الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في المحنة
24 - فصل ابتداء المحنة مع المأمون
قال العجلي: دخلت على أحمد بن حنبل و [محمد بن نوح](1) وهما محبوسان بصور، فسألت محمد بن نوح كيف كان تقييده -يعني: أحمد، وأحمد قريب منا يسمع؟
قال: لما امتحن أحمد جمع له كل جهمي ببغداد، فقال بعضهم: إنه مُشَبِّه. وقال إسحاق بن إبراهيم والي بغداد: أليس تقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} قال: بلى {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
قالوا: شَبَّه. قال: أي شيء أردت بهذا؟
قال: ما أردت به شيئًا، قلت كما قال القرآن.
فسألوه عن حديث جامع بن شداد: "وكتب في الذكر"(2) قال: كان محمد بن عبيد يخطئ فيه، قال: إن كان محمد بن عبيد يقول: "وخلق في الذكر"(3) ثم تركه.
وسألوه عن حديث مجاهد: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، وحديث آخر عن مجاهد (4).
(1) في "ثقات العجلي": أحمد بن نوح، والصواب ما أثبتناه.
(2)
رواه الإمام أحمد 4/ 431 - 432، والبخاري (3191) من طريق جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين مرفوعًا.
(3)
رواه بهذا اللفظ الطبراني 18/ 203 (499) وقال: هذا الحرف كان محمد بن عبيد يخطئ فيه، وينهاه أحمد بن حنبل أن يحدث به.
(4)
يعني قول مجاهد: تنتظر الثواب من ربها، وروي أيضًا عن منصور، عن مجاهد قال: كان أناس يقولون في حديث: "فيرون ربهم"، فقلت لمجاهد: إن ناسا يقولون =
قال: قد اختلط بأخرة.
قال له إسحاق بن إبراهيم: أليس زعمت أنك لا تحسن الكلام! أراك قائما بحجتك، فطرح القيد في رجله (1).
"معرفة الثقات" 1/ 195 - 197
قال صالح: سمعت أبي يقول: لما أدخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة، فقرئ عليه كتاب الذي كان إلى طرسوس، فكان فيما قرئ علينا:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102].
فقال أبي: فقلت: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فقال بعض من حضر: سله ما أراد بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ؟
قال أبي: فقلت: هو كما قال تبارك وتعالى.
قال صالح: ثم امتحن القوم، فوجه بمن امتنع إلى الحبس، فأجاب القوم جميعا غير أربعة: أبي رحمه الله، ومحمد بن نوح، وعبيد اللَّه بن عمر القواريري، والحسن بن حماد سجادة. ثم أجاب عبيد اللَّه بن عمر، والحسن بن حماد، وبقي أبي، ومحمد بن نوح في الحبس، فمكثا أيامًا في الحبس، ثم ورد كتاب من طرسوس بحملهما، فحمل أبي ومحمد ابن نوح -رحمة اللَّه عليهما- مقيدين زميلين. أخرجا من بغداد فصرنا معهما إلى الأنبار.
فسأل أبو بكر الأحول أبي، فقال له: يا أبا عبد اللَّه، إن عرضت على السيف تجيب؟ فقال: لا
= إنه يُرى، قال: يَرى ولا يراه شيء.
انظر: "تفسير الطبري" 12/ 343 - 344.
(1)
في "تاريخ دمشق" 5/ 314، "تهذيب الكمال" 1/ 462: فطرح القيد، وخلي عنه.
قال أبي: فانطلق بنا حتى دخلنا في الرحبة، فلما دخلنا منها وذلك في جوف الليل، وخرجنا من الرحبة عرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟
فقيل له: هذا، فسلم على أبي ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا، وتدخل الجنة هاهنا: ثم سلم وانصرف.
فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا رجل من ربيعة العرب، يعمل الشعر في البادية، يقال له: جابر بن عامر.
فلما صرنا إلى أذنة، ورحلنا منها، وذلك في جوف الليل، فتح لنا بابها، لقينا رجل ونحن خارجون من الباب وهو داخل فقال: البشرى فقد مات الرجل، قال أبي: وكنت أدعو اللَّه أني لا أراه.
