الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالنَّظَائِرِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي فِيهَا نَفْيُ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ كُتُبِهِمْ.
[بَابُ الْوَلِيمَةِ]
[تَقْبِيلُ الْخُبْزِ هَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَمْ لَا]
بَابُ الْوَلِيمَةِ
مَسْأَلَةٌ: تَقْبِيلُ الْخُبْزِ هَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ بِدْعَةً هَلْ يَكُونُ حَرَامًا أَمْ لَا؟ وَقَدْ قَالَ ابن النحاس فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ: وَمِنْهَا - أَيْ مِنَ الْبِدَعِ - تَقْبِيلُ الْخُبْزِ وَهُوَ بِدْعَةٌ لَا تَجُوزُ، وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ دَوْسُهُ وَلَا يَجُوزُ بَوْسُهُ، لَكِنَّ دَوْسَهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَرُبَّمَا كَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَمَّا بَوْسُهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَارْتِكَابُ الْبِدَعِ لَا يَجُوزُ، وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ عمر رضي الله عنه فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ، هَذَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ الَّذِي هُوَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ وَهُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا خَلْقَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ؟ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِكْرَامُهُ وَرَفْعُهُ مِنْ تَحْتِ الْأَقْدَامِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي إِكْرَامِ الْخُبْزِ أَحَادِيثُ لَا أَعْلَمُ فِيهَا شَيْئًا صَحِيحًا وَلَا حَسَنًا. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ، فَهَلْ مَا قَالَهُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ أَمْ لَا؟
الْجَوَابُ: أَمَّا كَوْنُ تَقْبِيلِ الْخُبْزِ بِدْعَةً فَصَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْبِدْعَةَ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْحَرَامِ بَلْ تَنْقَسِمُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَى هَذَا بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا بِالْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ خَاصٌّ، وَلَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ، فَإِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ إِكْرَامُهُ لِأَجْلِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِكْرَامِهِ فَحَسَنٌ، وَدَوْسُهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، بَلْ مُجَرَّدُ إِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ دَوْسٍ مَكْرُوهٌ؛ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ.
[حُسْنُ الْمَقْصِدِ فِي عَمَلِ الْمَوْلِدِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ، فَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، مَا حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ؟ وَهَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ؟ وَهَلْ يُثَابُ فَاعِلُهُ أَوْ لَا؟
الْجَوَابُ: عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ عَمَلِ الْمَوْلِدِ الَّذِي هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَرِوَايَةُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا وَقَعَ فِي مَوْلِدِهِ مِنَ الْآيَاتِ، ثُمَّ
يُمَدُّ لَهُمْ سِمَاطٌ يَأْكُلُونَهُ وَيَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ - هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِمَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلَ ذَلِكَ صَاحِبُ إِرْبِلَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ أَبُو سَعِيدٍ كُوكْبُرِي بْنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ بَكْتَكِينَ، أَحَدُ الْمُلُوكِ الْأَمْجَادِ وَالْكُبَرَاءِ الْأَجْوَادِ، وَكَانَ لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ الَّذِي عَمَّرَ الْجَامِعَ الْمُظَفَّرِيَّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، قَالَ ابن كثير فِي تَارِيخِهِ: كَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا، رحمه الله وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ مُجَلَّدًا فِي الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ سَمَّاهُ (التَّنْوِيرُ فِي مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ) ، فَأَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِي الْمُلْكِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْفِرِنْجِ بِمَدِينَةِ عَكَّا سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، مَحْمُودُ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ.
