الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ذِكْرُ مَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنْ ذَلِكَ فِي خُطْبَةِ كِتَابِ عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ]
قَالَ: تَشْتَمِلُ عَلَى جِنَاسِ الْقَلْبِ، فَتَسْكُنُ بِمَدِّ النَّصْرِ لَهَبًا يَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، إِذَا الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، وَاشْتَدَّ كَرْبُ ذَلِكَ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَرَدُوا مَنَاهِلَ هَذَا الْعِلْمِ، فَصَدَرُوا عَنْهَا بِمِلْءِ سِجِلِّهِمْ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ أَجَلَبُوا عَلَيْهِ بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَوْلَى لَهُ فَأَوْلَى أَنْ يُعْطَى الْقَوْسَ بَارِيهَا، كَأَنَّمَا ضُرِبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِسُورٍ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَقِيلَ: ارْجِعْ وَرَاءَكَ فَالْتَمِسْ نُورًا، إِنَّمَا أَنْتَ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدٍ، وَلَوْ أُوتِيَ رُشْدَهُ لَأَنِفَ أَنْ يَسْخَرَ مِنْهُ السَّاخِرُ، وَاغْتَرَفَ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ الزَّاخِرِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ الَّذِي يَلْتَقِطُ مِنْهُ جَوَاهِرَ الْمَفَاخِرِ، وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ بِشِرَاعِ الْعِلْمِ مَوَاخِرَ.
[ذِكْرُ مَا اسْتَعْمَلَهُ الْعَلَّامَةُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ الْوَرْدِيِّ فِي مَقَامَتِهِ الْحُرْقَةِ لِلْخِرْقَةِ]
مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أُسْقِطَ فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ تِسْعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الشُّهُودِ، فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مَنْ يَذُمُّ هَذَا لِلْبِرَازِ الْجَرْيَ عَلَى تَخْرِيقِ الْخِرْقَةِ - إِلَى أَنْ قَالَ: سَطْوَةً وَعُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ، وَعُلُوًّا وَخَوْفًا عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، بَلْ مَكْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالُوا: كَبُرَتْ كَلِمَةٌ وَاسْتَحَلُّوا نَسَبَهُ وَشَتْمَهُ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي أَدْيَانِهِمْ - إِلَى أَنْ قَالَ: لَقَدْ بَالَغَ فِي الْخَتْلِ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ - إِلَى أَنْ قَالَ: مَا أَوْلَى أَحْكَامِهِ بِالِانْتِقَاضِ، وَمَا أَحَقَّهُ بِقَوْلِ السَّحَرَةِ لِفِرْعَوْنَ:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]، وَلَوْلَا الْعَافِيَةُ لَتَوَهَّمْتُ أَنَّ (مَا) هَاهُنَا نَافِيةٌ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَكَمْ صَاحِبَ مَكْتُوبٍ يَبْكِي عَلَى حَالِهِ؟ كَأَنَّمَا أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَذَهَبَ حُبُّ الذَّهَبِ دُهْنَ ذِهْنِهِ وَأَفْنَى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6]- إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَا قُوَّةَ لَنَا مِنْ خَمْرَتِهِ وَلَا حَوْلَ، لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ - إِلَى أَنْ قَالَ: سَكِرَ بِخَمْرِ الْوِلَايَةِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَةً - إِلَى أَنْ قَالَ شِعْرًا:
جَرَحْتَ الْأَبْرِيَاءَ وَأَنْتَ قَاضٍ
…
عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالْأَغْرَاضِ ضَارِي
أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ
…
وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ
- إِلَى أَنْ قَالَ: لَقَدْ غَاظَنِي عَامِّيٌّ يَعْلُو بِنَفْسِهِ، وَالْعَامَّةُ عَمًى، أَفَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ - إِلَى أَنْ قَالَ: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَاحْسِمُوا مَادَّةَ هَذَا الْكَذَّابِ الْمُبِيرِ، {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] .
وَقَالَ ابن الوردي أَيْضًا فِي مَقَامَةِ الطَّاعُونِ: وَقَهَرَ خَلَفًا بِالْقَاهِرَةِ، وَتَنَبَّهَتْ عَيْنُهُ لِمِصْرَ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي مَنْطِقِ الطَّيْرِ فِي الْبَازِ: وَحَنَّتِ الْجَوَارِحُ إِلَيَّ، وَبَعَثَ إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ مِنْ عَيْنِي - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْحَمَامَةِ: حَمَلَتِ الْأَمَانَةَ الَّتِي أَبَتِ الْجِبَالُ عَنْ حَمْلِهَا، وَامْتَثَلَتْ مَرْسُومَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
فَمَهْمَا حَدَثَ عَلَى الْبُعْدِ مِنْ أَخْصَامِكَ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْبَنَفْسَجِ: فَأَنَا فِي الْحَالَيْنِ مُسْتَطَابٌ، وَلَا رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ إِلَّا فِي كِتَابٍ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْبُومِ: أَلَمْ تَرَ مَا بِالْحَيَوَانِ يَفْعَلُونَ؟ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، أَتَدْرِي مَنْ يَرْزُقُ الْبُومَ؟ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فَلَا تَغْتَرَّ بِمَا إِدْرَاكُهُ فَوْتٌ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْمَنْثُورِ: وَفِي اخْتِلَافِ صِبْغَتِي، وَاتِّحَادِ طِينَتِي دَلِيلٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ جِبِلَّتِي، الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ مُضْغَةٍ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الرَّيْحَانِ: اعْتَدَلَ لَوْنِي، وَلَطُفَ كَوْنِي، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِذْ كَانَ النَّمَّامُ مِنْ جِنْسِي، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ لِلتَّوْبَةِ مُنْتَهِيًا، وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْخُفَّاشِ: وَبِاللَّيْلِ أَكْشِفُ الْغِطَا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هُوَ أَشَدُّ وَطْأً - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الدِّيكِ: أَنَا قَدْ أَذَّنْتُ فَأَقَمْتُ الصَّلَاةَ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ، أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا تَعْصُوهُ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ كَمْ مَنَحْتُ أَهْلَ الدَّارِ إِخَائِي وَوَلَائِي، وَهُمْ يَذْبَحُونَ أَبْنَائِي وَيَسْتَحْيُونَ نِسَائِي - إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَزَّقُوا قَبَاءَهُ الْمُلَوَّنَ، فَاصْبِرْ وَاحْتَسِبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْخُزَامَى: وَاهِينَ بِالدَّوْسِ وَاللَّمْسِ، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْبَطِّ: فَمَا هُوَ بِمَاشٍ عَلَى الْمَاءِ إِلَيْهِ، وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي النَّمْلِ: أَتَدْرِي مَنْ أَعْطَى النَّمْلَ هَذِي الْقُوَى؟ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى - إِلَى أَنْ قَالَ: فَانْتَفَخَ الشَّقِيقُ فِي عُرُوقِهِ، فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَسِرْتُ سِرَّ سَيْرٍ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ، لَا تَكُنْ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بَطَنَ كُفْرُهُمْ،
وَظَهَرَ إِسْلَامُهُمْ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْفَرَاشُ فَلَا تَتَّبِعُ الْهَوَى، وَلَا تَكْذِبُ فِي الدَّعْوَى - إِلَى أَنْ قَالَ: فَتَلْقَى نَفْسُكَ فِيهَا غُرُورًا، وَتَحْسَبُ النَّارَ نُورًا، فَتَدْعُو ثُبُورًا وَتَصْلَى سَعِيرًا - إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ كُنْتُمْ مِنَ النَّسَكَةِ فَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، بَلَى مَنْ أَرَادَ الْفَخَارَ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ - إِلَى أَنْ قَالَ: نَحْنُ مِنَ الْمَوْتِ عَلَى يَقِينٍ قُلْ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَفِي كِتَابٍ مُنَزَّلٍ رَأَيْتُمُوهَا أَمْ عَنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ تَلَقَّيْتُمُوهَا؟ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا - إِلَى أَنْ قَالَ: تَحْسُدُنِي عَلَى سَوَادِ الثِّيَابِ، وَقَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ؟ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَوْ صَحَّتْ حَتَّى تَنْشَقَّ، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَهَوِّنِ الْأَشْيَاءَ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.
