الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
25 - فصل المحنة أيام المعتصم
قال صالح: قال أبي رحمه الله: لما كان في شهر رمضان ليلة تسع عشرة خلت منه، حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم، وأنا مقيد بقيد واحد، يوجه إلي كل يوم رجلين سماهما أبي. -قال صالح: وهما أحمد ابن رباح، وأبو شعيب الحجام- يكلماني ويناظراني، فإذا أرادا الانصراف، دعي بقيد فقيدت فمكثت على هذا الحال ثلاثة أيام، وصار في رجلي أربعة أقياد. فقال لي أحدهما في بعض الأيام في كلام دار، وسألته عن علم اللَّه؟ فقال: علم اللَّه مخلوق.
قلت: يا كافر، كفرت. فقال لي الرسول الذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين.
فقلت: إن هذا قد كفر، وكان صاحبه الذي يجيء معه خارج، فلما دخل قلت: إن هذا زعم أن علم اللَّه مخلوق، فنظر إليه كالمنكر عليه، ثم انصرف.
قال أبي: فلما كان الليلة الرابعة بعد عشاء الآخرة وجه -يعني: المعتصم- ببغا إلى إسحاق، يأمره بحملي، فأدخلت على إسحاق، فقال لي: يا أحمد، إنها واللَّه نفسك، إنه قد حلف أن لا يقتلك بالسيف، وأن يضربك ضربا بعد ضرب، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس، أليس
قال اللَّه تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] أفيكون مجعولا إلا مخلوقا؟ فقلت: فقد قال اللَّه تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5] أفخلقهم؟ فقال: اذهبوا به.
قال أبي: فأنزلت إلى شاطئ دجلة، فأحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان، ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق.
فقال بغا لمحمد الحارس بالفارسية: ما تريدون من هذا؟ قال: يريدون
منه أن يقول: القرآن مخلوق. فقال: ما أعرف شيئًا من هذا إلا قول: لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه، وقرابة أمير المؤمنين من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبي: فلما صرنا وما معي أحد يمسكني، فجعلت أكاد أخرّ على وجهي حتى انتهى بي إلى الدار فأدخلتُ ثم خرج بي إلى حجرة، فصيرت في بيت منها، وأغلق علي الباب، وأقعد عليه رجل، وذلك في جوف الليل، وليس في البيت سراج، فاحتجت إلى الوضوء، فمددت يدي أطلب شيئًا، فإذا بإناء فيه ماء وطست، فتهيأت للصلاة، وقمت أصلي. فلما أصبحت جائني الرسول، فأخذ بيدي فأدخلني الدار، وإذا هو جالس، وابن أبي دؤاد حاضر، وقد جمع أصحابه، والدار غاصة بأهلها.
فلما دنوت منه سلمت، فقال: ادنه. ادنه. فلم يزل يدنيني حتى قربت منه. ثم قال لي: اجلس، فجلست. وقد أثقلتني الأقياد، فلما مكثت هنيهة، قلت: تأذن في الكلام؟ قال: تكلم.
قلت: إلى ما دعا إليه رسوله؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه.
فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا اللَّه، ثم قلت: إن جدك ابن عباس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، أمرهم بالإيمان باللَّه تعالى. فقال:"أتدرون ما الإيمان؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمد رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم"(1).
قال صالح: قال أبي: فقال لي عند ذلك: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرحمن، ألم آمرك أن ترفع المحنة؟
(1) رواه الإمام أحمد 1/ 228، والبخاري (53)، ومسلم (17).
قال أبي: فقلت في نفسي: اللَّه أكبر، إن في هذا لفرجا للمسلمين. قال: ثم قال: ناظروه، وكلموه.
ثم قال: يا عبد الرحمن كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ قلت: ما تقول في علم اللَّه؟ قال: فسكت.
قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا، فأرد على هذا، ثم أقول: يا أمير المؤمنين، أعطني شيئًا من كتاب اللَّه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقول به، فيقول لي ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا كما في كتاب اللَّه أو سنة رسوله! فقلت له: تأولتَ تأويلا، فأنت أعلم، وما تأولتُ ما يحبس عليه، ويقيد عليه.
فقال ابن أبي دؤاد: فهو واللَّه يا أمير المؤمنين، ضال مضل مبتدع يا أمير المؤمنين، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم.
قال: فيقول لهم: ما تقولون؟ فيقولون: يا أمير المؤمنين، هو ضال مضل مبتدع.
قال: فلا يزالون يكلموني، وجعل صوتي يعلو على أصواتهم، فقال لي إنسان منهم: قال اللَّه تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فيكون محدثًا إلا مخلوقًا؟ قلت له:
قال اللَّه تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فالذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولام. فجعل ابن سماعة لا يفهم ما أقول، فجعل يقول لهم: ما يقول؟ فقالوا: إنه يقول كذا وكذا.
قال: فقال لي إنسان منهم حديث خباب: يا هَنَتاه، تقربْ إلى اللَّه بما استَطَعْتَ، فَإنَّكَ لَنْ تَتَقَرَّبْ إلَيْه بشَيءٍ أحَبَّ إلَيْه منْ كَلامه (1).
(1) رواه ابن أبي شيبة 6/ 136 (35089)، والآجري في "الشريعة" ص 69 (148)، والحاكم 2/ 441 وصححه، عن خباب موقوفا.
فقلت: نعم هكذا هو. قال: فجعل ابن أبي دؤاد ينظر إليه، ويلحظه متغيظا عليه.
قال أبي: وقال بعضهم: أليس قال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]؟
قال: قلت: قد قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] فدمرت إلا ما أراد اللَّه.
وقال: فقال لي بعضهم فيما يقول، وذكر حديث عمران بن حصين:"إنَّ اللَّه تبارك وتعالى كَتَبَ الذِّكر" فقال: "إنَّ اللَّه خَلَقَ الذِّكْرَ".
فقلت: هذا خطأ، حدثنا غير واحد:"كتَبَ الذِّكْر".
قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد يتكلم، فلما قارب الزوال، قال لهم: قوموا، ثم حبس عبد الرحمن بن إسحاق، فخلا بي وبعبد الرحمن، فجعل يقول لي: أما كنت تعرف صالحا الرشيدي؟ كان مؤدبي، وكان في هذا الموضع جالسا، وأشار إلى ناحية من الدار، فتكلم وذكر القرآن، فخالفني، فأمرت به فسحب ووطئ.
قال أبي: ثم جعل يقول لي: ما أعرفك، ألم تكن تأتينا؟
فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، أعرفه منذ ثلاثين سنة، يرى طاعتك والحج والجهاد معك، وهو ملازم لمنزله.