وَقَالَ سبط ابن الجوزي فِي مِرْآةِ الزَّمَانِ: حَكَى بَعْضُ مَنْ حَضَرَ سِمَاطَ المظفر فِي بَعْضِ الْمَوَالِدِ أَنَّهُ عَدَّ فِي ذَلِكَ السِّمَاطِ خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسِ غَنَمٍ شَوِيٍّ وَعَشَرَةَ آلَافِ دَجَاجَةٍ وَمِائَةَ فَرَسٍ وَمِائَةَ أَلْفِ زُبْدِيَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ صَحْنِ حَلْوَى، قَالَ: وَكَانَ يَنْحَصِرُ عِنْدَهُ فِي الْمَوْلِدِ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، فَيَخْلَعُ عَلَيْهِمْ وَيُطْلِقُ لَهُمْ، وَيَعْمَلُ لِلصُّوفِيَّةِ سَمَاعًا مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْفَجْرِ، وَيَرْقُصُ بِنَفْسِهِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى الْمَوْلِدِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ لَهُ دَارُ ضِيَافَةٍ لِلْوَافِدِينَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ، فَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَسْتَفِكُّ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أُسَارَى بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى الْحَرَمَيْنِ وَالْمِيَاهِ بِدَرْبِ الْحِجَازِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، هَذَا كُلُّهُ سِوَى صَدَقَاتِ السِّرِّ، وَحَكَتْ زَوْجَتُهُ ربيعة خاتون بنت أيوب أُخْتُ الْمَلِكِ الناصر صلاح الدين أَنَّ قَمِيصَهُ كَانَ مِنْ كِرْبَاسٍ غَلِيظٍ لَا يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، قَالَتْ: فَعَاتَبْتُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لُبْسِي ثَوْبًا بِخَمْسَةٍ وَأَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَلْبَسَ ثَوْبًا مُثَمَّنًا وَأَدَعَ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ.
وَقَالَ ابن خلكان فِي تَرْجَمَةِ الْحَافِظِ أَبِي الْخَطَّابِ بْنِ دِحْيَةَ: كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْفُضَلَاءِ، قَدِمَ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَدَخَلَ الشَّامَ وَالْعِرَاقِ وَاجْتَازَ بِإِرْبِلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ، فَوَجَدَ مَلِكَهَا الْمُعَظَّمَ مظفر الدين بن زين الدين يَعْتَنِي بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، فَعَمِلَ لَهُ كِتَابَ التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَأَجَازَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْنَاهُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي سِتَّةِ مَجَالِسَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. انْتَهَى.
وَقَدِ ادَّعَى الشَّيْخُ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عَمَلَ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ:(الْمَوْرِدُ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَمَلِ الْمَوْلِدِ) ، وَأَنَا أَسُوقُهُ هُنَا بِرُمَّتِهِ وَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ حَرْفًا حَرْفًا.
قَالَ رحمه الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَيَّدَنَا بِالْهِدَايَةِ إِلَى دَعَائِمِ الدِّينِ وَيَسَّرَ لَنَا اقْتِفَاءَ أَثَرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، حَتَّى امْتَلَأَتْ قُلُوبُنَا بِأَنْوَارِ عِلْمِ الشَّرْعِ وَقَوَاطِعِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَطَهَّرَ سَرَائِرَنَا مِنْ حَدَثِ الْحَوَادِثِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، أَحْمَدُهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ أَنْوَارِ الْيَقِينِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَسْدَاهُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ صَلَاةً دَائِمَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ تَكَرَّرَ سُؤَالُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُبَارَكِينَ عَنِ الِاجْتِمَاعِ الَّذِي يَعْمَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَيُسَمُّونَهُ الْمَوْلِدَ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ أَوْ هُوَ بِدْعَةٌ وَحَدَثٌ فِي الدِّينِ؟ وَقَصَدُوا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مُبَيَّنًا وَالْإِيضَاحَ عَنْهُ مُعَيَّنًا، فَقُلْتُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْمَوْلِدِ أَصْلًا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا يُنْقَلُ عَمَلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْقُدْوَةُ فِي الدِّينِ الْمُتَمَسِّكُونَ بِآثَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ، بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْبَطَّالُونَ وَشَهْوَةُ نَفْسٍ اعْتَنَى بِهَا الْأَكَّالُونَ، بِدَلِيلِ أَنَّا إِذَا أَدَرْنَا عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ قُلْنَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إِجْمَاعًا وَلَا مَنْدُوبًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَنْدُوبِ مَا طَلَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الشَّرْعُ وَلَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَلَا التَّابِعُونَ الْمُتَدَيِّنُونَ فِيمَا عَلِمْتُ، وَهَذَا جَوَابِي عَنْهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ عَنْهُ سُئِلْتُ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الدِّينِ لَيْسَ مُبَاحًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلَيْنِ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْمَلَهُ رَجُلٌ مِنْ عَيْنِ مَالِهِ لِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَعِيَالِهِ، لَا يُجَاوِزُونَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِمَاعَ عَلَى أَكْلِ الطَّعَامِ وَلَا يَقْتَرِفُونَ شَيْئًا مِنَ الْآثَامِ، وَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَشَنَاعَةٌ؛ إِذْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الطَّاعَةِ الَّذِينَ هُمْ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءُ الْأَنَامِ سُرُجُ الْأَزْمِنَةِ وَزَيْنُ الْأَمْكِنَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَدْخُلَهُ الْجِنَايَةُ وَتَقْوَى بِهِ الْعِنَايَةُ حَتَّى يُعْطَى أَحَدُهُمُ الشَّيْءَ وَنَفْسُهُ تَتْبَعُهُ وَقَلْبُهُ يُؤْلِمُهُ وَيُوجِعُهُ لِمَا يَجِدُ مِنْ أَلَمِ الْحَيْفِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَخْذُ الْمَالِ بِالْحَيَاءِ كَأَخْذِهِ بِالسَّيْفِ لَا سِيَّمَا إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْغِنَاءِ - مَعَ الْبُطُونِ الْمَلْأَى - بِآلَاتِ الْبَاطِلِ مِنَ الدُّفُوفِ وَالشَّبَّابَاتِ وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ مَعَ الشَّبَابِ الْمُرْدِ وَالنِّسَاءِ الْفَاتِنَاتِ، إِمَّا مُخْتَلِطَاتٍ بِهِنَّ أَوْ مُشْرِفَاتٍ، وَالرَّقْصِ بِالتَّثَنِّي وَالِانْعِطَافِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي اللَّهْوِ وَنِسْيَانِ يَوْمِ الْمَخَافِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ إِذَا اجْتَمَعْنَ عَلَى انْفِرَادِهِنَّ رَافِعَاتٍ أَصْوَاتَهُنَّ بِالتَّهْنِيكِ وَالتَّطْرِيبِ فِي الْإِنْشَادِ، وَالْخُرُوجِ فِي التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ وَالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ غَافِلَاتٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وَهَذَا الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِي تَحْرِيمِهِ اثْنَانِ، وَلَا يَسْتَحْسِنُهُ ذَوُو الْمُرُوءَةِ الْفِتْيَانُ، وَإِنَّمَا يَحْلُو ذَلِكَ لِنُفُوسِ مَوْتَى الْقُلُوبِ وَغَيْرِ الْمُسْتَقِلِّينَ مِنَ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، وَأَزِيدُكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، وَلِلَّهِ دَرُّ شَيْخِنَا القشيري حَيْثُ يَقُولُ فِيمَا أَجَازَنَاهُ:
قَدْ عُرِّفَ الْمُنْكَرُ وَاسْتُنْكِرَ
…
الْمَعْرُوفُ فِي أَيَّامِنَا الصَّعْبَهْ
وَصَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَهْدَةٍ
…
وَصَارَ أَهْلُ الْجَهْلِ فِي رَيْبَهْ
حَادُوا عَنِ الْحَقِّ، فَمَا لِلَّذِي
…
سَارُوا بِهِ فِيمَا مَضَى نِسْبَهْ
فَقُلْتُ لِلْأَبْرَارِ أَهْلِ التُّقَى
…
وَالدِّينِ لَمَّا اشْتَدَّتِ الْكُرْبَهْ
لَا تُنْكِرُوا أَحْوَالَكُمْ قَدْ أَتَتْ
…
نَوْبَتُكُمْ فِي زَمَنِ الْغُرْبَهْ
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ حَيْثُ يَقُولُ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا تُعُجِّبَ مِنَ الْعَجَبِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ هُوَ بِعَيْنِهِ الشَّهْرُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَيْسَ الْفَرَحُ فِيهِ بِأَوْلَى مِنَ الْحُزْنِ فِيهِ. وَهَذَا مَا عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ، وَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَرْجُو حُسْنَ الْقَبُولِ.
