الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي تَهْذِيبِ الْبَغَوِيِّ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ فِي مَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِيَ فِي الثَّانِيَةِ يُتِمُّ ظُهْرًا لَا جُمُعَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، قَالَ مَا نَصُّهُ: وَلَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ فِي الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَرَكَعَ وَسَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ فَلَمَّا قَعَدَ لِلتَّشَهُّدِ أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَتَقَدَّمَ الْمَسْبُوقُ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً - هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ، فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اتَّجَهَ مَا قِيلَ فِي الْمُفَارَقَةِ، إِلَّا أَنِّي لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبَغَوِيُّ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا صَرَّحَ بِمُوَافَقَتِهِ فِيهَا وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَالَهَا تَخْرِيجًا مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْهَا نَقْلَ الْمَذْهَبِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، لَا الرافعي فِي شَرْحَيْهِ، وَلَا النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَلَى تَتَبُّعِهِ، وَلَا ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى تَتَبُّعِ مَا زَادَ عَلَى الشَّيْخَيْنِ، وَلَا السبكي، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى الرَّوْضَةِ كَصَاحِبِ الْمُهِمَّاتِ وَالْخَادِمِ، وَهِيَ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَهِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ لِيَ التَّوَقُّفَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَارَقَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّكْعَةَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَرْكَانِ الْوَاحِدَةِ مِنْ أَعْدَادِ الصَّلَاةِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ إِلَى التَّحَلُّلِ، وَإِخْرَاجُ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامُ عَنْ مُسَمَّى الرَّكْعَةِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالْأَحْوَطُ عَدَمُ تَجْوِيزِ الْمُفَارَقَةِ قَبْلَ السَّلَامِ لِيَتَحَقَّقَ مُسَمَّى الرَّكْعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[ضَوْءُ الشَّمْعَةِ فِي عَدَدِ الْجُمُعَةِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَدٍ، وَإِنْ نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا تَصِحُّ بِوَاحِدٍ، وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنِ القاشاني فَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِنَّ القاشاني لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِمَامُ كَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، والحسن بن صالح، وداود.
الثَّانِي: ثَلَاثَةٌ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَذْهَبُ أبي يوسف ومحمد حَكَاهُ الرافعي وَغَيْرُهُ عَنِ الْقَدِيمِ.
الثَّالِثُ: أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، والليث، وَحَكَاهُ ابن المنذر عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ وَحَكَاهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ محمد، وَحَكَاهُ صَاحِبُ
التَّلْخِيصِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَكَذَا حَكَاهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَاخْتَارَهُ المزني، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْقُوتِ، وَهُوَ اخْتِيَارِي.
الرَّابِعُ: سَبْعَةٌ حُكِيَ عَنْ عكرمة.
الْخَامِسُ: تِسْعَةٌ حُكِيَ عَنْ ربيعة.
السَّادِسُ: اثْنَا عَشَرَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ ربيعة حَكَاهُ عَنْهُ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ ومحمد بن الحسن.
السَّابِعُ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، حُكِيَ عَنْ إسحاق بن راهويه.
الثَّامِنُ: عِشْرُونَ، رِوَايَةُ ابن حبيب عَنْ مالك.
التَّاسِعُ: ثَلَاثُونَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ مالك.
الْعَاشِرُ: أَرْبَعُونَ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، وَبِهِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ، وأحمد، وإسحاق، حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: أَرْبَعُونَ غَيْرُ الْإِمَامِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: خَمْسُونَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وأحمد، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا.
الثَّالِثَ عَشَرَ: ثَمَانُونَ، حَكَاهُ المازري.