قال: فجعل يقول: واللَّه إنه لفقيه، وإنه لعالم، ومما يسرني أن يكون مثله معي، يرد عني أهل الملل، ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي، ولأوطئن عقبه، ولأركبن إليه بجندي، ثم التفت إلي فيقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟
فأقول: يا أمير المؤمنين: أعطوني شيئًا من كتاب اللَّه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فلما طال بنا المجلس ضجر، فقام، فرددت إلى الموضع الذي كنت فيه. ثم وجه إلي برجلين سماهما وهما، صاحب الشافعي، وغسان، من أصحاب ابن أبي دؤاد، يناظراني فيقيمان معي، حتى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة
عليها طعام، فجعلا يأكلان، وجعلت أتعلل حتى رفع المائدة، وأقاما إلى غد، وفي خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي: يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول؟
فأقول له: أعطوني شيئًا من كتاب اللَّه أو سنة رسوله حتى أقول له.
فقال لي ابن أبي دؤاد: واللَّه لقد كتب اسمك في السبعة، فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إياك، وإنه واللَّه ليس هو السيف، إنه ضرب بعد ضرب، ثم يقول لي: ما تقول؟
فأرد عليه نحوا مما رددت عليه، ثم يأتي رسوله، فيقول: أين أحمد بن عمار أخو الرجل الذي أنزلت في حجرته، فيذهب ثم يعود، فيقول: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول؟
فأرد عليه نحوا مما رددت على ابن أبي دؤاد، فلا يزال رسله تأتي.
قال أحمد بن عمار -وهو يختلف فيما بيني وبينه- ويقول: يقول لك أمير المؤمنين: أجبني حتى أجيء فأطلق عنك بيدي.
قال: فلما كان في اليوم الثاني أدخلت عليه، فقال: ناظروه، كلموه.
قال: فجعلوا يتكلمون. هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا، فأرد على هذا وهذا، فإذا جاؤوا بشيء من الكلام مما ليس في كتاب اللَّه ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا فيه خبر ولا أثر، قلت: ما أدري ما هذا؟
فيقولون: يا أمير المؤمنين، إذا توجهت له الحجة علينا ثبت (1)، وإذا كلمناه بشيء يقول: لا أدري ما هذا.
فيقول: ناظروه، ثم يقول: يا أحمد، إني عليك شفيق.
(1) في "السيرة": توجهت عليه الحجة علينا وثب. والمثبت من "المناقب" لابن الجوزي ص 403. وانظر: "حلية الأولياء" 9/ 200.
فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله.
فقلت له: ما تقول في قول اللَّه تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11]؟
فقال: خص اللَّه بها المؤمنين.
فقلت له: ما تقول: إن كان قاتلا أو كان عبدًا أو يهوديًا أو نصرانيًا؟
قال أبي: وإنما احتججت عليه بهذا، لأنهم كانوا يحتجون علي بظاهر القرآن، ولقوله: أراك تنتحل الحديث.
وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد، فيقول: يا أمير المؤمنين، واللَّه لئن أجابك لهو أحب إلي من مائة ألف دينار، ومائة ألف دينار، فيعيد ما شاء اللَّه من ذلك، ثم أمرهم بعد ذلك بالقيام، وخلا بي وبعبد الرحمن، فيدور بيننا كلام كثير، وفي خلال ذلك يقول لي: تدعو أحمد بن أبي دؤاد، فأقول: ذلك إليك. فيوجه إليه فيجيء فيتكلم، فلما طال بنا المجلس قام، ورددت إلى الموضع الذي كنت فيه، وجاءني الرجلان اللذان كانا عندي بالأمس، فجعلا يتكلمان، فدار بيننا كلام كثير.
فلما كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو مما أتى به في أول ليلة فأفطرا، وتعللت، وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه، ويأتيني برسالته على نحو مما كان أول ليلة، وجاءني ابن أبي دؤاد، فقال: إنه قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب، وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشمس.
فقلت له: فما أصنع؟ حتى إذا كدت أن أصبح، قلت: لخليق أن يحدث من أمري في هذا اليوم شيء، وقد كنت أخرجت تكتي من سراويلي، فشددت بها الأقياد أحملها بها إذا توجهت إليهم، فقلت لبعض من كان مع الموكلين ارتد لي خيطا، فجاءني بخيط، فشددت بها الأقياد، وأعدت التكة في
السراويل، ولبسته كراهية أن يحدث شيئًا من أمري فأتعرى. فلما كان في اليوم الثالث أدخلت عليه والقوم حضور، فجعلت أدخل من دار، وقوم معهم السيوف، وقوم معهم السياط، وغير ذلك من الزي والسلاح، وقد حشرت الدار الجند، ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء، حتى إذا صرت إليه، قال: ناظروه، كلموه. فعادوا بمثل مناظرتهم. ودار بيننا كلام كثير، حتى إذا كان في الوقت الذي يخلو فيه فجاءني، ثم اجتمعوا فشاورهم ثم نحاهم، ودعاني فخلا بي وبعبد الرحمن، فقال لي: ويحك يا أحمد، أنا عليك واللَّه شفيق، وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني، فأجبني.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب اللَّه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما ضجر وطال المجلس، قال لي: عليك لعنة اللَّه، لقد كنت طمعت فيك، خذوه واسحبوه.
قال: فأخذْتُ وسُحبتُ، ثم خُلعت، ثم قال: العُقَابَين والسياط، فجيء بالعقابين والسياط.
قال أبي: وقد كان صار إلي شعرة أو شعرتان من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فصررتهما كم قميصي، فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي. فوجه إلي: ما هذا مصر؟ أرني كمك.
فقلت: شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين. فقال لهم -يعني: المعتصم: لا تحرقوه، انزعوه عنه.
قال أبي: ظننت أنه درئ عن القميص الحرق بسبب الشعر الذي كان فيه، ثم صيِّرتُ بين العقابين، وشدت يدي، وجيء بكرسي فجلس عليه، وابن أبي دؤاد قائم على رأسه، والناس أجمعون قيام من حضر فقال لي إنسان ممن
شدني: خذ ناتئ الخشبتين بيدك وشد عليهما، فلم أفهم ما قال: فتخالعت يداي لما شدت، ولم أمسك الخشبتين.
قال صالح: ولم يزل أبي رحمة اللَّه عليه يتوجع منهما إلى أن توفي.
ثم قال للجلادين: تقدموا، فنظر إلى السياط، فقال: ائتوا بغيرها، ثم قال لهم: تقدموا. فقال لأحدهم: ادنه، أوجع، قطع اللَّه يدك. فتقدم فضربني سوطين، ثم تنحى، ثم قال لآخر: ادنه، أوجع، شد قطع اللَّه يدك! ثم تقدم فضربني سوطين، ثم تنحى. فلم يزل يدعو واحدا بعد واحد، يضربني سوطين ويتنحى، ثم قام حتى جاءني، وهم محدقون بي. فقال: ويحك يا أحمد، تقتل نفسك! ؟ ويحك، أجبني حتى أطلق عنك بيدي. فجعل بعضهم يقول لي: ويلك، إمامك على رأسك قائم.
قال: فجعل عجيف ينخسني بقائم سيفه، ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ ! وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول: ويحك، الخليفة على رأسك قائم! ثم يقول بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي.
قال: ثم رجع فجلس على الكرسي، ثم قال للجلاد: ادنه، شد، قطع اللَّه يدك. ثم لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني بسوطين ويتنحى، وهو يقول: شد، قطع اللَّه يدك. ثم قام إلى الثانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني، فجعل عبد الرحمن بن إسحاق يقول: من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت؟ هذا يحيى بن معين، وهذا أبو خيثمة، وابن أبي إسرائيل. وجعل يعدد علي من أجاب.
قال: وجعل وهو يقول: ويحك، أجبني. فجعلت أقول نحو ما كنت أقول لهم. فرجع فجلس، ثم جعل يقول للجلاد: شد، قطع اللَّه يدك!
قال أبي: فذهب عقلي، فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد، فقال لي إنسان ممن حضر: إنا أكببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك
بارية، ودسناك. فقلت: ما شعرت بذاك.
قال: فجاؤوني بسويق، فقالوا: اشرب. فقلت: لا أفطر.
فجيء به إلى دار إسحاق بن إبراهيم.
قال أبي: فنودي بصلاة الظهر، فصلينا الظهر.
وقال ابن سماعة: صليت والدم يسيل من ضربك!
فقلت: به صلى عمر، وجرحه يثغب دما. فسكت.
ثم خلي عنه فصار إلى المنزل، ووجه إليه الرجل من السجن ممن يبصر الضرب والجراحات يعالج منه، فنظر إليه فقال: قال لنا: واللَّه لقد رأيت منه ضرب السيوط، ما رأيت ضربا أشد من هذا، لقد جر عليه من خلفه، ومن قدامه، ثم أدخل ميلا في بعض تلك الجراحات، فقال: لم ينقب، فجعل يأتيه فيعالجه، وقد كان أصاب وجهه غير ضربة. ثم مكث يعالجه ما شاء اللَّه، ثم قال له: إن هذا شيء أريد أن أقطعه، فجاء بحديدة، فجعل يعلق اللحم بها، ويقطعه بسكين معه، وهو صابر، يحمد اللَّه لذلك، فبرأ منه، ولم يزل يتوجع من مواضع منه، وكان أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن توفي رحمة اللَّه عليه.
سمعت أبي يقول: واللَّه لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولوَددتُ أني أبو من هذا الأمر كفافًا لا علي ولا لي.
قال صالح: أخبرني أحد الرجَلين اللذين كانا معه، وقد كان هذا الرجل صاحب حديث قد سمع ونظر ثم جاءني بعد، فقال: يا ابن أخي، رحمة اللَّه على أبي عبد اللَّه، واللَّه ما رأيت أحدا -يعني: يشبهه- لقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا الطعام: يا أبا عبد اللَّه، أنت صائم، وأنت في موضع تقية، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب: ناولني، فناوله قدحا فيه ماء ثلج، فأخذه فنظر إليه هنيهة ثم رده عليه. قال: فجعلت أعجب من صبره، على الجوع
والعطش، وما هو فيه من الهول.
قال صالح: وقد كنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا، أو رغيفين في هذِه الأيام، فلم أقدر على ذلك.
وأخبرني رجل حضره قال: تفقدته في هذِه الأيام الثلاثة، وهم يناظرونه، ويكلمونه فما لحن، ولا ظننت أن يكون أحد في مثل شجاعته وشدة قلبه.
قال صالح: دخلت على أبي -رحمة اللَّه عليه- يوما، وقلت له: بلغني أن رجلًا جاء إلى فضل الأنماطي، فقال: اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك.
فقال فضل: لا جعلت أحدًا في حل. فتبسم أبي وسكت، فلما كان بعد أيام قال: مررت بهذه الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فنظرت في تفسيرها، فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم قال: حدثنا المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي اللَّه تبارك وتعالى يوم القيامة نودوا: ليقم من أجره على اللَّه، فلا يقوم إلا من عفا في الدينا. قال أبي: فجعلت الميت في حل من ضربه إياي، ثم جعل يقول: وما على رجل ألا يعذب اللَّه بسببه أحدًا.
"السيرة" لصالح ص 51 - 65
قال حنبل: فلما طال حبس أبي عبد اللَّه، وكان أبي، إسحاق بن حنبل، يختلف في أمره، ويكلم القواد وأصحاب السلطان في أمره، رجاء أن يطلق ويخلى له السبيل. فلما طال ذلك، ولم يره يتم أتى على إسحاق بن إبراهيم فدخل عليه، فقال له: أيها الأمير، إن بيننا وبين الأمير حرمًا، في حرمة منها ما يرعاها الأمير جوار بمرو، وكان والدي حنبل مع جدك الحسين بن مصعب.
قال: قد بلغنى ذلك.
قال: فقلت: فإن رأى الأمير أن يرعى لنا ذلك ويحفظه، وقلت له:
الأمير على ما يحبس ابن أخي لم يجحد التنزيل، وإنما اختلفوا في التأويل، فاستحل منه ما استحل من الحبس الطويل، يا أيها الأمير، اجمع له الفقهاء والعلماء. قال أبي: ولم أذكر له أهل الحديث والآثار.
قال: فقال لي إسحاق: وترضى؟
قلت: نعم أيها الأمير، فمن فلحت حجته كان أغلب.
قال أبي: فقال لي ابن أبي ربعي: ماذا صنعت؟ تجمع على ابن أخيك المخالفين له، فيثبتون عليه الحجة وممن يريد ابن أبى دؤاد من أهل الكلام والخلاف؟ وهلا شاورتني في ذلك؟
قلت له: قد كان الذي كان.
قال أبي: ولما ذكرت لإسحاق بن إبراهيم ما بينا وبينه من الحرمة المتقدمة، قال لحاجبه محمد البخاري: يا بخاري، اذهب معه إلى ابن أخيه، فلا يكلم ابن أخيه بشيء إلا أخبرتني به.
فقال أبي: فدخلت على أبي عبد اللَّه ومعي حاجبه، فقلت له: يا أبا عبد اللَّه، قد أجاب أصحابك، وقد أعذرت فيما بينك وبين اللَّه، وقد أجاب أصحابك والقوم، وبقيت أنت في الحبس والضيق.
فقال لي: يا عم، إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق؟ قال أبي: فأمسكت عنه.
فلما كان بعد أيام من لقاء أبي لإسحاق بن إبراهيم، وكلامه إياه، لقي إسحاق المعتصم فأخبره بقول ألي وما كلمه به، فغدونا بعد ذلك إلى الحبس وأردنا الدخول على أبي عبد اللَّه، على ما كنا نختلف، وكان في دارنا رجل يقال له: هارون، يختلف إلى أبي عبد اللَّه بطعامه من المنزل ويقضي حوائجه ويخدمه، فقيل لنا: قد حول الليلة أبو عبد اللَّه إلى دار إسحاق بن إبراهيم. فذهبت أنا وأبي وأصحابنا إلى دار إسحاق،
فأردنا الدخول على أبي عبد اللَّه والوصول إليه، فحيل بينا وبين ذلك، وجاء هارون بإفطار أبي عبد اللَّه وذلك في رمضان في خمس بقين من شهر رمضان سنة تسع عشرة ومائتين. فدفع هارون إفطار أبي عبد اللَّه إلى بعض الأعوان؛ ليوصله إلى أبي عبد اللَّه، فبعث إسحاق فأخذ الزنبيل الذي فيه إفطاره، فنظر إليه فإذا فيه رغيفان وشيء من قثاء وملح، فعجب إسحاق من ذلك. فلما كان الغد من اليوم الذي حول فيه أبو عبد اللَّه إلى دار إسحاق، ونحن عند باب إسحاق، إذ جاء أبو شعيب بن الحجام ومحمد بن رباح، فدخلا على أبي عبد اللَّه في دار إسحاق، ومعهما صورة السموات والأرض وغير ذلك.
