الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا حول ولا قوة إلَاّ بالله العلي العظيم فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، دال بمنطوقه على أن الاستعاذة لا تكون إلَاّ بالله لأنه ذكر صفة ما كأنه في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى سائر الإنس والجن إلى من طرق الدار من العمار والزوار والصالحين طالباً منهم فيه الحق على ضمن ما في كتاب الله وهو القرآن من تحريم ظلم المسلمين عليهم فلا يظلمونهم ولا يتعدون عليهم، بل يفعلون ما حكم عليهم القرآن وطلبه منهم ويتركون ما نهوا عنه، ولذلك قال هذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق، فإن القرآن الكريم ناطق بتحريم ظلم المسلمين بعضهم بعضاً. حاكم بذلك على الإنس والجن، ولهذا قال بلغت حجة الله، وناسبت الحوقلة لط هذا الحال لأنه أمر مهم وما ذكرت على كل مهم إلَاّ فرجه الله، ثم استكفاهم الله السميع العليم فقال فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.
نداء غير الله هو الدعاء الذي هو العبادة
(وأما قولكم وقوله باب قوله تعالى {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وقوله تعالى {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} يعني من يدعو غير الله نبياً أو غيره يكون مشركاً كما يدل عليه سياق كلامه قلنا ان أردت من الدعاء العبادة كما هو معنى الدعاء في الآية فمسلم لكن لا نسلم أن الداعي غير الله يعبده بل إنما يناديه ويلزم من النداء ذلك وإلا لزم تكفير كل من نادى غيره ولا يقول به أحد من الأمة بل من جميع الأمم) .
فنقول من له أدنى لب من عقل ومعرفة في أي فن عرف بهما حق الله الخاص بجلاله وهو عبادته التي أمر بها في النص المتضمنة السؤال من نيل أفضاله وحق المسلمين بعضهم على بعض وما يقدرون عليه، ففرق بين العادة والعبادة، فإنها اسم جامع لكل ما يحبه ويرضاه، ويثبت عليه مما أمر به من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ثم ان كان ما أمر به مختصاً بجلالة لفظه ومعناه فلا يصرف لغيره تعالى من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه أو رفعه إلَاّ الله وحده، فمن دعا به غير الله
من سائر الخلق واستعان به فيه فقد عبده به، وهذا المعنى مما عناه المفسرون تحت قوله تعالى:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} في قولهم أي تعبدون وقوله {والذين تدعون من دونه} أي تعبدون وأمثال ذلك ولهذا قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} فإن المشركين لما أحبوا مع الله كحب الله وظنوا ان ما تألهته قلوبهم تشفع لهم عند الله وتقربهم منه دعوهم لذلك والتمسوا البركة عندهم راجين الشفاعة منهم واتخذوهم أسباباً في قضاء حوائجهم من عند خالقهم، ولذلك قال تعالى عنهم:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وإذا كان اتخاذهم أسباباً في قضاء حوائجهم من عند الخالق ودعاؤهم ورجاؤهم إياهم في ذلك يكون عبادة لهم مع إقرارهم بربوبيته تعالى وملكه وجميع الكائنات وأنه تعالى الذي بيده ملكوت كل شيء وهو الذي يجير ولا يجار عليه فهو الضار النافع المعطي المانع، فكيف بمن اعتقد الضر والنفع والعطاء والمنع فيمن دعاه وسماه وسيلة وزعم أن الله جل شأنه قد أمر بذلك فهو يدعوه قضاء حوائجه وتفريج كرباته والبركة في ماله وأولاًده ويتبتل إليه في ذلك وليس معه من التوحيد إلَاّ مجرد ادعاء، لأن صنيعه ذلك في قوله وفعله وعقيدته مكذب له فيما ادعاه بجعله نداً له مماثلاً له في عبادته ومعاملته المختصة بجلاله، فمعنى قوله تعالى أيشركون أي أيعبدون بما هو مختص بجلال الله خالق جميع المخلوقات ورب كل الكائنات من نسبة عبودية أسماء المخلوقين إليه وتوكلهم في رجائهم وجميع أمورهم عليه فيجعلون ذلك لغيره وهو ما لا يقدر على خلق شيء وهم يخلقون أي مخلوقون وما لا يقدر على خلق شيء لا يتأله في العبادة فلا يتخذ لها معبوداً لا في القول ولا في الاعتقاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال:"أن تجعل لله نداً وهو خلقك" والند المثل قال الله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} والداعي غير الله فيما لا يقدر عليه غيره سبحانه وتعالى جاعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه تعالى من الألوهية المقتضية للرهبة والرغبة والاستعاذة وذلك كفر بإجماع الأمة لأن الله سبحانه
وتعالى هو المستحق للعبادة لذاته فإنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب بالرغبة لديه والفزع عند الشدائد إليه، وما سواه فهو مفتقر بالعبودية مقهور بها، فكيف يصلح أن يكون إلهاً مرغوباً مرهوباً مدعواً قال الله تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
…
} الآية وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} فالله هو المستحق أن يدعى ويرجى ويعبد بكل ما أمر به لذاته قال الله الحمد لله رب العالمين فذكر الحمد بالألف واللام التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد فدل على أن الحمد كله لله ثم حصره في قوله إياك نعبد وإياك نستعين فهو تفصيل لقوله الحمد لله رب العالمين.
