الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُرَادَ بِالذُّنُوبِ تَرْكُ الطَّاعَاتِ، وَبِالسَّيِّئَاتِ فِعْلُ الْمَعَاصِي.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُتَرَادِفَيْنِ كَقَوْلِهِ:
وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا.
[سُورَةُ النِّسَاءِ]
مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: {ضِعَافًا} [النساء: 9] مَعَ أَنَّ ذُرِّيَّةً يُغْنِي عَنْهُ، فَإِنَّ الذُّرِّيَّةَ هُمُ الصِّغَارُ؟
الْجَوَابُ: أَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّفْسِيرُ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَسَّرَ الذُّرِّيَّةَ فِي الْآيَةِ بِالْأَوْلَادِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا وَفَسَّرَ قَوْلَهُ {ضِعَافًا} [النساء: 9] أَيْ: صِغَارًا فَعُلِمَ أَنَّ الذُّرِّيَّةَ شَامِلٌ لِلْأَوْلَادِ مُطْلَقًا كَيْفَ كَانُوا، وَتَخْصِيصُهُمْ فِي الْآيَةِ بِالصِّغَارِ مِنَ الْوَصْفِ أَعْنِي صِغَارًا، وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: الذُّرِّيَّةُ أَصْلُهَا الصِّغَارُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَعًا فِي التَّعَارُفِ، هَذَا لَفْظُهُ، وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِإِطْلَاقِ الذُّرِّيَّةِ عَلَى الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] وَقَوْلِهِ: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ أَيْضًا، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ - ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 33 - 34] وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الذُّرِّيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَعَلَى الْآبَاءِ أَيْضًا، قَالَ صَاحِبُ نَظْمِ الْقُرْآنِ: الذُّرِّيَّةُ تُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَلِلْأَصْلِ وَالنَّسْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] أَيْ آبَاءَهُمْ، وَقَالَ الزملكاني فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ: الذُّرِّيَّةُ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْأَوْلَادِ تُطْلَقُ عَلَى الْآبَاءِ ; لِأَنَّ الْأَبَ ذُرِئَ مِنَ الْوَلَدِ أَيْ خُلِقَ، فَكَانَ ذُرِّيَّةً لِوَلَدِهِ، كَمَا أَنَّ الْوَلَدَ ذَرِيءٌ مِنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَمِنِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْآبَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] أَيْ آبَاءَهُمْ قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] جَعَلَ آدَمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ ذُرِّيَّةً لِلْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى.
مَسْأَلَةٌ: مَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ اسْتِنَادًا لِمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِيهِ بِالْحُرْمَةِ كَآيَةِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ هَلِ الْحُرْمَةُ فِيهِ لِعَيْنِهِ أَمْ لِمَعْنًى آخَرَ؟ حَكَوْا فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَحِينَئِذٍ فَالْقَائِلُ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُعَيَّنٌ هَلْ يَقُولُ: إِنَّ حَدَّ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِهِ؛ قَيْدُ الْأَفْعَالِ فِيهِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ مُعْتَبَرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِخْرَاجِ مَا احْتَرَزُوا عَنْهُ بِهِ مِمَّا لَا يُسَمَّى حُكْمًا، وَحِينَئِذٍ فَكَيْفَ مُعَلَّقُ الْحُكْمِ بِالْعَيْنِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ ذَهَبَ.
الْجَوَابُ: الْخِلَافُ فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ هَلْ هُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ شَهِيرٌ حَكَاهُ خَلَائِقُ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي التَّقْرِيبِ، وَحَكَاهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ السبكي، وَزَيَّفَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ جِدًّا حَتَّى قَالَ: إِنَّهُ قَالَ بِهِ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ، وَحَكَاهُ وَلَدُهُ الشَّيْخُ تاج الدين وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ أَصْلُنَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ - هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَذَكَرَ وَالِدُهُ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي فُرُوعٍ فِقْهِيَّةٍ، مِنْهَا مَا لَوْ كَانَ بِيَدِ شَخْصٍ مَالٌ مَغْصُوبٌ فَأَعْطَاهُ لِآخَرَ، وَهُمَا جَاهِلَانِ بِالْغَصْبِ ظَانَّانِ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَإِنْ قُلْنَا: التَّحْرِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ؛ لَمْ يُوصَفْ هَذَا الْمَالُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَإِنْ قُلْنَا مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ وُصِفَ بِهِ، وَمِنْهَا قَتْلُ الْخَطَأِ يُوصَفُ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى قَوْلِ الْأَعْيَانِ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَذَكَرَ وَلَدُهُ الشَّيْخُ تاج الدين لَهُ فَوَائِدَ أُصُولِيَّةً مِنْهَا أَنَّ نَحْوَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] لَا إِجْمَالَ فِيهِ قَطْعًا عَلَى قَوْلِ الْأَعْيَانِ وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ عَلَى قَوْلِ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا حَدُّ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ مَاشٍ عَلَى الْقَوْلِ الصَّوَابِ دُونَ الْقَوْلِ الْمُزَيَّفِ، وَمَنْ يَقُولُ بِالْمُزَيَّفِ يَحْتَاجُ فِي الْحَدِّ إِلَى عِبَارَةٍ تُنَاسِبُ مَذْهَبَهُ، هَذَا آخِرُ الْجَوَابِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ السَّائِلِ: هَلِ الْحُرْمَةُ فِيهِ لِعَيْنِهِ أَمْ لِمَعْنًى آخَرَ؛ عِبَارَةٌ مُلْبِسَةٌ، فَإِنَّ لَنَا مَسْأَلَتَيْنِ: مَسْأَلَةُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْأَفْعَالِ، أَوْ بِالْأَعْيَانِ، وَهَذِهِ مُطَّرِدَةٌ فِي كُلِّ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، وَمَسْأَلَةُ إِذَا قُلْنَا: تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، فَفِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَجْرِي فِيهَا خِلَافٌ هَلِ التَّحْرِيمُ لِلْعَيْنِ أَوِ الذَّاتِ أَوْ لِمَعْنًى خَارِجٍ كَمَا قِيلَ فِي اسْتِعْمَالِ أَوَانِي النَّقْدَيْنِ، وَهَذِهِ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ فِي كُلِّ تَحْرِيمٍ، فَأَوَّلُ السُّؤَالِ يُوهِمُ أَنَّهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَآخِرُهُ يُوهِمُ أَنَّهُ عَنِ الْأُولَى.