الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْغَضَبِ وَالْعَجَلَةِ، لَا يُعْقَدُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَعَقْدُ الْيَمِينِ أَنْ يُثْبِتَهَا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ؛ أَنْ لَا يَفْعَلَ الشَّيْءَ فَيَفْعَلُهُ، أَوْ لَيَفْعَلَنَّهُ فَلَا يَفْعَلُهُ، أَوْ لَقَدْ كَانَ، وَمَا كَانَ، فَهَذَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ. وَقَوْلُهُ: قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ، يَعْنِي مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِ مالك، فَهَذَانِ نَصَّانِ فِي الْأُمِّ صَرِيحَانِ فِي الْحِنْثِ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ الْأُمَّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا تَعَرُّضًا لِلْمَسْأَلَةِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ جَزَمَ فِيهَا بِالْحِنْثِ كَمَا تَرَى، ثُمَّ رَاجَعْتُ مُخْتَصَرَ المزني.
[فَتْحُ الْمَغَالِقِ مِنْ أَنْتِ تَالِقٌ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ تَالِقٌ، نَاوِيًا بِهِ الطَّلَاقَ هَلْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ؟ فَأَجَبْتُ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ سَوَاءٌ كَانَ عَامِّيًّا أَوْ فَقِيهًا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ فَالِقٌ، أَوْ مَالِقٌ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ التَّاءِ قَرِيبٌ مِنْ مَخْرَجِ الطَّاءِ، وَيُبْدَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَأُبْدِلَتِ الطَّاءُ تَاءً فِي قَوْلِهِمْ: طُرَّتْ يَدُهُ، وَتُرَّتْ يَدُهُ؛ أَيْ: سَقَطَتْ، وَضَرَبَ يَدَهُ بِالسَّيْفِ، فَأَطَرَّهَا وَأَتَرَّهَا؛ أَيْ: قَطَعَهَا وَأَنْدَرَهَا، وَالتَّقَطُّرُ: التَّهَيُّؤُ لِلْقِتَالِ، وَالتَّقَتُّرُ لُغَةٌ فِيهِ، وَيُقَالُ فِي الْقِمَطْرَةِ: كِمَتْرَةٌ، بِإِبْدَالِ الْقَافِ كَافًا وَالطَّاءِ تَاءً، وَفِي الْقِسْطِ: كِسْتٌ كَذَلِكَ، وَيُقَالُ فِي ذَاطَهُ؛ أَيْ خَنَقَهُ أَشَدَّ الْخَنْقِ حَتَّى دَلَعَ لِسَانُهُ: ذَاتَهُ، بِالتَّاءِ، وَيُقَالُ: غَلِطَ وَغَلِتَ، لُغَتَانِ بِمَعْنًى، وَيُقَالُ فِي الْفُسْطَاطِ: فُسْتَاطٌ، فِي أَلْفَاظٍ أُخَرَ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْإِبْدَالِ، وَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً فِي نَحْوِ: مُصْطَفًى وَمُضْطَرٍّ وَمُطَّعِنٍ وَمُظْطَلِمٍ وَاطَّيَّرْنَا، إِلَى مَا لَا يُحْصَى، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّاءَ وَالطَّاءَ حَرْفَانِ مُتَعَاوِرَانِ، وَيَنْضَمُّ إِلَى هَذَا الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ مَعَ النِّيَّةِ الْعُرْفُ وَشُهْرَةُ ذَلِكَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ كَثِيرًا؛ وَلِشُهْرَةِ اللَّفْظِ فِي الْأَلْسِنَةِ مَدْخَلٌ كَبِيرٌ فِي الطَّلَاقِ، اعْتَبَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُقَوِّيَةٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الْقَسَمِ، فَإِنْ كَانَ اللَّافِظُ بِذَلِكَ عَامِّيًّا حَصَلَ أَمْرٌ رَابِعٌ فِي التَّقْوِيَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مِنَ الصَّرَائِحِ وَلَا مِنَ الْكِنَايَاتِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، قُلْنَا: أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكِنَايَاتِ، فَإِنَّ أَصْلَ اللَّفْظِ بِالطَّاءِ صَرِيحٌ، وَخَرَجَ إِلَى حَيِّزِ
الْكِنَايَةِ بِإِبْدَالِ حَرْفِ الطَّاءِ تَاءً، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْقُولِ عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَالْعَامُّ: قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: فَرْعٌ: إِذَا اشْتُهِرَ فِي الطَّلَاقِ لَفْظٌ سِوَى الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ الصَّرِيحَةِ، كَـ" حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ "، أَوْ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ "، أَوِ " الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ "، فَفِي الْتِحَاقِهِ بِالصَّرِيحِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: نَعَمْ؛ لِحُصُولِ التَّفَاهُمِ وَغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَعَلَيْهِ تَنْطَبِقُ فَتَاوَى القفال والقاضي حسين وَالْمُتَأَخِّرِينَ.
