الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ امْرَأَتِي تَطْلُبُ مِنِّي الطَّلَاقَ وَلَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُطَلِّقَهَا، فَأَتَلَفَّظُ بِهَا قَطْعًا لِعِلَّتِهَا وَتَلَفَّظَ وَشَهِدُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، لَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ، وَكَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ كَمَا هُوَ جَوَابُ شمس الأئمة الحلواني، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَا قُلْنَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
[الْمُنْجَلِي فِي تَطَوُّرِ الْوَلِيِّ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، رُفِعَ إِلَيَّ سُؤَالٌ فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ الشيخ عبد القادر الطشطوطي بَاتَ عِنْدَهُ لَيْلَةَ كَذَا، فَحَلَفَ آخَرُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِعَيْنِهَا، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَمْ لَا؟ فَأَرْسَلْتُ قَاصِدِي إِلَى الشيخ عبد القادر، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَلَوْ قَالَ أَرْبَعَةٌ أَنِّي بِتُّ عِنْدَهُمْ لَصَدَقُوا، فَأَفْتَيْتُ بِأَنَّهُ لَا يَحْنِثُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقِيمَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَوْ لَا يُقِيمَ أَحَدٌ مِنْهُمَا أَوْ يُقِيمَهَا وَاحِدٌ دُونَ الْآخَرِ، فَالْحَالَانِ الْأَوَّلَانِ عَدَمُ الْحِنْثِ فِيهِمَا وَاضِحٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْنِيثُهُمَا مَعًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَلَا تَحْنِيثُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّائِرِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثُ فَقَدْ يُنَازِعُ فِيهَا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ وُجُودَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ هَذَا الْمُتَوَهِّمُ مِنَ الِاسْتِحَالَةِ، فَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِسْمِ الْجَائِزِ الْمُمْكِنِ، وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا حِنْثَ؛ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ عِنْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ لِإِمْكَانِ صِدْقِهِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ بِالشَّكِّ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِثْبَاتُ كَوْنِ هَذَا الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُمْكِنًا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدِيمًا وَأَفْتَى فِيهَا الْعُلَمَاءُ بِعَدَمِ الْحِنْثِ كَمَا أَفْتَيْتُ بِهِ، وَاسْتِنَادُهُمْ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ مُمْكِنًا غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ.
فَأَقُولُ: قَدْ نَصَّ عَلَى إِمْكَانِ ذَلِكَ أَئِمَّةٌ أَعْلَامٌ، مِنْهُمُ الْعَلَّامَةُ علاء الدين القونوي شَارِحُ الْحَاوِي، وَالشَّيْخُ تاج الدين السبكي، وكريم الدين الآملي شَيْخُ الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، وصفي الدين بن أبي المنصور، وعبد الغفار بن نوع القوصي صَاحِبُ الْوَحِيدِ، والعفيف اليافعي، والشيخ تاج الدين بن عطاء الله، والسراج ابن الملقن، والبرهان الأبناسي، وَالشَّيْخُ عبد الله المنوفي وَتِلْمِيذُهُ الشيخ
خليل المالكي صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ، وأبو الفضل محمد بن إبراهيم التلمساني الْمَالِكِيُّ وَخَلْقٌ آخَرُونَ، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَعَدُّدِ الصُّوَرِ بِالتَّمَثُّلِ وَالتَّشَكُّلِ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ لِلْجَانِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ بَابِ طَيِّ الْمَسَافَةِ وَزَوْيِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَعَدُّدٍ، فَيَرَاهُ الرَّائِيَانِ كُلٌّ فِي بَيْتِهِ وَهِيَ بُقْعَةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ طَوَى الْأَرْضَ وَرَفَعَ الْحُجُبَ الْمَانِعَةَ مِنَ الِاسْتِطْرَاقِ، فَظُنَّ أَنَّهُ فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَفْعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ حَالَ وَصْفِهِ إِيَّاهُ لِقُرَيْشٍ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ عِظَمِ جُثَّةِ الْوَلِيِّ بِحَيْثُ مَلَأَ الْكَوْنَ، فَشُوهِدَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، كَمَا قُرِّرَ بِذَلِكَ شَأْنُ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَيْثُ يُقْبَضُ مَنْ مَاتَ فِي الْمَشْرِقِ وَفِي الْمَغْرِبِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُسْأَلُ مَنْ قُبِرَ فِيهِمَا فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ رُؤْيَتَهُ عَلَى صُورَتِهِ الْمُعْتَادَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْجُبُ الزَّائِدَ عَنِ الْأَبْصَارِ أَوْ يَدْمُجُ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ، كَمَا قِيلَ بِالْأَمْرَيْنِ فِي رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ، وَخِلْقَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ إِنَّ جَنَاحَيْنِ مِنْ أَجْنِحَتِهِ يَسُدَّانِ الْأُفُقَ.