الرَّابِعَ عَشَرَ: جَمْعٌ كَثِيرٌ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مالك، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ تُشْتَرَطُ جَمَاعَةٌ تَسْكُنُ بِهِمْ قَرْيَةٌ، وَيَقَعُ بَيْنَهُمُ الْبَيْعُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ. قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَلَعَلَّ هَذَا الْمَذْهَبَ أَرْجَحُ الْمَذَاهِبِ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ، وَأَقُولُ: هُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ تَعْيِينُ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَأَنَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ، أَمَّا اشْتِرَاطُ ثَمَانِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ عِشْرِينَ أَوْ تِسْعَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ فَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ رَأَى الْعَدَدَ وَاجِبًا بِالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ، وَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَرَأَى أَنَّ أَقَلَّ الْعَدَدِ اثْنَانِ فَقَالَ بِهِ قِيَاسًا عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا فِي الْوَاقِعِ دَلِيلٌ قَوِيٌّ لَا يَنْقُضُهُ إِلَّا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِكَذَا أَوْ بِذِكْرِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا سَبِيلَ إِلَى وُجُودِهِ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْعَدَدَ وَاجِبًا فِي حُضُورِ الْخُطْبَةِ كَالصَّلَاةِ، فَشَرَطَ الْعَدَدَ فِي الْمَأْمُومِينَ الْمُسْتَمِعِينَ لِلْخُطْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ عَدُّ الْإِمَامِ مِنْهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَخْطُبُ وَيَعِظُ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِأَرْبَعَةٍ فَمُسْتَنَدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر النيسابوري، ثَنَا محمد بن يحيى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ، ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثَنَا معاوية بن يحيى، ثَنَا معاوية بن سعيد التجيبي، ثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أم عبد الله الدوسية قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعَةٌ» ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَلَهُ طَرِيقٌ ثَانٍ قَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أبو عبد الله محمد بن علي بن إسماعيل الأيلي، ثَنَا عبيد الله بن محمد بن خنيس الكلاعي، ثَنَا موسى بن محمد بن عطاء، ثَنَا الوليد بن محمد - هو الموقري - ثَنَا الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَتْنِي أم عبد الله الدوسية قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ فِيهَا إِمَامٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً» ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الموقري مَتْرُوكٌ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، كُلُّ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ مَتْرُوكٌ، طَرِيقٌ ثَالِثٌ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أبو عبد الله الأيلي، ثَنَا يحيى بن عثمان، ثَنَا عمرو بن الربيع بن طارق، ثَنَا مسلمة بن علي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنِ الحكم بن عبد الله بن سعد، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أم عبد الله الدوسية قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ إِمَامُهُمْ» ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الزُّهْرِيُّ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنَ الدوسية، والحكم مَتْرُوكٌ، طَرِيقٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ: أَخْبَرَنَا ابن مسلم، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، ثَنَا بقية، ثَنَا معاوية بن يحيى، ثَنَا معاوية بن سعيد التجيبي، عَنِ الحكم بن عبد الله، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أم عبد الله الدوسية قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ فِيهَا إِمَامٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً» ) حَتَّى ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةً - أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَقَالَ: الحكم بن عبد الله مَتْرُوكٌ، ومعاوية بن يحيى ضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، قُلْتُ: قَدْ حَصَلَ مِنَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الطُّرُقِ نَوْعُ قُوَّةٍ لِلْحَدِيثِ، فَإِنَّ الطُّرُقَ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا خُصُوصًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّنَدِ مُتَّهَمٌ، وَيَزِيدُهَا قُوَّةً مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن محمد بن عقبة الشيباني، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي الْعَنْبَسِ، ثَنَا إسحاق بن منصور، ثَنَا هريم، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ قيس بن مسلم، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ: عَبْدٍ مَمْلُوكٍ، أَوْ صَبِيٍّ، أَوْ مَرِيضٍ، أَوِ امْرَأَةٍ» ) وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْجَمَاعَةَ فَشَمَلَ كُلَّ مَا يُسَمَّى جَمَاعَةً، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِثَلَاثَةٍ غَيْرِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَمُسْتَنَدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جابر:( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا» ) وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْعَدَدَ الْمُعْتَبَرَ فِي الِابْتِدَاءِ يُعْتَبَرُ فِي الدَّوَامِ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطِلُ الْجُمُعَةُ بِانْفِضَاضِ الزَّائِدِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ كَافٍ، قُلْتُ: هُوَ دَالٌّ عَلَى صِحَّتِهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ بِلَا شُبْهَةٍ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ اثْنَيْ عَشْرَةَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِدُونِ هَذَا الْعَدَدِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ أَكْثَرُ مَا فِيهَا أَنَّهُمُ انْفَضُّوا وَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَتَمَّتْ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ لَمْ تَتِمَّ بِهِمْ، فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ أَخَذْتَ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ اشْتِرَاطَ أَرْبَعَةٍ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ
وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً بَيَانٌ لِأَقَلِّ عَدَدٍ تُجْزِئُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ (أَنْ) وَ (لَوْ) الْوَصْلِيَّتَيْنِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُمَا مُنْتَهَى الْأَحْوَالِ وَأَنْدَرُهَا، تَقُولُ: أَحْسِنْ إِلَى زَيْدٍ وَإِنْ أَسَاءَ، وَأَعْطِ السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ، فَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ مُنْتَهَى غَايَةِ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ وَالْمُعْطَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] فَلَيْسَ بَعْدَ مَرْتَبَةِ النَّفْسِ وَالْوَالِدِيَّةِ وَالْأَقْرَبِيَّةِ مَرْتَبَةٌ تُذْكَرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:( «وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً» ) بَيَانٌ لِمُنْتَهَى مَرَاتِبِ الْعَدَدِ الْمُجْزِئِ، وَلَوْ كَانَ أَقَلُّ مِنْهُ مُجْزِئًا لَذَكَرَهُ، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، حَتَّى ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةً، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَنَزَّلَ إِلَى مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ حَتَّى انْتَهَتْ غَايَتُهُ إِلَى ذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ ثَلَاثَةٌ لَا أَرْبَعَةٌ.
قُلْتُ: الْمُرَادُ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ الْإِمَامِ ; لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ( «وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ إِمَامُهُمْ» ) فَإِنْ قُلْتَ: مُسَلَّمٌ دَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ثُبُوتَ الْأَحَادِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهَا فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ، وَإِنَّمَا يُحْتَجُّ بِمَا بَلَغَ مَرْتَبَةَ الصِّحَّةِ أَوِ الْحُسْنِ، قُلْتُ: كَذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالْأَرْبَعِينَ حَدِيثُهُ ضَعِيفٌ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِاشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِينَ بِمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ «عَنْ جابر قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ إِمَامًا، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ جُمُعَةٌ وَفِطْرٌ وَأَضْحَى» ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ، قَالَ: لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْحُفَّاظُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قَالَ النووي: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَحَادِيثَ بِمَعْنَاهُ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، قَالَ: وَأَقْرَبُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْحَابُ «عَنْ عبد الرحمن بن كعب بن مالك عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي الْمَدِينَةِ سعد بن زرارة قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فِي نَقِيعِ الْخَضَمَاتِ، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ رَجُلًا) » حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أبو داود، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ، وَالْأَصْلُ الظُّهْرُ، فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلَّا بِعَدَدٍ ثَبَتَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهَا بِأَرْبَعِينَ فَلَا يَجُوزُ بِأَقَلَّ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَرِيحٍ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) وَلَمْ تَثْبُتْ صَلَاتُهُ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ انْتَهَى، وَأَقُولُ: لَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ كعب عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجُمُعَةَ فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِمَكَّةَ
قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِقَامَتِهَا هُنَاكَ مِنْ أَجْلِ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ كَتَبَ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَمِّعُوا فَجَمَّعُوا، وَاتَّفَقَ أَنَّ عِدَّتَهُمْ إِذْ ذَاكَ كَانَتْ أَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دُونَ الْأَرْبَعِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ وَقَائِعَ الْأَعْيَانِ لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ، وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يَرُدُّهُ حَدِيثُ الِانْفِضَاضِ السَّابِقِ فَإِنَّهُ أَتَمَّهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَعْيِينَ الْأَرْبَعِينَ لَا يُشْتَرَطُ، وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أبي مسعود الأنصاري قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْمَدِينَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَّعَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنِ حَدِيثِ كعب بِأَنَّ سعدا كَانَ أَمِيرًا وَكَانَ مصعب إِمَامًا، وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ بَابُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعِينَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْجَمَاعَةُ ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ آخِرَ مَنْ أَتَاهُ وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَقَالَ: ( «إِنَّكُمْ مُصِيبُونَ وَمَنْصُورُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلْيَصِلِ الرَّحِمَ» ) فَاسْتِدْلَالُهُ بِهَذَا فِي غَايَةِ الْعَجَبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةٌ قَصَدَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْمَعَ أَصْحَابَهُ لِيُبَشِّرَهُمْ، فَاتَّفَقَ أَنِ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْهُمْ هَذَا الْعَدَدُ فَهَلْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَقَلُّ مِنْهُمْ لَمْ يَفْعَلْ مَا دَعَاهُمْ لِأَجْلِهِ؟ وَإِيرَادُ الْبَيْهَقِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ لِلْمَسْأَلَةِ صَرِيحًا، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:( «إِذَا رَاحَ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا إِلَى الْجُمُعَةِ كَانُوا كَسَبْعِينَ مُوسَى الَّذِينَ وَفَدُوا إِلَى رَبِّهِمْ أَوْ أَفَضْلَ» ) وَلَمْ يَسْتَدِلَّ أَحَدٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاطِ سَبْعِينَ فِي الْجُمُعَةِ مَعَ أَنَّهُ أَوْجَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِينَ: مُسْتَنَدُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْعَدَدِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الظُّهْرِ الْإِتْمَامُ إِلَّا بِشَرَائِطَ، وَالْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ شَرْطٌ، وَلِلشَّرْعِ اعْتِنَاءٌ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ لَا تَنْعَقِدُ جُمُعَتَانِ فِي بَلْدَةٍ وَلَا بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدِ التَّقْدِيرِ، وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ غَيْرُ كَافٍ فَيَكْفِي أَدْنَى مُسْتَنَدٍ، وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَهَا جُمُعَةً» ، وَاسْتَأْنَسَ الشَّافِعِيُّ بِمَذْهَبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعِينَ، فَكَانَ هَذَا الِاتِّقَاءَ بِالِاحْتِيَاطِ - هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَفِي النِّهَايَةِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ نَحْوُهُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْمُسْتَنَدِ الْمُرَكَّبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثٍ آخَرَ، وَمَعَ كَوْنِ هَذَا
الْحَدِيثِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِرَفْعِهِ، وَالْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ لَهُ مُصَرَّحٌ بِرَفْعِهِ، وَإِذَا قَايَسْتَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ كَانَ إِسْنَادُ الْحَدِيثِ الْمُعَارِضِ أَمْثَلَ مِنْ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْأَمْرُ الثَّانِي مَذْهَبُ تَابِعِيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه لَا يَحْتَجُّ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَضْلًا عَنِ التَّابِعِيِّ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا حَكَى عَنْ غَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ. وَالثَّالِثُ الْأَمْرُ الْمُنْضَمُّ إِلَيْهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ مَعَ بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالرِّوَايَتَانِ عَنْهُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ، فَأَخْرَجَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْمِيَاهِ فِيمَا بَيْنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ جَمِّعُوا إِذَا بَلَغْتُمْ أَرْبَعِينَ، وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِيِّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِذَا بَلَغَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَلْيُجَمِّعُوا. وَأَخْرَجَ عَنْ معاوية بن صالح قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: أَيُّمَا قَرْيَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا فَلْيَؤُمُّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَلَيَخْطُبْ عَلَيْهِمْ لِيُصَلِّ بِهِمُ الْجُمُعَةَ، وَيُوَافِقُ اشْتِرَاطَ الْخَمْسِينَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْجُمُعَةُ عَلَى الْخَمْسِينَ رَجُلًا وَلَيْسَ عَلَى مَا