(إذا علم هذا) فالمقصود من قوله تعالى {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً
…
} الآية وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الآية إقامة الحجة على أن كل ما سوى الله لا يصلح إلهاً معبوداً لأنه غير خالق لأفعال نفسه ولا غيرها فلا يدعى بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلَاّ الله وحده، ولا تنسب عبودية المخلوقين إليه ولا يرجى ولا يتوكل عليه بل لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره المشركون ولذلك قال والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير الذي هو قشر النواة ولفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين.
(أحدهما) دعاء العبادة وهو دعاء الله لامتثال أمره في قول عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..} الآية.
(الثاني) دعاء المسألة وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة بقطع النظر عن الامتثال، ولفظ الصلاة في اللغة أصله الدعاء وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معناه، وهو الدعاء الشامل للعبادة والمسألة، وقد فسر قوله تعالى وقال ربكم ادعوني استجب لكم بوجهين:
(أحدهما) ما هو عام في الدعاء وغيره وهو العبادة وامتثال الأمر له سبحانه وتعالى أستجب لكم أي كما أثبكم كما قال في الآية الأخرى ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي يثيبهم عل أحد التفسيرين ويزيدهم من فضله.
(الثاني) ما هو خاص، معناه سلوني أعطكم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا بثلث الليل الآخرة فيقول من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" فذكر أولاً لفظ الدعاء ثم ذكر السؤال والاستغفار. والمستغفر سائل كما أن السائل داع، لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير وغيرهما جميعاً بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما فهو من باب عطف الخاص على العام، وهذا المعنى الثاني أعني الخاص هو الأظهر لوجهين.
(أحدهما) ما رواه النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ان الدعاء هو العبادة" وفي رواية مخ العبادة ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..} الآية رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، فاستدلاله عليه الصلاة والسلام بهذه الآية على الدعاء دليل على أن المراد منها سلوني، وخطاب الله لعباده المكلفين بصيغة الأمر منصرف عند الأصوليين إلى الوجوب ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب، ومفيد أيضاً قصور فعله على الله فلا يجعل لغيره حيث كان عبادة قولية أو فعلية، ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله فقال تعالى:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: "سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل" وفيه عن أبي هريرة مرفوعاً: "من لا يسأل الله يغضب عليه " وفيه أيضاً أن الله يحب الملحين في الدعاء، وفي حديث آخر ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع، وفي المعنى أحاديث كثيرة صحيحة.