وَهَا أَنَا أَذْكُرُ بَعْضَ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْعَلَّامَةُ علاء الدين القونوي فِي تَأْلِيفٍ لَهُ يُسَمَّى الْإِعْلَامَ، مَا نَصُّهُ: وَفِي الْمُمْكِنِ أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ عِبَادِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ بِخَاصِّيَّةٍ لِنَفْسِهِ الْمَلَكِيَّةِ الْقُدُسِيَّةِ، وَقُوَّةٍ لَهَا يَقْدِرُ بِهَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَدَنٍ آخَرَ غَيْرَ بَدَنِهَا الْمَعْهُودِ مَعَ اسْتِمْرَارِ تَصَرُّفِهَا فِي الْأَوَّلِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْأَبْدَالِ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا أَبْدَالًا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَرْحَلُونَ إِلَى مَكَانٍ وَيُقِيمُونَ فِي مَكَانِهِمُ الْأَوَّلِ شَبَحًا آخَرَ شَبِيهًا بِشَبَحِهِمُ الْأَصْلِيِّ بَدَلًا عَنْهُ، وَإِذَا جَازَ فِي الْجِنِّ أَنْ يَتَشَكَّلُوا فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَقَدْ أَثْبَتَ الصُّوفِيَّةُ عَالَمًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ عَالَمِ الْأَجْسَادِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ سَمَّوْهُ عَالَمَ الْمِثَالِ، وَقَالُوا: هُوَ أَلْطَفُ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ وَأَكْثَفُ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ تَجَسُّدَ الْأَرْوَاحِ وَظُهُورَهَا فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ عَالَمِ الْمِثَالِ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] ، فَتَكُونُ الرُّوحُ الْوَاحِدَةُ كَرُوحِ جِبْرِيلَ مَثَلًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُدَبِّرَةً لِشَبَحِهِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا الشَّبَحِ الْمِثَالِيِّ، وَيَنْحَلُّ بِهَذَا مَا قَدِ اشْتَهَرَ نَقْلُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ الْأَكَابِرِ عَنْ جِسْمِ جِبْرِيلَ عليه السلام، فَقَالَ: أَيْنَ كَانَ يَذْهَبُ جِسْمُهُ الْأَوَّلُ الَّذِي سَدَّ الْأُفُقَ بِأَجْنِحَتِهِ لَمَّا تَرَاءَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ عِنْدَ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ؟ وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُهُمُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ يَنْدَمِجُ
بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ إِلَى أَنْ يَصْغُرَ حَجْمُهُ، فَيَصِيرَ بِقَدْرِ صُورَةِ دِحْيَةَ، ثُمَّ يَعُودَ يَنْبَسِطُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ كَهَيْئَتِهِ الْأُولَى، وَمَا ذَكَرَهُ الصُّوفِيَّةُ أَحْسَنُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جِسْمُهُ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ لَهُ شَبَحًا آخَرَ، وَرُوحُهُ تَتَصَرَّفُ فِيهِمَا جَمِيعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى لَهُمْ وَقَلْبُ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَأَنْ يُقَدِّرَهُمُ اللَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَوَارِقِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِالتَّصَرُّفِ فِي بِدَنَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ وَتَنْحَلُّ بِهِ إِشْكَالَاتٌ غَيْرُ يَسِيرَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، كَيْفَ أُرِيَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عُرْضِ الْحَائِطِ حَتَّى تَقَدَّمَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ لِيَقْتَطِفَ مِنْهَا عُنْقُودًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ بِطَرِيقِ التَّمَثُّلِ، وَكَمَا يُحْكَى عَنْ قضيب البان الموصلي، وَكَانَ مِنَ الْأَبْدَالِ أَنَّهُ اتَّهَمَهُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَرَهُ يُصَلِّي بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَشَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَتَمَثَّلَ لَهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَالَ: فِي أَيِّ هَذِهِ الصُّوَرِ رَأَيْتَنِي مَا أُصَلِّي، وَلَهُمْ حِكَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْقَوَاعِدِ عِنْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ القونوي بِحُرُوفِهِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى فِي تَرْجَمَةِ أبي العباس الملثم: كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَمِنْ أَخَصِّ النَّاسِ بِصُحْبَتِهِ تِلْمِيذُهُ الشَّيْخُ الصالح عبد الغفار بن نوح، صَاحِبُ كِتَابِ الْوَحِيدِ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَقَدْ حَكَى فِي كِتَابِهِ كَثِيرًا مِنْ كَرَامَاتِهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَاشْتَغَلْنَا بِالْحَدِيثِ وَكَانَ حَدِيثُهُ يَلَذُّ لِلْمَسَامِعِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْحَدِيثِ وَالْغُلَامُ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: إِلَى أَيْنَ يَا مُبَارَكُ؟ فَقَالَ: إِلَى الْجَامِعِ، فَقَالَ: وَحَيَاتِي صَلَّيْتُ، فَخَرَجَ الْغُلَامُ وَجَاءَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الْجَامِعِ، قَالَ عبد الغفار: فَخَرَجْتُ فَسَأَلْتُ النَّاسَ، فَقَالُوا: كَانَ الشيخ أبو العباس فِي الْجَامِعِ وَالنَّاسُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: أَنَا أُعْطِيتُ التَّبَدُّلَ، قَالَ ابن السبكي: وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: صَلَّيْتُ، مِنْ صِفَاتِ الْبَدَلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي مَكَانٍ وَشَبَحُهُمْ فِي مَكَانٍ آخَرَ، قَالَ: وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ الْكَشْفَ الصُّورِيَّ الَّذِي تَرْتَفِعُ فِيهِ الْجُدْرَانُ وَيَبْقَى الِاسْتِطْرَاقُ، فَيُصَلِّي كَيْفَ كَانَ وَلَا يَحْجُبُهُ الِاسْتِطْرَاقُ. انْتَهَى.
وَقَالَ صفي الدين بن أبي المنصور فِي رِسَالَتِهِ: جَرَتْ لِلشَّيْخِ مفرج بِبَلَدِهِ قَضِيَّةٌ مَعَ أَصْحَابِهِ، قَالَ شَخْصٌ مِنْهُمْ كَانَ قَدْ حَجَّ لِآخَرَ: رَأَيْتُ مفرجا بِعَرَفَةَ، فَنَازَعَهُ الْآخَرُ بِأَنَّ الشَّيْخَ مَا فَارَقَ دَمَامِينَ وَلَا رَاحَ لِغَيْرِهَا، وَحَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالطَّلَاقِ الَّذِي
كَانَ قَدْ حَجَّ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مِنْ زَوْجَتِهِ أَنَّهُ رَآهُ بِعَرَفَةَ، وَحَلَفَ الْآخَرُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْ دَمَامِينَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، فَاخْتَصَمَا إِلَيْهِ، وَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينَهُ، فَأَقَرَّهُمَا عَلَى حَالِهِمَا، وَأَبْقَى كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى زَوْجَتِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ حُكْمِهِ فِيهِمَا، وَصِدْقُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ حِنْثَ الْآخَرِ، وَكَانَ حَاضِرًا مَعَنَا رِجَالٌ مُعْتَبَرُونَ، قَالَ الشَّيْخُ لَنَا: قُولُوا أُذِنَّا مِنْهُ بِأَنْ نَتَحَدَّثَ فِي سِرِّ هَذَا الْحُكْمِ، فَتَحَدَّثَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِوَجْهٍ لَا يَكْفِي، وَكَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدِ اتَّضَحَتْ لِي، فَأَشَارَ إِلَيَّ بِالْإِيضَاحِ، فَقُلْتُ: الْوَلِيُّ إِذَا تَحَقَّقَ فِي وِلَايَتِهِ، مُكِّنَ مِنَ التَّصَوُّرِ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ، وَتَظْهَرُ عَلَى رُوحَانِيَّتِهِ فِي حِينٍ وَاحِدٍ، فِي جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَإِنَّهُ يُعْطِي التَّطَوُّرَ فِي الْأَطْوَارِ، وَالتَّلَبُّسَ فِي الصُّوَرِ عَلَى حُكْمِ إِرَادَتِهِ، فَالصُّورَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ لِمَنْ رَآهَا بِعَرَفَةَ حَقٌّ، وَصُورَتُهُ الَّتِي رَآهَا الْآخَرُ لَمْ تُفَارِقْ دَمَامِينَ حَقٌّ، وَصَدَقَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي يَمِينِهِ، فَقَالَ الشَّيْخُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى.