وَالثَّانِي: لَا، وَرَجَّحَهُ المتولي. وَالثَّالِثُ حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ القفال أَنَّهُ إِنْ نَوَى شَيْئًا آخَرَ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ، فَلَا طَلَاقَ، وَإِذَا ادَّعَاهُ صُدِّقَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا يَعْلَمُ أَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا سَأَلْنَاهُ عَمَّا يَفْهَمُ مِنْهُ إِذَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ قَالَ: يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِي مِنْهُ الطَّلَاقُ، حُمِلَ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ، وَالَّذِي حَكَاهُ المتولي عَنِ القفال أَنَّهُ إِنْ نَوَى غَيْرَ الزَّوْجَةِ فَذَاكَ، وَإِلَّا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْعُرْفِ.
قُلْتُ: الْأَرْجَحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ أَنَّهُ كِنَايَةٌ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي يَشْتَهِرُ فِيهَا اللَّفْظُ لِلطَّلَاقِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ فِي حَقِّ أَهْلِهَا بِلَا خِلَافٍ. انْتَهَى.
فَانْظُرْ كَيْفَ صَدَرَ الْفَرْعُ بِضَابِطٍ وَهُوَ أَنْ يَشْتَهِرَ فِي الطَّلَاقِ لَفْظٌ، وَلَمْ يَخُصُّهُ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ، وَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ اخْتِصَاصَهُ بِلَفْظِ " الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ " وَنَحْوِهِ، فَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، فَالضَّابِطُ لَفْظٌ يَشْتَهِرُ فِي بَلَدٍ أَوْ فَرِيقٍ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّلَاقِ، وَهَذَا اللَّفْظُ اشْتُهِرَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ فِي حَقِّهِمْ عِنْدَ النووي وَصَرِيحٌ عِنْدَ الرافعي، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَعَوَامِّ بَلَدٍ لَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ فِي لِسَانِهِمْ، فَهُوَ كِنَايَةٌ، وَلَا يَأْتِي قَوْلٌ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ، فَإِنْ نَظَرَ نَاظِرٌ إِلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُنَبِّهُوا عَلَى هَذَا اللَّفْظِ فِي كُتُبِهِمْ. قُلْنَا: الْفُقَهَاءُ لَمْ يَسْتَوْفُوا كُلَّ الْكِنَايَاتِ بَلْ عَدَّدُوا مِنْهَا جُمَلًا، ثُمَّ أَشَارُوا إِلَى مَا لَمْ يَذْكُرُوهُ بِضَابِطٍ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ البلقيني مِنْ حَدِيثِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِامْرَأَةِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ عليهما السلام: قُولِي لَهُ: "يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ" إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَلَعَلَّ الْفُقَهَاءَ إِنَّمَا سَكَتُوا عَنِ التَّعَرُّضِ لِلَفْظَةِ تَالِقٍ لِكَوْنِهَا لَمْ تَقَعْ فِي زَمَنِهِمْ، وَإِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ تَالِقًا مِنَ التَّلَاقِ وَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ الطَّلَاقِ، فَكَلَامُهُ أَشَدُّ سُقُوطًا مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِرَدٍّ، فَإِنَّ التَّلَاقِ لَا يُبْنَى مِنْهُ وَصْفٌ عَلَى فَاعِلٍ، وَأَمَّا الْخَاصُّ فَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ عَنْ زِيَادَاتِ العبادي: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِ، وَتَرَكَ الْقَافَ طَلُقَتْ حَمْلًا عَلَى التَّرْخِيمِ، وَقَالَ البوشنجي: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ وَإِنْ نَوَى، فَإِنْ قَالَ: يَا طَالِ، وَنَوَى وَقَعَ؛ لِأَنَّ التَّرْخِيمَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي النِّدَاءِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ فَلَا يَقَعُ إِلَّا نَادِرًا فِي الشِّعْرِ. انْتَهَى.
