الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في مرضه وموته
32 - فصل في مرض موته
قال صالح: وكان أبي قد أدمن الصوم لما قدم، وجعل لا يأكل الدسم، وكان قبل ذلك يشتري له شحم بدرهم فيأكل منه شهرا، فترك أكل الشحم، وأدام الصوم والعمل، وتوهمت أنه قد كان جعل على نفسه ذلك إن سلم. وكان قد حمل أبي إلى المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين ثم مكث إلى سنة إحدى وأربعين، وكان قل يوم يمضي إلا ورسول المتوكل يأتيه، فلما كان في أول يوم من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين حُمَّ أبي ليلة الأربعاء فدخلت عليه يوم الأربعاء وهو محموم يتنفس نفسًا شديدًا، وكنت قد عرفت علتَه، وكنت أُمَرِّضه إذا اعتلَّ، فقلت له: يا أَبَهْ على ما أفطرتَ البارحة؟
قال: على ماءِ باقلاء، ثم أراد القيام فقال: خذ بيدي، فأخذت بيده، فلما صار إلى الخلاء ضعفت رجلاه حتى توكأَ عليَّ.
وكان يختلف إليه غيرُ متطبب، كلهم مسلمون، فوصف له متطبب -يقال له عبد الرحمن- قرعةً تُشوى ويُسقى ماءها -وهذا يوم الثلاثاء وتوفي يوم الجمعة- فقال: يا صالح.
قلت: لبيك. قال: لا تُشوى في منزلك ولا في منزل عبد اللَّه أخيك.
وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده، فحجبته، وأتى علي بن الجعد فحجبته، وكثر الناس فقلت: يا أَبَهْ، قد كثر الناس.
قال: فأي شيءٍ ترى؟ قلت: تأذن لهم فيدعون لك.
قال: أستخير اللَّه.
فجعلوا يدخلون عليه أفواجًا حتى تمتلئ الدار، فيسألونه ويدعون له، ثم
يخرجون، ويدخل فوج آخر. وكثر الناس، وامتلأَ الشارع، وأغلقنا باب الزقاق.
وجاء رجل من جيراننا قد خضب، فدخل عليه، فقال أبي: إني لأرى الرجل يحيي شيئًا من السنة فأَفْرَحُ به، فدخل فجعل يدعو له، فجعل يقول له: ولجميع المسلمين.
وجاء رجل فقال: تلطف لي بالإذن عليه، فإني قد حضرتُ ضربه يوم الدار، وأُريد أن أستحله، فقلت له، فأمسك، فلم أزل به حتى قال: أدخله. فادخلته، فقام بين يديه وجعل يبكي، وقال: يا أبا عبد اللَّه، أنا كنتُ ممن حضر ضربَك يوم الدار، وقد أتيتك، فإن أحببتَ القصاص فأنا بين يديك، وإن رأيتَ أن تحلني فعلتَ.
فقال: على أن لا تعود لمثل ذلك. قال: نعم.
قال: إني جعلتك في حل، فخرج يبكي، وبكى من حضر من الناس، وكان له في خُرَيقةٍ قُطيعات، فإذا أراد الشيء أعطينا من يشتري له.
فقال لي يوم الثلاثاء وأنا عنده: انظر في خُرَيْقتي شيء، فنظرت فإذا فيها درهم، فقال: وجِّه فاقْتَضِ بعضَ السكان. فوجهت فأعطيت شيئًا.
فقال: وجِّه فاشتر تمرًا وكفِّر عني كفارةَ يمين.
فوجهتُ فاشتريت وكفرت عنه كفارة يمين وبقي ثلاثة دراهم، أو نحو ذلك، فأخبرته.
فقال: الحمد للَّه! وقال: اقرأ علي الوصية، فقرأتها عليه، فأقرها.
قال صالح: لم يزل أبي يصلي في مرضه قائمًا أمسكه فيركع ويسجد، وأرفعه في ركوعه وسجوده، ودخل عليه مجاهد بن موسى فقال: يا أبا عبد اللَّه، قد جاءتك البشرى، هذا الخلق يشهدون لك. ما تبالي لو وردت على اللَّه عز وجل الساعة، وجعل يقبل يده ويبكي، وجعل يقول:
أوصني يا أبا عبد اللَّه، فأشار إلى لسانه.
