الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
27 - فصل المحنة أيام الواثق
قال حنبل: لم يزل أبو عبد اللَّه أحمد بن حنبل رضي الله عنه بعد أن أطلقه المعتصم، وانقضاء أمر المحنة، وبرأ من ضربه، يحضر الجمعة والجماعة ويفتي ويحدث أصحابه حتى مات أبو إسحاق، وولي هارون ابنه وهو الذي يدعى الواثق فأظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى ابن أبي دؤاد وأصحابه، فلما اشتد الأمر على أهل بغداد، وأظهر القضاة المحنة، وفرق بين الأنماطي وامرأته، وبين أبي صالح وامرأته.
وكان أبو عبد اللَّه يأتي الجمعة في أيام الواثق، وكان يصلي بنا رجل من ولد عيسى بن جعفر، فقيل لأبي عبد اللَّه: إنه يقول هذا القول، فكان أبو عبد اللَّه يعيد الصلاة، ثم ولي آخر له لقب، فكان يعيد إلى أن ولي المتوكل، فرفع هذا الكلام، فكان لا يعيد بعد ذلك، فكنت ربما ذهبت معه في يوم الجمعة، أمشي وراءه، فكان يتخلل الدروب حتى لا يعرف، فيمضي، فيصلي وينصرف.
فلما أظهر الواثق هذِه المقالة، وضرب عليها وحبس جاء نفر إلى أبي عبد اللَّه من فقهاء أهل بغداد، فيهم بكر بن عبد اللَّه، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، وغيرهم، فأتوا أبا عبد اللَّه وسألوا أن يدخلوا عليه، فاستأذنت لهم، فأذن لهم فدخلوا عليه، فقالوا له: يا أبا عبد اللَّه إن هذا الأمر قد فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا وذكروا له ابن أبي دؤاد على أن يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن كذا وكذا.
فقال لهم أبو عبد اللَّه: وماذا تريدون؟
قالوا: أتيناك نشاورك فيما نريد. قال لهم: فيما تريدون؟
قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه.
فناظرهم أبو عبد اللَّه عز وجل ساعة، حتى قال لهم -وأنا حاضرهم: أرأيتم إن لم يبق لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه؟ عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر، ودار بينهم في ذلك كلام كثير لم أحفظه، واحتج عليهم أبو عبد اللَّه بهذا.
فقال له بعضهم: إنا نخاف على أولادنا إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره ويُمحَى الإسلام ويدرس.
فقال لهم أبو عبد اللَّه: كلا إن اللَّه عز وجل ناصر دينه، وإن هذا الأمر له رب ينصره، وإن الإسلام عزيز منيع.
فخرجوا من عند أبي عبد اللَّه، ولم يجبهم إلى شيء، مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك، والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج اللَّه عن الأمة، فلم يقبلوا منه.
فلما خرجوا، قال لي بعضهم: امضِ معنا إلى منزل فلان، رجل سموه حتى نوعده لأمر نريده، فذكرت ذلك لأبي، فقال لي أبي: لا تذهب، واعتل عليهم، فإني لا آمن أن يغمسوك معهم، فيكون لأبي عبد اللَّه في ذلك ذكر، فاعتللت عليهم، ولم أمض معهم. فلما انصرفوا دخلت أنا وأبي على أبي عبد اللَّه، فقال أبو عبد اللَّه لأبي: يا أبا يوسف هؤلاء قوم أشرب قلوبهم ما يخرج منها فيما أحسب فنسأل اللَّه السلامة، ما لنا ولهذه الأمة، وما أحب لأحد أن يفعل هذا.
فقلت له: يا أبا عبد اللَّه، وهذا عندك صواب؟
قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر، ثم قال أبو عبد اللَّه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر"(1)، وقال عبد اللَّه ابن مسعود كذا، وذكر أبو عبد اللَّه كلاما لم أحفظه.
قال حنبل: فمضى القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، واختفوا من السلطان، وهربوا، وأخذ بعضهم فحبس، ومات في الحبس. فبينا نحن في أيام الواثق، في تلك الشدة، وما نزل بالناس منه إذ جاء يعقوب بن بحر، في جوف الليل برسالة إسحاق بن براهيم إلى أبي عبد اللَّه، فقال له: يقول لك الأمير إسحاق بن إبراهيم إن أمير المؤمنين قد ذكرك. فلا يجتمعن إليك، ولا يأتينك أحد، ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض اللَّه.
