الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيه جهاد النفس في الباطن، وجهاد العدو في الظاهر، فهو أفضل من الجوع والسهر والصمت والخلوة ونحو ذلك. وعن الثاني فلا ريب أن عبادات الموحدين كصلاتهم وصيامهم وحجهم أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية من عبادات غيرهم التي ابتدعوها فإنها متضمنة للظلم النافي للعدل، وعن الثالث أن يكون الأمر في ذلك راجعاً إلى مشيئة الله وتعبده للخلق وحينئذ فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون متعبداً بما أمر الله به بخلاف من تكون عباداته من عندياته ابتدعها من غير أن يأتيه بها الرسول من عند الله فإنها غير مقبولة بل وزرها أعظم وليس شيء من أعمال البر إلَاّ ودونه عقبة تحتاج إلى الصبر فيها، فمن صبر على شدتها أفضى إلى السهولة والراحة وإنما هي مجاهدة النفس ثم مخالفة الهوى ثم مكابدة ترك الدنيا ثم الإقبال على ربه خائفاً راجياً ثم اللذة والنعيم، هكذا ذكره شارح الحكم محمد المغربي الفاسي.
وقول صاحب المقدمة وفي تقديم إياك على نعبد إشارة إليه ليس كذلك لأن معنى التقديم الحصر وهو نفي العبادة عما سوى الله وإثباتها له وحده وليس له مخصص في بعض تلك المراتب التي ذكرها دون بعض إذ من لاحظ بطاعته امتثال أمر الله تبارك وتعالى مع خوفه ورجائه لا يقال أنه مشترك مع الله في العبادة ولا محتملها بعدم ملاحظته الله وحده لوجود ملاحظة أمره تعالى مع ملاحظة الثواب ودرء العقاب إذ هو مخلص بذلك بإجماع الأمة ولا فيه ما يوهم عدمه وخوف الله ورجاؤه وامتثال أمره عبادة، وحيث لوحظت تلك العبادة لا تكون معبودة ولا احتمال فيها والله تعالى أعلم.
قول الخصم لا يلزم من دعاء الغير أن يكون شركاً في العبادة والجواب عنه
وأما قوله: (لا يلزم من دعاء غيره تعالى أن يكون ذلك الداعي مشركاً في العبادة كما تقدم) .
فنقول: قد بين الله سبحانه وتعالى في غير موضع من القرآن أن النفس ليس
لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلَاّ بأن يكون الله وحده معبودها ومحبوبها الذي لا أحب إليها منه، ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب، فلا بد أن يكون العابد محبأً للإله المعبود كمال الحب، ولابد أن يكون ذليلاً كمال الذل، وهما لا يصلحان إلَاّ لله وحده، فهو الإله المستحق للعبادة الذي لا يستحقها إلَاّ هو، وذلك يتضمن كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلَاّ الله، والنفوس محتاجة إلى الله من حيث أنه معبودها الذي هو محبوبها، ومنتهى مرادها وبغيتها من حيث هو ربها وخالقها، فمن آمن بأن الله هو رب كل شيء وخالقه ولم يعبد الله وحده بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأخشى عنده من كل ما سواه، وأعظم عنده مما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله ويخشاه مثل ما يخشى الله ويرجوه مثل ما يرجو الله ويدعوه بما لا يقدر عليه إلَاّ الله مثل ما يدعو به الله فهو المشرك الشرك الذي لا يغفره الله، ولو كان مع ذلك عفيفاً في طعامه ونكاحه وكان حليماً شجاعاً. فإن أبا بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة كانوا قبل الإسلام لا يرضون أن يفعلوا الذنوب الكبار كالزنا والسرقة، ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية بيعة النساء على أن لا يسرقن ولا يزنين قالت أو تزني الحرة فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنا إلَاّ للإماء ولهذا عنت بقولها الحرة العفيفة لأن الحرائر كن عفائف قال سبحانه:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فما خلق العبد لأجله وطلب منه من سائر العبادة لابد من إخلاصه لله وحده فإن الغاية الحميدة التي بها يحصل كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده وهي حقيقة قول القائل لا إله إلَاّ الله، وبهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب، ولا تصلح النفوس وتزكو وتكمل إلَاّ بهذا كما قال تعالى {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي ما تزكو به أنفسهم من التوحيد والإيمان، وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص في سائر العبادات المأمور بها شرعاً لم يكن من أهل النجاة والسعادة قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ذكر ذلك في موضعين من كتابه فليس الموحد إلَاّ المخلص بعبادته لله وحده لا شريك له المتبع