قال صالح: فصار أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس، وجاء نعي المأمون في البذَنْدُون، فردا في أقيادهما إلى الرقة، وأخرجا من الرقة في سفينة مع قوم محبسين، فلما صارا بعانة، توفي محمد بن نوح، وتقدم أبي فصلى عليه، ثم صار إلى بغداد وهو مقيد، فمكث بالياسرية أياما، ثم صُير إلى الحبس في دار اكتريت عند دار عمارة. ثم نقل بعد ذلك إلى حبس العامة في درب الموصلية، فمكث في السجن منذ أُخذ وحُمل إلى [أن](1) ضُرب وخُلي عنه، ثمانية وعشرين شهرا.
قال أبي: فكنت أصلي بهم، وأنا مقيد. وكنت أرى فوران يحمل له في دورق ماء باردا فيذهب به إلى السجن.
"السيرة" لصالح ص 48 - 50
قال حنبل: سمعت أبا عبد اللَّه، وذكر الذين حملوا إلى الرقة إلى المأمون وأجابوا، وهم سبعة، فذكرهم، فقال هو: لا، لو كانوا صبروا وقاموا للَّه عز وجل لكان الأمر قد انقطع، وحذرهم الرجل -يعنى: المأمون- ولكن لما أجابوا
(1) في "السيرة": بغداد، والمثبت من "المناقب" لابن الجوزي ص 407.
وهم عين البلد اجترأ على غيرهم. فكان أبو عبد اللَّه إذا ذكرهم يغتم لذلك، فيقول: هم أول من ثلم هذِه الثلمة، وأفسد هذا الأمر.
قال حنبل: ثم خرجت إلى الكوفة إلى أبي نعيم، فحدثني أبي قال: ورد كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بإحضار أبي عبد اللَّه أحمد، وعبيد اللَّه بن عمر القواريري، والحسن بن حماد المعروف بسجادة، ومحمد بن نوح بأن يمتحنهم فوجه إليهم إسحاق بن إبراهيم عند أبي نعيم الفضل، فأخبرني أبو نعيم بقصة أبي عبد اللَّه، وأنه قد أخذوا من حضر للمحنة، فقدمت بعد ذلك، وقد أخرج أبو عبد اللَّه ولم أحضر خروجه إلى الرقة، وأخبرني أبي بعد قدومي من الكوفة، أن أبا عبد اللَّه أتاه رسول صاحب الربع عند غروب الشمس، فذهب به.
قال أبي: وذهبت معه فقال له صاحب الربع: إذا كان غدا فاحضر دار الأمير.
قال أبي: لما انصرفنا من عنده قلت لأبي عبد اللَّه: لو تواريت.
قال: كيف أتوارى؟ إن تواريت لم آمن عليك وعلى ولدي وولدك والجيران، ويلقى الناس بسببي المكروه، ولكني أنظر ما يكون.
فلما كان من الغد حضر أبو عبد اللَّه وهؤلاء المسمون معه، فأدخلوا إلى إسحاق فامتحنهم، فأبى أبو عبد اللَّه والقوم أن يجيبوا، وأجاب بعضهم: علي بن الجعد، وأبو معمر إسماعيل وغيرهم أجابوا فأطلقوا، والذين لم يجيبوا أمر بحبسهم جميعا.
قال: فسمعت أبا عبد اللَّه يقول: بعدما خرج من الحبس، قال: لما دخلنا على إسحاق بن إبراهيم قرأ علينا كتاب المأمون الذي كتب به إلى إسحاق تسمية رجل رجل، بنسبه ولقبه، وكان فيه: أما أحمد فذاك الصبي، وأما ابن نوح فذاك ما له ولهذا عليه بالغيبة، وأما فلان فالآكل أموال اليتامى،
وأما فلان فكذا، وفلالن كذا، يسمي رجلًا رجلًا.
قال أبو عبد اللَّه: وكان في الكتاب، أقرأ عليهم:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
قال أبو عبد اللَّه: فقلت: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فقال لي إسحاق: ما أردت بهذا؟
قلت: كتاب، لم أزد في كتابه شيئا، كما وصف نفسه تبارك وتعالى.