فاختفى أبو عبد اللَّه بقية حياة الواثق وولايته، وكانت تلك النائبة وتلك الفتنة. وقتل أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، فلم يزل أبو عبد اللَّه مختفيا، في غير منزله في القرب، يعني بمنزل أبي محمد فوران، ثم عاد منزله بعد أشهر أو سنة لما طفا خبره، فلم يزل مختفيًا في البيت لا يخرج إلى الصلاة ولا إلى غيرها، حتى هلك الواثق (2).
"ذكر المحنة" لحنبل ص 65 - 73
(1) رواه بنحوه ابن أبي شيبة 6/ 548 (33700)، والبيهقي 8/ 159 عن عمر موقوفًا.
(2)
قد ذُكر رجوع الواثق عن هذِه المقالة في أواخر حياته على يد شيخ اسمه أبو عبد الرحمن عبد اللَّه بن محمد بن إسحاق الأذرمي، شيخ أبي داود وأبي حاتم الرازي، كما قال الخطيب في "تاريخ بغداد" 10/ 74 وكان ذلك في مناظرة تمت بينه وبين ابن أبي دؤاد بحضرة الواثق، وقد علا فيها الشيخ، وذكرها الآجري في "الشريعة" ص 80 - 83 (177)، ونذكرها بتمامها لأهميتها في هذا المقام، قال الآجري: حدثنا أبو عبد اللَّه بن إدريس القزويني قال: حدثنا أحمد بن الممتنع بن عبد اللَّه القرشي التيمي قال: حدثنا أبو الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن منصور الهاشمي -وكان من وجوه بني هاشم، وأهل الجلالة، والسبق منهم- قال: حضرت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المهتدي باللَّه أمير المؤمنين رحمة اللَّه تعالى عليه، وقد جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس، تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها وإنشاء الكتب لأصحابها، ويختم ويرفع إلى صاحبه بين يديه، فسرني ذلك، وجعلت انظر إليه، فرفع رأسه ونظر إلي، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارًا ثلاثًا، إذا نظر إليَّ غضضت، وإذا اشتغل نظرت، فقال لي: يا صالح. فقلث: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائمًا، فقال: في نفسك مني شيء تحب أن تقوله؟ أو قال: تريد أن تقوله، فقلت: نعم يا سيدي، يا أمير المؤمنين. قال لي: عد إلى موضعك. فعدت، وعاد في النظر، حتى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالح.
فانصرف الناس ثم أذن لي، وقد أهمتني نفسي، فدخلت فدعوت له، فقال لي: اجلس. فجلست، فقال: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي أنه دار في نفسك.
قلت: يا أمير المؤمنين، ما تعزم عليه، وما تأمر به. فقال: أقول: كأني بك وقد استحسنت ما رأيت منا، فقلتَ: أيُّ خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوق! فورد على قلبي أمر عظيم وأهمتني نفسي، ثم قلت: يا نفس، هل تموتين إلا مرة؟ وهل تموتين قبل أجلك؟ وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: واللَّه يا أمير المؤمنين، وما دار في نفسي إلا ما قلت.
فأطرق مليًا، ثم قال لي: ويحك، اسمع مني ما أقول، فواللَّه لتسمعن الحق.
فسرّي عني، وقلت: يا سيدي وما أولى بقول الحق منك؟ وأنت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين، من الأولين والآخرين. فقال لي: ما زلت أقول: إن القرآن مخلوق صدرًا من خلافة الواثق، حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام من أهل أذَنَة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدًا، وهو حَبَل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيى منه، ورَقَّ له، فما زال يدنيه ويقربه، حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن السلام، ودعا فأبلغ الدعاء، وأوجز، فقال له الواثق: اجلس.
ثم قال له: يا شيخ، ناظِر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أبي دؤاد يقل ويضيق، أو يضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق، وعاد مكان إكرامه له غضبًا عليه، فقال: أبو عبد اللَّه بن أبي دؤاد يضيق أو يقل ويضعف عن مناظرتك أنت؟ !