وَقَدْ سَاقَ ذَلِكَ اليافعي فِي كِفَايَةِ الْمُعْتَقِدِ، وَقَالَ فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا مُشْكِلٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْفَقِيهُ ذَلِكَ، وَلَا يُسَوَّغُ فِي عَقْلِهِ أَبَدًا، وَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ عِنْدَهُ بِعَدَمِ حِنْثِ الِاثْنَيْنِ أَبَدًا؛ إِذْ وُجُودُ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ.
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ صفي الدين الْمَذْكُورُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُحَالًا؛ لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ تَعَدُّدِ الصُّوَرِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ الْمُحَالُ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: الْإِشْكَالُ بَاقٍ فِي تَعَدُّدِ الصُّوَرِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ وَشُوهِدَ، وَلَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ، وَإِنْ تَحَيَّرَ فِيهِ الْعَقْلُ، مِنْ ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الْكَعْبَةَ الْمُعَظَّمَةَ شُوهِدَتْ تَطُوفُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي أَوْقَاتٍ فِي غَيْرِ مَكَانِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا فِي مَكَانِهَا، لَمْ تُفَارِقْهُ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ قضيب البان، وَرُوِّينَا عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ أَنَّهُ قَالَ: مَا الشَّأْنُ فِي الطَّيَرَانِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ يَشْتَاقُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى زِيَارَةِ الْآخَرِ، فَيَجْتَمِعَانِ وَيَتَحَدَّثَانِ، وَيَعُودُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى مَكَانِهِ، وَالنَّاسُ يُشَاهِدُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَكَانِهِ لَمْ يَبْرَحْ عَنْهُ.
وَقَالَ اليافعي أَيْضًا فِي رَوْضِ الرَّيَاحِينِ: ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَجَّ رَجُلٌ سَنَةً، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لِأَخٍ لَهُ: رَأَيْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: نَحْنُ كُنَّا عِنْدَهُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فِي رِبَاطِهِ بِبَابِ تُسْتَرَ، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَوْقِفِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: قُمْ بِنَا حَتَّى نَسْأَلَهُ، فَقَامَا وَدَخَلَا عَلَيْهِ، وَذَكَرَا لَهُ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا، وَسَأَلَاهُ عَنْ حُكْمِ الْيَمِينِ، فَقَالَ سهل: مَا لَكُمْ بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ اشْتَغِلُوا بِاللَّهِ، وَقَالَ لِلْحَالِفِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَلَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا، انْتَهَى.
وَقَالَ الشيخ خليل المالكي - صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ الْمَشْهُورِ - فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي مَنَاقِبِ شَيْخِهِ - الشيخ عبد الله المنوفي - مَا نَصُّهُ: الْبَابُ السَّادِسُ فِي طَيِّ الْأَرْضِ لَهُ، مَعَ عَدَمِ تَحَرُّكِهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ مِنَ الْحِجَازِ، وَسَأَلَ عَنِ الشَّيْخِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: الشَّيْخُ لَمْ يَزُلْ مِنْ مَكَانِهِ، فَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، فَطَلَعَ الشَّيْخُ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، وَذَكَرَ وَقَائِعَ أُخْرَى وَقَعَتْ لَهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُمْكِنُ وُجُودُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِمَكَانَيْنِ، قُلْتُ: الْوَلِيُّ إِذَا تَحَقَّقَ فِي وِلَايَتِهِ تَمَكَّنَ مِنَ التَّصَوُّرِ فِي رُوحَانِيَّتِهِ، وَيُعْطَى مِنَ الْقُدْرَةِ التَّصْوِيرَ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَدِّدَ هُوَ الصُّورَةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، كَمَا حَكَى عَنْ قضيب البان، أَنْكَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَ ذَلِكَ الْفَقِيهُ بِهِ، فَصَلَّى بِحَضْرَتِهِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ صُوَرٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَيُّ صُورَةٍ لَمْ تُصَلِّ مَعَكُمْ؟ فَقَبَّلَ يَدَ الشَّيْخِ وَتَابَ.