(الثاني) قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وكل سائل راغب فهو عابد للمسؤول وكل عابد له فهو أيضاً
راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه فكل عابد سائل وكل سائل عابد قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} ولا يتصور أن يخلو داع الله، دعاء عبادة، أو دعاء مسئلة، من الرغب والرهب والخوف والطمع والرغبة إلى الله والرهبة والخوف منه والطمع عنده، ليس ذلك يكون لغيره فلا يصرف ما هو مستحق به إلى غيره من سائر الخلق إذ فيه تعطيل معاملته المقتضية لإلوهيته وصمديته مع عجز المدعو وضعفه وافتقاره إلى خالقه فإن توحيد الإلهية يتضمن إخلاص ذلك كله له قال جل شأنه:{له دعوة الحق} وقال: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} والشرك بالرجل المعتقد صلاحه وقربه وولايته أو بقبره أقرب إلى النفوس وأحب إليها من الشرك بخشبة أو حجر مصور على صورته وتمثاله، فمن دعا غير الله بما لا يقدر عليه الخلق أو قال أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل أحد غير الله أو معه فقد أشرك في ربوبيته وعطل معاملته وعبادته المقتضية لإلوهيته وصمديته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما:"واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلَاّ بشيء قد كتبه الله لك أو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلَاّ بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح فهذا يدل بصريحه على أنه لا نفع ولا ضر ولا قبض ولا بسط ولا خفض ولا رفع ولا حركة ولا سكون إلَاّ والله سبحانه هو فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وحافظه، فلا يدعى ولا يرجى غير الله، ولا يتوكل إلَاّ عليه، ولا يستعان إلَاّ به، كما قال علي رضي الله عنه لا يرجو عبد إلَاّ ربه ولا يخافن عبد إلَاّ ذنبه، والرجاء بفضل الله ورحمته، وهذا المشهد فيه الكلمات
الكونيات وهو علم معرفة صفة الربوبية الأول، وعلم معرفة صفة الألوهية الثاني، وهو كشف التكليفات، فالتحقيق بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الألوهية، والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان كما قال تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فإذا تحقق بهذا المشهد ووفقه الله تعالى لذلك بحيث لا يحجبه مشهد الربوبية عن مشهد الألوهية فهو السعيد في العبودية، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخل في مشهد الألوهية، وجميع مشاهد العظمة والكبرياء والملك والقهر والجلال داخل في مشهد الربوبية، ولهذا قيل إن هذه الآية جمعت سر القرآن، بل سائر الكتب الإلهية كلها ترجع إليه وتدور عليها، أعني إياك نعبد وإياك نستعين، لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء الذي لازمه الدعاء والإنابة والرغبة والرهبة والتوكل، وآخرها اقتضى عبادته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك، فلا يدعى بما لا يقدر عيه إلَاّ الله غيره، ولا يرجى فيه إلَاّ هو، ولا يستغاث إلا به، لأنه لا حول وهي الحركة والتحول من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك الحول إلَاّ بالله، سواء ذلك الحول والقوة الموجودة في السماء والأرض والآدميين والملائكة والجن وسائر الدواب وغيرها:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وقال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين كم تعبد قال ستة في الأرض وواحداً في السماء قال فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء
…
الحديث، رواه الإمام أحمد والترمذي. فهذا يوجب انقطاع تعلق القلب بغيره تعالى وإن كان ملكاً أو نبياً فكيف بالمشايخ الأولياء العلماء، أو بالفجار الدجالين الأشقياء، فإن غاية الراجي لهم الداعي منهم المتوكل عليهم أن يقول مرادي يشفعون لي، فقطع سبحانه مادة ذلك كله قطعاً شافياً، فأخبر تعالى في محكم كتابه أنه ما من شفيع إلَاّ من بعد إذنه، ونفى أن يشفع أحد لأحد إلَاّ بإذنه، وأعلن بأن سائر الشفعاء لا يشفعون إلَاّ لمن ارتضى أو هم من خشينه مشفقون وقال يومئذ لا تنفع الشفاعة إلَاّ لمن أذن له الرحمن ورضي له قولاً ولهذا إذا جاء سيد الشفعاء وأفضلهم
صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ورأى ربه سجد له وحمده بمحامد يفتحها عليه ولا يبتدىء بسؤال الشفاعة حتى يقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع.