فقال له الشيخ: هَوِّنْ عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن لي في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.
فقال الشيخ: يا أحمد بن أبي دؤاد، إلى ما دعوت الناس ودعوتني إليه؟ فقال: إلى أن تقول. القرآن مخلوق؛ لأن كل شيء دون اللَّه عز وجل مخلوق.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ عليَّ ما أقول، وعليه ما يقول.
قال: أفعل.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذِه، أواجبةٌ داخلة فى عقد الدين، فلا يكون الدين كاملًا حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بعثه اللَّه عز وجل إلى عباده، هل أسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أمره اللَّه عز وجل به في دينه؟ قال: لا.
قال الشيخ: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذِه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: تكلم. فسكت.
فالتفت الشيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، واحدة. فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن اللَّه عز وجل حين أنزل القرآن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] كان اللَّه عز وجل الصادق في إكمال دينه، أم أنت الصادق في نقصانه، فلا يكون الدين كاملًا حتى يقال فيه بمقالتك هذِه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان. فقال الواثق: اثنتان. فقال الشيخ: أخبرني عن مقالتك هذِه، أعلمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها.
قال الشيخ: فدعا الناس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث. فقال الواثق: ثلاث. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فقال الشيخ: يا أحمد، فاتسع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا علمها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم.
قال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق لكن وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال ابن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الواثق، فقال يا أمير المؤمنين، قد قدمت لك القول أن أحمد يضيق أو يقل أو يضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذِه المقالة ما اتسع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا وسع اللَّه على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك.
فقال الواثق: نعم، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذِه المقالة ما اتسع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه فلا وسع اللَّه علينا، اقطعوا قيد الشيخ.
فلما قطعوه ضرب الشيخ بيده على القيد ليأخذه، فجذبه الجلاد عليه، فقال الواثق: دع الشيخ ليأخذه. فأخذه الشيخ فوضعه في كمه، فقال الواثق: لم جابذت عليه؟ فقال الشيخ: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا مت: أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم هذا الظالم عند اللَّه يوم القيامة، وأقول: يا رب، سل عبدك هذا، لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي؟
وبكى الشيخ، وبكى الواثق، فبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما قال.
فقال الشيخ: واللَّه يا أمير المؤمنين، لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكرامًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ كنت رجلًا من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة. فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت.
فقال الواثق: تقيم قبلنا، فينتفع بك فتياننا.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إنَّ ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم، انفع لك من مقامي عندك، وأخبرك بما في ذلك: أصير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقال له الواثق: فتقبل منا ما تستعين بها على دهرك.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، لا تحل لي، أنا عنها غني، وذو مرة سوي. =
قال إبراهيم بن هانئ: اختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاثة أيام، ثم قال: اطلب لي موضعا حتى أتحول إليه.
قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد اللَّه.
قال: إذا فعلت أفدتك، فطلبت له موضعا، فلما خرج قال لي: اختفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول (1)، وليس ينبغي أن نتبع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الرخاء ونتركه في الشدة.
"حلية الأولياء" 9/ 180، " طبقات الحنابلة" 1/ 252، "المناقب" لابن الجوزي ص 430، "المحنة" لعبد الغني المقدسي ص 167، "سير أعلام النبلاء" 11/ 264، "المنهج الأحمد" 1/ 110
قال أبو زرعة: قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟ فقال: لو وضع الصدق على جراح لبرئ.
"تاريخ دمشق" 5/ 320، 321، "المناقب" ص 430، "المحنة" لعبد الغني المقدسي ص 143
= قال: فتسأل حاجتك.
قال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين. قال: نعم.
قال: تخلي سبيلي إلى الثغر الساعة، وتأذن لي.
قال: أذنت لك. فسلم عليه الشيخ وخرج.
قال صالح: قال المهتدي باللَّه رحمة اللَّه تعالى عليه: رجعت عن هذِه المقالة منذ ذلك اليوم، وأظن الواثق باللَّه كان قد رجع عنها من ذلك الوقت.
(1)
رواه الإمام أحمد 6/ 198، والبخاري (3905) من حديث عائشة رضي الله عنها. ولفظ أحمد ليس فيه موضع الشاهد.