وَإِبْدَالُ الْحَرْفِ أَقْرَبُ إِلَى الْوُقُوعِ مِنْ حَذْفِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَ الإسنوي فِي
الْكَوْكَبِ: وَلَمْ يُبَيِّنِ الرافعي الْمُرَادَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا نِيَّةَ الطَّلَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نِيَّةَ الْحَذْفِ مِنْ طَالِقٍ. قُلْتُ: فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ كَانَ كِنَايَةً أَوِ الثَّانِي كَانَ صَرِيحًا، فَإِنْ قُلْتَ: الْحَذْفُ مَعْهُودٌ لُغَةً وَفِقْهًا بِهَذَا الْفَرْعِ، وَالْإِبْدَالُ وَإِنْ عُهِدَ لُغَةً لَمْ يُعْهَدْ فِقْهًا، فَفِي أَيِّ فَرْعٍ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ بِالْإِبْدَالِ؟ قُلْتُ: فِي فُرُوعٍ، قَالَ الإسنوي فِي الْكَوْكَبِ: إِبْدَالُ الْهَاءِ مِنَ الْحَاءِ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَكَذَلِكَ إِبْدَالُ الْكَافِ مِنَ الْقَافِ، فَمِنْ فُرُوعِ الْأَوَّلِ: إِذَا قَرَأَ فِي الْفَاتِحَةِ (الْهَمْدُ لِلَّهِ) بِالْهَاءِ عِوَضًا عَنِ الْحَاءِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ، كَمَا قَالَهُ القاضي حسين فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمِنْ فُرُوعِهِ: إِذَا قَرَأَ (الْمُسْتَقِيمِ) بِالْقَافِ الْمَعْقُودَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِلْكَافِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ أَيْضًا، كَمَا ذَكَرَهُ الشيخ نصر المقدسي فِي كِتَابِهِ الْمَقْصُودِ، والروياني فِي الْحِلْيَةِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَجَزَمَ بِهِ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، قَالَ الإسنوي: وَالصِّحَّةُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِأَجْلِ وُرُودِهِ فِي اللُّغَةِ، وَبَقَاءُ الْكَلِمَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا أَظْهَرُ بِخِلَافِ الْإِتْيَانِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي (الَّذِينَ) عِوَضًا عَنِ الْمُعْجَمَةِ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ الرافعي وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي إِبْدَالِ الضَّادِ ظَاءً، وَسَبَبُهُ عُسْرُ التَّمْيِيزِ فِي الْمَخْرَجِ. انْتَهَى.
(فَصْلٌ)
فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الصَّرْفَ عَنِ الطَّلَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنَ الْفَقِيهِ وَيَدِينُ فِيهِ الْعَامِّيُّ، فَيُؤَاخَذُ بِهِ ظَاهِرًا وَلَا يَقَعُ بَاطِنًا، لَمْ يَكُنْ بِبَعِيدٍ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَدْيِينَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى إِنْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحًا وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا، أَمَّا عَلَى رَأْيِ الرافعي فِي اللَّفْظِ الَّذِي اشْتَهَرَ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا عَلَى مَا صَحَّحَهُ النووي فَهَذَا لِمَنْ تَأَمَّلَهُ أَقْوَى مِنْ لَفْظِ " الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ "، فَإِنَّ ذَاكَ لَفْظٌ آخَرُ غَيْرُ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَيَحْتَمِلُ مَعَانِيَ، وَأَمَّا لَفْظُ " تَالِقٌ " يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ أُبْدِلَ مِنْهُ حَرْفٌ بِحَرْفٍ مُقَارِبٍ لَهُ فِي الْمَخْرَجِ، وَيُؤَيِّدُ جَعْلَهُ صَرِيحًا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الإسنوي فِي: أَنْتِ طَالِ، عَلَى إِرَادَةِ نِيَّةِ الْمَحْذُوفِ بِالطَّلَاقِ، وَيُؤَيِّدُهُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ بِـ (الْهَمْدُ لِلَّهِ) فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَرْفَ الْمُبْدَلَ قَائِمٌ مُقَامَ الْحَرْفِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَسْتَمِرُّ اللَّفْظُ عَلَى صَرَاحَتِهِ كَمَا اسْتَمَرَّ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُعْتَدًّا بِهِ فِي الْقِرَاءَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بَابَ الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِهَا بِسُقُوطِ حَرْفٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَضْيَقُ وَبَابَ الْقِرَاءَةِ أَشَدُّ ضِيقًا، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ بِالْمَعْنَى وَلَا بِالْمُرَادِفِ بَلْ وَلَا بِالشَّاذِّ الَّذِي قُرِئَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ قَطُّ (الْهَمْدُ لِلَّهِ) بِالْهَاءِ، فَقَوْلُهُمْ بِالصِّحَّةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِمُجَرَّدِ الْإِبْدَالِ بِالْحَرْفِ الْمُقَارِبِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْإِبْدَالَ بِمَا ذُكِرَ لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ
عَنْ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، فَانْشَرَحَ الصَّدْرُ بِذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِصَرَاحَةِ هَذَا اللَّفْظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا يَلْزَمُنَا طَرْدُ ذَلِكَ فِي الْفَقِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِبْدَالَ لَيْسَ مِنْ نَعْتِهِ وَلَا مِنْ عَادَتِهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ إِرَادَتِهِ وَكَانَ فِي حَقِّهِ كَالْكِنَايَةِ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا بَلْ يُطْلِقَ، وَالْوُقُوعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ بَاطِنًا لَهُ وَجْهٌ مَأْخَذُهُ الصَّرَاحَةُ أَوِ الشَّبَهُ بِالصَّرَاحَةِ، وَأَمَّا ظَاهِرًا فَأَقْوَى بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ، وَفِي حَقِّ الْفَقِيهِ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ.