وَقَالَ ابن الوردي أَيْضًا فِي مُفْتَتَحِ كِتَابِ خَرِيدَةِ الْعَجَائِبِ، وَفَرِيدَةِ الْغَرَائِبِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ غَافِرِ الذَّنْبِ، قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، عَالِمِ الْغَيْبِ رَاحِمِ الشَّيْبِ مُنْزِلِ الْكِتَابِ - إِلَى أَنْ قَالَ: سَاطِحِ الْغَبْرَاءِ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ، فَيُمْسِكُهُ بِحِكْمَتِهِ عَنِ الِاضْطِرَابِ، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْمَآبِ.
وَقَالَ ابن الوردي أَيْضًا فِي مُفَاخَرَةِ السَّيْفِ وَالْقَلَمِ: فَقَالَ الْقَلَمُ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا - إِلَى أَنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الْخَافِضِ الرَّافِعِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ - إِلَى أَنْ قَالَ: الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِهِ، وَلَا سِيَّمَا حِينَ يُسَلُّ فَتَرَى وَدْقَ الدَّمِ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ، مَا هُوَ كَالْقَلَمِ الْمُشَبَّهِ بِقَوْمٍ عُرُّوا عَنْ لَبُوسِهِمْ، ثُمَّ نَكَسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَكَأَنَّ السَّيْفَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، أَوْ كَوْكَبٍ رَاشِقٍ - إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ الْقَلَمُ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ، يُفَاخِرُ وَهُوَ قَائِمٌ عَنِ الشِّمَالِ الْجَالِسَ عَنِ الْيَمِينِ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَنْتَ لِلرَّهْبِ وَأَنَا لِلرُّغْبِ.
وَإِذَا كَانَ بَصَرُكَ حَدِيدًا فَبَصَرِي مَا ذَهَبَ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَطَالَمَا أَمَرَّتْ بَعْضَ فِرَاخِي وَهِيَ السِّكِّينُ، فَأَصْبَحَتْ مِنَ النَّفَّاثَاتِ فِي عُقَدِكَ يَا مِسْكِينُ - إِلَى أَنْ قَالَ: تَفْصِلُ مَا لَا يُفْصَلُ، وَتَقْطَعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، لَا جَرَمَ سَمْرُ السَّيْفِ وَصَقْلُ قَفَاهُ، وَسُقِيَ مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاهُ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَنَا مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَالْقَلَمُ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَتَلَا ذُو الْقَلَمِ لِقَلَمِهِ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَتَلَا صَاحِبُ السَّيْفِ لِسَيْفِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، فَتَلَا ذُو الْقَلَمِ لِقَلَمِهِ: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، قَالَ الْقَلَمُ: أَمَا وَكِتَابِي الْمَسْطُورِ وَبَيْتِي الْمَعْمُورِ - إِلَى أَنْ قَالَ: مَعَ أَنِّي مَا أَلَوْتُكَ نُصْحًا أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِ الشِّفَا: وَكَذَّبَ بِهِ وَصَدَفَ عَنْ آيَاتِهِ مَنْ كَتَبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاءَ حَتْمًا، وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى، وَقَالَ أَيْضًا: حَمَّلْتَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا إِمْرًا، وَأَرْهَقْتَنِي فِيمَا نَدَبْتَنِي إِلَيْهِ عُسْرًا.
وَقَالَ الخطيب ابن نباتة الْقَدِيمُ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: فَيَا أَيُّهَا الْغَفَلَةُ الْمُطْرِقُونَ، أَمَا أَنْتُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُصَدِّقُونَ، مَا لَكُمْ لَا تُشْفِقُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ.
وَقَالَ عبد المؤمن الأصفهاني - صَاحِبُ أَطْبَاقِ الذَّهَبِ فِي الْوَعْظِ -: فَمَنْ عَايَنَ تَلَوُّنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا يَغْتَرُّ بِدَهْرِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الثَّرَى مَضْجَعُهُ لَا يَمْرَحُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَا قَوْمُ لَا تَرْكُضُوا خَيْلَ الْخُيَلَاءِ فِي مَيْدَانِ الْعَرْضِ، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ.
وَقَالَ العماد الكاتب فِي كِتَابِ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَاسْتِخْلَاصِهَا مِنْ يَدِ الْفِرِنْجِ عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ صلاح الدين بن أيوب: وَالْفَرْقُ بَيْنَ فُتُوحِ الشَّامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَبَيْنَ فُتُوحِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَرْقٌ يَتَبَيَّنُ تَبَيُّنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَالشَّامُ الْآنَ قَدْ فُتِحَ حَيْثُ الْإِسْلَامُ قَدْ وَهَنَ الْعَظْمُ مِنْهُ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا، وَهُرِيقَ شَبَابُهُ وَقَدْ عَادَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، وَطَالَ الْأَمَدُ عَلَى الْقُلُوبِ فَقَسَتْ، وَرَانَتِ الْفِتَنُ عَلَى الْبَصَائِرِ فَطُمِسَتْ، وَعَرَضُ هَذَا الْأَدْنَى، قَدْ أَعْمَى وَأَصَمَّ حُبُّهُ، وَمَتَاعُ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَلِيلُ قَدْ شَغَلَ عَنِ الْحَظِّ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ كَسْبُهُ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَدَّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَكُلُّ مُعَادٍ مُعَادِي إِلَّا هَذَا الْمُعَادِيَ، وَكُلُّ مِدَادٍ يُكْتَبُ بِهِ أَسْوَدُ إِلَّا هَذَا الْمِدَادَ، أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَسَارُوا مُدَجَّجِينَ، وَسَرَوْا مُدْلِجِينَ، وَصَبَّحُوا صُفُورَتَهُ، وَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ ضِيَاءُ الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي رِسَالَةٍ: وَعِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ إِذَا حَلُّوا بِأَرْضٍ أَمِنَتْ وَسَكَنَتْ، وَأَخَذَتْ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ. وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: وَقَلَّمَا وَلِيَ امْرُؤٌ قَوْمًا فَشَكَرُوا أَثَرَ مَقَامِهِ، وَتَأَلَّمُوا لِفَقْدِ أَيَّامِهِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَقَالَ فِي تَقْلِيدِ حُسْنِهِ: فَابْدَأُوا أَوَّلًا بِالنَّظَرِ فِي الْعَقَائِدِ وَاهْدِ فِيهَا إِلَى سَبِيلِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الَّذِي هُوَ سَبِيلٌ وَاحِدٌ، وَتِلْكَ الْفِرْقَةُ هِيَ السَّلَفُ الصَّالِحُ الَّذِينَ لَزِمُوا مَوْطِنَ الْحَقِّ فَأَقَامُوا، وَقَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، وَمَنْ عَدَاهُمْ فَشُعَبٌ كَانُوا دِيَانًا، وَعَبَدُوا مِنَ الْأَهْوَاءِ أَوْثَانًا، وَاتَّبَعُوا مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا، وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَخُذْهُمْ بِآلَةِ التَّعْزِيرِ، الَّتِي هِيَ نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى - إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا التَّسْعِيرُ فَإِنَّهُ وَإِنْ آثَرَهُ الْقَاطِنُونَ، وَحَكَمَ بِهِ الْقَاسِطُونَ قِيلَ: إِنَّ
ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْفَقِيرِ فِي تَيْسِيرِ الْعَسِيرِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ نِدًّا لِلَّهِ فِي خَفْضِ مَا رَفَعَ، وَبَذْلِ مَا مَنَعَ، فَقِفْ أَنْتَ حَيْثُ أَوْقَفَكَ حُكْمُ الْحَقِّ، وَدَعْ مَا يَعِنُّ لَكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْخَلْقِ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ تَبِعَ الرَّأْيَ وَالنَّظَرَ، وَتَرَكَ الْآيَةَ وَالْخَبَرَ، فَحِكْمَةُ اللَّهِ مَطْوِيَّةٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَسْتَنْبِطُهُ ذُو الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ ذُو الْعَقْلِ بِعَقْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ تَشْفَعُ إِلَى الْخَلِيفَةِ: وَحَبَاهُ مِنْ عُمْرِ الزَّمَانِ بِعَقْدِ أَلْفٍ وَمِنْ خُلُقِهِ بِعَقِيدَةِ الْأُلْفِ، وَجَعَلَ عَقِبَهُ كَلِمَةً بَاقِيَةً إِذَا أَصْبَحَتِ الْأَعْقَابُ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ يَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ فِي رَجَائِهِ هَذَا مِنَ الْخَائِبِينَ، وَأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، وَلَيْسَ هُنَا إِلَّا عَفْوُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى سَفِيرٍ، وَفِيهِ يَصِحُّ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى عَنِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غَازِي إِلَى الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ: وَلَمَّا بَلَغَ الْخَادِمُ مَحْضَرَهُ قَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، وَعَدَّ يَوْمَهُ بِالدَّهْرِ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَيَّامِ يَوْمًا.
وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: فَعَبِقَتِ الْأَسْمَاعُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْأَرِيجِ، وَاهْتَزَّتْ لَهُ الْآمَالُ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٍ. وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: فَأَصْبَحَتْ يَدِي حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، وَأَصْبَحَ خَاطِرِي أَبَا جَهْلٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَبَا لَهَبٍ، وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: وَمَحَاهُمُ الْخَطْبُ وَلَمْ يَكُنِ الْخَطْبُ بِمُرِيبٍ، وَكَانَ مَوْعِدُهُمُ الصُّبْحَ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: فَظَنَّ فِي سَوْرَةِ قُوَّةِ الِاحْتِمَاءِ وَقَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، وَقَالَ فِي أُخْرَى: وَعِنْدَ ذَلِكَ عَمَدَ الْعَبْدُ إِلَى مَا أُمِيتَ بِهِ مِنْ عَدْلٍ فَجَعَلَهُ حِبَاءً مَنْشُورًا، وَقَدِمَ إِلَى مَا عَمِلَ بِهَا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا - إِلَى أَنْ قَالَ: تَبِعْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَابَدَ أَسْبَابًا مِنْهَا آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَيَرْجُو الْعَبْدُ أَنَّ تَكُونَ وِلَايَتُهُ هَذِهِ وِلَايَةَ بِرٍّ وَإِلْطَافٍ، وَأَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ النَّاسَ أَعْوَامًا سِمَانًا يَأْكُلْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِجَافِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَصَابَ اللَّهُ بِهِ قَوْمًا إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَامَهُ هُوَ الْعَامَ الَّذِي فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ، وَلَقَدْ وَجَدَ مِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَا يُقَالُ مَعَهُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى، فَمَا يُرِيهِ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا مَقَامًا، وَكَذَلِكَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا - إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلْ إِلَيْهِمْ حَسْبَمَا عَنَّ لَهُمْ مِنْ مَصَالِحِهِمْ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ تَذْكِيرًا - إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَهَّدَ لَهُمْ قَوَاعِدَ الْأَحْكَامِ
وَأَوْضَاعَهَا مِنْ نُصُوصِ الْآيَاتِ وَأَلْمَاعِهَا ; لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فَمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فَهُوَ فِي الدَّارَيْنِ حَمِيدٌ وَسَعِيدٌ، وَمَنْ لَمْ يَرْفَعْ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، وَأَطْفَأَ نِبْرَاسَهُ يَعِشْ ذَمِيمًا وَيَصْلَى سَعِيرًا.
وَقَالَ ابن المنير فِي الِانْتِصَافِ فِي مَسْأَلَةٍ رَدَّ فِيهَا عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ مَا نَصُّهُ: وَلَوْ نَظَرَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ إِلَى جَهَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَضَلَالِهَا لَانْبَعَثَ إِلَى حَدَائِقِ السُّنَّةِ وَظِلَالِهَا، وَلَتَزَحْزَحَ عَنْ مَزَالِقِ الْبِدْعَةِ وَمَزَالِّهَا، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ ; لِيَعْلَمَ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقَّ بِالْأَمْنِ وَالدُّخُولِ فِي الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابن دقيق العيد فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ الْإِلْمَامِ: وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لِي مِنْ وَصْلِ مَاضِيهِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَلَا مُوجِبًا لِأَنْ أَقْطَعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
وَقَالَ ابْنُ السَّاعَاتِيِّ -مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ- فِي شَرْحِ كِتَابِهِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ: فَكَانَتْ حَالَةً عَجَزَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ نَعْتِهَا، وَنَطَقَتْ بِهَا أَلْسُنٌ طَالَتْ مُدَّةُ صَمْتِهَا، وَمَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِنِعْمَةٍ إِلَّا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا.
وَقَالَ الشيخ جمال الدين الأسنوي فِي خُطَبِهِ الْمُهِمَّاتِ: وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُنْصِفُ هَذَا التَّصْنِيفَ، وَأَمْعَنَ النَّظَرَ فِي هَذَا التَّأْلِيفِ حَكَمَ أَنَّهُ لِنَظْمِ الْكِتَابَيْنِ كَالْقَوَافِي، وَأَنَّ هَذَا الثَّالِثَ هُوَ ثَالِثُ الْأَثَافِيِّ، وَرُبَّمَا تَأَمَّلَهُ بَعْضُ أَبْنَاءِ الْوَقْتِ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الْخِزْيُ وَالْمَقْتُ، وَاتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَشَيْطَانَهُ مَوْلَاهُ، وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَ الْحَسَدِ وَسِرْبَالَ الشَّقَاوَةِ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَنَظَرَ إِلَيْهِ بِطَرْفٍ خَفِيٍّ، وَصُمَّ عَنْ إِدْرَاكِ مَا فِيهِ وَعَمِيَ، كَمَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الْمَوْضُوعِ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمُسَمَّى بِالْجَوَاهِرِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا أَنْ أَشْفَعَ بِالثَّانِي الْأَوَّلَ، وَلَا قَاطِعًا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
فَصْلٌ: وَمِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اسْتِعْمَالًا لِذَلِكَ الصُّوفِيَّةُ، وَقَدْ يُسَمَّى ضَرْبَ مَثَلٍ، وَقَدْ يُسَمَّى إِشَارَةً، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَوْرِدِ، وَكُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ وَمُحَاوَرَاتُهُمْ وَمُخَاطَبَاتُهُمْ حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ بُرْهَةً لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُخَاطِبُ أَحَدًا إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي مُحَاوَرَاتِهِ: الجنيد، والسري، ومعروف الكرخي، والشبلي. حَضَرَ شَيْخٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ سَمَاعًا فَحَصَلَ لِبَعْضِ الْمُرِيدِينَ وَجْدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، فَسَكَنَ عَنِ الْقِيَامِ. وَدَخَلَ آخَرُ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُمْ سُكُوتٌ، فَقَالَ: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ. وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَاسْتَحْقَرَهُ
فِي عَيْنِهِ فَقَالَ سِرًّا: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] فَاطَّلَعَ الْوَلِيٌّ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ، اقْرَأْ مَا بَعْدَهَا.
وَفِي لَطَائِفِ الْمِنَنِ لِلشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله: قَالَ الجنيد: التَّصْدِيقُ بِعِلْمِنَا هَذَا وِلَايَةٌ، وَإِذَا فَاتَتْكَ الْمِنَّةُ فِي نَفْسِكَ فَلَا يَفُتْكَ أَنْ تُصَدِّقَ بِهَا فِي غَيْرِكَ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أبو الحسن الشاذلي فِي حِزْبِهِ الْمَشْهُورِ: نَسْأَلُكَ الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْخَطَرَاتِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ السَّاتِرَةِ لِلْقُلُوبِ عَنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ، فَقَدِ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا لِيَقُولَ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا.
وَقَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن عطاء الله فِي الْحِكَمِ: مَا أَرَادَتْ هِمَمُ سَالِكٍ أَنْ تَقِفَ عِنْدَمَا كَشَفَتْ لَهَا وَنَادَتْهَا هَوَاتِفُ الْحَقِيقَةِ الَّذِي تَطَلَّبَ أَمَامَكَ وَلَا تَبَرَّجَتْ ظَوَاهِرُ الْمَكْنُونَاتِ إِلَّا نَادَتْكَ بِهِ حَقَائِقُهَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، وَقَالَ: لَا تَرْحَلْ مِنْ كَوْنٍ إِلَى كَوْنٍ فَتَكُونَ كَحِمَارِ الرَّحَا يَسِيرُ وَالَّذِي ارْتَحَلَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي ارْتَحَلَ مِنْهُ، وَلَكِنِ ارْحَلْ مِنَ الْأَكْوَانِ إِلَى الْمُكَوِّنِ، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، وَقَالَ: لَا تُفْرِحْكَ الطَّاعَةُ ; لِأَنَّهَا بَرَزَتْ مِنْكَ، وَافْرَحْ بِهَا ; لِأَنَّهَا بَرَزَتْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْكَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، وَقَالَ: قَوْمٌ أَقَامَهُمُ الْحَقُّ لِخِدْمَتِهِ وَقَوْمٌ اخْتَصَّهُمْ بِمَحَبَّتِهِ كُلًّا نَمُدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا، وَقَالَ: رُبَّمَا أَفَادَكَ فِي لَيْلِ الْقَبْضِ مَا لَمْ تَسْتَفِدْهُ فِي إِشْرَاقِ نَهَارِ الْبَسْطِ، لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا.
وَقَالَ: الْحَقَائِقُ لَا تَرِدُ فِي حَالِ التَّجَلِّي مُجْمَلَةً وَبَعْدَ الْوَعْيِ يَكُونُ الْبَيَانُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، مَتَى وَرَدَتِ الْوَارِدَاتُ الْإِلَهِيَّةُ إِلَيْكَ هَدَتِ الْعَوَائِدَ عَلَيْكَ، إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا، وَقَالَ: الْوَارِدُ يَأْتِي مِنْ حَضْرَةِ قَهَّارٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يُصَادِمُهُ شَيْءٌ إِلَّا دَمَغَهُ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، وَقَالَ: بَلْ دَخَلُوا إِلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَإِلَى اللَّهِ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ; لِيَكُونَ نَظَرِي إِلَى حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ إِذَا أَدْخَلْتَنِي، وَاسْتِسْلَامِي وَانْقِيَادِي إِلَيْكَ إِذَا أَخْرَجْتَنِي، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا تَنْصُرُنِي وَتَنْصُرُ بِي.
وَقَالَ السِّلَفِيُّ فِي بَعْضِ أَحْزَابِهِ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ جَعْفَرَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ السَّرَّاجِ النَّحْوِيَّ بِبَغْدَادَ يَقُولُ: رَأَيْتُ عَلَى أبي الحسن القزويني الزَّاهِدِ ثَوْبًا رَفِيعًا لَيِّنًا فَخَطَرَ بِبَالِي كَيْفَ مِثْلُهُ فِي زُهْدِهِ يَلْبَسُ مِثْلَ هَذَا، فَقَالَ فِي الْحَالِ بَعْدَ أَنْ نَظَرَ إِلَيَّ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قَالَ: وَحَضَرْنَا عِنْدَهُ يَوْمًا لِقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ فَتَمَادَى بِنَا الْوَقْتُ إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَيْنَا
الشَّمْسُ وَتَأَذَّيْنَا بِحَرِّهَا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ تَحَوَّلَ الشَّيْخُ إِلَى الظِّلِّ، فَقَالَ وَاللَّهِ فِي الْحَالِ: قُلْ نَارُ جَهَنَّمُ أَشَدُّ حَرًّا.
فَصْلٌ: وَمِنْ مُصْطَلَحِ أَهْلِ فَنِّ الْبَلَاغَةِ أَنْ يُصَدِّرُوا إِنْشَاءَاتِهِمْ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ لِمَا هُمْ بِصَدَدِهِ وَيُورِدُوهَا بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيرٍ، بِقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ نَحْوِهِ لِتَكُونَ الْبَسْمَلَةُ مُلَاصِقَةً لِلْآيَةِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ، أَنْشَأَ الشهاب بن فضل الله صُورَةَ مُبَايَعَةٍ لِلْخَلِيفَةِ الحاكم بن المستكفي العباسي أَوْرَدَ صَدْرَهَا:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقُرِئَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَشَايِخِ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَكَانُوا جَمًّا غَفِيرًا وَعَدَدًا كَثِيرًا، فَمَا مِنْهُمْ مَنْ أَبْدَى لِذَلِكَ نَكِيرًا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
وَأَنْشَأَ الجمال اليعموري كِتَابَ بِشَارَةٍ بِخَلَاصِ دِمْيَاطَ مِنَ الْفِرِنْجِ بِحَضْرَةِ الشَّيْخِ عز الدين بن عبد السلام وَأَرْسَلَهُ إِلَى بَغْدَادَ لِحَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] .
وَأَنْشَأَ ابن الأثير كِتَابًا عَنْ زَعِيمِ الْمَوْصِلِ إِلَى صَدْرِ الدِّينِ شَيْخِ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ يُبَشِّرُهُ بِعَوْدِ مَمْلَكَتِهِ إِلَيْهِ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] وَأَنْشَأَ تَقْلِيدًا لِقَاضِي الْقُضَاةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]، وَأَنْشَأَ أَيْضًا رِسَالَةً فِي رَجُلٍ غَضِبَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ أَوْرَدَ صَدْرَهَا {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] .
وَأَنْشَأَ الحافظ فتح الدين بن سيد الناس رِسَالَةً فِي صُلْحٍ بَيْنَ طَائِفَةٍ أَوْرَدَ فِي صَدْرِهَا: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] .
وَأَنْشَأَ ابن الأثير كِتَابًا فِي تَهْنِئَةِ الْخَلِيفَةِ بِمَوْلُودٍ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، وَأَنْشَأَ كِتَابًا إِلَى أَخِيهِ العلامة مجد الدين صَاحِبِ جَامِعِ الْأُصُولِ يَذْكُرُ مُفَارَقَتَهُ مِصْرَ أَوْرَدَ صَدْرَهُ:{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25]
وَأَنْشَأَ كِتَابًا إِلَى الْخَلِيفَةِ عَنِ الملك الأفضل حِينَ حُوصِرَتْ دِمَشْقُ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]، وَأَنْشَأَ كِتَابًا إِلَى الْخَلِيفَةِ عَنِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مَمَالِيكِهِ أَرَادُوا الْفَتْكَ بِهِ فَظَفِرَ بِهِمْ أَوْرَدَ صَدْرَهُ:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] .
وَأَنْشَأَ الكمال عبد الرزاق الأصبهاني مَقَامَةً فِي الْقَوْسِ أَوْرَدَ صَدْرَهَا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] .
وَكَتَبَ الشيخ علي بن وفا رِسَالَةً إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَوْرَدَ صَدْرَهَا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] .
وَأَلَّفَ الحافظ الذهبي كِتَابًا فِي رَتَنٍ الَّذِي ادَّعَى الصُّحْبَةَ بَعْدَ السِّتِّمِائَةِ سَمَّاهُ كَسْرَ وَثَنِ رَتَنٍ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] .
وَأَنْشَأَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ كِتَابَ بِشَارَةٍ بِفَتْحِ بِلَادِ النُّوبَةِ وَالسُّودَانِ لَمَّا غُزِيَتْ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء: 12] .
وَأَنْشَأَ فخر الدين بن الدهان كِتَابًا إِلَى الْقَاضِي الْفَاضِلِ يَسْأَلُهُ الصُّلْحَ لِأَمِيرِ الْمَوَاصِلَةِ مَعَ السُّلْطَانِ صلاح الدين بن أيوب افْتَتَحَهُ بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] .
وَأَعْظَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ وَأَفْضَلُ وَأَفْخَمُ وَأَكْمَلُ إِمَامُ الْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ إِمَامُنَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْبَرَاعَةِ، وَأَتَى بِوَاجِبِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَصَدَّرَ كِتَابَ الرِّسَالَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] وَبَنَى عَلَيْهَا الْخُطْبَةَ وَلَمْ يُصَدِّرْهَا بِقَوْلِهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، بَلْ وَصَلَهَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ وَاجِبَهَا وَصَلُ الْآيَةِ بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَالَ: قَالَ اللَّهُ، وَنَحْوُهُ، ثُمَّ لَمَّا عَقَدَ الْأَبْوَابَ وَأَوْرَدَ الْآيَاتِ فِيهَا لِلِاحْتِجَاجِ صَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَعْطَى كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ وَوَفَّى كُلَّ مَوْضِعٍ قِسْطَهُ وَكَيْفَ لَا وَهُوَ إِمَامُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَرَاعَةِ وَالَّذِي يَقْتَدِي بِهِ أَكَابِرُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ؟
فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِذَلِكَ مِنْ نُكْتَةٍ يَسْتَحْسِنُهَا أَهْلُ الذَّوْقِ أَوْ دَلِيلٍ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ يَطْرَبُ إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّوْقِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَمَّا النُّكْتَةُ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا
الْآيَةَ مَقَامَ خُطْبَةِ الْمَقَامَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ أَوْ نَحْوِهَا بِجَامِعِ أَنَّهَا ذِكْرٌ وَالْخُطْبَةُ ذِكْرٌ، كَمَا جَعَلَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ:«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مَقَامَ خُطْبَةِ الْكِتَابِ فَافْتَتَحَ بِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْآيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ نَاسَبَ أَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ بَلْ تَكُونُ مُلْصَقَةً بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ أَثْنَاءِ سُورَةٍ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُبَسْمِلَ وَيَقْرَأَ عَقِبَهَا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَرَادَهُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ إِذَا بَسْمَلَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ إِيرَادَ آيَةٍ لِلِاحْتِجَاجِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ مَحْضَ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحَالٍ، وَلَوْ فَعَلَهُ عُدَّ بِدْعَةً وَخِلَافًا لَمَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْقِرَاءَاتِ فِي كُتُبِهِمْ، وَلِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرِدْ قَطُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا مِنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَقْرَءُوا مِنْ أَثْنَاءِ سُورَةٍ يَقُولُونَ عَقِبَ الْبَسْمَلَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُفْتَتَحِ قِرَاءَتِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْآيَةَ مَوْصُولَةً بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولُوا: قَالَ اللَّهُ، إِذَا أَرَادُوا إِيرَادَ آيَةٍ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى حُكْمٍ أَوْ نَحْوِهِ يَقُولُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَسْمِلُوا، هَذَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ افْتِتَاحَ الْخُطْبَةِ بَسْمَلَ وَوَصَلَ الْبَسْمَلَةَ بِالْآيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ اللَّهُ، وَلَمَّا أَرَادَ الِاحْتِجَاجَ فِي الْأَبْوَابِ بِالْآيَاتِ قَالَ: قَالَ اللَّهُ، وَذَكَرَ الْآيَةَ مِنْ غَيْرِ بَسْمَلَةٍ، وَعَلَى ذَلِكَ عَمَلُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَبُلَغَائِهَا كَافَّةً.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ فَعَامٌّ وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِرَاءَةِ، وَخَاصٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ كِتَابًا إِلَى الْيَمَنِ فَصَدَّرَهُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ بِآيَةٍ كَالْخُطْبَةِ وَالْعُنْوَانِ وَبَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ لِلْكِتَابِ وَوَصَلَهَا بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَحْوَهُ، وَبِذَلِكَ اقْتَدَى الْأَئِمَّةُ وَالْبُلَغَاءُ فِي مُكَاتَبَاتِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ وَخُطَبِهِمْ وَإِنْشَاءَاتِهِمْ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله الحافظ، أَنَا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثَنَا أحمد بن عبد الجبار، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابن إسحاق، حَدَّثَنِي «عبد الله بن أبي بكر، عَنْ أَبِيهِ أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قَالَ: هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَنَا الَّذِي كَتَبَهُ لعمرو بن حزم حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ لعمرو بن حزم حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَقَّ كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْخَيْرِ، وَسَاقَ الْكِتَابَ بِطُولِهِ» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ: ثَنَا سليمان بن داود، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أبي إسحاق قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا ابن الزبير {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11] صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ صَاعٌ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الِاقْتِبَاسُ فِي الشِّعْرِ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمُو أَصْحَابِنَا مَعَ شُيُوعِهِ فِي أَعْصَارِهِمْ، وَاسْتِعْمَالِ الشُّعَرَاءِ لَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَسُكُوتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمُ نَصِّهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ جَائِزًا كَضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَالِاقْتِبَاسِ فِي النَّثْرِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ اسْتَعْمَلُوهُ فِي شِعْرِهِمْ، قَالَ الشيخ تاج الدين السبكي فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ الْأُسْتَاذِ أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي أَحَدِ كِبَارِ الْأَصْحَابِ وَأَجِلَّائِهِمْ، مِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ
…
ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللَّهِ فِي آيَاتِهِ
…
إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ
قَالَ ابن السبكي: اسْتِعْمَالُ مِثْلِ الْأُسْتَاذِ أبي منصور مِثْلَ هَذَا الِاقْتِبَاسِ فِي شِعْرِهِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ جَلِيلُ الْقَدْرِ وَبَعْضُ النَّاسِ بَحَثَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا الْأُسْتَاذُ أبو منصور مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَقَدْ فَعَلَ هَذَا، وَأَسْنَدَ عَنْهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْأُسْتَاذُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ، وَهُمَا حُجَّةٌ فِي جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: أَنْشَدَنَا أحمد بن محمد بن يزيد لِنَفْسِهِ:
سَلِ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَاتَّقِهِ
…
فَإِنَّ التُّقَى خَيْرُ مَا يُكْتَسَبُ
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
…
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
فَإِسْنَادُ الْبَيْهَقِيِّ هَذَا الشِّعْرَ وَتَخْرِيجُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الْجَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجَوِّزُهُ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ الرافعي، وَنَاهِيكَ بِهِ إِمَامَةً وَجَلَالَةً وَوَرَعًا، فَقَالَ وَأَنْشَدَهُ فِي أَمَالِيهِ وَرَوَاهُ عَنْهُ الْأَئِمَّةُ:
الْمُلْكُ لِلَّهِ الَّذِي عَنَتِ الْوُجُو
…
هُ لَهُ وَذَلَّتْ عِنْدَهُ الْأَرْبَابُ
مُتَفَرِّدٌ بِالْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ قَدْ
…
خَسِرَ الَّذِينَ يُحَارِبُوهُ وَخَابُوا
دَعْهُمْ وَزَعْمَ الْمُلْكِ يَوْمَ غُرُورِهِمْ
…
فَسَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ
وَاسْتَعْمَلَهُ أَيْضًا شيخ الشيوخ الحموي، وابن الوردي وَجَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ آخِرُهُمُ الحافظ ابن حجر، وَلَمَّا أَنْشَأَ شَيْخُنَا الشهاب الحجازي كِتَابَهُ فِي اقْتِبَاسَاتِ الْقُرْآنِ
أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ فَكَتَبَ لَهُ خَطَّهُ عَلَيْهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ الشرف ابن المقري صَاحِبُ الرَّوْضِ وَالْإِرْشَادِ فِي شَرْحِ بَدِيعِيَّتِهِ: مَا كَانَ مِنَ الِاقْتِبَاسِ فِي الشِّعْرِ فِي الْمَوَاعِظِ وَالزُّهْدِ وَمَدْحِهِ صلى الله عليه وسلم وَآلِهِ وَصَحْبِهِ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَغَيْرُهُ مَرْدُودٌ، وَقَالَ التقي بن حجة: الِاقْتِبَاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مَقْبُولٌ وَمُبَاحٌ وَمَرْدُودٌ، فَالْأَوَّلُ مَا كَانَ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْعُهُودِ، وَالثَّانِي مَا كَانَ فِي الْغَزَلِ وَالرَّسَائِلِ وَالْقِصَصِ، وَالثَّالِثُ مَا كَانَ فِي الْهَزْلِ وَالْخَلَاعَةِ.