دُونَ الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ» ) وَلَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَلَى الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ لَيْسَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَمَعَ ضَعْفِهِ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ لَا شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ دُونَ الْخَمْسِينَ عَدَمُ صِحَّتِهَا مِنْهُمْ، وَعِنْدِي أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْسَتَا بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ لَهُ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا، وَمِنْ حَدِيثِ أبي أمامة الْمَذْكُورِ، وَمِنْ حَدِيثِ جابر الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لِلْأَرْبَعِينَ، وَمِنَ الْأَثَرِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كُلُّ قَرْيَةٍ فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ، بَيَانُ شَرْطِ الْمَكَانِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الْجُمُعَةُ لَا الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ، فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ فِي كُلِّ مَكَانٍ بَلْ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، إِمَّا مِصْرٍ، قَالَ علي رضي الله عنه: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَإِمَّا بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَلَا تَصِحُّ فِي فَضَاءٍ وَلَا صَحْرَاءَ، فَأُرِيدَ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْلُحُ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بَلَدًا أَوْ قَرْيَةً إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ قَاطِنًا جَمْعٌ نَحْوُ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَذِكْرُ عمر فِي أَحَدِ كُتُبِهِ الْأَرْبَعِينَ وَفِي بَعْضِهَا الْخَمْسِينَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ لَا التَّحْدِيدِ بِالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ، وَيُفِيدُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا قَطَنَ فِي مَكَانٍ نَحْوُ هَذَا الْعَدَدِ صَحَّ أَنَّ تُقَامَ بِهِ الْجُمُعَةُ، ثُمَّ إِنْ أَقَامَهَا أَقَلُّ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ وَهُمْ بَعْضُ مَنْ فِيهَا صَحَّتْ مِنْهُمْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ظَهَرَ لِي وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جعفر بن برقان قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عدي بن عدي الكندي: انْظُرْ كُلَّ قَرْيَةٍ
أَهْلِ قَرَارٍ لَيْسُوا بِأَهْلِ عَمُودٍ يَنْتَقِلُونَ فَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ثُمَّ مُرْهُ فَلْيُجَمِّعْ بِهِمْ، وَأَخْرَجَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ فَقَالَ: كُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فِي جَمَاعَةٍ وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ أُمِرُوا بِالْجُمُعَةِ فَلْيُجَمِّعْ بِهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَمَدَائِنِ مِصْرَ وَمَدَائِنِ سَوَاحِلِهَا كَانُوا يُجَمِّعُونَ الْجُمُعَةَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِأَمْرِهِمَا وَفِيهِمَا رِجَالٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي سُئِلَ عَنِ الْقُرَى الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَا تَرَى فِي الْجُمُعَةِ فِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ فَلْيُجَمِّعْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَيْضًا أَنَّهَا ذُكِرَتْ لِبَيَانِ الْمَكَانِ الصَّالِحِ لَا الْعَدَدِ الْحَاضِرِ أَنَّ فِي حَدِيثِ جابر الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ لِلْأَرْبَعِينَ عَطْفًا عَلَى جُمُعَةٍ وَفِطْرٍ وَأَضْحَى، فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِينَ فِي الْجُمُعَةِ وَأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِمَّنْ دُونَهُمْ لَلَزِمَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، فَكَانَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِمَا حُضُورُ الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَصِحَّانِ مِمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْلُحُ لِمَشْرُوعِيَّةِ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ فِيهِ بِحَيْثُ يُؤْمَرُ أَهْلُهُ بِذَلِكَ وَبِالِاجْتِمَاعِ لَهُ، ثُمَّ أَيُّ جَمْعٍ أَقَامَ الْجُمُعَةَ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَأَيُّ جَمْعٍ أَقَامَ الْأَعْيَادَ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا التَّعْبِيرُ (بِفِي) حَيْثُ قِيلَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ جُمُعَةٌ دُونَ (مِنْ) وَسَائِرِ حُرُوفِ الْجَرِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَدِ إِيقَاعُهَا فِيهِمْ لَا مِنْهُمْ وَلَا بُدَّ، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِأَيِّ جَمْعٍ أَقَامُوهَا فِي بَلَدٍ اسْتَوْطَنَهُ أَرْبَعُونَ، وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ دَلَّتْ عَلَى اشْتِرَاطِ إِقَامَتِهَا فِي بَلَدٍ يَسْكُنُهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بَلَدًا، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الْعَدَدِ بِعَيْنِهِ فِي حُضُورِهَا لِتَنْعَقِدَ، بَلْ أَيُّ جَمْعٍ أَقَامُوهَا صَحَّتْ بِهِمْ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ الْإِمَامِ فَتَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، هَذَا مَا أَدَّانِي الِاجْتِهَادُ إِلَى تَرْجِيحِهِ، وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ المزني كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْقُوتِ وَكَفَى بِهِ سَلَفًا فِي تَرْجِيحِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ كِبَارِ الْآخِذِينَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ كِبَارِ رُوَاةِ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ، وَقَدْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَرَجَّحَهُ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَشْرَافِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي: قَالَ المزني: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَّعَ بِأَرْبَعِينَ انْتَهَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الرافعي فِي الشَّرْحِ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابن حجر فِي تَخْرِيجِهِ: لَمْ أَرَهُ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ كعب وَقَالَ: إِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ قُدِحَ فِي حَدِيثِ كعب بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَرْوِي تَارَةً أَنَّ مصعبا
صَلَّى بِالنَّاسِ، وَيَرْوِي تَارَةً أُخْرَى أَنَّ سعد بن زرارة صَلَّى بِهِمْ، وَرَوَى تَارَةً بِالْمَدِينَةِ، وَتَارَةً بِبَنِي بَيَاضَةَ، فَلِأَجْلِ اضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ رِوَايَتِهِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قُلْتُ: وَمِنَ اضْطِرَابِهِ أَنَّهُ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ، وَرَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنَ الدَّلِيلِ مَا رَوَى سليمان بن طريف عَنْ مكحول عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ ثُمَّ الرافعي، وَقَالَ الْحَافِظُ ابن حجر فِي تَخْرِيجِهِ: لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَوْرَدَ الرافعي وَغَيْرُهُ حَدِيثَ أبي أمامة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا جُمُعَةَ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ» ، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر أَيْضًا: وَلَا أَصْلَ لَهُ، وَقَالَ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ: إِنِ انْتَفَتِ الْأَدِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِينَ قُلْنَا: الْأَصْلُ الظُّهْرُ عَامًّا، وَإِنَّمَا يُرَدُّ إِلَى رَكْعَتَيْنِ بِشَرَائِطَ مِنْهَا الْعَدَدُ وَأَصْلُهُ مَشْرُوطٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ الشَّارِعِ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي التَّقْدِيرِ، وَفُهِمَ مِنْهُ طَلَبُ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ جُمُعَتَيْنِ فِي بَلَدٍ فَأَكْثَرَ كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ أَرْبَعُونَ فَأَخَذْنَا بِهِ احْتِيَاطًا، ثُمَّ قَالَ: وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْإِمَامَ أحمد اشْتَرَطَ فِي عَقْدِهَا خَمْسِينَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
قُلْتُ: وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ ابن الرفعة أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مِنَ النَّصِّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِينَ فَعُدِلَ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَتَبِعَهُمُ الرافعي والنووي.
(خَاتِمَةٌ) : اعْلَمْ أَنَّ تَرْجِيحَنَا لِهَذَا الْقَوْلِ أَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ الْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازَ تَعَدُّدِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ بِجَوَازِ التَّعَدُّدِ أَصْلًا لَا فِي الْجَدِيدِ وَلَا فِي الْقَدِيمِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الْقَدِيمِ سُكُوتٌ فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ رَأْيًا بِالْجَوَازِ، ثُمَّ زَادُوا فَرَجَّحُوهُ عَلَى نُصُوصِهِ فِي الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ، وَهُوَ نَفْسُهُ قَدْ قَالَ: لَا يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ قَوْلٌ مِنْ سُكُوتِهِ وَيُرَجَّحُ عَلَى نُصُوصِهِ الْمُصَرِّحَةِ بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ نَصُّ لَهُ صَرِيحٌ، وَقَدِ اقْتَضَتِ الْأَدِلَّةُ تَرْجِيحَهُ فَرَجَّحْنَاهُ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلٌ لَهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَرْجِيحِهِ عَلَى قَوْلِهِ الثَّانِي فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ تَرَكَ نَصَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَهَبَ إِلَى تَرْجِيحِ شَيْءٍ خِلَافَهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، ثُمَّ يَصِيرُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أُسْوَةً بِالْمَسَائِلِ الَّتِي صَحَّحَ فِيهَا النووي الْقَوْلَ الْقَدِيمَ كَمَسْأَلَةِ امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ. وَمَسْأَلَةِ تَفْضِيلِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عَلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَمَسْأَلَةِ صَوْمِ الْوَلِيِّ عَنْ قَرِيبِهِ الْمَيِّتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.