ثم امتحن القواريري، فأبى أن يجيبه وامتنع، فأمر بحبسه وتقييده، وسجادة أيضا كذلك. فلما كان بعد ذلك بيوم أو يومين جاء بهما فأجاباه فخلا عنهما، فكان أبو عبد اللَّه بعد ذلك يقول: أليس قد حبسنا؟ أليس قد ضربنا قال اللَّه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، ثم قال: القيد كره، والحبس كره، والضرب كره، فأما إذا لم ينل بمكروه فلا عذر له.
قال حنبل: قال أبي: ثم ورد كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم: أن احمل إلي أحمد بن محمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فأخرجنا جميعا على بعير، ومحمد بن نوح -زميل أبي عبد اللَّه- فبلغني أن رجلًا سأل أبا عبد اللَّه، قال: يا أبا عبد اللَّه، إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا أجيب. فقال: فسمعت أبا عبد اللَّه بعد ذلك يقول: لما وصلنا إلى الرحبة، وذلك في السحر، ونحن في خارج الرحبة، إذ سأل عني وتقدم إلى محمد بن نوح فقال له: ذاك أحمد بن حنبل، فدنا مني وسلم علي بكلام شدد به عزمي، ثم قال لي: يا أحمد، أو يا هذا، وما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة هاهنا؟ ثم سلم وذهب. فجعلت أنظر إليه في أثرة، حتى غاب، فسألت عن أمره، فقيل لي: رجل من العرب من ربيعة، مسكنه البادية، متخل عن الدنيا، يعمل الصوف.
وسمعت أبا عبد اللَّه يقول: ما رأيت أحدا على حداثة سنه، وقلة علمه، أقوم بأمر اللَّه من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون اللَّه قد ختم له بخير، قال لي ذات يوم وأنا معه خلوين: يا أبا عبد اللَّه، اللَّه اللَّه اللَّه، إنك لست مثلي ولست مثلك، إنْ اللَّهُ ابتلاني فأجبت فلا تقتاس بي، فإنك لمست مثلي أنت رجل يقتدى بك، وقد مد هذا الخلق أعناقهم إليك؛ لما يكون فيك، فاتق اللَّه واثبت لأمر اللَّه، أو نحو من هذا الكلام، قال أبو عبد اللَّه: فعجبت من تقويته لي وموعظته إياي، ثم قال أبو عبد اللَّه: انظر بما ختم له، فلم يزل ابن نوح كذلك، ومرض حتى صار إلى بعض الطريق فمات، فصليت عليه، ودفنته أظنه قال: بعانة.
قال أبو عبد اللَّه: وكنت أدعو اللَّه ألا يريني وجهه -يعنى: المأمون- وذلك أنه بلغني أنه كان يقول: لئن وقعت عيني على أحمد لأقطعنه إربا إربا.
قال أبو عبد اللَّه: فكنت أدعو اللَّه ألا يريني وجهه. قال: فلما دخلنا طرطوس أقمنا أيامًا، فإذا رجل قد دخل علينا، فقال لي: يا أبا عبد اللَّه، قد -مات الرجل -يعني: المأمون. فحمدت اللَّه وظننت أنه الفرج، إذا رجل قد دخل، فقال: إنه قد صار مع أبي إسحاق المعتصم رجل يقال له: ابن أبي دؤاد وقد أمر بإحضاركم إلى بغداد، فجاءني أمر آخر وحمدت اللَّه على ذلك وظننت أنا قد استرحنا، حتى قيل لنا: انحدروا إلى بغداد.
قال أبو عبد اللَّه: فصيرت في سفينة من الرقة ومعي أسرى لهم، فكنت في أمر عظيم من الأذى. فقدم أبو عبد اللَّه إلى بغداد، وذلك في شهر رمضان وهو مريض فحبس في دار عمارة، وكان مقيدًا فحبس في ذلك الحبس قليلا، ثم تحول إلى سجن العامة في التغيير، فمكث في السجن نيفًا وثلاثين شهرا، فكنا نأتيه إلى السجن أنا وأبي وأصحاب أبي عبد اللَّه، فأكثر ذلك ندخل عليه حينا وحينا لم يأذن لنا السجان، فسأله أبي أن يحدثني ويقرأ علي وقال له: أنت
هاهنا فارغ، فأجابه، فقرأ علي في السجن كتاب الإرجاء وغيره، فرأيت أبا عبد اللَّه يصلي بأهل الحبس. وهو محبوس معهم وعليه القيد، وكان قيدًا واسعًا. فكان في وقت الصلاة والوضوء والنوم، يخرج إحدى الحلقتين من إحدى رجليه ويشدها على ساقه، فإذا صلى ردها في رجله، وكان ذلك بغير علم من إسحاق بن إبراهيم. فقلت له في الحبس: يا عم، أراك تصلي بأهل الحبس!
قال: ألا تراني وما أصنع؟ يعنى: في إخراج القيدين إحدى رجليه.
قلت: بلى.
ثم ذكر أبو عبد اللَّه حُجْرًا وأصحابه، فقال: أليس كانوا مقيدين؟ أليس كانوا يصلون جماعة على الضرورة؟ (1) لا بأس بذلك.
قال أبو عبد اللَّه: وإن كان فيهم مطلق ورضوه صلى بهم.
قلت: فالذي في رجله القيد، لا يمكنه أن يقعد في الصلاة على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله في الركعة الآخرة، يمنعه القيد ذلك.
قال أبو عبد اللَّه: كيف ما تيسر وأطاق، إلا أني أنا أطيق ذلك، لأني أخرجه من رجلي. ثم قال: فكرت في أمرنا، فرأيت مثلنا، في هذا الأمر مثل حجر وأصحابه لما أخرجوا وقيدوا، فكأنا كنا في مثال أمرهم، ثم
قال أبو عبد اللَّه: أولئك أنكروا شيئا، ونحن دعينا إلى الكفر باللَّه، فالحمد للَّه على معونته وإحسانه، وسبحان اللَّه لهذا الأمر الذي أبلى منه العباد.
"ذكر المحنة" لحنبل ص 34 - 41
(1) قصة حجر بن عدي وأصحابه انظرها في "طبقات ابن سعد" 6/ 217 - 220، "أسد الغابة" 1/ 385 - 386، "المستدرك" للحاكم 3/ 470، "الاستيعاب" 1/ 390، "تاريخ الإسلام" للذهبي 4/ 194.
قال محمد بن إبراهيم البُوشنْجي: أخذ أحمد أيام المأمون ليحمل إلى المأمون ببلاد الروم، فبلغ أحمد الرقة، ومات المأمون بالبذندون قبل أن يلقاه أحمد، وذلك في سنة ثمان عشرة ومائتين.
"المناقب" لابن الجوزي ص 394
قال صالح: سمعت أبا عبد اللَّه السلال يقول: دخلت على أبي عبد اللَّه لما قدم من طرسوس وهو عليل شديد العلة، ومحمد بن نوح عليل، فسلمت على أبي عبد اللَّه ففتح عينيه فنظر إلي، ثم غمضهما، ثم فتحهما، فقال: صليتم الظهر؟
فقلت: لا، فغمض عينيه فقال: أرجو أن يكون قد جاء أحد الفرجين.
"المحنة" لعبد الغني المقدسي ص 55
قال الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أول يوم امتحنه إسحاق، لما خرج من عنده، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة ومائتين، فقعد في مسجده، فقال له جماعة: أخبرنا بمن أجاب. فكأنه ثقل عليه، فكلموه أيضًا.
قال: فلم يجب أحد من أصحابنا، والحمد للَّه. ثم ذكر من أجاب ومن واتاهم على أكثر ما أرادوا، فقال: هو مجعول محدث، وامتحنهم مرة مرة، وامتحنني مرتين مرتين، فقال لي: ما تقول في القرآن؟
قلت: كلام اللَّه غير مخلوق. فأقامني وأجلسني في ناحية، ثم سألهم، ثم ردني ثانية، فسألني وأخذني في التشبيه. فقلت:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فقال لي: وما السميع البصير؟ فقلت: هكذا قال تعالى.
"سير أعلام النبلاء" 11/ 239