ودخل سوار القاضي فجعل يبشره ويخبره بالرخص وذكر له عن معتمر، أنه قال: قال أبي عند موته حدِّثني بالرخص (1)، واجتمعت عليه أوجاع الحصر وغير ذلك ولم يزل عقله ثابتا، وهو في خلال ذلك يقول: كم اليوم في الشهر؟ فأخبره. وكنت أنام بالليل إلى جنبه، فإذا أراد حاجة حركني فأناولُه، وقال لي: جئني بالكتاب الذي فيه حديث ابن إدريس، عن ليث، عن طاوس، أنه كان يكره الأنين (2)، فقرأته عليه فلم يئن إلا في الليلة التي توفي فيها.
"السيرة" لصالح ص 121 - 123
قال المروذي: سمعت فتح بن أبي الفتح يقول لأبي عبد اللَّه في مرضه الذي مات فيه: ادع اللَّه أن يحسن الخلافة علينا بعدك، وقال له: من نسأل بعدك؟ فقال: سل عبد الوهاب.
"الورع" للمروذي (4)
قال أحمد بن محمد بن عمر: سئل عبد اللَّه بن أحمد: عقل أبوك عند المعاينة؟ فقال: نعم، كنا نوصيه فكان يشير بيده. فقال صالح: أيش يقول؟
فقلت: هو ذا يقول: خللوا أصابعي. فخللنا أصابعه، ثم ترك الإشارة، فمات من ساعته.
"حلية الأولياء" 9/ 183، "المناقب" ص 495، "السير" 11/ 342، "الجوهر المحصل" ص 127
قال عبد اللَّه: قال لي أبي في مرضه الذي توفي فيه: أخرج كتاب عبد اللَّه ابن إدريس، فأخرجت الكتاب.
فقال: أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم، فأخرجت أحاديث ليث.
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن باللَّه"(29)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 31، والبيهقي في "الشعب" 2/ 7 (1008).
(2)
رواه ابن أبي شيبة 7/ 213 (35401) عن عبد اللَّه بن إدريس به.
فقال: اقرأ علي حديث ليث، قال: قلت لطلحة: إن طاوسا كان يكره الأنين في المرض، فما سُمِع له أدين حتى مات رحمه الله، فقرأت الحديث على أبي، فما سُمع أبي يئن في مرضه ذلك إلى أن توفي، رحمه الله.
"حلية الأولياء" 9/ 183، "تاريخ دمشق" 5/ 325، "المناقب" ص 494، "سير أعلام النبلاء" 11/ 341، "الجوهر المحصل" ص 126
قال عبد اللَّه: لما حضرت أبي الوفَاةُ جلستُ عنده وبيدي الخِرْقَة لأَشُدَّ بها لحييه، فجعل يغرق ثم يفيق ثم يفتح عينيه ويقول بيده هكذا: لا بَعْدُ، لا بَعْدُ، لا بَعْدُ، ثلاث مرات، ففعل هذا مرة وثانية، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبت أي شيءٍ هذا؟ قد لهجت به في هذا الوقت، تغرق حتى نقول: قد قَضيْتَ، ثم تعود فتقول: لا بَعْدُ، لا بَعْدُ.
فقال لي: يا بني ما تدري؟ فقلت: لا.
فقال: إبليس لعنه اللَّه قائم حذائي عاضٌّ على أنامله يقول لي: يا أحمد، فُتَّني، وأنا أقول له: لا بَعْدُ، حتى أموت (1).
"شرح أصول الاعتقاد" للالكائي 7/ 1293 (2284)، "حلية الأولياء" 9/ 183، "تاريخ دمشق" 5/ 325، 324، "المناقب" ص 494، "المحنة" ص 128، "سير أعلام النبلاء" 11/ 341، "البداية والنهاية" 10/ 792، "الجوهر المحصل" ص 127، "المنهج الأحمد" 1/ 114
قال المروذي: مرض أبو عبد اللَّه ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأولط سنة إحدى وأربعين ومائتين، ومرض تسعة أيام، فلما اشتدت علته وتسامع الناس أقبلوا لعيادته فكثروا، ولزموا الباب الليل والنهار يبيتون، وسمع السلطان بكثرة الناس، فوكل السلطان ببابه وبباب الزقاق الرابطةَ وأصحاب الأخبار.
(1) قال الذهبي في "السير": هذِه حكاية غريبة، تفرد بها ابن علم، فاللَّه أعلم. وفي "تاريخ دمشق" و"البداية والنهاية" نفس الخبر أيضًا من رواية صالح.