وَكَمَا حُكِيَ عَنِ الشيخ أبي عباس المرسي أَنَّهُ طَلَبَهُ إِنْسَانٌ لِأَمْرٍ عِنْدَهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَنْعَمَ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ لَهُ أَرْبَعَةٌ، كُلٌّ مِنْهُمْ طَلَبَ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْعَمَ لِلْجَمِيعِ، ثُمَّ صَلَّى الشَّيْخُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ يَذْهَبْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِذَا بِكُلٍّ مِنَ الْخَمْسَةِ جَاءَ يَشْكُرُ الشَّيْخَ عَلَى حُضُورِهِ عِنْدَهُ، وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ أَنَّ الْكَعْبَةَ رُئِيَتْ تَطُوفُ بِبَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ - هَذَا كَلَامُ الشيخ خليل وَنَاهِيكَ بِهِ إِمَامَةً وَجَلَالَةً، وَرَأَيْتُ فِي مَنَاقِبِ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله لِبَعْضِ تَلَامِيذِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ جَمَاعَةِ الشَّيْخِ حَجَّ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الشَّيْخَ فِي الْمَطَافِ، وَخَلْفَ الْمَقَامِ، وَفِي الْمَسْعَى، وَفِي عَرَفَةَ، فَلَمَّا رَجَعْتُ سَأَلْتُ عَنِ الشَّيْخِ، فَقِيلَ: هُوَ طَيِّبٌ، فَقُلْتُ: هَلْ سَافَرَ أَوْ خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ؟ فَقِيلَ: لَا، فَجِئْتُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَنْ رَأَيْتَ فِي سَفْرَتِكَ هَذِهِ مِنَ الرِّجَالِ؟ قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، رَأَيْتُكَ، فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: الرَّجُلُ الْكَبِيرُ يَمْلَأُ الْكَوْنَ، لَوْ دَعَا الْقُطْبَ مِنْ حَجَرٍ لَأَجَابَ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْوَحِيدِ: الْخَصَائِصُ الْإِلَهِيَّةُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهَا، فَهَذَا عِزْرَائِيلُ يَقْبِضُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنَ الْخَلَائِقِ فِي جَمِيعِ الْعَوَالِمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ بِصُوَرِ أَعْمَالِهِمْ فِي مَرَائِيَ شَتَّى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَشْهَدُهُ، وَيُبْصِرُهُ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَقَالَ الشيخ سراج الدين بن الملقن، وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ فِي طَبَقَاتِ الْأَوْلِيَاءِ: الشَّيْخُ قضيب البان الموصلي ذُو الْأَحْوَالِ الْبَاهِرَةِ، وَالْكَرَامَاتِ الْمُتَكَاثِرَةِ، سَكَنَ الْمَوْصِلَ وَاسْتَوْطَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ سَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الكمال بن يونس، فَوَقَعَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ لِمَنْ عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَبُهِتُوا، وَقَالَ: يَا ابن يونس، أَنْتَ تَعْلَمُ
كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَيْنَ كُنْتُ أَنَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ؟ فَلَمْ يَدْرِ ابن يونس مَا يَقُولُ، وَسُئِلَ عَنْهُ الشَّيْخُ عبد القادر الكيلاني، فَقَالَ: هُوَ وَلِيٌّ مُقَرَّبٌ ذُو حَالٍ مَعَ اللَّهِ، وَقَدَمِ صِدْقٍ عِنْدَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مَا نَرَاهُ يُصَلِّي، فَقَالَ: إِنَّهُ يُصَلِّي مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُ، وَإِنِّي أَرَاهُ إِذَا صَلَّى بِالْمَوْصِلِ، أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ آفَاقِ الْأَرْضِ يَسْجُدُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ أبو الحسن القرشي: رَأَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ بِالْمَوْصِلِ قَدْ مَلَأَهُ وَنَمَا جَسَدُهُ نَمَاءً خَارِقًا لِلْعَادَةِ، فَخَرَجْتُ وَقَدْ هَالَنِي مَنْظَرُهُ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، وَقَدْ تَصَاغَرَ حَتَّى صَارَ قَدْرَ الْعُصْفُورِ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ كَحَالَتِهِ الْمُعْتَادَةِ، انْتَهَى.