هَذَا جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ الفاكهاني فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ، وَأَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ: لَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْمَوْلِدِ أَصْلًا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَيُقَالُ عَلَيْهِ: نَفْيُ الْعِلْمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْوُجُودِ، وَقَدِ اسْتَخْرَجَ
لَهُ إِمَامُ الْحُفَّاظِ أبو الفضل ابن حجر أَصْلًا مِنَ السُّنَّةِ، وَاسْتَخْرَجْتُ لَهُ أَنَا أَصْلًا ثَانِيًا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْبَطَّالُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا الْعُلَمَاءُ الْمُتَدَيِّنُونَ، يُقَالُ عَلَيْهِ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَحْدَثَهُ مَلِكٌ عَادِلٌ عَالِمٌ وَقَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَضَرَ عِنْدَهُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ، وَارْتَضَاهُ ابن دحية وَصَنَّفَ لَهُ مِنْ أَجْلِهِ كِتَابًا، فَهَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ مُتَدَيِّنُونَ رَضَوْهُ وَأَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَقَوْلُهُ: وَلَا مَنْدُوبًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَنْدُوبِ مَا طَلَبَهُ الشَّرْعُ، يُقَالُ عَلَيْهِ: إِنَّ الطَّلَبَ فِي الْمَنْدُوبِ تَارَةً يَكُونُ بِالنَّصِّ وَتَارَةً يَكُونُ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، فَفِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَصْلَيْنِ الْآتِي ذِكْرُهُمَا، وَقَوْلُهُ: وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الدِّينِ لَيْسَ مُبَاحًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَلَامٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ، بَلْ قَدْ تَكُونُ أَيْضًا مُبَاحَةً وَمَنْدُوبَةً وَوَاجِبَةً، قَالَ النووي فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ: الْبِدْعَةُ فِي الشَّرْعِ هِيَ إِحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام فِي الْقَوَاعِدِ: الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى وَاجِبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ، قَالَ: وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ نَعْرِضَ الْبِدْعَةَ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، أَوِ النَّدْبِ فَمَنْدُوبَةٌ، أَوِ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهَةٌ، أَوِ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ، وَذَكَرَ لِكُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ أَمْثِلَةً إِلَى أَنْ قَالَ: وَلِلْبِدَعِ الْمَنْدُوبَةِ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا إِحْدَاثُ الرُّبَطِ وَالْمَدَارِسِ وَكُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا التَّرَاوِيحُ وَالْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ وَفِي الْجَدَلِ، وَمِنْهَا جَمْعُ الْمَحَافِلِ لِلِاسْتِدْلَالِ فِي الْمَسَائِلِ إِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الْأُمُورِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا، فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلَالَةُ، وَالثَّانِي: مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ لَا خِلَافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا، وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ، وَقَدْ قَالَ عمر رضي الله عنه فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ:"نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ "، يَعْنِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ، وَإِذْ كَانَتْ فَلَيْسَ فِيهَا رَدٌّ لِمَا مَضَى. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ مَنْعُ قَوْلِ الشَّيْخِ تاج الدين: وَلَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُبَاحًا، إِلَى قَوْلِهِ: وَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، إِلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِمَّا أُحْدِثَ وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا أَثَرٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، فَهِيَ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ كَمَا فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ إِطْعَامَ الطَّعَامِ الْخَالِي عَنِ اقْتِرَافِ الْآثَامِ إِحْسَانٌ، فَهُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَنْدُوبَةِ كَمَا فِي
عِبَارَةِ ابن عبد السلام، وَقَوْلُهُ: وَالثَّانِي، إِلَى آخِرِهِ هُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي ضُمَّتْ إِلَيْهِ لَا مِنْ حَيْثُ الِاجْتِمَاعُ لِإِظْهَارِ شِعَارِ الْمَوْلِدِ، بَلْ لَوْ وَقَعَ مِثْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا لَكَانَتْ قَبِيحَةً شَنِيعَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ذَمُّ أَصْلِ الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ يَقَعُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَهَلْ يُتَصَوَّرُ ذَمُّ الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي قُرِنَتْ بِهَا؟ كَلَّا بَلْ نَقُولُ: أَصْلُ الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ وَقُرْبَةٌ، وَمَا ضُمَّ إِلَيْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ قَبِيحٌ وَشَنِيعٌ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: أَصْلُ الِاجْتِمَاعِ لِإِظْهَارِ شِعَارِ الْمَوْلِدِ مَنْدُوبٌ وَقُرْبَةٌ، وَمَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَذْمُومٌ وَمَمْنُوعٌ، وَقَوْلُهُ: مَعَ أَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، إِلَى آخِرِهِ. جَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ أَوَّلًا: إِنَّ وِلَادَتَهُ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ النِّعَمِ عَلَيْنَا، وَوَفَاتَهُ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ لَنَا، وَالشَّرِيعَةُ حَثَّتْ عَلَى إِظْهَارِ شُكْرِ النِّعَمِ وَالصَّبْرِ وَالسُّكُونِ وَالْكَتْمِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّرْعُ بِالْعَقِيقَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَهِيَ إِظْهَارُ شُكْرٍ وَفَرَحٍ بِالْمَوْلُودِ، وَلَمْ يَأْمُرْ عِنْدَ الْمَوْتِ بِذَبْحٍ وَلَا بِغَيْرِهِ بَلْ نَهَى عَنِ النِّيَاحَةِ وَإِظْهَارِ الْجَزَعِ، فَدَلَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ فِي هَذَا الشَّهْرِ إِظْهَارُ الْفَرَحِ بِوِلَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ إِظْهَارِ الْحُزْنِ فِيهِ بِوَفَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ ابن رجب فِي كِتَابِ اللَّطَائِفِ فِي ذَمِّ الرَّافِضَةِ حَيْثُ اتَّخَذُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا لِأَجْلِ قَتْلِ الحسين: لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِاتِّخَاذِ أَيَّامِ مَصَائِبِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَوْتِهِمْ مَأْتَمًا، فَكَيْفَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ؟!
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ عَلَى عَمَلِ الْمَوْلِدِ، فَأَتْقَنَ الْكَلَامَ فِيهِ جِدًّا، وَحَاصِلُهُ مَدْحُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ شِعَارٍ وَشُكْرٍ، وَذَمِّ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمُنْكَرَاتٍ، وَأَنَا أَسُوقُ كَلَامَهُ فَصْلًا فَصْلًا، قَالَ:
(فَصْلٌ فِي الْمَوْلِدِ) وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنَ الْبِدَعِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرَ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَوْلِدِ، وَقَدِ احْتَوَى ذَلِكَ عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جَمَّةٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: اسْتِعْمَالُهُمُ الْمَغَانِيَ وَمَعَهُمْ آلَاتُ الطَّرَبِ مِنَ الطَّارِ الْمُصَرْصِرِ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ آلَةً لِلسَّمَاعِ وَمَضَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَشْتَغِلُونَ أَكْثَرَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَظَّمَهَا بِبِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّمَاعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِيهِ مَا فِيهِ، فَكَيْفَ بِهِ إِذَا انْضَمَّ إِلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ
الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَضَّلَنَا فِيهِ بِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ؟ فَآلَةُ الطَّرَبِ وَالسَّمَاعِ أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِيهِ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنَّ يُزَادَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ شُكْرًا لِلْمَوْلَى عَلَى مَا أَوْلَانَا بِهِ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِرَحْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ وَرِفْقِهِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ، لَكِنْ أَشَارَ عليه السلام إِلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ بِقَوْلِهِ لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ:" «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ» " فَتَشْرِيفُ هَذَا الْيَوْمِ مُتَضَمِّنٌ لِتَشْرِيفِ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ نَحْتَرِمَهُ حَقَّ الِاحْتِرَامِ وَنُفَضِّلَهُ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْأَشْهُرَ الْفَاضِلَةَ وَهَذَا مِنْهَا؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام:" «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» "" «آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» " وَفَضِيلَةُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ لَا تَشْرُفُ لِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّشْرِيفُ بِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي، فَانْظُرْ إِلَى مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذَا الشَّهْرَ الشَّرِيفَ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إِذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ أَنْ يُكَرَّمَ وَيُعَظَّمَ وَيُحْتَرَمَ الِاحْتِرَامَ اللَّائِقَ بِهِ اتِّبَاعًا لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي كَوْنِهِ كَانَ يَخُصُّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ فِيهَا وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» ، فَنَمْتَثِلُ تَعْظِيمَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ بِمَا امْتَثَلَهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدِ الْتَزَمَ عليه الصلاة والسلام فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ مَا الْتَزَمَهُ مِمَّا قَدْ عُلِمَ وَلَمْ يَلْتَزِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَا الْتَزَمَهُ فِي غَيْرِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَا عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ سِيَّمَا فِيمَا كَانَ يَخُصُّهُ، أَلَا تَرَى إِلَى أَنَّهُ عليه السلام حَرَّمَ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَشْرَعْ فِي قَتْلِ صَيْدِهِ وَلَا شَجَرِهِ الْجَزَاءَ تَخْفِيفًا عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ، فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ فَيَتْرُكُهُ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ، فَعَلَى هَذَا تَعْظِيمُ هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إِنَّمَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الزَّاكِيَاتِ فِيهِ وَالصَّدَقَاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِهَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَكْثَرُ احْتِرَامًا كَمَا يَتَأَكَّدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَيَتْرُكُ الْحَدَثَ فِي
الدِّينِ وَيَجْتَنِبُ مَوَاضِعَ الْبِدَعِ وَمَا لَا يَنْبَغِي، وَقَدِ ارْتَكَبَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَنِ ضِدَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْعَظِيمُ تَسَارَعُوا فِيهِ إِلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِهِمَا وَيَا لَيْتَهُمْ عَمِلُوا الْمَغَانِيَ لَيْسَ إِلَّا، بَلْ يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ، فَيَبْدَأُ الْمَوْلِدَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مَعْرِفَةً بِالتَّهَوُّكِ وَالطُّرُقِ الْمُبْهِجَةِ لِطَرَبِ النُّفُوسِ، وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمَفَاسِدِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ، بَلْ ضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ، الْخَطَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا لَطِيفَ الصُّورَةِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَالْكُسْوَةِ وَالْهَيْئَةِ، فَيَنْشُدُ التَّغَزُّلَ وَيَتَكَسَّرُ فِي صَوْتِهِ وَحَرَكَاتِهِ، فَيَفْتِنُ بَعْضَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ وَيَثُورُ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يُحْصَى، وَقَدْ يَؤُولُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إِلَى فَسَادِ حَالِ الزَّوْجِ وَحَالِ الزَّوْجَةِ، وَيَحْصُلُ الْفِرَاقُ وَالنَّكَدُ الْعَاجِلُ وَتَشَتُّتُ أَمْرِهِمْ بَعْدَ جَمْعِهِمْ، وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَوْلِدِ إِذَا عُمِلَ بِالسَّمَاعِ، فَإِنْ خَلَا مِنْهُ وَعَمِلَ طَعَامًا فَقَطْ وَنَوَى بِهِ الْمَوْلِدَ وَدَعَا إِلَيْهِ الْإِخْوَانَ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ أَوْلَى، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ، وَنَحْنُ تَبَعٌ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمُ. انْتَهَى.
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَذُمَّ الْمَوْلِدَ بَلْ ذَمَّ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَأَوَّلُ كَلَامِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ هَذَا الشَّهْرُ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبَرِّ وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ، وَهَذَا هُوَ عَمَلُ الْمَوْلِدِ الَّذِي اسْتَحْسَنَّاهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ سِوَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ وَبَرٌّ وَقُرْبَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ آخِرًا: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَاقِضًا لِمَا تَقَدَّمَ أَوْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَوْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ خَيْرٌ، وَالْبِدْعَةُ مِنْهُ نِيَّةُ الْمَوْلِدِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ، وَبِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ، فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْمَوْلِدَ فَقَطْ، وَلَمْ يَكْرَهْ عَمَلَ الطَّعَامِ وَدُعَاءَ الْإِخْوَانِ إِلَيْهِ، وَهَذَا إِذَا حُقِّقَ النَّظَرُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ أَوَّلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ حَثَّ فِيهِ عَلَى زِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ إِذْ أَوْجَدَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نِيَّةِ الْمَوْلِدِ، فَكَيْفَ يُذَمُّ هَذَا الْقَدْرُ مَعَ الْحَثِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا؟ وَأَمَّا مُجَرَّدُ فِعْلِ الْبِرِّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُتَصَوَّرُ، وَلَوْ تُصُوِّرَ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً وَلَا ثَوَابَ فِيهِ؛ إِذْ لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا نِيَّةَ هُنَا إِلَّا
الشُّكْرُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وِلَادَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ، وَهَذَا مَعْنَى نِيَّةِ الْمَوْلِدِ، فَهِيَ نِيَّةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ بِلَا شَكٍّ، فَتَأَمَّلْ.
ثُمَّ قَالَ ابن الحاج: وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَوْلِدَ لَا لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ، وَلَكِنْ لَهُ فِضَّةٌ عِنْدَ النَّاسِ مُتَفَرِّقَةٌ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا فِي بَعْضِ الْأَفْرَاحِ أَوِ الْمَوَاسِمِ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا، وَيَسْتَحِي أَنْ يَطْلُبَهَا بِذَاتِهِ، فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَخْذِ مَا اجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ، هَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمَفَاسِدِ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ؛ إِذْ ظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ عَمِلَ الْمَوْلِدَ يَبْتَغِي بِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَبَاطِنُهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِهِ فِضَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ أَوْ طَلَبِ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ لَهُ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى. انْتَهَى. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ نَمَطِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الذَّمَّ فِيهِ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ عَدَمِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ لَا مِنْ أَصْلِ عَمَلِ الْمَوْلِدِ.
وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَافِظُ الْعَصْرِ أبو الفضل ابن حجر عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ، فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: أَصْلُ عَمَلِ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَحَاسِنَ وَضِدِّهَا، فَمَنْ تَحَرَّى فِي عَمَلِهَا الْمَحَاسِنَ وَتَجَنَّبَ ضِدَّهَا كَانَ بِدْعَةً حَسَنَةً وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَخْرِيجُهَا عَلَى أَصْلٍ ثَابِتٍ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: هُوَ يَوْمٌ أَغْرَقَ اللَّهُ فِيهِ فرعون وَنَجَّى مُوسَى فَنَحْنُ نَصُومُهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى» ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ فِعْلُ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ إِسْدَاءِ نِعْمَةٍ أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ، وَيُعَادُ ذَلِكَ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ، وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنَ النِّعْمَةِ بِبُرُوزِ هَذَا النَّبِيِّ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّى الْيَوْمُ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُطَابِقَ قِصَّةَ مُوسَى فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُلَاحِظْ ذَلِكَ لَا يُبَالِي بِعَمَلِ الْمَوْلِدِ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، بَلْ تَوَسَّعَ قَوْمٌ فَنَقَلُوهُ إِلَى يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ عَمَلِهِ.
وَأَمَّا مَا يُعْمَلُ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى مَا يُفْهِمُ الشُّكْرَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالصَّدَقَةِ وَإِنْشَادِ شَيْءٍ مِنَ الْمَدَائِحِ النَّبَوِيَّةِ وَالزُّهْدِيَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لِلْقُلُوبِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ السَّمَاعِ وَاللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُبَاحًا بِحَيْثُ يَقْتَضِي السُّرُورَ بِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا بَأْسَ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ، وَمَا كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا فَيُمْنَعُ، وَكَذَا مَا كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى. انْتَهَى.
