الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابًا لِجَوَازِ التَّعَجُّبِ بِلَفْظِ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَوْرَدَ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ وَقَعَ فِيهَا ذِكْرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، فَقَوْلُ النووي: وَنَحْوُهُمَا يَدْخُلُ فِيهِ فَصْلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ لَا تُكْرَهُ لِعَدَمِ النَّهْيِ، وَلَا تُسْتَحَبُّ لِعَدَمِ دَلِيلٍ عَلَى طَلَبِهَا حِينَئِذٍ، بَلْ هِيَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النووي بِلَفْظِ الْجَوَازِ فِي التَّرْجَمَةِ.
[الْقَوْلُ الْمَشْرِقُ فِي تَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنْطِقِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.
مَسْأَلَةٌ: فِي شَخْصٍ يَدَّعِي فِقْهًا، يَقُولُ: إِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ عِلْمِ الْمَنْطِقِ، وَإِنَّ عِلْمَ الْمَنْطِقِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّ لِمُتَعَلِّمِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَلَا يَصِحُّ تَوْحِيدُ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَمَنْ أَفْتَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ فَمَا يُفْتِي بِهِ بَاطِلٌ، وَقَالَ: إِنَّ الْحَشِيشَةَ كُلُّ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا كَفَرَ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ يُحِلُّ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَقَالَ: إِنْ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَإِنَّمَا كَانَ زَاهِدًا فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؟ .
الْجَوَابُ: فَنُّ الْمَنْطِقِ فَنٌّ خَبِيثٌ مَذْمُومٌ، يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، مَبْنِيٌّ بَعْضُ مَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْهَيُولِي الَّذِي هُوَ كُفْرٌ، يَجُرُّ إِلَى الْفَلْسَفَةِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَلَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ دِينِيَّةٌ أَصْلًا، بَلْ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ - نَصَّ عَلَى مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْتُهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، وَعُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ - فَأَوَّلُ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، وابن الصباغ - صَاحِبُ الشَّامِلِ - وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، ونصر المقدسي، والعماد بن يونس، وحفده، وَالسِّلَفِيُّ، وابن بندار، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وابن الأثير، وَابْنُ الصَّلَاحِ، وابن عبد السلام، وأبو شامة، والنووي، وابن دقيق العيد، والبرهان الجعبري، وأبو حيان، والشرف الدمياطي، والذهبي، والطيبي، والملوي، والأسنوي، وَالْأَذْرُعِيُّ، والولي العراقي، والشرف بن المقري، وَأَفْتَى بِهِ شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ شرف الدين المناوي، وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ - صَاحِبُ الرِّسَالَةِ - وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِّيُّ، وَأَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - صَاحِبُ قُوتِ الْقُلُوبِ
وأبو الحسن بن الحصار، وأبو عامر بن الربيع، وأبو الحسن بن حبيب، وأبو حبيب المالقي، وابن المنير، وابن رشد، وابن أبي جمرة، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ.
وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ، والسراج القزويني، وَأَلَّفَ فِي ذَمِّهِ كِتَابًا - سَمَّاهُ:" نَصِيحَةُ الْمُسْلِمِ الْمُشْفِقِ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِحُبِّ عِلْمِ الْمَنْطِقِ " وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ ابن الجوزي، وسعد الدين الحارثي، والتقي ابن تيمية، وَأَلَّفَ فِي ذَمِّهِ وَنَقْضِ قَوَاعِدِهِ مُجَلَّدًا كَبِيرًا - سَمَّاهُ " نَصِيحَةُ ذَوِي الْأَيْمَانِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْطِقِ الْيُونَانِ " وَقَدِ اخْتَصَرْتُهُ فِي نَحْوِ ثُلُثِ حَجْمِهِ - وَأَلَّفْتُ فِي ذَمِّ الْمَنْطِقِ - مُجَلَّدًا سُقْتُ فِيهِ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ: إِنَّ الْمَنْطِقَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، يُقَالُ لَهُ: إِنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ لَيْسَتْ فَرْضَ عَيْنٍ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَكَيْفَ يَزِيدُ الْمَنْطِقُ عَلَيْهَا؟ ! فَقَائِلُ هَذَا الْكَلَامِ: إِمَّا كَافِرٌ، أَوْ مُبْتَدِعٌ، أَوْ مَعْتُوهٌ لَا يَعْقِلُ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ أَكْذَبِ الْكَذِبِ، وَأَبْلَغِ الِافْتِرَاءِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ تَكْفِيرُ غَالِبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَقْطُوعِ بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَوْ أَنَّ الْمَنْطِقَ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ لَا ضَرَرَ فِيهِ لَمْ يَنْفَعْ فِي التَّوْحِيدِ أَصْلًا، وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِالْمَنْطِقِ لَا يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْطِقَ إِنَّمَا بَرَاهِينُهُ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ، وَالْكُلِّيَّاتُ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ أَصْلًا، هَكَذَا قَرَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ الْعَارِفُونَ بِالْمَنْطِقِ، فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَنْطِقَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، فَيَلْزَمُ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ التَّوْحِيدَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْهُ بَعْدُ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَنَّ إِيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِيمَانُ الْمُسْتَدِلِّ قُلْنَا: لَمْ يُرِيدُوا بِالْمُسْتَدِلِّ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ، بَلْ أَرَادُوا مُطْلَقَ الِاسْتِدْلَالِ، الَّذِي هُوَ فِي طَبْعِ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى فِي طَبْعِ الْعَجَائِزِ، وَالْأَعْرَابِ، وَالصِّبْيَانِ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ عَلَى أَنَّ لَهَا خَالِقًا، وَبِالسَّمَاءِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالثِّمَارِ، وَغَيْرِهَا، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَنْطِقٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَالْعَوَامُّ وَالْأَجْلَافُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ لِلْمُتَكَلِّمِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ هَذَا شَيْءٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا لِلْقُرْآنِ، الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ جل جلاله، فَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْجَاهِلُ أَنْ يُلْحِقَ الْمَنْطِقَ - الَّذِي هُوَ مِنْ وَضْعِ الْكُفَّارِ - بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَالْعَجَبُ مِنْ حُكْمِهِ عَلَى اللَّهِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِخْبَارُ بِمَقَادِيرِ الثَّوَابِ لَا يُتَلَقَّى إِلَّا مِنْ صَاحِبِ النُّبُوَّةِ عليه الصلاة والسلام.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْمَنْطِقَ فَفَتْوَاهُ لَا تَصِحُّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ
وَالتَّابِعِينَ [وَأَتْبَاعَ التَّابِعِينَ] لَمْ تَصِحَّ فَتْوَاهُمْ، فَإِنَّ الْمَنْطِقَ إِنَّمَا دَخَلَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَمَضَى فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَلَا وُجُودَ لِلْمَنْطِقِ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، أَفَيَظُنُّ عَاقِلٌ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ؟ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه نَفْسُهُ عَلَى ذَمِّ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنْطِقِ، أَفَيَقُولُ هَذَا الْجَاهِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي مِثْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه؟ وَمَنْ سَمَّيْنَاهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ دَوَّنُوا الْفِقْهَ، وَأَضْحَوْا سُبُلَ الْفَتَاوَى وَهُمْ عِصْمَةُ الدِّينِ.
وَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ: إِنَّ الْغَزَالِيَّ لَيْسَ بِفَقِيهٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُضْرَبَ بِالسِّيَاطِ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَيُحْبَسَ حَبْسًا طَوِيلًا؛ حَتَّى لَا يَتَجَاسَرَ جَاهِلٌ أَنَّ يَتَكَلَّمَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بِكَلِمَةٍ تُشْعِرُ بِنَقْصٍ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: صَادِرٌ عَنْ جَهْلٍ مُفْرِطٍ وَقِلَّةِ دِينٍ، فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَأَفْسَقِ الْفَاسِقِينَ، وَلَقَدْ كَانَ الْغَزَالِيُّ فِي عَصْرِهِ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَيِّدَ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ فِي الْفِقْهِ الْمُؤَلَّفَاتُ الْجَلِيلَةُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْآنَ مَدَارُهُ عَلَى كُتُبِهِ، فَإِنَّهُ نَقَّحَ الْمَذْهَبَ، وَحَرَّرَهُ، وَلَخَّصَهُ فِي الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ وَالْخُلَاصَةِ، وَكُتُبُ الشَّيْخَيْنِ إِنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ رَجُلٌ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، وَالْحُمْقُ، وَالْفِسْقُ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْتَاطِ لِدِينِهِ أَنْ يَهْجُرَهُ فِي اللَّهِ، وَيَتَّخِذَهُ عَدُوًّا يُبْغِضُهُ فِيهِ إِلَى أَنْ تَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ قَاصِمَةٌ تُلْحِقُهُ بِالْغَابِرِينَ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَشِيشَةِ: مَنِ اسْتَعْمَلَهَا كَفَرَ، لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» "، فَيَكُونُ مُؤَوَّلًا عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوِ الْمُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا كَفْرُ الْمِلَّةِ، فَإِنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَكْفُرَ أَحَدٌ بِذَنَبٍ، وَالْعَالِمُ إِذَا أَفْتَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ إِنَّمَا يُطْلِقُهَا مُتَأَوِّلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُحَلِّلُ حَرَامًا، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا، فَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بَلْ وَلَا يُحْدِثُ قَوْلًا مِنْ عِنْدِهِ، إِنَّمَا وَظِيفَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَقْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَيَخْتَارَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى رُجْحَانِهِ.
مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَلْهَمَهُ اللَّهُ طِبًّا يُدَاوِي بِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ لَهُمْ، وَدَاوَى بِهِ جَمَاعَةً فِي بَلَدِهِ بِعُشْبٍ مِنَ الْأَعْشَابِ الَّذِي أَلْهَمَهُ اللَّهُ، وَحَصَلَ لَهُمْ بِهِ الشِّفَاءُ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ حُسَّادٍ، وَأَرَادُوا مَنْعَهُ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْحَالُ أَنَّ
الطَّبِيبَ الْمَذْكُورَ أَحْضَرَ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ دَاوَاهُمْ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ نَفَرًا إِلَى شُهُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَرَفُوا بِحُصُولِ الشِّفَاءِ عَلَى يَدِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ مَحْضَرًا وَاتَّصَلَ بِحَاكِمٍ؟ وَهَلْ يَثْبُتُ بِهَذَا الْمَحْضَرِ عَدَالَةُ الطَّبِيبِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْبَلَدِ؟ وَهَلْ إِذَا قَالَ الطَّبِيبُ: أُلْهِمْتُ مِنَ اللَّهِ هَذَا الدَّوَاءَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ؟ .
الْجَوَابُ: الْإِلْهَامُ لَا يُنْكَرُ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ غَالِبًا مَعَ الصُّوفِيَّةِ الْخُلَّصِ، أَرْبَابِ الْقُلُوبِ الصَّافِيَةِ النَّيِّرَةِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُ قَدْ يَصِحُّ وَقَدْ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي أُلْهِمَ الطِّبَّ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَا يُخْطِئُ فِي الْغَالِبِ، بِحَسَبِ تَمَكُّنِ حَالِهِ وَقُوَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَعَلَيْهِ تَوَقِّي ذَلِكَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى قَانُونِ الطِّبِّ الَّذِي تَعَارَفَ النَّاسُ الْمُدَاوَاةَ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ مِنَ الْمُدَاوَاةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْخَطَأِ، وَالْأَوْلَى لَهُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُدَاوِي أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِدْ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَانُونِ الْمُتَعَارَفِ فِي الطِّبِّ؛ لِيَنْظُرَ ذَاكَ لِنَفْسِهِ، وَيَحْتَاطَ لَهَا؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ تَطَبَّبَ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ» " وَالْمَحْضَرُ الْمَذْكُورُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ عَدَالَةٌ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْبَلَدِ بِهَذَا السَّبَبِ.
مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اشْتُهِرَ بِوَقْتِنَا هَذَا بِعِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَفُتِحَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَنَوَّرَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ بِمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الرُّؤْيَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا مَزْجِيَّ الْبِضَاعَةِ، فَإِذَا قَصَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ رُؤْيَا بَادَرَ إِلَى تَفْسِيرِهَا، فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُفَسِّرُهَا بِكَلَامِ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ، وَيَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا وَافَقَ الْقَوَاعِدَ وَالْمَنْقُولَ فِي هَذَا الْفَنِّ، مُتَّبِعًا شُرُوطَهُ وَآدَابَهُ فِي الْأَغْلَبِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ تَعْبِيرِهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً فَاحِشًا، خَالَفَ فِيهِ مَنْقُولَ أَهْلِ الْفَنِّ، هَذَا وَقَدْ قَرَأَ فِيهِ كُتُبًا عَلَى مَشَايِخِ عَصْرِهِ، وَتَفَهَّمَ ظَوَاهِرَهَا بِحَسَبِ الْحَالِ، وَشَاعَ نَفْعُ النَّاسِ بِهِ، وَقَصَدُوهُ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الْبَعِيدَةِ؛ لِفَقْدِ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا كَبِيرًا مِنَ النَّاسِ قَامَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ كَثْرَةَ تَعْبِيرِهِ لِكُلِّ سَائِلٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَسُرْعَةَ مُبَادَرَتِهِ لِذَلِكَ فَزَجَرَهُ وَنَهَاهُ عَنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مُطْلَقًا؛ قَاصِدًا نُصْحَهُ، وَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: هَذَا الْعِلْمُ تَخْيِيلَاتٌ مِنْ بَابِ الظَّنِّ وَالْحَدَثِ، وَهُوَ مَظِنَّةُ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ، فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَا الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، فَانْزَجَرَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ، وَكَفَّ عَنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَتَضَرَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَرَمَوْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَظَنُّوا بِامْتِنَاعِهِ أَنَّ قَصْدَهُ بِهِ طَلَبُ الدُّنْيَا مِنَ الْأَكَابِرِ بِسُؤَالِهِمْ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي وَرْطَةٍ مَعَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ، هَلْ لَهُ حَقِيقَةً؟ أَوْ كَمَا
يَقُولُهُ هَذَا الْمُعْتَرِضُ؟ وَهَلِ الْأَوْلَى لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْبِيرِ لِكُلِّ سَائِلٍ إِذِ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ جَعَالَةً فَهَلْ يُثَابُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ .
الْجَوَابُ: الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا وَتَعْبِيرَهَا تَخَيُّلَاتٌ لَا أَصْلَ لَهَا يَكَادُ يَخْرِقُ الْإِجْمَاعَ، فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ طَافِحَانِ بِاعْتِبَارِ الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ:" «أَنَّ رُؤْيَا الْعَبْدِ كَلَامٌ يُكَلِّمُهُ رَبُّهُ فِي الْمَنَامِ» "، وَفِي أَثَرٍ آخَرَ:" «أَنَّ اللَّهَ وَكَلَ بِالرُّؤْيَا مَلَكًا يُرِيهَا لِلنَّائِمِ» "، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ كَثِيرَةٌ عَنْ حَدِّ الْحَصْرِ، وَإِنَّمَا قَصُرَ عِلْمُ النَّاسِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ؛ لِعَدَمِ وُقُوفِهِمْ عَلَى السُّنَّةِ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا وَهِيَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، فَعَدَلُوا عَنْ مَعْدِنِهَا، وَرَجَعُوا إِلَى أَقْوَالِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ الَّذِينَ حَدَسُوا بِأَفْكَارِهِمْ وَخَمَّنُوا فَلَمْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ، كَقَوْلِهِمْ هَذَا فِي الرُّؤْيَا، وَكَقَوْلِهِمْ: فِي الطَّاعُونِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَالرَّعْدِ، وَالْبَرْقِ، وَالصَّوَاعِقِ، وَالْقَوْسِ، وَالْمَجَرَّةِ، وَالْمَطَرِ، وَالسَّحَابِ، وَسَائِرِ مَا فَوْقَ الْمَلَكُوتِ وَمَا تَحْتَ الْأَرَضِينَ، كُلُّ ذَلِكَ خَاضَ فِيهِ الْفَلَاسِفَةُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ بِالظُّنُونِ الْفَاسِدَةِ، فَأَتَوْا فِيهَا بِأَشْيَاءَ أَكْذَبَهُمْ فِيهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صلى الله عليه وسلم، الْمُوحَى إِلَيْهِ بِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.
وَقَوْلُ الْمُنْكِرِ: فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، كَلَامٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ عِلْمَ عَمَلٍ، بَلْ إِمَّا تَبْشِيرٌ بِخَيْرٍ، أَوْ تَحْذِيرٌ مِنْ شَرٍّ، فَأَيُّ عَمَلٍ هُنَا؟ نَعَمِ التَّثَبُّتُ مَطْلُوبٌ، وَعَدَمُ الْمُسَارَعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ، وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَا صُورَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَيَخْتَلِفُ تَأْوِيلُهَا بِحَسَبِ الرَّائِي وَحَالِهِ وَصِفَتِهِ، وَمَا اتَّفَقَ فِي أَيَّامِ الرُّؤْيَا، وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْكَشْفِ الَّذِي يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِمْ، وَهَذِهِ لَا يَلِيقُ بِكُلِّ مُعَبِّرٍ، تَأْوِيلُهَا إِنَّمَا يُؤَوِّلُهَا صَاحِبُ حَالٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَحْوَالِ الْقَوْمِ.
وَفِي جَوَازِ أَخْذِ الْجَعَالَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَقْفَةٌ، وَيَقْرُبُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْفُرُوضِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، وَوَجْهُ التَّوَقُّفِ كَوْنُهُ كَلَامًا يُقَالُ، فَيُشْبِهُ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى كَلِمَةٍ لَا تُتْعِبُ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ أَوْضَحُ، وَفِي الثَّوَابِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَأْخُذْ أُجْرَةً وَقْفَةٌ أَيْضًا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعُلُومِ الْمَفْرُوضَةِ وَلَا الْمَنْدُوبَةِ، بَلْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.