والموفق إذا حقق قيام الله تبارك وتعالى على جميع الأشياء وتصرفه ني جميع الكائنات وتدبيره أمور كل المخلوقات أغناه ذلك عن التعلق على سواه فأخلص له توكله ورجاءه ودعاءه والتجاءه بقصوره ذلك على سيده ومولاه فيما أسره وأبداه من جلب خير ينفعه، أو كشف ضر يضره، وهو القائم على كل نفس بما كسبت فأمره نافذ فيها، وقضاؤه وقدره حاكم عليها، وأزمة الأمور كلها في يده ومرجعها إليه ومدعى الإيمان بذلك لازمة الشهادة في قوله وعقيدته بأن المعطي والمانع والضار والنافع والخافض والرافع والمعز والمذل هو الله وحده، وأن الأمر كله له والشفاعة كلها له والدين هو له وحده، مختص بجلاله فلا يتأله بدعاء ما لا يقدر عليه إلَاّ الله غيره، ولا يرجو إلَاّ هو ولا يتوكل إلَاّ عليه، ولا يعتقد أن جالب الخير أو كاشف الضر إلَاّ الله وحده، فإن أسدى إليه أحد من الخلق معروفاً لقدرتهم عليه كان نظره أولاً إلى الخالق فيشكره على ما أولاه من نعمه فإنه سبحانه المعطي للمخلوق ما أسداه وحببه إليه وقواه عليه، ثم لينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه ويثني عليه خيراً لقوله عليه السلام:"من أسدى إليكم معروفاً فكافؤه فإن لم تكافؤه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه" وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" رواه أبو داود في سننه وأخرجه الترمذي وقال صحيح وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله: "من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعطى عطاء فوجد شيئاً فليكافىء به فان لم يجد فيثني فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره" رواه أبو داود، وذلك لأن النعم كلها من الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وقال: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} فإن الله سبحانه هو المعطي على الحقيقة فإنه الذي خلق الأرزاق كلها وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده وإذا حقق ذلك عاملاً به كان مستعيناً بالله متوكلاً عليه راغباً وراهباً إليه ولأن في استعانة الله وحده فائدتين.
(الأولى) أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في أعمال الطاعات.
(الثانية) أنه لا معين له على صالح دينه ودنياه إلَاّ الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا:، الحمد لله نستعينه ونستهديه" ومن دعاء القنوت الذي كان يدعو به عمر وغيره اللهم إنا نستعينك ونستهديك، وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم رب أعني ولا تعن علي، وفي دعائه أيضاً صلى الله عليه وسلم لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلَاّ بك" وكان من دعاء موسى عليه الصلاة والسلام لما ضرب البحر فانفلق: "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلَاّ بك".
وإذا كان هذا الدعاء وأمثاله هو دعاء العبادة المشتمل على الاستعانة من رب العالمين بالنص عند كل علماء المسلمين، فلو صرف لغير الله من سائر الخلق لكان معبوداً به، والداعي عابد المدعو ومستعين به ومتوكل عليه، ولا يقال ليس هو عابداً ولا مستعيناً لأنه إنما يناديه فقط، فيصرف العبادة والاستعانة وجود النداء كما فهمه صاحب المقدمة معللاً لزوم العبادة كل منادي، وعدم تكفير كل من نادى غيره، لأنا نقول علة التكفير وجود دعاء العبادة الشاملة لدعاء المسئلة التي هي حق الله، وصرفه إلى غيره سواء وجد النداء أو لم يوجد، وليس العلة وجود النداء نفسه خالياً من العبادة، وبهذا يعلم ما ذكره المفسرون تحت قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي تعبدون {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي تعبدون وأمثاله، وذلك لأن العبد محتاج إلى الاستعانة بالله في كل الأفعال المأمورات، وفي ترك المحرمات، وفي
الصبر على المقدورات، كما قال يعقوب عليه السلام لبنيه {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ولهذا قالت عائشة هذه الكلمة لما قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا، وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ولما بشر النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بالجنة على بلوى تصيبه قال: الله المستعان، ولما دخلوا على عثمان فضربوه جعل يقول والدماء تسيل عليه لا إله إلَاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعينك عليهم وأستعينك على جميع أموري وأسألك الصبر على ما ابتليتني، وروى أبو طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته حين لقي العدو:"يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين" قال أبو طلحة فلقد رأيت الرجال تصرع. أخرجه أبو الفتح الأصبهاني فالعبد محتاج في مصالح دينه ودنياه، وكل ما لا يقدر عليه إلَاّ الله منهما لا يجوز أن يسأل من غيره فلا يعبد إلَاّ الله، ولا يتوكل إلَاّ عليه، ولا يستعان إلَاّ به، لأن ما سواه مفتقر إليه مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون معبوداً قال عز من قائل:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} ولهذا لما سأل ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة وكان خادماً له كأتيه بوضوئه وحاجته فقال سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة فقال أو غير ذلك فقلت هو ذلك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود، رواه مسلم، لم يبادر صلى الله عليه وسلم بقوله نعم افعل أجعلك معي إشارة إلى أن الأمر بيد الله وأن كثرة السجود بإخلاص هي الوسيلة في قضاء الحاجة ونيل المسؤول والسائل لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخله الجنة وإنما سأله أن يكون رفيقاً له في الجنة ومعناه صحبته وعدم فراقه فيه كحالته معه في الدنيا فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله فأعني على نفسك بكثرة السجود تعليماً له أن نفس دخول الجنة ثابت بوعد الله تعالى لمن مات لا يشرك به شيئاً فهو رحمة من الله وفضل ورفع الدرجات، ومرافقة الصالحين الأحباب بسبب كثرة الأعمال الصالحة وإخلاصها لله على أن سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته الجنة معناه دعاء الله أن يكون كذلك، كما قاله المحققون من أهل العلم واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل بعد موته لا استغفاراً ولا دعاءً ولا غيرهما فان الدعاء عبادة مبناها على التوقيف والإتباع لا على الأهواء والابتداع ولو كان هذا من العبادات لسنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولكان أصحابه أعلم بذلك وأتبع له، وقوله
تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك
…
} الآية فإتيانه صلى الله عليه وسلم للاستغفار مخصوص بوجوده في الدنيا، ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين مع شدة احتياجهم وكثيرة مدلهماتهم، وهم أعلم بمعاني كتاب الله وسنة رسوله وأحرص إتباعاً لملته من غيرهم، بل كانوا ينهون عنه وعن الوقوف عند القبر للدعاء عنده، منهم الإمام مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي وهم من خير القرون التي قد نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران لا أدري أذكر ثنتين أو ثلاثاً بعد قرنه، رواه البخاري في صحيحه مع أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية أقوى من حياة الشهداء ولكنه قد انتقل من هذه الدار إلى دار القرار بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولهذا استسقى أصحابه بعمه العباس كما رواه البخاري عن أنس، ولم يأتوا إلى قبره ولا وقفوا عنده وما ذهب إليه طائفة من متأخري الفقهاء من استغفار الله في حضرة القبر مستندين إلى الآية وقصة الأعرابي فلا يعتد به لما تقدم عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وقولهم في معنى الآية ومثل هذه الحكاية لا يثبت بها حكم شرعي لاسيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأولى بالعمل من غيرهم بل لو لم يكن مكروهاً عندهم شديداً لما نهوا عنه وعن فعله وليس الدين بالعقل إنما هو بالتوقيف والنقل كيف وقد آل بهم هذا الأمر إلى الفتنة العظمى التي هي الشرك بالله من دعائه ورجائه والتوكل عليه صلى الله عليه وسلم.
(وأما حق المسلمين) بعضهم على بعض مما يقدرون عليه والعادة جارية فيه بينهم فمنه توادهم وتعاطفهم وتراحمهم والنصح لهم والتيسير على معسرهم ومعاونة أخرقهم، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي رواية لمسلم: "المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي رواية له أيضاً: "المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينيه اشتكى كله وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله" وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان في عون أخيه
…
الحديث" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" وخرج الطبراني من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نفس عن مؤمن كربة من كربه نفس الله عنه كربة يوم القيامة ومن ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربته" وخرج الإمام أحمد من حديث مسلمة عن مخلد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ستر مؤمناً في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة ومن نجى مكروباً فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" فقوله صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل وقد تكثرت النصوص من هذا المعنى كقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما رحم الله من عباده الرحماء" وقوله: "ان الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" والكربة هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أن يخفف عنه منها مأخوذ من تنفس الخناق كأنه يرخي له الخناق حتى يأخذ نفساً، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن نزيل عنه الكربة فتنفرج عنه كربته ويزول همه وغمه، فجزاء التنفس التنفس وجزاء التفريج التفريج، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقد جمع بينهما في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض، وإتباع الجنازة، وإجابة الدعوة وتشميت العاطس" متفق عليه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً ولا ننكر ثبوت حق المسلمين بعضهم على بعض ولا مناداة بعضهم بعضاً فيما يقدر عليه الخلق من سائر أمورهم الجارية بينهم وإنما قولنا وإرادتنا في عبادة الله وحده التي ليس لخلقه منها شيء البتة، وذلك يوجب
الاعتماد على الله في القول والاعتقاد الشامل جميع الأحوال، ولهذا يذكر الله الأسباب وينهىعن الاعتماد عليها، ويأمر بأن لا يرجى إلَاّ الله وحده، كما قال تعالى لما أنزل الملائكة:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وقد قدمنا أن الدعاء نوعان دعاء عبادة، ودعاء مسئلة، وكلاهما لا يصلح إلَاّ لله. فمن جعل مع الله إلهاً آخر قعد مذموماً مخذولاً، والراجي سائل طالب فلا يصلح أن يرجو إلَاّ الله ولا يسأل غيره، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" والمتشرف الذي يستشرف بقلبه، والسائل الذي يسأل بلسانه، وفي الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (أصابتنا فاقة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسأله فوجدته يخطب الناس وهو يقول: "أيها الناس والله مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم وأنه من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر والاستغناء أن لا يرجو بقلبه أحداً فيستشرف إليه" ولهذا كان الغنى غنى القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس" ولهذا قيل:
إذا رزقت من الدنيا قناعة
…
فأنت ومالكها سواء
والاستعفاف أن لا يسأل بلسانه أحداً، ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن التوكل فقال قطع الاستشراف إلى الخلق، أن لا يكون في قلبك أن أحداً يأتيك بشيء، فقيل له فما الحجة في ذلك فقال قول الخليل لما قال له جبريل هل لك من حاجة فقال أما إليك فلا، فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه ودفع ما يضره لا يوجه قلبه إلَاّ إلى الله ولهذا قال المكروب لا اله إلَاّ أنت، ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب:"لا إله إلَاّ الله العظيم الحليم، لا إله إلَاّ الله رب العرش العظيم، لا إله إلَاّ الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم " فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد، ومسألة العبد ربه وتعلق رجائه به
وحده لا شريك له، وفي لفظ خير يتضمن الطلب والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم لا إله إلَاّ الله فقول العبد مخلصاً من قلبه له حقيقة أخرى وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله، فيتيقن محقق التوحيد العامل بالطاعة أنه لا نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع إلَاّ من الله وحده، فإن سأل مخلوقاً شيئاً يقدر عليه الخلق من أمورهم الجارية بينهم فحصل له ما سأله أو منع منه كان نظره إلى الخالق في أنه سبحانه المعطي لهذا المسؤول ما أسداه وحببه إليه وقواه عليه، أو لم يقدر منه شيئاً بل كره دفعه إليه فمنعه عنه وإن يكن الدفع واجباً فمنعه المسؤول قادراً عليه عوقب شرعاً مع بقائه مكلفاً مختاراً لعموم خطاب الشرع له ومع جواز سؤال الخلق بعضهم بعضاً مما يقدرون عليه من أمورهم الدنيوية فسؤال الله دون خلقه مطلقاً هو المتعين عقلاً وشرعاً وذلك من وجوه متعددة.
(منها) أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل وذلك لا يصلح إلَاّ لله وحده، وهذا هو حقيقة العبادة التي تختص بإله الخلق كلهم، ولهذا كان الإمام أحمد يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
…
بدلاً وان نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته
…
رجح السؤال وخف كل نوال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً
…
فابذله للمتكرم المفضال
ولهذا المعنى كان عقوبة من أكثر المسألة بغير حاجة أن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم كما ثبت ذلك في الصحيحين لأنه أذهب عز وجهه وصيانته وما يأتيه في الدنيا فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه المعنوي فلا يبقى له عند الله وجاهة، وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة أن لا يسألوا الناس شيئاً منهم الصديق وأبو ذر وثوبان فكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله رضي الله عنهم.
(ومنها) أن سؤاله الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج وفي سؤال المخلوق ظلم لأن المخلوق عاجز عن جلب الخير