قُلْتُ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَخْرِيجُهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ» مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ جَدَّهُ عبد المطلب عَقَّ عَنْهُ فِي سَابِعِ وِلَادَتِهِ، وَالْعَقِيقَةُ لَا تُعَادُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِظْهَارٌ لِلشُّكْرِ عَلَى إِيجَادِ اللَّهِ إِيَّاهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَتَشْرِيعٌ لِأُمَّتِهِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ لِذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ لَنَا أَيْضًا إِظْهَارُ الشُّكْرِ بِمَوْلِدِهِ بِالِاجْتِمَاعِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ وَإِظْهَارِ الْمَسَرَّاتِ، ثُمَّ رَأَيْتُ إِمَامَ الْقُرَّاءِ الْحَافِظَ شمس الدين ابن الجزري قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى "عَرْفُ التَّعْرِيفِ بِالْمَوْلِدِ الشَّرِيفِ" مَا نَصُّهُ: قَدْ رُؤِيَ أبو لهب بَعْدَ مَوْتِهِ فِي النَّوْمِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا حَالُكَ، فَقَالَ: فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّهُ يُخَفَّفُ عَنِّي كُلَّ لَيْلَةِ اثْنَيْنِ وَأَمُصُّ مِنْ بَيْنِ أُصْبُعَيَّ مَاءً بِقَدْرِ هَذَا - وَأَشَارَ لِرَأْسِ أُصْبُعِهِ - وَأَنَّ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِي لثويبة عِنْدَمَا بَشَّرَتْنِي بِوِلَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِإِرْضَاعِهَا لَهُ. فَإِذَا كَانَ أبو لهب الْكَافِرُ الَّذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِ جُوزِيَ فِي النَّارِ بِفَرَحِهِ لَيْلَةَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهِ، فَمَا حَالُ الْمُسْلِمِ الْمُوَحِّدِ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُسَرُّ بِمَوْلِدِهِ وَيَبْذُلُ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ فِي مَحَبَّتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لَعَمْرِي إِنَّمَا يَكُونُ جَزَاؤُهُ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ أَنْ يُدْخِلَهُ بِفَضْلِهِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَقَالَ الْحَافِظُ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى "مَوْرِدُ الصَّادِي فِي مَوْلِدِ الْهَادِي": قَدْ صَحَّ أَنَّ أبا لهب يُخَفَّفُ عَنْهُ عَذَابُ النَّارِ فِي مِثْلِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِإِعْتَاقِهِ ثويبة سُرُورًا بِمِيلَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَنْشَدَ:
إِذَا كَانَ هَذَا كَافِرًا جَاءَ ذَمُّهُ
…
وَتَبَّتْ يَدَاهُ فِي الْجَحِيمِ مُخَلَّدَا
أَتَى أَنَّهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ دَائِمًا
…
يُخَفَّفُ عَنْهُ لِلسُّرُورِ بِأَحْمَدَا
فَمَا الظَّنُّ بِالْعَبْدِ الَّذِي طُولَ عُمْرِهِ
…
بِأَحْمَدَ مَسْرُورًا وَمَاتَ مُوَحِّدَا
وَقَالَ الكمال الأدفوي فِي "الطَّالِعِ السَّعِيدِ": حَكَى لَنَا صَاحِبُنَا الْعَدْلُ ناصر الدين محمود ابن العماد أَنَّ أبا الطيب محمد بن إبراهيم السبتي المالكي نَزِيلَ قُوصَ، أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، كَانَ يَجُوزُ بِالْمَكْتَبِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ وُلِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: يَا فَقِيهُ، هَذَا يَوْمُ سُرُورٍ اصْرِفِ الصِّبْيَانَ، فَيَصْرِفُنَا، وَهَذَا مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ فَقِيهًا مَالِكِيًّا مُتَفَنِّنًا فِي عُلُومٍ، مُتَوَرِّعًا، أَخَذَ عَنْهُ أبو حيان وَغَيْرُهُ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ.
(فَائِدَةٌ) قَالَ ابن الحاج: فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ عليه الصلاة والسلام خُصَّ مَوْلِدُهُ