(فَرْعٌ) أَمَّا لَوْ قَالَ: عَلِيَّ التَّلَاقُ، بِالتَّاءِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ قَطْعًا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ الْعَامِّيِّ وَالْفَقِيهِ، فَإِنْ نَوَى فَطَلَاقٌ وَإِلَّا فَلَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَالِقٍ أَنَّ تَالِقًا لَا مَعْنَى لَهُ يَحْتَمِلُهُ، وَالتَّلَاقُ لَهُ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ دَالِقٌ، بِالدَّالِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مَا فِي تَالِقٍ، بِالتَّاءِ؛ لِأَنَّ الدَّالَ وَالطَّاءَ أَيْضًا مُتَعَاوِرَانِ فِي الْإِبْدَالِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي الْأَلْسِنَةِ كَاشْتِهَارِ تَالِقٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالْوُقُوعِ مَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ أَصْلًا مَعَ أَنَّ لِدَالِقٍ مَعْنًى غَيْرَ الطَّلَاقِ، يُقَالُ: سَيْفٌ دَالِقٌ: إِذَا كَانَ سَلِسَ الْخُرُوجِ مِنْ غِمْدِهِ، وَرَجُلٌ دَالِقٌ: كَثِيرُ الْغَارَاتِ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، بِالْقَافِ الْمَعْقُودَةِ قَرِيبَةٍ مِنَ الْكَافِ كَمَا يَلْفِظُ بِهَا الْعَرَبُ، فَلَا شَكَّ فِي الْوُقُوعِ، فَلَوْ أَبْدَلَهَا كَافًا صَرِيحَةً، فَقَالَ طَالِكٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ قَالَ: تَالِقٌ، بِالتَّاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْحَطُّ عَنْهُ بِعَدَمِ الشُّهْرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَدَالِقٍ بِالدَّالِ إِلَّا أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ يَحْتَمِلُهُ، وَتَعَاوُرُ الْقَافِ وَالْكَافِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ قُرِئَ:{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11] وَ: قُشِطَتْ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي قِسْطٍ: كِسْطٌ، وَفِي قِمَطْرَةٍ: كِمَتْرَةٌ.
(فَرْعٌ) فَلَوْ أَبْدَلَ الْحَرْفَيْنِ، فَقَالَ: تَالِكٌ، بِالتَّاءِ وَالْكَافِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً، إِلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ مُحْتَمَلٌ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ بِالدَّالِ وَالْكَافِ، فَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ تَالِكٍ، مَعَ أَنَّ لَهُ مَعَانِيَ مُحْتَمَلَةً، مِنْهَا الْمُمَاطَلَةُ لِلْغَرِيمِ، وَمِنْهَا الْمُسَاحَقَةُ، يُقَالُ: تَدَالَكَتِ الْمَرْأَتَانِ: إِذَا تَسَاحَقَتَا، فَيَكُونُ كِنَايَةَ قَذْفٍ بِالْمُسَاحَقَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هُنَا أَلْفَاظًا بَعْضَهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْوَاهَا تَالِقٌ، ثُمَّ دَالِقٌ، وَفِي رُتْبَتِهَا طَالِكٌ، ثُمَّ تَالِكٌ، ثُمَّ دَالِكٌ، وَهِيَ أَبْعَدُهَا، وَالظَّاهِرُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ كِنَايَةَ طَلَاقٍ أَصْلًا، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةً فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتَ تَالِقٌ أَوْ تَالِغٌ أَوْ طَالِغٌ أَوْ تَالِكٌ، عَنِ الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أَنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ تَعَمَّدَ وَقَصَدَ أَنْ لَا يَقَعَ، وَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً، وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً، إِلَّا إِذَا أَشْهَدَ قَبْلَ أَنْ يَتَلَفَّظَ، وَقَالَ: