأهل مصر يجب تارة ويستحب أخرى وقد جاء في قصد المساجد ما لا يحصى من الفضل، فالسفر إلى مجرد القبور أولى بالمنع ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة فإن هذا من التشبه بأهل الكتاب المتخذين قبور أنبيائهم مساجد وأعيدة، الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه كائن في هذه الأمة لا محالة. وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها وإلا فلو لم يقم عندها هذا الاعتقاد بالقلوب لا نمحى ذلك كله. وإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد كان حراماً كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق فتحاً لباب الشرك وإغلاقاً لباب الخير والإيمان. وقد آل الأمر إلى قصد مجرد القبر واتخاذه عيداً ومجمعاً للنساء مع الرجال حتى ترتفع الأصوات عنده ويكثر الضجيج أضعافاً مضاعفة على تلبية الحجيج كل يسأل حاجته وتفريج كربته وهم يعتقدون أن زيارته يحصل بها الغفران والنجاة من النيران وأنها تجب ما قبلها من الآثام، ألا ترى أن أكثر الفجرة الساكنين بمكة المشرفة وجدة طول أيام السنة لا يتركون ذنباً موبقاً إلَاّ ارتكبوه، ولا إثماً كبيراً إلَاّ اكتسبوه فإذا جاء شهر رجب أخذ على ذمته المعسر منهم واستدان وذهب إلى القبر يسأل المغفرة من خاتم الرسل وأفضل ولد عدنان فأخذوا بالهتف بذكره وبكنيته قائلين جئنا إليك قاصدين تائبين لا تردنا أبا إبراهيم، منذ يفارقون بلادهم إلَاّ أن يرجعوا يسألونه المغفرة، قضاء الديون وتفرج الكروب فإذا رجعوا خائبين اعتقدوا أنهم خرجوا من آثامهم كيوم ولدتهم أمهاتهم مسرورين، فعادوا على ما كانوا عليه من الباطل والطغيان، ويقولون هم متوكلون على سيد ولد عدنان، ولا نعني العوام بل هم ذو
العقائد من أهل العلم غير التام، فهذا السفر إليه وقصده لفعل العبادة عنده من الدعاء والصلاة لا ريب في حرمته والإثم فيه عند أهل العلم لا يتخلف عنه متقدمهم ولا متأخرهم للعنه صلى الله عليه وسلم المتخذين قبور أنبيائهم مساجد، واللعنة في كلام الله ورسوله لا تجامع إلَاّ الحرام والإثم لا مجرد الكراهة، ولقوله:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ولأن المسافرين إليه والقاصدينه بعضهم يسميه الحج إلى القبر لحصول المغفرة بذلك. وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي ومن وافقه من متأخري الفقهاء فرادهم السفر المجرد لزيارة القبر لا لقصد فعل العبادة من الصلاة والدعاء عنده، قالوا والحديث مبني على عدم تناوله النهي لزيارته إذا لم يتخذ عيداً ولم يحصل المحظور الذي نهى عنه كما لم يتناول إلى عن السفر إلى الأمكنة التي فيها الولدان والعلماء والمشايخ والأخوان أو بعض المقاصد من الأمور الدينية المباحة. وصدر صالح سلف الأمة وخيارها جعلوا قوله عليه السلام لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني صريحاً في النهي مطلقاً عن قصده من بعد لأن الاجتماع عنده لازم له، وذلك هو المنهي عنه وأيضاً نهيه عليه السلام عن شد الرحال إلى مسجد من المساجد غير الثلاثة مع فضل العبادة الحاصلة في المساجد من صلاة وقراءة واعتكاف، ووجوب قصده تارة على أهل عصره واستحبابه أخرى شامل للنهي عن شد الرحال إلى مجرد زيارة القبور بالأولى إذ ليست زيارتها أفضل عند الله من عبادته في خير بقاع الأرض، وقد نهى عن شد الرحال إليها، فهذه أولى بالنهي قالوا ومن اعتقد أن السفر إلى مجرد القبر أفضل من السفر إلى المسجد أو مثله فهو إما جاهل بشريعة الرسول وإما كافر به. وإذا وجد السفر المشروع إلى مسجد الرسول لفعل العبادة فيه دخلت الزيارة تبعاً فإنها غير مقصودة بشد الرحال إليها بل إلى المسجد نفسه وحينئذ فالزيارة شرعية مجمع على استحبابها بشرط عدم فعل المحظور عند القبر لا صلاة ولا دعاء وهو مستقبل القبر ولا يقصده له وان استقبل القبلة في حال الدعاء ومن لم يفرق بين السفر المشروع إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الداخلة تبعاً الشرعية المجمع على استحبابها، وبين السفر إلى غير قبره فهو إما جاهل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما كافر به، وإدلاء صاحب المقدمة واحتجاجه على سنية السفر وشد الرحال إلى مجرد زيارة القبر تارة وقرب وجوبه أخرى باطل من وجوه:
(أحدهما) أن هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل العلم ولم يجعلها في درجة الضعيف إلَاّ القليل ولذلك تفرد بها الدار قطي عن بقية أهل السنن، والأئمة كلهم يرون بخلافه، ومروياته مقدوح فيها خصوصاً أحاديث زيارة القبر ومروياته فيها وهي أجل حديث روى في هذا الباب من حديث أبي بكر البزار ومحمد ابن عساكر.
(الثاني) أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روي في ذلك شيء لأهل الصحيح ولا السنن ولا الأئمة المصنفين في المسانيد كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره المخالف لأهل الصحيح والتصحيح المميزين بين الحسن والضعيف والموضوع من أهل الترجيح، فالأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله من زارني وزار إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة، ومن زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن حج ولم يزرني فقد جفاني، ونحو هذه الأحاديث، كلها مكذوبة موضوعة باتفاق أهل المعرفة إنما رخص في زيارة القبور مطلقاً بعد أن نهى عنها بلا شد رحال وسفر إليها كما ثبت عنه في الصحيح.
(الثالث) نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيداً كما ثبت عنه من غير وجه رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد بن منصور في سننه من حديث أبي سعيد مولى المهرى، ورواه أيضاً سعيد من حديث الحسن ابن الحسن بن علي كرم الله وجوههم، فكيف يقول لا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، ثم يقول من حج ولم يزرني فقد جفاني، أو يقول من زار قبري وجبت له شفاعتي، أو يقول لا عذر لمن كانت له سعة من أمتي ولم يزرني، أو يقول من زارني في المدينة متعمداً كان في جواري يوم القيامة، أو نحراً من هذه المختلقات عليه، وليخش المدلي بهذه المختلقات صان الله نبيه صلى الله عليه وسلم عنها أن يكون ممن قال صلى الله عليه وسلم فيه "إن كذباً علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" الحديث. مخرج في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ولو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نسبه إليه هؤلاء لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل
ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فيكف بملازمتها والعكوف عندها وعليها وان يعتاد قصدها وإتيانها من بعيد وشد الرحال إليها، بل هذا أولى باللعنة وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ثم يأمر بشد الرحال إليه وانه للدعاء عنده يقصد كيف يقول اعلم الخلق من الصحابة بذلك ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجداً، كيف يقول لا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي حيث ما كنتم، وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء المدعون ولم ينقلوا عنه ما نقله هؤلاء المختلقون.
(الرابع) أنه ندب أمراً قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله من سنته ودينه وأنه يتقرب بفعله، وأصل الضلال في الأرض إنما نشأ من اتخاذ دين لم يشرعه الله أو تحريم ما لم يحرمه الله، ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد والشافعي وغيرهما من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى عبادات يتخذونها ديناً ينتفعون بها في الأخرى أو في الدنيا والآخرة، وإلى عبادات ينتفعون بها في معايشهم، فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلَاّ ما شرعه الله ورسوله وان استحسنه العقل، إذ لا مدخل له في الدين، والأصل في العادات أن لا يحضر منها إلَاّ ما حضره الله ورسوله، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله ويجعله من سنة رسول الله أو وحيه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن تبعه في ذلك ففد اتخذه شريكاً لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنة مجمع عليها بناء على أن الأمة قد أقرتها ولم تنكرها فهو مخطىء في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلاد المسلمين فكيف بعمل طوائف، فالعادات لا تصرف الأحاديث الواردة في النهي عن الحضرية فإن غالب العاملين بالعادات البدعية هم الملوك وأشباههم ممن سلفهم واتبعهم ولا حجة في فعلهم.
(الخامس) زعمه أنا نكفر من يزور القبور وهذا منه بهتان علينا، وقول زور، فإنا نقول أصل زيارة القبور مسنونة مندوبة أمر بها الشارع بعد أن نهى عنها
والترغيب في زيارتها لتذكار الآخرة والإحسان إلى الميت بزيارته والدعاء والاستغفار له لكن بلا شد رحل إليه، ونحن إذا نهينا عن شد الرحال كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة من بعدهم، لا يلزم من نهينا تكفير مرتكب المنهي عنه إذا لم يصدر منه ما يوجب كفره من الشرك الأكبر غير المغفور كدعاء الميت بما لا يقدر عليه إلَاّ الله من سلامة وعافية وتفريج كربة، وكشف شدة وسؤال مغفرة، أو ليكون له واسطة ووسيلة في قضاء حوائجه وليشفع له في ذلك فهو متوكل عليه فيه تقدم بيانه موضحاً، وأما قصد الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لنفس ذلك الداعي لا له وللميت فهو حرام ولا كفر حيث لم يدع الميت نفسه، وإنما حرم لقصد البقعة للدعاء فنحن نعمل ونأمر بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعلَّمهم إياها ونجتنب وننهى عن الزيارة التي نهى عنها أمته وأخبر أنها فعل المشركين.
(السادس) ان متأخري الفقهاء القائلين بزيارة القبور من الشافعية وغيرهم حتى ابن حجر الهيثمي صرح في الإمداد الذي شرح به الإرشاد، كلهم قالوا ينوي الزائر مع زيارته التقرب بالسفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وشد الرحل إليه والصلاة فيه لتكون زيارة القبر تابعة، ويكثر في طريقه من الصلاة والتسليم عليه، ومضمون كلام صاحب المقدمة معاكس لهم لجعله زيارة القبر هي الأصل استحباباً أو قرباً من الواجب رأساً وزيارة المسجد تابعة، وصريح الأحاديث المتقدمة وكلام الأئمة راد عليه في ذلك إذ هم القائلون من اعتقد أن السفر إلى مجرد القبر أفضل من السفر إلى المسجد أو مثله فهو إما جاهل بشريعة الرسول وإما كافر بها، وممن صرح بذلك أيضاً الإمام الشافعي كغيره من السلف الصالح.
(السابع) أنه لم يفرق بين الزيارتين، ولم يميز بين الجنسين، وفي الحضرية والمشروعية، بل هما عنده شيء واحد، ولذلك نسبنا إلى تكفيره فاعل المحظور منهما مع أنا نفصل بين ما فيه مجرد الإثم والحرمة، وبين ما هو نفسه كفر حقيقي لا يحتمل الأول وبين ما هو من الدين قد شرعه رسول رب العالمين والله أعلم.