وَذَكَرَ الشيخ علاء الدين العطار تِلْمِيذُ النووي فِي كِتَابٍ لَهُ أَلَّفَهُ فِي الشِّعْرِ أَنَّهُ سَأَلَ النووي عَنِ الِاقْتِبَاسِ فَأَجَازَهُ فِي النَّثْرِ وَكَرِهَهُ فِي الشِّعْرِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الشيخ بهاء الدين بن السبكي فَجَوَّزَهُ فِي النَّثْرِ وَاسْتَعْمَلَهُ وَقَالَ: الْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ فِي الشِّعْرِ - ذَكَرَهُ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ.
قُلْتُ: وَعِلَّةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّثْرِ وَالشِّعْرِ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَمَّا نُزِّهَ عَنْ كَوْنِهِ شِعْرًا نَاسَبَ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ تَضْمِينِهِ الشِّعْرَ بِخِلَافِ النَّثْرِ.
هَذَا مَجْمُوعُ الْمَنْقُولِ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَاصِلُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنَ الْقُرْآنِ وَاقْتِبَاسِهِ فِي النَّثْرِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي اقْتِبَاسِهِ فِي الشِّعْرِ؛ فَالْأَكْثَرُونَ جَوَّزُوهُ وَاسْتَعْمَلُوهُ مِنْهُمُ الرافعي، وَأَمَّا النووي، والبهاء بن السبكي فَكَرِهَاهُ وَرَعًا لَا تَحْرِيمًا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَقْلٍ بِتَحْرِيمِهِ لِأَحَدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي غَيْرِ الْهَزْلِ وَالْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ.
وَيَلْتَحِقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي عَنِ الشريف تقي الدين الحسيني أَنَّهُ نَظَمَ قَوْلَهُ:
مَجَازٌ حَقِيقَتُهَا فَاعْبُرُوا
…
وَلَا تَعْمُرُوا هَوِّنُوهَا تَهُنِ
وَمَا حُسْنُ بَيْتٍ لَهُ زُخْرُفٌ
…
تَرَاهُ إِذَا زُلْزِلَتْ لَمْ يَكُنِ
ثُمَّ تَوَقَّفَ لِكَوْنِهِ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْقُرْآنِيَّةَ فِي الشِّعْرِ فَجَاءَ إِلَى الشَّيْخِ تقي الدين بن دقيق العيد ; لِيَسْتَفْتِيَهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْشَدَهُ إِيَّاهُمَا قَالَ لَهُ الشَّيْخُ: قُلْ " وَمَا حُسْنُ كَهْفٍ" فَقَالَ: يَا سَيِّدِي أَفَدْتَنِي وَأَفْتَيْتَنِي، ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّيْخَ داود الباخلي الشاذلي تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِاللَّطِيفَةِ الْمُرْضِيَةِ فِي شَرْحِ دُعَاءِ الشَّاذِلِيَّةِ وَبَسَطَهَا أَحْسَنَ بَسْطٍ، فَقَالَ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ - يَعْنِي الشَّيْخَ أبا الحسن الشاذلي - فَقَدِ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى آخِرِهِ هَذَا اللَّفْظُ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ التِّلَاوَةِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: فَقَدِ ابْتَلَى الْمُؤْمِنُونَ، وَلِيَقُولَ الْمُنَافِقُونَ، وَالْقُرْآنُ هُنَالِكَ {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} [الأحزاب: 11] {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 12] وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ التِّلَاوَةَ وَلَوْ أُرِيدُ التِّلَاوَةُ لَتَعَيَّنَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهَا إِذْ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَزِيدَ حَرْفًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا يَنْقُصَ حَرْفًا، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَقْطَعُ بِهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ؟ وَإِذَا لَمْ
يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ جَازَ لِلْإِنْسَانِ النُّطْقُ بِاللَّفْظِ الْمُوَافِقِ لِلتِّلَاوَةِ سَوَاءٌ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُتَطَهِّرًا أَوْ يَجُوزُ مَسُّهُ مَكْتُوبًا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ; لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَزِيدَ لَفْظًا وَيَنْقُصَ لَفْظًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ.
قَالَ: وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خُصُوصًا فِي وَقْتٍ وَتَرَدَّدَ سُؤَالُ النَّاسِ مِنِّي عَنْهَا، وَأَجَبْتُ عَنْهَا، قَالَ: وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ: هَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ كَلِمَاتٍ يَسِيرَةٍ مِمَّا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَيُقْصَدُ بِهِ مَعْنًى غَيْرُ مَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ لِمَنِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] أَوْ {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] أَوْ عَتَبٌ عَلَى أَمْرٍ فَقَالَ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58] فَإِنَّ مَدْلُولَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ غَيْرُ مَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ حَالِ نَفْسِهِ هُوَ فَقَالَ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] أَوْ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فَثَبَتَ قَوْمٌ وَاضْطَرَبَ آخَرُونَ فَقَالَ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] أَوْ ضَمَّنَ ذَلِكَ خُطْبَةً أَوْ رِسَالَةً قَاصِدًا سِيَاقَ قَوْلِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعَانِيَ التِّلَاوَةِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيَنْقُصَ مِنْهُ أَوْ يُغَيِّرَ نَظْمَهُ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ أَوْ تَغْيِيرِ حَرَكَةِ إِعْرَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَنَصُّ الْجَوَابِ: الْكَلَامُ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا تَحْقِيقُ مَعَانِي ذَلِكَ وَتَبْيِينُ وُجُوهِ قَوَاعِدَ تَنْبَنِي عَلَيْهَا وُجُوهُ مَعَانِيهِ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي الْكَلَامَ مِنْ عُلُومٍ غَامِضَةٍ جَلِيلَةٍ هِيَ أَسَاسُ الْعُلُومِ، وَمُسْتَنَارُ الْفُهُومِ قَلَّ مَنْ يَصِلُ بِالتَّحْقِيقِ إِلَيْهَا، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعُلُوِّهَا عَنْ فَهْمِ الْعُمُومِ، وَغُمُوضِ مَعَانِيهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْفُهُومِ كَعِلْمِ قَوَاعِدِ مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَعِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَدَقَائِقِ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ وَأَسْرَارِهِمَا، وَعِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَالْمَعَانِي وَتَصَرُّفِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَسَعَةِ مَيْدَانِهِ، وَالنَّظَرِ فِي سُرْعَةِ تَصْرِيفِ جَوَادِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ إِطْلَاقِ عِنَانِهِ فِي أَنْحَاءِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ وَالتَّصَرُّفِ فِي بَدَائِعِ الْمَعَانِي فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْإِفْهَامِ، وَلِكُلِّ عَبْدٍ فِي مِقْدَارِ فَهْمِهِ وَمَبْلَغِ عِلْمِهِ حَالٌ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَلَقَدْ بَلَغَنِي عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ عز الدين بن عبد السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَقَالَ: لَا أُجِيبُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِدِقَّةِ الْجَوَابِ عَنْ أَفْهَامِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَطُفَ الْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ الْعُلُومِ اسْتَصْعَبَ ذَلِكَ عَلَى فَهْمِ مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا فَهْمٍ ثَاقِبٍ، وَذِهْنٍ صَحِيحٍ وَمُمَارَسَةٍ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ أَدَوَاتٌ لِإِدْرَاكِ غَامِضِ الْمَعَانِي، وَلَقَدْ ذَاكَرْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ شَيْخَ وَقْتِهِ وَإِمَامَ عَصْرِهِ شَيْخَنَا الشَّيْخَ شمس الدين الجزري فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِي: حَضَرْتُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ
فَحَاوَلْتُ أَنْ أُوصِلَ إِلَى أَذْهَانِهِمْ مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ لِبُعْدِ أَذْهَانِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ، وَالْأَصْلِ الْآخَرِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ ذَلِكَ وَهِيَ الْقَوَاطِعُ السَّمْعِيَّةُ وَالنُّقُولُ الْبَيِّنَةُ الْجَلِيَّةُ الَّتِي تَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ، وَيَرْتَفِعُ عِنْدَ وُجُودِهَا النِّزَاعُ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ كِفَايَةٍ وَأَكْبَرُ حُجَّةٍ، وَأَجَلُّ بَيَانٍ، وَأَوْضَحُ مَحَجَّةٍ، إِذِ النُّقُولُ الصَّرِيحَةُ يَصِلُ إِلَى فَهْمِ مَعْنَاهَا وَإِدْرَاكِ دَلَالَتِهَا عُمُومُ الْأَفْهَامِ، وَيَشْتَرِكُ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَفِي تَقَصِّيهَا وَالنَّظَرِ لِمَا فِيهَا مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَبَيَانٌ لِمِثْلِ هَذَا الْحَالِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْخُطَبَاءِ وَالْأُدَبَاءِ، وَمَا سَطَّرَهُ فِي ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ وَأَئِمَّةُ اللِّسَانِ قَوْلًا.
وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى فِي ذَلِكَ حُكْمًا، وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ كَافٍ، وَجَوَابٌ فِي الْمَسْأَلَةِ شَافٍ. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ علي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: " «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» " الْحَدِيثَ، هَذَا ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ التِّلَاوَةَ:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79]{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] فَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ بَيَانٍ وَأَشْفَى جَوَابٍ لِمَا ذُكِرَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عِنْدَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: وَجْهُ قَوْلِهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تِلَاوَةَ الْآيَةِ بَلِ الْإِخْبَارُ بِالِاعْتِرَافِ بِحَالِهِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدَ جَلِيلَةٍ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ غَيْرُ التِّلَاوَةِ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ غَيْرُ التِّلَاوَةِ جَازَ أَنْ يُحْذَفَ شَيْءٌ مِنْهُ وَيُزَادَ عَلَى سِيَاقِ قَوْلِ قَائِلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِ هرقل فَإِنَّ فِيهِ:«ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هرقل عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ، وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ - إِلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ، فَذَكَرَ فِيهِ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَالتِّلَاوَةَ وَالسَّلَامَ، وَذَكَرَ فِيهِ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» " وَالتِّلَاوَةُ {رَبَّنَا آتِنَا} [البقرة: 201] وَقَدْ سَمَّاهُ أَنَسٌ دُعَاءً وَلَمْ يُسَمِّهِ تِلَاوَةً.
وَفِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ: " «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ
أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُبْعَثُ» " الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: "«بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ» "، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: "«قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ".
وَحَدِيثُ البراء: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] ".
» وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا؛ الْحَذْفِ حَيْثُ حَذَفَ الْهَاءَ مِنْ تَفْعَلُوهُ، وَالزِّيَادَةِ. وَالْقَصْدُ سِيَاقُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا قَصَدَ غَيْرَ التِّلَاوَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مالك فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يحيى بن سعيد أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: "«اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغِثْنِي مِنَ الْفَقْرِ» "، وَرُوِيَ فِي كِتَابٍ إِلَى مَلِكِ فَارِسَ "«مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كسرى عَظِيمِ فَارِسَ- إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ; لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ» ".
وَرُوِيَ فِي عَهْدِ أبي بكر لعمر: " هَذَا مَا عَهِدَ أبو بكر خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْخَيْرَ أَرَدْتُ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ "، وَفِي رِسَالَةِ أبي بكر إِلَى علي أَيَّامَ تَوَقُّفِهِ عَنِ الْبَيْعَةِ فَقَالَ: وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ شَهِيدٌ وَبِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ بَصِيرٌ، وَقَالَ علي فِي جَوَابِهِ آخِرَ كَلَامٍ لَهُ: وَإِنِّي عَائِدٌ إِلَى جَمَاعَتِكُمْ وَمُبَايِعٌ صَاحِبَكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا.
وَمِنْ رَسَائِلِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ وَقَدْ ذَكَرَ الْفِرِنْجَ: وَغَضِبُوا زَادَهُمُ اللَّهُ غَضَبًا، وَأَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ حَطَبًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ الْخَطِيبِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ نَبَاتَةَ فِي خُطَبِهِ الْمَشْهُورَةِ السَّائِرَةِ شَرْقًا وَغَرْبًا قَالَ فِي خُطْبَةٍ هُنَالِكَ: يُرْفَعُ الْحِجَابُ، وَيُوضَعُ الْكِتَابُ، وَيُجْمَعُ مَنْ وَجَبَ لَهُ الثَّوَابُ، وَحَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَيُضْرَبُ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَقَالَ فِي خُطْبَةٍ أُخْرَى: يَا لَهُ مِنْ نَادِمٍ عَلَى تَضْيِيعِهِ أَسَفًا عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ صَنِيعِهِ، حَيْثُ عَايَنَ رُتَبَ الصَّالِحِينَ وَأَبْصَرَ مَنَازِلَ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَكَانُوا نُصْبَ نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ وَلَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِهِ، وَقَالَ فِي أُخْرَى: أَلَا وَإِنَّ الْجِهَادَ كَنْزٌ وَفَّرَ اللَّهُ بِهِ أَقْسَامَكُمْ، وَحِرْزٌ طَهَّرَ اللَّهُ بِهِ أَجْسَامَكُمْ، وَعِزٌّ أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ إِسْلَامَكُمْ، فَإِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، فَأَحْسِنُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ الثِّقَةَ بِمَنْ لَمْ يَزَلْ بِكُمْ بَرًّا لَطِيفًا، وَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وَاغْتَنِمُوا بِمُقَارَعَةِ الْعَدُوِّ وَقُرْبِ الْفَرَجِ فَإِنَّ اللَّهَ اجْتَبَاكُمْ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
وَقَالَ فِي أُخْرَى: وَخَرِسَتِ الْأَلْسُنُ الْفَصِيحَةُ عَنِ الْكَلَامِ، وَقُضِيَ بِدَارِ الْبَوَارِ لِمَنْ حُرِمَ دَارَ السَّلَامِ وَعُرِفَ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَأُخِذُوا بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ، وَكَلَامُهُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي خُطَبِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْفُصَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ اللِّسَانِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْخُطَبِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ ; لِأَنَّهَا اشْتَهَرَتْ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ، وَذُكِرَتْ فِي جَمْعِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمُوعِهِمْ وَتَكَرَّرَتْ عَلَى أَسْمَاعِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ جَلِيٌّ ظَاهِرٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ ناصر الدين بن المنير فِي خُطَبِهِ الْمَشْهُورَةِ مَعَ اشْتِهَارِهِ بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَتَقَدُّمِهِ وَتَبَحُّرِهِ فِي ذَلِكَ وَسِيَادَتِهِ، فَقَالَ فِي خُطْبَةٍ: كَيْفَ بِكَ إِذَا جِئْتَ وَأَنْتَ لِجَمِيعِ مَا خَلَّفْتَ فَاقِدٌ؟ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَاهِدٌ. وَقَالَ فِي أُخْرَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَيُكَافِئُ بِالْحُسْنَى وَالزِّيَادَةِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا. وَقَالَ فِي أُخْرَى: بَلْ هُوَ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ يَسْمَعُ النَّجْوَى، وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَهُوَ تَعَالَى أَيْنَمَا كُنَّا مَعَنَا. وَقَالَ فِي أُخْرَى: فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ شَمِّرُوا الذَّيْلَ، فَإِنَّ السَّيْلَ قَدْ بَلَغَ الزُّبَى فَحُلُّوا الْحُبَا وَسُلُّوا الظِّبَا، وَأَعِدُّوا لِعَدُوِّكُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَهُمْ بِهِ رَهَبًا.
قَالَ: وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْخُطَبِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ، وَتَزِيدُ هَذِهِ بِوُفُورِ عِلْمِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ مِنْ هَذَيْنِ لِشُهْرَتِهِمَا
وَكَثْرَةِ دَوْرِ خُطَبِهِمَا بَيْنَ النَّاسِ وَكَثْرَتِهِمَا، وَإِلَّا فَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَالْفُصَحَاءِ فِي هَذَا الْمِنْهَاجِ مُتَّسِعٌ وَكَثِيرٌ، وَسُلُوكُ أَرْبَابِ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ وَشَهِيرٌ.
وَقَالَ الحريري فِي الْمَقَامَةِ الثَّانِيَةِ الْحُلْوَانِيَّةِ: فَلَمْ يَكُ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، حَتَّى أَنْشَدَ فَأَغْرَبَ، وَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ الْكُوفِيَّةِ: فَهَلْ سَمِعْتُمْ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا الْعُجَابِ؟ فَقُلْنَا: لَا وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَقَالَ فِي السَّادِسَةِ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، وَجُرْتُمْ عَنِ الْقَصْدِ جِدًّا، وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: فَإِنْ كُنْتَ صَدَعْتَ عَنْ وَصْفِكَ بِالْيَقِينِ فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَقَالَ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ: وَاصْبِرْ عَلَى كَيْدِ الزَّمَانِ وَمُرِّهِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَالَ فِي الرَّجَبِيَّةِ: كَلَّا سَاءَ مَا تَتَوَهَّمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَقَالَ فِي الْمَيَّافَارِقِيَّةِ:
وَلَا سِيَّمَا يَفْتَحُ مُسْتَصْعَبًا
…
مُسْتَغْلَقَ الْبَابِ مَنِيعًا مَهِيبْ
إِلَّا وَنُودِيَ حِينَ يَسْمُو لَهُ
…
نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبْ
وَقَالَ فِي الْبَغْدَادِيَّةِ: فَعَاهَدَنِي أَنْ لَا أَفُوهَ بِمَا اعْتَمَدْ مَا دُمْتُ حِلًّا بِهَذَا الْبَلَدْ، وَقَالَ فِي الْمَلَطِيَّةِ: فَقَالَ افْعَلْ لِئَلَّا يَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ وَيَظُنُّوا بِي الظُّنُونَ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرٌ جِدًّا. وَالْقَصْدُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا ذُكِرَ لِيَعْلَمَ النَّاظِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ، وَالِاسْتِشْهَادُ بِمَا فِي الْمَقَامَاتِ لِكَثْرَةِ دَوْرِهَا بَيْنَ النَّاسِ وَاشْتِهَارِهَا وَاطِّلَاعِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا فِيهَا وَقِرَاءَتِهَا وَإِقْرَائِهَا وَحِفْظِهَا وَشَرْحِهَا وَالِاعْتِنَاءِ بِهَا يُوَضِّحُ صِحَّةَ الِاسْتِشْهَادِ بِمَا فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرُوهَا، أَنَا أَذْكُرُ جُمْلَةً دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مُؤَكِّدَةً لِمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَعُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ وَفُرْسَانُ اللِّسَانِ وَالَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ ; لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَعْلُومُ السَّبِيلِ عِلْمًا جَزْمًا، وَأَنَّهُ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ نَثْرًا وَنَظْمًا: وَأَنْشَدَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي ذَلِكَ جُمْلَةً فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ لَهُ، وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ الْفَوَائِدِ لَهُ قَالَ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ:
رَحَلَ الظَّاعِنُونَ عَنْكَ وَأَبْقَوْا
…
فِي حَوَاشِي الْحِشَاءِ وَجْدًا مُقِيمَا
قَدْ وَجَدْنَا السَّلَامَ بَرْدًا سَلَامًا
…
إِذْ وَجَدْنَا النَّوَى عَذَابًا أَلِيمَا
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْبَيَانِ فِي كُتُبِهِمْ فَقَدْ أَكْثَرُوا مِنْ ذَلِكَ أَنْشَدُوا لِلْحَمَاسِيِّينَ:
إِذَا رُمْتُ عَنْهَا سَلْوَةً قَالَ شَافِعٌ
…
مِنَ الْحُبِّ مِيعَادُ السُّلُوِّ الْمَقَابِرُ
سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا
سَرِيرَةُ وُدٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
لَا تُعَاشِرْ مَعْشَرًا ضَلُّوا الْهُدَى
…
فَسَوَاءٌ أَقْبَلُوا أَوْ أَدْبَرُوا
بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
…
وَالَّذِي يُخْفُونَ مِنْهَا أَكْبَرُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
إِنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ عَلَى هَجْرِنَا
…
مِنْ غَيْرِ مَا جُرْمٍ فَصَبْرٌ جَمِيلْ
وَإِنْ تَبَدَّلْتِ بِنَا غَيْرَنَا
…
فَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلْ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
خَلَّةُ الْغَانِيَاتِ خَلَّةُ سُوءٍ
…
فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
وَإِذَا مَا سَأَلْتُمُوهُنَّ شَيْئًا
…
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ
قَالَ: وَلَوْلَا خَشْيَةُ التَّطْوِيلِ لَذَكَرْتُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً كَثِيرَةً لَكِنْ فِي التَّنْبِيهِ بِمَا ذُكِرَ كِفَايَةٌ ; وَلِأَنِّي أَكْرَهُ ذِكْرَ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ مَشْهُورٌ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ: وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى وَعُلَمَاءُ الْأُصُولِ فَقَدْ نَصَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِمَامُ هَذَا الْفَنِّ وَالْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لَهُ عَلَى تَضْمِينِ كَلِمَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي نَثْرِ الْكَلَامِ وَنَظْمِهِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً، وَلَكِنْ أَشَارَ إِلَى كَرَاهَةِ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِإِجْلَالِ كَلِمَاتٍ تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ أَنْ تُسَاقَ فِي أَوْزَانِ الشِّعْرِ وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ فِي الشِّعْرِ خَاصَّةً دُونَ الْمَنْعِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْمَكْرُوهُ جَائِزٌ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَلَامِ، وَكَلَامُ مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَافٍ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ محيي الدين النووي فِي كِتَابِ التِّبْيَانِ لَهُ فَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ: خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وَقَصَدَ بِهِ غَيْرَ الْقُرْآنِ فَهُوَ جَائِزٌ، قَالُوا: وَيَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ أَنْ يَقُولَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِذَا لَمْ يَقْصِدَا الْقُرْآنَ فَانْظُرْ صَرِيحَ هَذَا النَّقْلِ، وَهَذَا إِمَامٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ هُوَ فِي هَذَا الزَّمَانِ عُمْدَةُ الْمَذْهَبِ فِي نَقْلِهِ وَتَصْحِيحِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَازِ أَنْ يُقْصَدَ غَيْرُ
الْقُرْآنِ كَرَّرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ قُدْوَةٌ فِي الْعُلُومِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، وَلَوْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ نَقْلًا وَبَحْثًا لَاتَّسَعَ جِدًّا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْبَيَانِ وَأَئِمَّةُ الْفَصَاحَةِ وَأَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي بَدَائِعِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ فَقَدْ أَوْضَحُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَسَمَّوْهُ بِالِاقْتِبَاسِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ الْجَوَازِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنْ حُسْنِ الْكَلَامِ وَجَيِّدِهِ وَمَعْدُودًا فِي طَبَقَاتِ الْفَصَاحَةِ إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْبَدِيعِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى، وَأَئِمَّةُ الْفَصَاحَةِ وَهُوَ كَمَا تَرَى أَمْرٌ بَيِّنٌ مَعْلُومٌ وَاضِحٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَشَوَاهِدُهَا مِنَ السُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُصَحَاءِ كَثِيرٌ جِدًّا.
وَمِمَّا اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الِاقْتِبَاسِ مَعَ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ قَوْلُ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ:
قَدْ كَانَ مَا خِفْتُ أَنْ يَكُونَا
…
إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاجَعُونَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
يُرِيدُ الْجَاهِلُونَ لِيُطْفِئُوهُ
…
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّهْ
وَمِمَّا اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ قَوْلُ ابن عباد:
قَالَ لِي إِنَّ رَقِيبِي
…
سَيِّئَ الْخُلْقِ فَدَارِهْ
قُلْتُ دَعْنِي وَجْهَكَ الْجَ
…
نَّةُ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهْ
وَهَذَا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَدِيثَ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مُوَافَقَةٌ فِي ظَاهِرِ عِبَارَةٍ فَقَطْ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُسَدِّدُ وَالْهَادِي، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. انْتَهَى جَوَابُ الشَّيْخِ داود الشاذلي بِلَفْظِهِ، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ أَخَذَ التَّصَوُّفَ عَنِ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله، وَالْعُلُومَ عَنِ الشَّيْخِ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري شَارِحِ مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَلَهُ مُؤَلَّفَاتٌ جَيِّدَةٌ تُؤْذِنُ بِطُولِ بَاعٍ، وَرُسُوخِ قَدَمٍ وَسَعَةِ اطِّلَاعٍ، رحمه الله وَنَفَعَنَا بِهِ.