قال أبو عبد اللَّه: فسألاني عن شيء ما أدري ما هو، قال أبو عبد اللَّه: فلما سألني ابن الحجام وابن رباح، قلت: ما أدري ما هذا، وما أعرف ما هذا.
قال: ثم قلت لابن الحجام في كلام بيني وبينه: ويحك بعد طلبك العلم والحديث، صرت إلى هذا! وسألته عن علم اللَّه ما هو؟
فقال: علم اللَّه مخلوق. فقلت له: كفرت باللَّه العظيم يا كافر.
فقال لي رسول إسحاق وكان معه: هذا رسول أمير المؤمنين. فقلت له: إن هذا كفر باللَّه. فقلت لصاحبه ابن رباح الذي جاء معه: إن هذا -أعني ابن الحجام- قد كفر، زعم أن علم اللَّه مخلوق.
فنظر إليه، وأنكر علي مقالته، وقال: ويحك، ماذا قلت؟
ثم انصرفنا، قال حنبل: فبلغني ما روي عن أبي شعيب بن الحجام، وأنه قال لما خرج من عند أبي عبد اللَّه قال: ما رأيت لهذا نظيرا، فعجبت من هذا الذي هو فيه، وعظته لي وتوبيخه إياي.
وقال أبو عبد اللَّه: قال لي إسحاق، لما دخلت عليه في السجن:
يا أحمد، لو أجبت أمير المؤمنين إلى ما دعاك إليه.
قال: فكلمته بكلام، فقال لي: يا أحمد، إني عليك مُشفق، وإن بيننا وبينك حرمة، وقد تألى لئن لم تجبه ليقتلنك.
فقلت له: ما عندي في هذا الأمر إلا الأمر الأول.
فقال لي إسحاق حينئذ، وأمرني، فحملت في زورق إلى دار أبي إسحاق.
قال: وكانت في سراويلي تكة، فلما حولوني من السجن، زادوا في قيودي وثقلت علي القيود ولم أقدر أن أمشي فيها، أخرجت التكة من السراويل وشددت بها قيودي، ثم لففت السراويل لفًّا بغير تكة ولا خيط، فمضى بي إلى دار أبي إسحاق المعتصم، ومعي بغا، ورسول إسحاق بن إبراهيم، فلما صرت إلى دار أبي إسحاق، ثم أخرجت من الزورق وحملت على دابة والأقياد علي، وما معي أحد يمسكني فظننت أني سأخرُّ على وجهي إلى الأرض من ثقل القيود، وسلم اللَّه حتى انتهيت إلى الدار. فأدخلت إلى الدار في جوف الليل وأغلق علي، وأقعد علي رجلان، وليس في البيت سراج، فقمت أصلي ولا أعرف القبلة، فصليت، فلما أصبحت فإذا أنا على القبلة.
قال أبو عبد اللَّه: فلما أدخلت من الغد إلى أبي إسحاق، وهو قاعد وابن أبى دؤاد حاضر، فلما نظر إلي أبو إسحاق فسمعته يقول لهم وقد قربت منهم: أليس زعمتم لي أنه حدث؟ أليس هذا شيخ مكتهل؟
فلا أدري ما احتج به الخبيث عليه، لم أفهمه، وفي الدار كثير من الناس، فلما دنوت سلمت.
فقال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني، حتى قربت منه، ثم قال: اجلس، فجلست، وقد أثقلني الحديد والأقياد، فلما مكثت ساعة، قلت له: يا أمير المؤمنين، تأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم.
قلت له: إلى ما دعا إليه ابن عمك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟
قال: إلى شهادة ألا إله إلا اللَّه.
قلت: فأنا أشهد ألا إله إلا اللَّه. ثم قلت له: إن جدك ابن عباس يحكي أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أمرهم بالإيمان باللَّه. فذكرت الحديث كله، وقلت: يا أمير المؤمنين، فإلى ما أدعى وهذِه شهادتي وإخلاصي للَّه بالتوحيد! يا أمير المؤمنين، دعوة بعد دعوة محمد صلى الله عليه وسلم!
قال: فسكت، وتكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أكن أتفقد كلامه، ولا ألتفت إلى ذلك منه.
قال أبو عبد اللَّه: ثم قال لي أبو إسحاق: لولا أنك كنت في يدي من كان قبلي، لما عرضت لك، ثم قال لعبد الرحمن بن إسحاق: ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أبو عبد اللَّه: فقلت في نفسي: اللَّه أكبر، إن في هذا الأمر لفرجا للمسلمين.
ثم قال: ناظروه وكلموه، يا عبد الرحمن، كلمه.
فقال عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه. ثم قال ابن أبي دؤاد لعبد الرحمن: كلمه. فسألني عبد الرحمن، فقال لي: ما تقول في القرآن؟
فقال لي أبو إسحاق: أجبه.
فقلت له: ما تقول في العلم؟ فسكت. فقلت لعبد الرحمن: القرآن من علم اللَّه، ومن زعم أن علم اللَّه مخلوق فقد كفر باللَّه.
قال: فسكت عبد الرحمن، فلم يرد علي شيئًا. فقالوا بينهم: يا أمير المؤمنين، أكفرنا وأكفرك. فلم يلتفت إلى ذلك منهم.
قال أبو عبد اللَّه: فقال لي عبد الرحمن: كان اللَّه ولا قرآن. قلت له: فكان اللَّه ولا علم؟ فأمسك. ولو زعم أن اللَّه كان ولا علم لكفر باللَّه.
ثم قال أبو عبد اللَّه: لم يزل اللَّه عالما متكلما، نعبد اللَّه لصفاته غير
محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، ونرد القرآن إلى عالمه تبارك وتعالى، إلى اللَّه فهو أعلم به، منه بدأ وإليه يعود.
قال أبو عبد اللَّه: وجعلوا يتكلمون من هاهنا ومن هاهنا، فأقول: يا أمير المؤمنين، ما أعطوني شيئا من كتاب اللَّه، ولا سنة رسول اللَّه فأقول به.
قال: فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب اللَّه أو سنة رسوله!
فقلت له: وهل يقوم الإسلام إلا بالكتاب والسنة؟ ثم قلت له: تأولت تأويلا تدعو الناس إليه فأنت أعلم وما تأولت، وتَحبس عليه وتَقتل عليه!
فقال ابن أبى دؤاد: هو واللَّه يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم.
فقال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، هو ضال مضل مبتدع، فلم يزالوا يكلموني، وجعل صوتي يعلو على أصواتهم إلى أن قال لي عبد الرحمن بن إسحاق: قال اللَّه عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدث إلا مخلوقا؟
فقلت له: قال اللَّه عز وجل: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] فالذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولا لام؟
قال: وكان ابن سماعة لا يفهم ما أقول، فقال: ما يقول؟
قالوا: إنه يقول: كذا وكذا.
وقال لي إنسان منهم: حديث خباب: يا هناه، تقرب إلى اللَّه بما استطعت، فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه.
قلت: نعم، هو هكذا. قال أبو عبد اللَّه: فجعل ابن أبى دؤاد ينظر إليه، ويلحظه متلظيا مغضبا عليه.
قال أبو عبد اللَّه: واحتج علي بعضهم، فذكرت ابن عرعرة في حديث:
"إن اللَّه عز وجل كتب الذكر" فقال المحتج علي: إن اللَّه خلق الذكر.
فقلت: حدثناه غير واحد: "إن اللَّه عز وجل كتب الذكر".
قال أبو عبد اللَّه: وما كان في القوم أرأف بي ولا أرحم من أبى إسحاق، فأما الباقون فأرادوا قتلي، وشاركوا فيه لو أطاعهم أو أجابهم إلى ذلك.
قال حنبل: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: كان القوم إذا انقطعوا عن الحجة، عرض ابن أبى دؤاد، فتكلم، فلما كان في اليوم الثاني من آخر النهار، قال لهم أبو إسحاق: انصرفوا. واحتبس عبد الرحمن بن إسحاق، فخلا بي وبعبد الرحمن، وقال أبو عبد اللَّه: واحتج أبو إسحاق علي بصالح الرشيدي، وكان مؤدبه، وكان صالح صاحب سنة، فقال لي أبو إسحاق: كان صالح في هذا الموضع جالسًا، وأشار إلى موضع من الدار، وتكلم بكلام في القرآن، فأمرت به فسحب ووطئ.
قال أبو عبد اللَّه: فقال له عبد الرحمن بن إسحاق: يا أمير المؤمنين، أنا وأحمد هذا، منذ ثلاثين سنة، نبدي طاعتكم والحج معكم والجهاد معكم، ولعله يجيب بعد ليلته.
فقال أبو إسحاق: واللَّه إنه لفقيه، واللَّه إنه لعالم، ولوددت أنه معي يصلح من شأني، فإن أجابني إلى ما أريد لأطلقن عنه. ثم قال لي: يا أحمد ويحك، لقد غمني أمرك ولقد أسهرت ليلي، ولولا أنك كنت في يدي من كان قبلي، ما عرضت لك، ولا امتحنت أحدًا بعدك، ولو أنه وراء حائطي هذا. ثم التفت إلي وقال: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول له: يا أمير المؤمنين، ما أعطوني شيئا من كتاب اللَّه ولا سنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فلما طال ذلك قام، فرددت إلى الموضع الذي كنت فيه، ووجه الرجلين الشافعي وغسان، فكانا معي فلما حضر الإفطار جيء بالطعام، فأكلا ولم آكل إلا تعللا، ولم آكل إلا الشيء الذي أقيم به رمقي من التلف، وجعلته عندي
بمنزلة المضطر.
فقال له أبو بكر بن عبيد اللَّه: يا أبا عبد اللَّه، فلم تخافهم على نفسك في مثل هذا؟ قال: الأمر الذي كنت فيه أعظم، فلم يلتفتوا إلى هذا مني، أعانني اللَّه على ذلك.
قال حنبل: فبينا نحن في ليلة خمس وعشرين من شهر رمضان في مسجدنا نصلى التراويح، إذا رسول إسحاق بن إبراهيم قد وافانا، فأخذ أبي وحمله على دابة، وذهبنا معه والناس يصلون التراويح، فذهبنا معه إلى دار إسحاق، فمضوا به إلى دار أبي إسحاق في المحرم، فبتنا تلك الليلة وفى صبيحتها ضُرب أبو عبد اللَّه، فقال لي: إني لما أصبحت أتاني ابن حماد بن دنقش وهو صاحب أبي إسحاق، فقال لي: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول لك: ابن أخيك إذا كانت له حجة انساب عليهم، فإذا كانت الحجة عليه، قال: لست بصاحب كلام إنما أنا صاحب أثر، فكلمه فليجبني.
قال أبي: فصرت إلى أبي عبد اللَّه، فقلت: يا أبا عبد اللَّه، قد عرف الأمر، وقد أبليت عذرا فيما بينك وبين ربك وأنت أعلم، قال أبى: فسكت أبو عبد اللَّه، فلم يرد علي شيئا، وجاء ابن أبي دؤاد، فدخل علينا، وقد كان غسان قال لأبي إسحاق: يا أمير المؤمنين، إن أحمد من بلادي، يعني من مرو، فإن رأيت أن تأذن لي حتى أكلمه وأناظره، فأذن له، فكان غسان والشافعي الأعمى يكلمانه، وجاء ابن أبي دؤاد، فجلس، فقال: يا أحمد، إني عليك مشفق، ولقد غمني حيث وجدت اسمك مع هؤلاء، فأجبني.
فقال له أبو عبد اللَّه: علام أجبيكم؟ لا أمر من كتاب اللَّه وسنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-
قال له ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بما كان عن رسول اللَّه وفي كتاب اللَّه! يا أحمد، واللَّه ما هو القتل بالسيف، يا أحمد، إنما هو ضرب بعد ضرب، ثم قام ابن أبي دؤاد، فالتفت إلي، فقال لي: كلمه.
فقلت له: تنح حتى أكلمه، إنه واللَّه ليس السيف، الأمر أدهى من ذلك. فقام وأمر به فأخرج، وذلك في اليوم الثالث من مناظرته، فقال لي أبي: فخرجت، مع أبي عبد اللَّه، فلما صرنا في الدار، قلت لابن أبي دؤاد: مر البواب ألا يعرض لي، فالتفت ابن أبي دؤاد إلى ابن دنقش، فقال: هذا مالكم وله؟ هذا محبوس، هذا ماله ولهذا الأمر.
ثم التفت أبو عبد اللَّه إلي، فقال لي: يا عمي، أين تذهب؟ انتظر حتى ننظر ما يكون من أمري.
فقلت له: وأين أذهب؟ أنا هاهنا قاعد، يقول: وإنما أردت ألا يكون علي سبيل، وأراد أبو عبد اللَّه يقول: لعله القتل، فأكون بالحضرة فأحمله، لأنه أُعلم أنهم أجمعوا على قتله.
قال أبي: فجلست عند الستر، وجاء عبد الرحمن فجلس إلى جنبي، وأدخل أبو عبد اللَّه، فقال عبد الرحمن: سألني أمير المؤمنين أمس، فقال: عمه -يعني: عم أبي عبد اللَّه- في أي الرجال هو؟
قلت: يا أمير المؤمنين، من أدبه زهيبته كذا وكذا، وهم يا أمير المؤمنين أهل بيت لهم قدر وقديم، فإن سألك أمير المؤمنين عن شيء فلا تخالفه.
قال أبي: فورد علي أمر أنساني أمر ابن أخي، وصرت، أفكر في أمري وما قد بليت، ففرج اللَّه ولم أدخل عليه، وجاء النوفلي فجلس، فقال لأصحاب ابن أبي دؤاد: هذا الجاهل -يعني: أبا عبد اللَّه- يقول: العلم، وما العلم والقرآن!
قال أبي: فسكت، فلم أجب أحدا منهم.
قال حنبل: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: لما احتج علي عبد الرحمن بابن عرعرة واليمامي، قطعني، فسكت.
فقال برغوث: يا أمير المؤمنين، كافر حلال الدم اضرب عنقه، ودمه في عنقي. وقال شعيب كذلك أيضا.
فقلت: أعلا دمي، فلم يلتفت إلى قولهما. قال: وسمعت أبا عبد اللَّه أيضا يقول: أما برغوث وشعيب فإنهما تعللا قتلي، وقالا له: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه ودمه في أعناقنا، ولم يكن في القوم أشد تكفيرا ولا أخبث منهما، وأما ابن سماعة فجعل يكلمني بكلام رقيق، وقال له ابن سماعة: يا أمير المؤمنين إنه في أهل بيت شرف، ولهم قديم، ولعله يصير إلى الذي يحبه أمير المؤمنين. فكأنه رق عند ذلك.
وكان أبو إسحاق ألين علي، قال لي: أنا عليك شفيق، لقد أسهرت ليلي، كيف بليت بك؟ ويحك، أتق اللَّه في نفسك وفي دمك.
قال أبو عبد اللَّه: وكان إذا كلمني ابن أبي دؤاد لم أجبه ولم ألتفت إلى كلامه، وإذا كلمني أبو إسحاق ألنت له القول والكلام، فلم يكن لهم علي حجة. فقال لي أبو إسحاق في اليوم الثالث: أجبني يا أحمد إلى ما أدعوك إليه، قد بلغني أنك تحب الرياسة. وذلك لما أوغروا قلبه علي وأعطوه العشوة، ثم قال لي: إن أجبتني إلى ما يكون فيه خلاص لك، أطلقت عنك ولآتينك في حشمي وموالي، ولأطأن بساطك ولأنوهن باسمك يا أحمد، اللَّه اللَّه في نفسك.
قلت له: يا أمير المؤمنين، هذا القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخباره فما وضح علي من حجة صرت إليها.
قال: فيتكلم هذا ويتكلم هذا، وهم جماعة كبيرة، فأرد على هذا وأكلم هذا، فإذا تكلم بشيء من الكلام مما ليس في كتاب اللَّه ولا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم-
ولا عندي خبر، قلت: ما أدري ما هذا؟ ما أعرف هذا، فيقولون: يا أمير المؤمنين، إذا توجهت له الحجة علينا وثب علينا، وإذا كانت عليه قال: لا أدري ما هذا.
قال أبو عبد اللَّه: وكان أبو إسحاق لا يعلم ولا يعرف ويظن أن القول قولهم ولا يدري فيقول: يا أحمد، اتق اللَّه في نفسك، إني عليك مشفق.
قال حنبل: ست أبا عبد اللَّه يقول: قال له ابن أبي دؤاد -يعنى لأبي إسحاق- لما انقطع أصحابه: واللَّه الذي لا إله إلا هو، يا أمير المؤمنين، لئن أجابك لهو أحب إليَّ من مائة ألف، ومائة ألف عدد مرارا كثيرة، وكان شعيب وبرغوث أشدهما لإباحة دمي، وكان عبد الرحمن ألينهم قولًا.
قال أبو عبد اللَّه: وقد كنت في اليوم الذي حدث من أمري ما حدث -يعني: اليوم الثالث جاءني ابن أبي دؤاد فقال: يا أحمد، إنه قد حلف أن يضربك ضربًا شديدًا، وأن يحبسك في أضيق الحبوس، فكلمت رجلا، فطلب لي خيطا، فجعلته في تكتي، وخشيت أن تتفلت السراويل، لما لم يكن فيه تكة، ولما أدخلت عليه في اليوم الثالث، وعنده ابن أبي دؤاد وأصحابه، قال: ناظروه وكلموه، فدار بيننا كلام كثير.
قال: واحتجوا علي يومئذ، فقالوا:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (1).
فقلت له: يا أمير المؤمنين {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} ، هذا يا أمير المؤمنين ينصرف على غير القرآن، وليست فيه ألف ولا لام، {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فهذا هو القرآن يا أمير المؤمنين، ليس عندهم تمييز لهذا ولا بيان، فعلام تدعوني إليه؟ لا من كتاب اللَّه ولا من سنة نبيه، تأويل
(1) هكذا هنا، والصواب أنهم احتجوا بقوله تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} كما سبق.
تأولوه، ورأي رأوه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جدال في القرآن، وقال:"المراء في القرآن كفر"(1). ولست صاحب مراء ولا كلام، وإنما أنا صاحب آثار وأخبار، فاللَّه اللَّه في أمري، فارجع إلى اللَّه، فوالله لو رأيت أمرًا وضح لي وتبينته، لصرت إليه.
فأمسك، وكان أمره قد لان، لما سمع كلامي ومحاورتي عرف فلم يترك، وكان أحلمهم وأوقرهم وأشدهم عليَّ تحننا، إلا أنهم لم يتركوه، واكتنفه إسحاق وابن أبي دؤاد، فقالا له: ليس هو من التدبير تخليته هكذا، يا أمير المؤمنين ابل فيه عذرا، يا أمير المؤمنين هذا يناوئ خليفتين، هذا هلاك العامة، وقال له الخبيث: يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل، وتكلم أهل البصرة المعتزلة فقالوا: يا أمير المؤمنين، كافر، يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل، وقال له إسحاق: ليس من تدبير الخلافة تخليته هكذا، يغلب خليفتين؟ فعند ذلك اشتد علي وغلظ وعزم على ضربي، وكان من أمره ما كان.
قال حنبل: سمعت ابن عمي عبد اللَّه بن حنبل قال: قلت لأبي عبد اللَّه، في الحبس إلي أي شيء دعيتم؟ قال: دعينا إلى الكفر باللَّه.
قال أبو عبد اللَّه: حتى إذا كان ذاك وانقطع ابن أبي دؤاد، وأصحابه، نحاني وخلا بي وبعبد الرحمن، فقال: يا أحمد، إني عليك مشفق، فأجبني، واللَّه لوددت أني لم أكن عرفتك. يا أحمد، اللَّه اللَّه في دمك
(1) رواه أحمد 2/ 503، وأبو داود (4603) من طريق أحمد. وصححه ابن حبان 4/ 324 (1464)، والحاكم 2/ 223، ورواه البيهقي في "الشعب" 2/ 416 (2255)، كلهم من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مرفوعا. وصححه الألباني في "المشكاة"(236)، و"الترغيب"(143).
ونفسك، إني لأشفق عليك كشفقي على هارون ابني، فأجبني. قلت: يا أمير المؤمنين، ما أعطوني شيئا من كتاب اللَّه ولا سنة رسول اللَّه. فلما كان في آخر ذلك. قال لي: لعنك اللَّه، لقد طمعت فيك أن تجيبني. ثم قال: خذوه خلعوه واسحبوه.
قال: فأخذت ثم خلعت، ثم قال: العقابين والأسياط، فجيء بعقابين وأسياط. قال أبو عبد اللَّه: وأنا انظر، وكان معي شعر النبي صلى الله عليه وسلم أعطانيه ابن الفضل بن الربيع، وكان في صرة من قميص. فقال: انزعوا عنه قيمصه ولا تحرقوه، ثم قال: ما هذا في ثوبه؟
فقالوا لي: ما هذا في ثوبك؟ قلت: هذا شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: صُيرت بين العقابين فقلت: يا أمير المؤمنين: اللَّه اللَّه، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد ألا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه، إلا بإحدى ثلاث"(1) وتلوت الحديث، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"(2). فبم تستحل دمي ولم آتِ شيئا من هذا يا أمير المؤمنين، اللَّه اللَّه، لا يكفي اللَّه وبيني وبينك مطالبة يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي اللَّه كوقوفي بين يديك، يا أمير المؤمنين راقب اللَّه، فكأنه أمسك ولم يترك.
فقال ابن أبي دؤاد وخاف أن يكون منه عطف أو رأفة: يا أمير المؤمنين، إنه ضال مضل كافر باللَّه.
(1) رواه أحمد 1/ 382، والبخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود.
(2)
رواه الإمام أحمد 1/ 11، 2/ 502، والبخاري (2946)، ومسلم (21) من حديث أبي هريرة.
قلت: يا أمير المؤمنين، اتق اللَّه في دمي ونفسي.
فقال: هذا كافر. فأمرني حينئذ فأقمت بين العقابين وجيء بكرسي فوضع له، فجلس عليه وابن أبى دؤاد وأصحابه قيام على رأسه، فقال لي إنسان: خذ الخشبتين بيدك وشد عليهما فلم أفهم منه ذلك، فتخلعت يداي، ثم
قال أبو إسحاق للجلادين: أروني سياطكم فنظر، فقال: ائتوني بغيرها فأتوه بغيرها، ثم قال لهم: تقدموا. وقال لهم: ادنوا واحدا واحدا، ثم قال: أوجع قطع اللَّه يدك، فتقدم فضربني سوطين، ثم تأخر، ثم قال لآخر: ادنو شد، قطع اللَّه يدك، فضربني سوطين، ثم جاء آخر، فلم يزل كذلك فأغمي علي لما ضربني أسواطا، فلم أعقل حتى أرخى عني، فجاء فوقف وهم محدقين به، فقال: يا أحمد، ويلك تقتل نفسك، ويحكك أجبني، أطلق عنك، وقال لي بعضهم: ويلك أمير المؤمنين قائم، ويلك إمامك على رأسك قائم، يعجني عجيف بقائمة سيفه، فقال لي: يريد يغلب هؤلاء كلهم. وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول لي: ويلك الخليفة على رأسك قائم، وهذا يقول: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي. ثم يرجع فيجلس على الكرسي ثم يقول للجلاد: ادنه، أوجع، قطع اللَّه يدك، ولم يزل يدعو واحدا وحدا حتى يضربني سوطين سوطين، ويتنحى وهو يقول: شد، قطع اللَّه يدك، أوجع. قال: ثم قام إليَّ الثالثة وما أعقل، فجعل يقول: يا أحمد أجبني، قال: وجعل عبد الرحمن يقول لي: أصحابك يحيى وفلان وفلان، أليس قد أجابوا، قال للجلاد: أوجع، وذهب عقلي، فما عقلت واسترخيت. فلما أحس أني ميت، كأنه أرعبه ذلك، فأمر بتخليتي حينئذ، وأنا على ذلك لا أعقل، فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد.
قال أبو عبد اللَّه: ذهب عقلي مرارا، فإذا رفع عني الضرب رجعت
إلي نفسي، وإذا استرخيت وسقطت رفع عني الضرب. أصابني ذلك مرارا لا أعقل.
قال: وسمعت أبا عبد اللَّه يقول: وكان ابن أبي دؤاد قبل أن أضرب يختلف إلي فأخذه القلق وهو ذاهب إلى أبي إسحاق، وجاء إلي بالوعيد والتهديد، وحاجبه ابن دنقش أيضا يأتيني برسالة أبي إسحاق يقول لك كذا، فلما لم يروا الأمر يصير إلى الذي أرادوا عزموا على أن ينالوني بما نالوني به، فقال له أبو بكر بن عبيد: يا أبا عبد اللَّه، فكيف رأيته هو -يعني: أبا إسحاق- قال: رأيته في الشمس قاعدا بغير ظلة يطلب ويتكلم، فربما لم أعقل وربما عقلت، فإذا عاد الضرب، ذهب عقلي فلا أدري، فيرفع عني الضرب، فسمعته يقول لابن أبي دؤاد: لقد ارتبكت في أمر هذا الرجل.
فقال له: يا أمير المؤمنين، إنه واللَّه كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه، فلا يزال به، حتى يصرفه عما يريد، وقد أراد تخليتي بغير ضرب، فلم يدعه هو ولا إسحاق بن إبراهيم، وعزم حينئذ على ضربي.
قال حنبل: وبلغني عن النوفلي قال: قال أبو إسحاق لابن أبي دؤاد، بعد ما ضرب أحمد وهو يسأله كم ضرب الرجل؟
فقال له ابن أبي دؤاد: نيف وثلاثين، ثلاثة أو أربعة وثلاثين سوطًا.
قال لي أبو عبد اللَّه: وقال لي إنسان ممن كان هنالك: ثم ألقينا على صدرك بارية وأكببناك على وجهك ودسناك، قال أبو عبد اللَّه: وما عقلت بهذا كل، وأمر بإطلاقي، فلم أعلم حتى أخرج القيد من رجلي.
"ذكر المحنة" لحنبل ص 41 - 58
قال المروذي: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: لما حُملتُ إلى الدار مكثت يومين لم أطعم، فلما ضُربت جاءوني بسويق، فلم أشرب وأتممت
صومي، قال لي أبو عبد اللَّه: قد كنت أمكث في السجن يومين لا أشرب الماء.
"الورع" للمروذي (272)، (273)
قال عبد اللَّه بن محمد بن الفضل الأسدي: كنا عند ابن عائشة -يعني: عبيد اللَّه بن محمد القرشي- فساره إنسان بخبر أحمد بن حنبل أنه قد حمل إلى الضرب، وسأله إنسان حديثا وهو على هذِه الحالة فقال:
رويدك حتى تنظري عم تنجلي
…
عماية هذا العارض المتألق
"الجرح والتعديل" 1/ 311
قال إبراهيم بن محمد بن الحسن: أدخل أحمد بن حنبل على الخليفة وعنده ابن أبي دُؤاد وأبو عبد الرحمن الشافعي، فأجلس بين يدي الخليفة، وكانوا هوَّلوا عليه، وقد كانوا ضربوا عنق رجلين، فنظر أحمد إلى أبي عبد الرحمن الشافعي فقال: أي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح؟ فقال ابن أبي دُؤاد: انظروا رجلًا هو ذا يقدم به لضرب العنق يناظر في الفقه.
"حلية الأولياء" 9/ 186، "المناقب" لابن الجوزي ص 399
قال عبد اللَّه: كتب إلي الفتح بن شُخْرُف بخط يديه قال: قال ابن حطيط -رجل قد سماه من أهل الفضل من أهل خراسان- حبس أحمد بن حنبل وبعض أصحابه في المحنة في دار قبل أن يضرب.
قال أحمد بن حنبل: فلما كان الليل نام من كان معي من أصحابي وأنا متفكر في أمري، قال: فإذا أن برجل طويل يتخطى الناس حتى دنا مني. فقال: أنت أحمد بن حنبل؟ فسكتُّ، فقالها ثانية، فسكتُّ، فقالها ثالثة: أنت أبو عبد اللَّه أحمد بن حنبل؟ فقلت: نعم. قال: اصبر ولك الجنة. قال أحمد: فلما مسني حَرُّ السوط ذكرت قول الرجل.
"حلية الأولياء" 9/ 193، "المناقب" لابن الجوزي ص 404
قال أبو غالب ابن بنت معاوية: ضرب أحمد بن حنبل بالسياط في اللَّه
فقام مقام الصديقين، في العشر الأواخر من رمضان سنة عشرين ومائتين. ومات سنة إحدى وأربعين.
"تاريخ بغداد" 4/ 421، "المناقب" ص 419، "تاريخ دمشق" 5/ 326
قال أبو بكر السهروردي بمكة قال: رأيت أبا ذر بسهرورد، وقد قدم مع واليها وكان منقطعا بالبرص -يعني: وكان ممن ضرب أحمد بن حنبل بين يدي المعتصم. قال: دعينا في تلك الليلة ونحن خمسون ومائة جلاد، فلما أمرنا بضربه كنا نغدو حتى نضربه، ونمر ثم يجيء الآخر على أثره ثم يضرب.
"تاريخ دمشق" 5/ 313، "تهذيب الكمال" 1/ 461، "طبقات الشافعية" 2/ 37
قال محمد بن إبراهيم البُوشَنْجِي: ذكروا أن المعتصم رق في أمر أحمد لما علق في العقابين، ورأى ثبوته وتصميمه وصلابته في أمره، حتى أغراه ابن أبي دؤاد. وقال له: إن تركته قيل: إنك تركت مذهب المأمون وسخطتَ قوله، فهاجه ذلك على ضربه.
"المناقب" ص 405، "سير أعلام النبلاء" 11/ 251
قال محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي: قدم المعتصم من بلاد الروم بغداد في شهر رمضان سنة ثمان عشرة، فامتحن فيها أحمد وضرب بين يديه. فحدثني من أثق به من أصحابنا عن محمد بن إبراهيم بن مصعب -وهو يومئذ على الشرط للمعتصم، خليفة إسحاق بن إبراهيم- أنه قال: ما رأيت أحدًا لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك أثبت قلبًا من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب.
"المناقب" ص 408، "المحنة" لعبد الغني المقدسي ص 154، "سير أعلام النبلاء" 11/ 240
قال داود بن عرفه: حدثنا ميمون بن الأصبغ قال: كنت ببغداد، فسمعت ضجة، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أحمد بن حنبل يُمْتَحَن. فأتيت منزلي فأخذت مالًا له خطر، فذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس، فأدخلوني، فإذا بالسيوف قد جُرِّدت، وبالرماح قد رُكزت، وبالتراس قد نصبت، وبالسياط
قد طرحت، فألبسوني قباء أسود ومِنْطَقَة وسيفًا، ووقفوني حيث أسمع الكلام، فأتى أمير المؤمنين فجلس على كرسي، وأُتي بأحمد بن حنبل، فقال له: وقرابتي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأضربنك بالسياط، أو تقول كما أقول، ثم التفت إلى جلاد فقال: خذه إليك، فأخذه.
فلما ضرب سوطًا قال: بسم اللَّه.
فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه.
فلما ضرب الثالث قال: الكلام كلام اللَّه غير مخلوق.
فلما ضرب الرابع قال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] فضربه تسعة وعشرين سوطًا، وكانت تكة أحمد حاشية ثوب، فانقطعت، فنزل السراويل إلى عانته، فقلت: الساعةَ ينهتك، فرمى أحمد طرفه نحو السماءِ وحرَّك شفتيه، فما كان بأسرع من أن ارتقى السراويل ولم ينزل، قال ميمون: فدخلت إليه بعد سبعة أيام فقلت: يا أبا عبد اللَّه رأيتك يوم ضربوك قد انحل سراويلك فرفعتَ طرفك نحو السماء، ورأيتك تحرك شفتيك فأي شيء قلت؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش، إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترًا (1).
"المناقب" ص 409، "المحنة" لعبد الغني المقدسي ص 73 - 76، "سير أعلام النبلاء" 11/ 254، "الجوهر المحصل" ص 688 "المنهج الأحمد" 1/ 105
قال يحيى بن نعيم: لما أخرج أحمد بن حنبل إلى المعتصم يوم ضرب، قال له العون الموكل به: ادع على ظالمك.
فقال: ليس بصابر من دعا على ظالم.
"المناقب" لابن الجوزي ص 414
(1) قال الذهبي في "السير": هذِه حكاية منكرة، أخاف أن يكون داود وضعها.
قال البَغَويّ: رأيت أحمد بن حنبل داخلا إلى جامع المدينة وعليه كساء أخضر، وبيده نعلاه، حاسر الرأس، فرأيت شيخًا آدم طوالا، أبيض اللحية، وكان على دكة المنارة قوم من أصحاب السلطان، فنزلوا واستقبلوه، وقبلوا رأسه ويده، وقالوا له: ادع على من ظلمك. فقال: ليس بصابر من دعا على ظالم.
"المناقب" لابن الجوزي ص 414
قال عبد اللَّه: قال لي أبي: يا بني لقد أعطيتُ المجهودَ من نفسي -يعني: في المحنة.
قال: وكتب أهل المطامير إلى أحمد بن حنبل: إن رجعت عن مقالتك ارتددنا عن الإسلام.
"المناقب" لابن الجوزي ص 419، "المحنة" لعبد الغني المقدسى ص 152، "المنهج الأحمد" 1/ 107
قال جعفر بن أبي هاشم: مكث أحمد بن حنبل في السجن سنة سبع عشرة وثماني عشرة وتسع عشرة، وأخرج في رمضان.
"المناقب" لابن الجوزي ص 419
قال عبد الرحمن بن محمد الحنفي: سمعت أبي يقول: كنت في الدار وقت أدخل أحمد بن حنبل وغيره من العلماء، فلما أن مد أحمد ليضرب بالسوط، دنا منه رجل وقال له: يا أبا عبد اللَّه، أنا رسول خالد الحداد من الحبس يقول لك: اثبت على ما أنت عليه، وإياك أن تجزع من الضرب، واصبر فإني ضربت ألف حد في الشيطان، وأنت تضرب في اللَّه.
"تهذيب الكمال" 1/ 461