وَفِي الطَّبَقَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ برهان الدين الأبتاسي فِي كِتَابِ تَلْخِيصِ الْكَوْكَبِ الْمُنِيرِ فِي مَنَاقِبِ الشيخ أبي العباس البصير: مِنْ كَرَامَاتِهِ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ اجْتَمَعَ بِالشَّيْخِ أبي الحجاج الأقصري، فَجَلَسَا فِي الْحَرَمِ يَتَذَاكَرَانِ أَحْوَالَ الْقَوْمِ، فَقَالَ أبو الحجاج: هَلْ لَكَ فِي طَوَافِ أُسْبُوعٍ؟ فَقَالَ أبو العباس: إِنْ لِلَّهِ رِجَالًا يَطُوفُ بَيْتُهُ بِهِمْ، فَنَظَرَ أبو الحجاج، وَإِذَا بِالْكَعْبَةِ طَائِفَةٌ بِهِمَا، قَالَ الأبتاسي: وَلَا يُنْكَرُ ذَلِكَ، فَقَدْ تَضَافَرَتْ أَخْبَارُ الصَّالِحِينَ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ.
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ شمس الدين ابن القيم فِي كِتَابِ الرُّوحِ: لِلرُّوحِ شَأْنٌ آخَرُ غَيْرُ شَأْنِ الْبَدَنِ، فَتَكُونُ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِبَدَنِ الْمَيِّتِ، بِحَيْثُ إِذَا سَلَّمَ عَلَى صَاحِبِهَا رَدَّ السَّلَامِ، وَهِيَ فِي مَكَانِهَا هُنَاكَ، وَهَذَا جِبْرِيلُ رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، مِنْهَا جَنَاحَانِ سَدَّا الْأُفُقَ، وَكَانَ يَدْنُو مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقُلُوبُ الْمُخْلِصِينَ تَتَّسِعُ لِلْإِيمَانِ بِأَنَّ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنَّهُ كَانَ يَدْنُو هَذَا الدُّنُوَّ وَهُوَ فِي مُسْتَقَرِّهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْوَحِيدِ: مِنَ الْقَوْمِ مَنْ كَانَ يُخَلِّي جَسَدَهُ وَيَصِيرُ كَالْفَخَّارَةِ الَّتِي لَا رُوحَ فِيهَا، كَمَا أَخْبَرَنِي عيسى بن المظفر، عَنِ الشَّيْخِ شمس الدين الأصبهاني - وَكَانَ عَالِمًا وَمُدَرِّسًا وَحَاكِمًا بِقُوصَ - أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُخَلِّي جَسَدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى حَالِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. قُلْتُ: الأصبهاني الْمَذْكُورُ هُوَ الْعَلَّامَةُ شمس الدين الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَانِيفِ فِي الْأَصْلَيْنِ، نَقَلَ ابن السبكي فِي طَبَقَاتِهِ عَنِ الشَّيْخِ تاج الدين الفركاح أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ مِثْلُهُ، وَقَالَ ابن السبكي أَيْضًا فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى: الْكَرَامَاتُ أَنْوَاعٌ - إِلَى أَنْ قَالَ: الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ التَّطَوُّرُ بِأَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الصُّوفِيَّةُ بِعَالَمِ الْمِثَالِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ تَجَسُّدَ الْأَرْوَاحِ، وَظُهُورَهَا فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ عَالَمِ الْمِثَالِ، وَاسْتَأْنَسُوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا} [مريم: 17]