وكان أبو عبد اللَّه ربما أذن للناس فيدخلون أفواجًا أفواخا يسلمون عليه، فيرد عليهم بيده. فلما جاءت الرابطةُ مُنع الناس من ذلك وأغلق باب الزقاق، فكان الناس في الشوارع والمساجد، حتى تعطل بعض الباعة، وحيل بينهم وبين البيع والشراءِ، وكان الرجل إذا أراد أن يدخل عليه ربما أدخل من بعض الدور وطرر الحاكة، وربما تسلق، وجاء أصحاب الأخبار فقعدوا على الباب من قبل إبراهيم بن عطاء، وكان ابن عطاء يتعاهده بالغداة والعشي، وربما لم يجتمعا، وأصحاب الأخبار من قبل ابن طاهر يسألون عن خبره.
وقال أبو عبد اللَّه: جاءني حاجبُ ابن طاهر فقال: إن الأمير يقرئك السلام، وهو يشتهي أن يراك.
قال: فقلت له: هذا مما أكرهُ، وأميرُ المؤمنين قد أعفاني مما أكره.
وجاء حاجب ابن طاهر بالليل فسأل من يختلف إليه من المتطببين؟ وأصحاب الأخبار يكتبون بخبره إلى العسكر، والبُرُد تختلف كل يوم، وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه، وجعلوا يبكون عليه، وجاء قوم من القضاة وغيرهم فلم يؤذن لهم، وجاء غلام لأبي يوسف عمه ليروحه فأشار إليه بيده ألا يفعل لأنه كان اشتراه من الشيء الذي يكره.
وقال: لا تبرح قد تغيرت. فقلت: لا أبرح.
فكان إذا أراد الشيء مما يتعالج أخرج خريقة فيها قطيعات فيعطيني منها فأشتري له، وكان قد كتب وصيته بالعسكر، وأشهدنا عليه، فبلغني أنه قال: اقرءُوها، فقرئت عليه، ثم أمر بكفارة يمين، فاشترينا له تمرًا فبقي عليه منه دانق ونصف أو أرجح، فلما جئت قال: ما صنعتم؟ قلت: أخذنا التمر، وقد بعثنا به، فأشار برأسه إلى السماء وجعل يحمد اللَّه.
وجاء عبد الوهاب، فلما استأذنوا له، قال أبو عبد اللَّه: عزَّ عليَّ بمجيئه
في الحرِّ، فلما دخل عليه أكب عليه فأخذ بيده، فلم تزل يده في يده حتى قام.
ودخل عليه جماعة فيهم شيخ مخضوب، فنظر إليه، فقال: إني لأسر أن أرى الشيخ قد خضب، أو نحو هذا من الكلام.
وقال له رجل ممن دخل عليه: أعطاك اللَّه ما كنت تريده لأهل الإسلام.
فقال: استجاب اللَّه لك. وجعلوا يخصونه بالدعاء، فجعل يقول: قولوا: ولجميع المسلمين.
وربما دخل عليه الرجل الذي في قلبه منه شيء، فإذا رآه غمض عينه كالمعرض، وربما سلم عليه الرجل منهم، فلا يرد عليه.
ودخل عليه شيخ فكلمه. وقال: أذكر وقوفك بين يدي اللَّه. فشهق أبو عبد اللَّه، وسالت الدموع على خديه، فلما كان قبيل وفاته بيوم أو يومين قال: ادعوا الصبيان، بلسان ثقيل، يعني الصغار، فجعلوا ينضمون إليه وجعل يشمهم ويمسح بيده على رؤوسهم، وعينه تدمع. فقال له رجل: لا تغتم لهم يا أبا عبد اللَّه، فأشار بيده، فظننا أن معناه: أني لم أُرد هذا المعنى.
وكان يصلي قاعدًا، ويصلي وهو مضطجع، لا يكاد يفتر، ويرفع يديه في إيماء الركوع، وأدخلت الطست تحته فرأيت بوله دمًا عبيطًا ليس فيه بول، فقلت للطبيب.
فقال: هذا الرجل قد فتت الحزن والغم جوفه.
واشتدت به العلة يوم الخميس ووضأته، فقال: خلل الأصابع، فلما كانت ليلة الجمعة ثقل، فظننت أنه قد قبض، وأردنا أن نمدده، فجعل يقبض قدميه وهو موجه، وجعلنا نلقنه فنقول: لا إله إلا اللَّه، ونردد ذلك عليه، وهو يهلل، وتوجه إلى القبلة واستقبلها بقدميه، فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتى ملئوا السكك والشوارع، فلما كان صدر النهار قبض رحمه الله، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا