الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تُعْرِضَ الْمَرْأَةُ، أَوْ أَهْلُهَا ذَلِكَ عَلَيْهِ عَرْضًا مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنَ النُّقْلَةِ مَعَهُ فَيَرْضَى بِذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهَا بِحَيْثُ لَوْ طَلَبَ مِنْهَا النُّقْلَةَ إِلَى مَنْزِلِهِ لَأَجَابَتْ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ بِعَيْنِهَا مُصَرَّحٌ بِهَا فِي الْكِفَايَةِ لسليم الرازي، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ، وَهَلْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أُجْرَةُ الْمَنْزِلِ؟ يُنْظَرُ، فَإِنْ صَرَّحَ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ، أَوْ صَرَّحَ بِإِبَاحَةِ السُّكْنَى لَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ، وَإِنْ سَكَتَ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ عِنْدِي، ثُمَّ رَأَيْتُ ابن العماد جَزَمَ فِي تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ، بِأَنَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ لِمُدَّةِ مَقَامِهِ مَعَهَا، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ أَعَمُّ مِنَ الْإِذْنِ، فَإِنْ أَذِنَتْ فَلَا أُجْرَةَ لِمُدَّةِ سَكْتٍ انْتَهَى.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَطْلُبَ الزَّوْجُ تَحْوِيلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَتَمْتَنِعُ هِيَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَقُولُ: لَا أُسَلِّمُ إِلَّا فِي مَنْزِلِي فَيَأْتِي إِلَى مَنْزِلِهَا، وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا فِيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ مَحَلُّ الْكَلَامِ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحِ، وَالتَّتِمَّةِ، وَسَائِرِ كُتُبِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَرْجُوحَةٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهَا النَّفَقَةَ مُطْلَقًا، بَلْ نَفَقَةَ زَمَنِ الِاسْتِمْتَاعِ خَاصَّةً دُونَ الْأَيَّامِ الَّتِي لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا، أَوْ غَابَ عَنْهَا عَلَى خِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ تَسْفِيهِ الْأَغْبِيَاءِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
أَمَّا بَعْدُ أَحْمَدُ اللَّهَ غَافِرَ الزَّلَّاتِ، وَمُقِيلَ الْعَثَرَاتِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ النُّجُومِ النَّيِّرَاتِ، فَهَذَا جُزْءٌ سَمَّيْتُهُ:" تَنْزِيهَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ تَسْفِيهِ الْأَغْبِيَاءِ " وَالسَّبَبُ فِي تَأْلِيفِهِ أَنَّهُ وَقَعَ أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ رَجُلًا فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا سَبٌّ كَثِيرٌ، فَقَذَفَ أَحَدُهُمَا عِرْضَ الْآخَرِ، فَنَسَبَهُ الْآخَرُ إِلَى رَعْيِ الْمِعْزَى، فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: تَنْسُبُنِي إِلَى رَعْيِ الْمِعْزَى؟ فَقَالَ لَهُ وَالِدُ الْقَائِلِ: الْأَنْبِيَاءُ رَعَوُا الْمِعْزَى، أَوْ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَى الْمِعْزَى، وَذَلِكَ بِسُوقِ الْغَزْلِ، بِجِوَارِ الْجَامِعِ الطُّولُونِيِّ، بِحَضْرَةِ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ، فَتَرَافَعُوا إِلَى الْحُكَّامِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ الْمَالِكِيَّ، فَقَالَ: لَوْ رُفِعَ إِلَيَّ ضَرَبْتُهُ بِالسِّيَاطِ، فَسُئِلْتُ مَاذَا يَلْزَمُ الَّذِي ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ مُسْتَدِلًّا بِهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ؟ فَأَجَبْتُ: بِأَنَّ هَذَا الْمُسْتَدِلَّ يُعَزَّرُ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ؛ لِأَنَّ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ أَجَلُّ مِنْ أَنْ
يُضْرَبَ مَثَلًا لِآحَادِ النَّاسِ وَلَمْ أَكُنْ عَرَفْتُ مَنْ هُوَ الْقَائِلُ ذَلِكَ، فَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ الشَّيْخُ شمس الدين الحمصاني إِمَامُ الْجَامِعِ الطُّولُونِيِّ، وَشَيْخُ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ فِي اعْتِقَادِهِ، فَقُلْتُ: مِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ تُقَالُ عَثْرَتُهُ، وَتُغْفَرُ زَلَّتُهُ، وَلَا يُعَزَّرُ لِهَفْوَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ.
وَكَتَبْتُ ثَانِيًا بِذَلِكَ، فَبَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا اسْتَنْكَرَ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَثْرَةٌ وَلَا مَلَامٌ، وَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ لَا ذَنْبَ فِيهِ وَلَا آثَامَ، وَاسْتَفْتَى عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ وَاقِعَةُ الْحَالِ فَخَرَّجُوهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عياض فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ؛ لِأَجْلِ ذِكْرِ لَفْظِ الِاسْتِدْلَالِ فِي الْجَوَابِ وَالسُّؤَالِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَشَرَّبَ قُلُوبُ الْعَوَامِّ هَذَا الْكَلَامَ، فَيُكْثِرُوا مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُجَادَلَاتِ وَالْخِصَامِ، وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ عِبَارَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ؛ فَيُؤَدِّيهِمْ إِلَى أَنْ يَمْرُقُوا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَوَضَعْتُ هَذِهِ الْكُرَّاسَةَ؛ نُصْحًا لِلدِّينِ وَإِرْشَادًا لِلْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَامُ.
وَلِنَبْدَأْ بِالْفَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عياض فِي الشِّفَا فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ جَمَعَ فِيهِ فَأَوْعَى، وَحَرَّرَ فَاسْتَوْفَى، قَالَ: فَصْلٌ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا، وَلَا يَذْكُرَ عَيْبًا وَلَا سَبًّا، وَلَكِنَّهُ يَنْزِعُ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، أَوْ يَسْتَشْهِدُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ عليه الصلاة والسلام الْجَائِزَةِ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ، عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِ، أَوْ عِنْدَ هَضِيمَةٍ نَالَتْهُ، أَوْ غَضَاضَةٍ لَحِقَتْهُ، لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَسِّي وَطَرِيقِ التَّحْقِيقِ، بَلْ عَلَى قَصْدِ التَّرْفِيعِ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَعَدَمِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام، أَوْ قَصْدِ الْهَزْلِ وَالتَّنْذِيرِ بِقَوْلِهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ قِيلَ فِي السُّوءِ فَقَدْ قِيلَ فِي النَّبِيِّ، وَإِنْ كُذِّبْتُ فَقَدْ كُذِّبَ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ إِنْ أَذْنَبْتُ فَقَدْ أَذْنَبُوا، وَأَنَا أَسْلَمُ مِنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ، أَوْ قَدْ صَبَرْتُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ، أَوْ كَصَبْرِ أَيُّوبَ، أَوْ قَدْ صَبَرَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَى عِدَاهُ، وَحَلُمَ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا صَبَرْتُ، وَكَقَوْلِ الْمُتَنَبِّي:
أَنَا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَهَا اللَّهُ
…
غَرِيبٌ كَصَالِحٍ فِي ثَمُودَ
وَنَحْوِهِ مِنْ أَشْعَارِ الْمُتَعَجْرِفِينَ فِي الْقَوْلِ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
كَنْتُ مُوسَى وَافَتْهُ بِنْتُ شُعَيْبٍ
…
غَيْرَ أَنْ لَيْسَ فِيكُمَا مِنْ فَقِيرِ.
عَلَى أَنَّ آخِرَ الْبَيْتِ شَدِيدٌ، وَدَاخِلٌ فِي بَابِ الْإِزْرَاءِ وَالتَّحْقِيرِ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَتَفْضِيلِ حَالِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَوْلَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
…
قُلْنَا مُحَمَّدُ مِنْ أَبِيهِ بَدِيلُ
هُوَ مِثْلُهُ فِي الْفَضْلِ إِلَّا أَنَّهُ
لَمْ يَأْتِهْ بِرِسَالَةٍ جِبْرِيلُ.
فَصَدْرُ الْبَيْتِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ شَدِيدٌ؛ لِتَشْبِيهِهِ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي فَضْلِهِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَجْزُ مُحْتَمَلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ نَقَصَتِ الْمَمْدُوحَ، وَالْآخَرُ: اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهَا، وَهَذِهِ أَشَدُّ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَاتُهُ
…
صَفَّقَتْ بَيْنَ جَنَاحَيْ جِبْرَئِيلَ.
وَقَوْلُ الْآخَرِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ:
فَرَّ مِنَ الْخُلْدِ وَاسْتَجَارَ بِنَا
…
فَصَبَّرَ اللَّهُ قَلْبَ رِضْوَانِ.
وَكَقَوْلِ حسان المصيصي - مِنْ شُعَرَاءِ الْأَنْدَلُسِ - فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَعْرُوفِ بِالْمُعْتَمِدِ، وَوَزِيرِهِ أبي بكر بن زيدون:
كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَبُو بَكْرِ الرِّضَا
…
وَحَسَّانَ حَسَّانُ وَأَنْتَ مُحَمَّدُ.
إِلَى أَمْثَالِ هَذَا، وَإِنَّمَا كَثَّرْنَا بِشَاهِدِهَا مَعَ اسْتِثْقَالِنَا حِكَايَتَهَا؛ لِتَعْرِيفِ أَمْثِلَتِهَا وَلِتَسَاهُلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي وُلُوجِ هَذَا الْبَابِ الضَّنْكِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ فَادِحَ هَذَا الْعِبْءِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ، وَكَلَامِهِمْ فِيهِ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ - وَيَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ - لَا سِيَّمَا الشُّعَرَاءُ، وَأَشَدُّهُمْ فِيهِ تَصْرِيحًا وَلِلِسَانِهِ تَسْرِيحًا ابن هانئ الأندلسي، وابن سليمان المعري، بَلْ قَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمَا عَنْ هَذَا إِلَى حَدِّ الِاسْتِخْفَافِ وَالنَّقْصِ وَصَرِيحِ الْكُفْرِ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ.
وَغَرَضُنَا الْآنَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الَّذِي سُقْنَا أَمْثِلَتَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْ سَبًّا، وَلَا أَضَافَتْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ نَقْصًا وَلَسْتُ أَعْنِي عَجُزَيْ بَيْتَيِ المعري، وَلَا قَصْدَ قَائِلِهَا إِزْرَاءً وَغَضًّا، فَمَا وَقَّرَ النُّبُوَّةَ، وَلَا عَظَّمَ الرِّسَالَةَ، وَلَا عَزَّزَ حُرْمَةَ الِاصْطِفَاءِ، وَلَا عَزَّزَ حُظْوَةَ الْكَرَامَةِ، حَتَّى شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ فِي كَرَامَةٍ نَالَهَا أَوْ مَعَرَّةٍ قَصَدَ الِانْتِفَاءَ مِنْهَا، أَوْ ضَرْبَ مَثَلٍ لِتَطْيِيبِ مَجْلِسِهِ، أَوْ إِغْلَاءً فِي وَصْفٍ لِتَحْسِينِ كَلَامِهِ بِمَنْ عَظَّمَ اللَّهُ خَطَرَهُ وَشَرَّفَ قَدْرَهُ، وَأَلْزَمَ تَوْقِيرَهُ وَبِرَّهُ، وَنَهَى عَنْ جَهْرِ الْقَوْلِ لَهُ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ، فَحَقُّ هَذَا إِنْ دُرِئَ عَنْهُ الْقَتْلُ الْأَدَبُ وَالسِّجْنُ، وَقُوَّةُ تَعْزِيرِهِ بِحَسَبِ شُنْعَةِ مَقَالِهِ، وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ لِمِثْلِهِ أَوْ نُدُورِهِ، أَوْ قَرِينَةِ كَلَامِهِ، أَوْ نَدَمِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُتَقَدِّمُونَ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا مِمَّنْ جَاءَ بِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الرَّشِيدُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ قَوْلَهُ:
فَإِنْ يَكُ بَاقِي سِحْرِ فِرْعَوْنَ فِيكُمُ
…
فَإِنَّ عَصَا مُوسَى بِكَفِّ خَصِيبِ.
وَقَالَ لَهُ: يَا ابن اللخناء، أَنْتَ الْمُسْتَهْزِئُ بِعَصَا مُوسَى، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ عَسْكَرِهِ مِنْ لَيْلَتِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَالْحُكْمُ فِي أَمْثَالِ هَذَا مَا بَسَطْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْفُتْيَا. عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ جَاءَتْ فُتْيَا إِمَامِ مَذْهَبِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رحمه الله، وَأَصْحَابِهِ، فَفِي النَّوَادِرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ فِي رَجُلٍ عَيَّرَ رَجُلًا بِالْفَقْرِ، فَقَالَ: تُعَيِّرُنِي بِالْفَقْرِ، وَقَدْ رَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَنَمَ، فَقَالَ مالك: قَدْ عَرَّضَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَرَى أَنْ يُؤَدَّبَ، قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الذُّنُوبِ إِذَا عُوتِبُوا أَنْ يَقُولُوا: قَدْ أَخْطَأَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ: انْظُرْ لَنَا كَاتِبًا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا، فَقَالَ كَاتِبٌ لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ كَافِرًا، فَقَالَ: جَعَلْتَ هَذَا مَثَلًا، فَعَزَلَهُ، وَقَالَ: لَا تَكْتُبُ لِي أَبَدًا.
وَقَدْ كَرِهَ سَحْنُونٌ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ التَّعَجُّبِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الثَّوَابِ وَالِاحْتِسَابِ؛ تَوْقِيرًا لَهُ، وَتَعْظِيمًا كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ، وَقَالَ القابسي عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ: كَأَنَّهُ وَجْهُ نَكِيرٍ، وَلِرَجُلٍ عَبُوسٍ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَالِكٍ الْغَضْبَانِ، وَفِي الْأَدَبِ بِالسَّوْطِ وَالسَّجْنِ نَكَالٌ لِلسُّفَهَاءِ، وَإِنْ قَصَدَ ذَمَّ الْمَلِكِ قُتِلَ، وَقَالَ أَيْضًا فِي شَابٍّ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ قَالَ لِرَجُلٍ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: اسْكُتْ؛ فَإِنَّكَ أُمِّيٌّ، فَقَالَ الشَّابُّ: أَلَيْسَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا؟ فَشَنُعَ عَلَيْهِ مَقَالُهُ وَكَفَّرَهُ النَّاسُ، وَأَشْفَقَ الشَّابُّ مِمَّا قَالَ وَأَظْهَرَ النَّدَمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أبو الحسن: أَمَّا إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ فَخَطَأٌ، لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي اسْتِشْهَادِهِ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَوْنُ النَّبِيِّ أُمِّيًّا آيَةٌ لَهُ، وَكَوْنُ هَذَا أُمِّيًّا نَقِيصَةٌ [فِيهِ] وَجَهَالَةٌ، وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّهُ إِذَا اسْتَغْفَرَ وَتَابَ وَاعْتَرَفَ وَلَجَأَ إِلَى اللَّهِ فَيُتْرَكُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْقَتْلِ، وَمَا طَرِيقَةُ الْأَدَبِ فَطَوْعُ فَاعِلِهِ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُ.
وَنَزَلَتْ أَيْضًا مَسْأَلَةٌ اسْتَفْتَى فِيهَا بَعْضُ قُضَاةِ الْأَنْدَلُسِ شَيْخَنَا الْقَاضِي أبا محمد بن منصور رحمه الله فِي رَجُلٍ تَنَقَّصَهُ آخَرُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا تُرِيدُ نَقْصِي بِقَوْلِكَ وَأَنَا بَشَرٌ وَجَمِيعُ الْبَشَرِ يُلْحِقُهُمُ النَّقْصُ، حَتَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَفْتَاهُ بِإِطَالَةِ سِجْنِهِ، وَإِيجَاعِ أَدَبِهِ إِذْ لَمْ يَقْصِدِ السَّبَّ، وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْأَنْدَلُسِ أَفْتَى بِقَتْلِهِ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْقَاضِي عياض فِي الشِّفَا - وَيُفْطَنُ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، كَيْفَ سَوَّى فِي الْحُكْمِ بَيْنَ ضَارِبِ الْمَثَلِ وَالْمُحْتَجِّ؟ وَالْمُحْتَجُّ: هُوَ الْمُسْتَدِلُّ، وَمُرَادُهُ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْخُصُومَاتِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْمَعَرَّاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَنْزِعُ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، أَوْ يَسْتَشْهِدُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِمَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ: لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي اسْتِشْهَادِهِ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ
بِصِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ كُلُّهَا صَرِيحَةٌ فِي تَخْطِئَةِ الْمُسْتَدِلِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَوُجُوبِ تَأْدِيبِهِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ أُنْكِرَ عَلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْإِفْتَاءِ وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ، فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ تَارَةً يَكُونُ فِي مَقَامِ التَّدْرِيسِ وَالْإِفْتَاءِ وَالتَّصْنِيفِ وَتَقْرِيرِ الْعِلْمِ بِحَضْرَةِ أَهْلِهِ، وَهَذَا لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْخِصَامِ وَالتَّبَرِّي مِنْ مَعَرَّةٍ أَوْ نَقْصٍ يُنْسَبُ إِلَيْهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، وَهَذَا مَحَلُّ الْإِنْكَارِ وَالتَّأْدِيبِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بِحَضْرَةِ الْعَوَامِّ وَفِي الْأَسْوَاقِ، وَفِي التَّعَارُضِ بِالسَّبِّ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ مَحَلٍّ حُكْمٌ يُنَاسِبُهُ.
وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي عَنْ كَاتِبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ مَا قَصَدَ بِمَا ذَكَرَهُ إِلَّا الِاحْتِجَاجَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُ كُفْرُ أَبِيهِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عمر، وَصَرَفَهُ عَنْ عَمَلِهِ، أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَمُ الدِّينِ بْنُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ سراج الدين البلقيني الشافعي رحمه الله إِجَازَةً عَنْ أَبِيهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ الشَّيْخَ تقي الدين السبكي أَخْبَرَهُ عَنِ الْحَافِظِ شرف الدين الدمياطي، أَنَا الْحَافِظُ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ، أَنَا أَبُو المكارم اللبان، أَنَا أبو علي الحداد، أَنَا الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، ثَنَا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثَنَا أحمد بن الحسن الحذاء، ثَنَا أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثَنَا أحمد بن عبد الله بن يونس قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ شُيُوخِنَا يَذْكُرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَى بِكَاتِبٍ يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَانَ مُسْلِمًا، وَكَانَ أَبُوهُ كَافِرًا، فَقَالَ عمر لِلَّذِي جَاءَ بِهِ: لَوْ كُنْتَ جِئْتَ بِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ الْكَاتِبُ: مَا ضَرَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفْرُ أَبِيهِ، فَقَالَ عمر: وَقَدْ جَعَلْتُهُ مَثَلًا لَا تَخُطُّ بَيْنَ يَدَيَّ بِقَلَمٍ أَبَدًا - هَكَذَا أَخْرَجَهُ فِي الْحِلْيَةِ، فَالْكَاتِبُ قَصَدَ بِهَذَا الْكَلَامِ الِاحْتِجَاجَ، وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ عمر فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ: إِنَّهُ جَعَلَهُ مَثَلًا، فَعَلِمَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَارِبِ الْمَثَلِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ يُرَادُ لِلِاسْتِشْهَادِ، كَمَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ كَذَلِكَ، فَبِهَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى ضَارِبِ الْمَثَلِ وَعَكْسُهُ، وَمَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَسْتَنْكِرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَ ضَرْبَ الْمَثَلِ عَلَى الْحُجَّةِ؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا الْقَاضِي عياض، حَيْثُ قَالَ: عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ.
وَمِمَّا أَطْلَقَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ: ضَرْبَ الْمَثَلِ عَلَى الْحُجَّةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ عَنْ أبي سلمة أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، إِذَا حَدَّثْتُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ، وَكَانَ عَارَضَهُ بِقِيَاسٍ مِنَ الرَّأْيِ، كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ
الهروي فِي ذَمِّ الْكَلَامِ، أَيْ فَلَا تُقَابِلْهُ بِحُجَّةٍ مِنْ رَأْيِكَ، فَأَطْلَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ ضَرْبَ الْمَثَلِ، وَاللُّغَةُ أَيْضًا تَشْهَدُ لِذَلِكَ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: ضَرَبَ مَثَلًا وَصَفَ وَبَيَّنَ، وَقَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: ضَرْبُ الْأَمْثَالِ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وَتَمْثِيلُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا حَكَمْتُ فِي الْإِفْتَاءِ عَلَى لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ، وَعَلَّلْتُهُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ؛ لِأَعْرِفَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ الَّذِي حَكَمْتُ عَلَيْهِ هُوَ الْمُحْتَجُّ بِضَرْبِ ذَلِكَ مَثَلًا لِلْغَيْرِ، لَا الْمُسْتَدِلُّ فِي الدَّرْسِ وَالتَّصْنِيفِ، وَمُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ بَيْنَ أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ ضَرْبَ مَثَلٍ.
وَقَصَدْتُ أَيْضًا الِاقْتِدَاءَ بِالْخَلِيفَةِ الصَّالِحِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي لَفْظِهِ، وَقَدْ وَجَدْتُ لِلْقِصَّةِ طَرِيقًا آخَرَ قَالَ الهروي فِي ذَمِّ الْكَلَامِ: أَنَا أبو يعقوب، أَنَا أبو بكر بن أبي الفضل، أَنَا أحمد بن محمد بن يونس، ثَنَا عثمان بن سعيد، ثَنَا يونس العسقلاني، ثَنَا ضمرة ثَنَا علي بن أبي جميلة قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لسليمان بن سعد: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا عَامِلِنَا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا زِنْدِيقٌ قَالَ: هُوَ مَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَافِرًا فَمَا ضَرَّهُ، فَغَضِبَ عمر غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: مَا وَجَدْتُ لَهُ مَثَلًا غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَعَزَلَهُ عَنِ الدَّوَاوِينِ.
وَمِمَّا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ إِطْلَاقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ، مَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ ابن الصلاح فِي جُزْئِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ، حَيْثُ ذَكَرَ إِنْكَارَ الشَّيْخِ عز الدين بن عبد السلام لَهَا، وَقَالَ: إِنَّهُ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] .
وَأَمَّا الْفَصْلُ السَّابِعُ مِنَ الشِّفَا الَّذِي قَالَ الْمُعْتَرِضُ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهِ، فَنَذْكُرُهُ؛ لِيَعْلَمَ مَنْ عَلِمَ وَاقِعَةَ الْحَالِ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لَهَا، قَالَ الْقَاضِي عياض: الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ يَخْتَلِفُ فِي جَوَازِهِ عَلَيْهِ، وَمَا يَطْرَأُ مِنَ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ لَهُ، وَيُمْكِنُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ أَوْ يَذْكُرَ مَا امْتُحِنَ بِهِ وَصَبَرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى شِدَّتِهِ مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْدَائِهِ، وَأَذَاهُمْ لَهُ، وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ حَالِهِ وَسِيرَتِهِ، وَمَا لَقِيَهُ مِنْ بُؤْسِ زَمَنِهِ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مِنْ مُعَانَاةِ عِيشَتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ مَا صَحَّتْ عَنْهُ الْعِصْمَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا فَنٌّ خَارِجٌ عَنْ [هَذِهِ] الْفُنُونِ السِّتَّةِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ غَمْضٌ، وَلَا نَقْصٌ، وَلَا إِزْرَاءٌ، وَلَا اسْتِخْفَافٌ لَا فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَا فِي مَقْصِدِ اللَّافِظِ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفُهَمَاءِ طَلَبَةِ الدِّينِ مِمَّنْ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُ وَيُحَقِّقُ فَوَائِدَهُ، وَيُجَنِّبُ ذَلِكَ مَنْ عَسَاهُ لَا يَفْهَمُهُ أَوْ يُخْشَى بِهِ فِتْنَتُهُ، فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ تَعْلِيمَ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ؛ لِمَا انْطَوَتْ
عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِصَصِ؛ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِنَّ، وَنَقْصِ عُقُولِهِنَّ، وَإِدْرَاكِهِنَّ.
هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، ثُمَّ لَمْ يُطْلِقْ ذَلِكَ، بَلْ قَيَّدَهُ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفُهَمَاءِ الطَّلَبَةِ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ لَمْ تَكُنْ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا طَالِبُ عِلْمٍ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَتْ فِي السِّبَابِ وَالْخِصَامِ فِي سُوقِ الْغَزْلِ، بِحَضْرَةِ جَمْعٍ مِنَ التُّجَّارِ وَالدَّلَّالِينَ وَالسُّوقَةِ وَكُلُّهُمْ عَوَامٌّ، وَأَكْثَرُهُمْ سُفَهَاءُ الْأَلْسِنَةِ يُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ بِمَا يُوجِبُ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَلَا يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِمَنْ أَنْكَرَ مَا أَفْتَيْتُ بِهِ: إِنْ لَمْ تَعْرِفْ عَيْنَ الْوَاقِعَةِ فَأَنْتَ مَعْذُورٌ، وَقَوْلُكَ: لَا تَعْزِيرَ وَلَا عَثْرَةَ إِنْ أَرَدْتَ فِيمَا وَقَعَ فِي مَجْلِسِ الدَّرْسِ وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ بَيْنَ أَهْلِهِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَيْسَ هُوَ صُورَةَ الْوَاقِعَةِ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَا وَقَعَ فِي السُّوقِ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوحَةِ فَمَعَاذَ اللَّهِ، وَحَاشَى الْمُفْتِينَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ.
وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَلَسْتُ أَقْصِدُ بِذَلِكَ غَضًّا مِنَ الْقَائِلِ، وَلَا حَطًّا عَلَيْهِ، فَإِنِّي أَعْتَقِدُ دِينَهُ، وَخَيْرَهُ، وَصَلَاحَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ بَادِرَةٌ بَدَرَتْ وَزَلَّةٌ فَرَطَتْ، وَعَثْرَةٌ وَقَعَتْ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِنْهَا وَيَتُبْ إِلَيْهِ وَيَنْدَمْ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ وَلَا يَعُدْ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صَلَاحِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْخَ عز الدين بن عبد السلام قَالَ فِي قَوَاعِدِهِ: مَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّغِيرَةَ تُنْقِصُ الْوِلَايَةَ فَقَدْ جَهِلَ، وَقَالَ: إِنَّ الْوَلِيَّ إِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ تَعْزِيرُهُ عَلَيْهَا.
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه عَلَى أَنَّ ذَوِي الْهَيْئَاتِ لَا يُعَزَّرُونَ لِلْحَدِيثِ، وَفَسَّرَهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يُعْرَفُونَ بِالشَّرِّ، فَيَزِلُّ أَحَدُهُمُ الزَّلَّةَ فَيَتْرُكُ، وَفَسَّرَهُمْ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ، وَفَسَّرَهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمُ الذَّنَبُ تَابُوا وَنَدِمُوا، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي إِقَالَةِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ كَثِيرَةٌ، أَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وأبو داود، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ» "، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ:" «تَجَاوَزُوا عَنْ زَلَّةِ ذِي الْهَيْئَةِ» "، وَأَخْرَجَهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِلَفْظِ:" «تَجَافُوا عَنْ عُقُوبَةِ ذِي الْمُرُوءَةِ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ".
وَأَخْرَجَهُ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " «تَجَافُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِيِّ فَإِنَّ اللَّهَ آخِذٌ بِيَدِهِ كُلَّمَا عَثَرَ» "، وَأَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وأبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ تقي الدين السبكي فِي كِتَابِهِ - طَرِيقِ الْمَعْدِلَةِ فِي قَتْلِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ: قَوْلُ الْأَصْحَابِ إِنَّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَا وَارِثَ لَهُ فَلِلسُّلْطَانِ الْخِيَرَةُ: بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، أَوْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ مَجَّانًا، كَأَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ عَلَى الْغَالِبِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلْإِمَامِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ مَا يَقْتَضِي الْعَفْوَ عَنْهُ مَجَّانًا إِذَا كَانَ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَفِيهِ صَلَاحٌ وَخَيْرٌ وَنَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ فَرَطَتْ مِنْهُ تِلْكَ الْبَادِرَةُ فَقُتِلَ بِهَا وَظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفُوُّ عَنْهُ بِعِيدٌ، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ.
فَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَنْ لَا يَخْتَارَ إِلَّا مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى سَفْكِ دَمِ مُسْلِمٍ بِمُجَرَّدِ مَا يُقَالُ لَهُ: إِنَّ هَذَا جَائِزٌ فَجَوَازُهُ مَنُوطٌ بِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِإِقَامَةِ الدِّينِ لَا لِحَظِّ نَفْسِهِ وَلَا لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا، وَحَيْثُ شَكَّ فِي ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الْكَفُّ عَنِ الدَّمِ، وَتَبْقِيَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مَعْصُومَةٌ إِلَّا بِحَقِّهَا، فَمَتَى قَتَلَهَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ أَخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَنْ قَتَلَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، انْتَهَى كَلَامُ السبكي.
فَإِذَا جَوَّزَ السبكي الْعَفْوَ عَمَّنْ فِيهِ صَلَاحٌ وَخَيْرٌ وَنَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقَتْلِ قِصَاصًا مَجَّانًا، بِلَا دِيَةٍ، فَمِنْ تَعْزِيرِ زَلَّةٍ فَرَطَتْ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
عَوْدٌ لِبَدْءٍ: قَالَ ابن السبكي فِي كِتَابِهِ التَّرْشِيحِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي بَعْضِ نُصُوصِهِ: وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً لَهَا شَرَفٌ، فَكُلِّمَ فِيهَا فَقَالَ:" لَوْ سَرَقَتْ فُلَانَةُ - لِامْرَأَةٍ شَرِيفَةٍ - لَقَطَعْتُ يَدَهَا " قَالَ ابن السبكي: فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ " فُلَانَةُ "، وَلَمْ يَبُحْ بِاسْمِ فاطمة؛ تَأَدُّبًا مَعَهَا رضي الله عنها أَنْ يَذْكُرَهَا فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهَا صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم حَسَنٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ عِنْدَهُ فِي الشَّرْعِ سَوَاءٌ انْتَهَى.
فَهَذَا مِنْ صُنْعِ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ مِنْ تَقْرِيرِ السبكي أَصْلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَقْلٌ مِنْ حَيْثُ مَذْهَبِنَا، فَقَوْلُهُ: تَأَدُّبًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ضِدَّهُ خِلَافُ الْأَدَبِ، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم حَسَنٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ قَبِيحٌ، هَذَا مَعَ كَوْنِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه إِنَّمَا سَاقَ الْحَدِيثَ مَسَاقَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَسَاقَ تَقْرِيرِ الْعَلَمِ فِي التَّصْنِيفِ الَّذِي لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُهُ، بَلْ لَوْ صَرَّحَ بِالِاسْمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحَلِّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ، وَأَمْرٌ آخَرُ: أَنَّ النَّقْصَ الْمَذْكُورَ وَاقِعٌ فِي حَيِّزِ " لَوْ "، مَنْفِيٌّ عَنْهَا لَا مُثْبِتٌ لَهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِهِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا؟
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ قَائِلًا قَالَ: هَذَا الَّذِي أَفْتَيْتَ بِهِ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَيْسَ بِمَنْصُوصٍ فِي مَذْهَبِكَ.
وَكَذَا يَقَعُ لِأَهْلِ الْعَصْرِ كَثِيرًا، يَدَّعُونَ عَلَيْنَا فِي فَتَاوَى كَثِيرَةٍ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَذْهَبِ، بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتٍ، كَمَا وَقَعَ لَنَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي حِينَ أَفْتَيْنَا بِهَدْمِ الدَّارِ الَّتِي بُنِيَتْ بِرَسْمِ الْفَسَادِ، فَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْأَصْحَابِ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ الْغَزَالِيَّ وَغَيْرَهُ أَشَارُوا إِلَيْهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّأْلِيفِ الَّذِي أَلَّفْنَاهُ فِيهَا، ثُمَّ نَقُولُ فِي هَذِهِ وَغَيْرِهَا: قَوْلُهُمْ مَا أَفْتَيْتُ بِهِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ وُجُودِ الْمَسْأَلَةِ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا مُعَارَضٌ بِأَنَّا نَقُولُ لَهُمْ: مَا أَفْتَيْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ أَيْضًا خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، فَكَمَا اسْتَنَدْتُمْ إِلَى الْعَدَمِ فِي نِسْبَةِ الْخِلَافِ إِلَيَّ اسْتَنَدْتُ إِلَى الْعَدَمِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ كِلَاهُمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ نَقْلٍ، فَإِنْ قَالُوا: أَخَذْنَاهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ قُلْتُ: وَأَنَا أَيْضًا أَخَذْتُ مِنَ الْقَوَاعِدِ.
وَعَلَى بَيَانِ ذَلِكَ لِمَنْ يُرِيدُ الْإِنْصَافَ، فَمَنْ قَالَ: التَّعْزِيرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْحَابَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهَا، أَقُولُ لَهُ: فَهَلْ نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعْزِيرَ فِيهَا حَتَّى تُقْدِمَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَتَنْسُبَهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: الْقَوْلُ بِهَدْمِ الدَّارِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي شَرَحْتُهَا فِي تَأْلِيفِهَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، أَقُولُ لَهُ: فَهَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ حَتَّى اسْتَنَدْتَ إِلَيْهِ؟ وَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْجَانِبَيْنِ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ النَّصِّ وُجِدَتِ النُّقُولُ فِي الْمَذَاهِبِ بِأَحَدِهِمَا، وَالْأَدِلَّةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَعَدَمُ التَّجَاوُزِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا مَا يُخَالِفُهُ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي فَتَاوَى ابن الصلاح أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا لِلْأَصْحَابِ، فَأَفْتَى فِيهَا بِالْمَنْصُوصِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَقَرَّرَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَسْأَلَةً لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَجَابَ فِيهَا بِمَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي قَوَاعِدِنَا مَا يَنْفِيهِ، وَسُئِلَ البلقيني عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَجَابَ فِيهَا بِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عياض فِي الْمَدَارِكِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةً لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَفْتَى فِيهَا بِالْمَنْقُولِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَكَرَ الزركشي فِي " الْخَادِمِ " مَسْأَلَةَ مَسْحِ الْخُفِّ لِلْمُحْرِمِ، وَقَالَ: لَا نَقْلَ فِيهَا، وَأَجَابَ بِالْمَنْقُولِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُهَا فِي كِتَابِي " الْيَنْبُوعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الرَّوْضَةِ مِنَ الْفُرُوعِ "، وَمَسْأَلَةُ الْهَدْمِ نَصَّ عَلَيْهَا أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا الْغَزَالِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَثَبَتَتْ فِيهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْآثَارُ الْكَثِيرَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ
مَسْعُودٍ، وابن الزبير، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرِهِمْ سَلَفًا وَخَلَفًا، قَوْلًا وَفِعْلًا، وَلَا نَصَّ فِي مَذْهَبِنَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَّا قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ لَا تَعْزِيرَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَخْصُوصَةٌ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَكْسِرُ آنِيَةَ الْخَمْرِ وَالْأَوَانِيَ الْمُثَمَّنَةَ إِذَا كَانَ فِيهَا صُورَةٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلِمَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ إِتْلَافُهُ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ الْفَسَادِ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِإِيضَاحِهِ يَسْتَدْعِي طُولًا، وَقَدْ بَسَطْتُهُ فِي التَّأْلِيفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى التَّعْزِيرِ فِيهَا، وَلَمْ يَنُصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا فِي قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا مَا يَنْفِيهِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَهَذَا النَّصُّ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه يَصْلُحُ أَصْلًا فِي الْمُسَالَةِ، وَتَقْرِيرُ السبكي لَهُ وَإِيضَاحُهُ زَادَهُ بَيَانًا وَحُسْنًا، وَسَأَتَتَبَّعُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ فِي كُتُبِهِمْ فِي الْفِقْهِ وَشُرُوحِهِمْ لِلْحَدِيثِ مَا أَرَاهُ مُقَوِّيًا لِذَلِكَ فَأَذْكُرُهُ.
فَصْلٌ
قَالَ الرافعي فِي الشَّرْحِ وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الرِّدَّةِ: فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِنَاءٌ تَامٌّ بِتَفْصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْكُفْرِ، وَأَكْثَرُهَا مِمَّا يَقْتَضِي إِطْلَاقَ أَصْحَابِنَا الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ، فَنَذْكُرُ مَا يَحْضُرُنَا فِي كُتُبِهِمْ، ثُمَّ سَرَدَهَا الرافعي وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَتَعَقَّبَا جُمْلَةً مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ الرافعي، وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ سَرْدِهَا: وَهَذِهِ الصُّوَرُ تَتَبَّعُوا فِيهَا الْأَلْفَاظَ الْوَاقِعَةَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَأَجَابُوا فِيهَا اتِّفَاقًا وَاخْتِلَافًا بِمَا ذُكِرَ، وَمَذْهَبُنَا يَقْتَضِي مُوَافَقَتَهُمْ فِي بَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِهَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ اللَّفْظِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنَ الشَّيْخَيْنِ صَرِيحٌ فِيمَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْفَتْوَى، بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَذَاهِبِ بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ عِنْدَنَا، وَلَا فِي قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا مَا يَنْفِيهِ.
ثُمَّ قَالَ النووي فِي الرَّوْضَةِ: مِنْ زَوَائِدِهِ عَقِبَ ذَلِكَ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عياض فِي آخِرِ كِتَابِ الشِّفَا جُمْلَةً مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ غَيْرَ مَا سَبَقَ نَقْلُهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ، أَكْثَرُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلُخِّصَ مَا فِي الشِّفَا مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنَ النووي عَيْنُ مَا جَنَحْنَا إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِعَيْنِهَا.
وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا للرافعي فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ: رُؤْيَتِي إِلَيْكَ كَرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ. زَادَ النووي قُلْتُ: الصَّوَابُ إِنَّهُ لَا يُكَفَّرُ، وَهَذِهِ إِحْدَى الصُّوَرِ الَّتِي سَاقَهَا الْقَاضِي عياض فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ، فَإِذَا كَانَ فِيهَا قَوْلٌ بِالتَّكْفِيرِ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّعْزِيرِ إِذَا لَمْ يُكَفَّرْ.
فَصْلٌ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا مغيرة عَنْ إبراهيم قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَمَا يَعْرِضُ مِنْ أَحَادِيثِ الدُّنْيَا، قِيلَ لهشيم نَحْوَ قَوْلِهِ:
{جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} [طه: 40] قَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ صَرَّحَ العماد الينهي مِنْ أَصْحَابِنَا بِهَذَا الْحُكْمِ، فَقَالَ: بِمَنْعِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنَ الْقُرْآنِ، نَقَلَهُ ابن الصلاح فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ - والينهي هَذَا مِنْ تَلَامِذَةِ الْبَغَوِيِّ - وَهَذَا شَاهِدٌ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَمَا أَنَّ الْأَدَبَ أَنْ لَا يَضْرِبَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ مَثَلًا لِوَاقِعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ الْأَدَبُ أَنْ لَا تُضْرَبَ أَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ مَثَلًا لِحَالِ غَيْرِهِمْ.
فَصْلٌ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَالْحَافِظُ قَاضِي الْقُضَاةِ شهاب الدين بن حجر بِمَا نَصُّهُ: مَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْمَوَالِدِ الَّتِي يَصْنَعُهَا النَّاسُ مَحَبَّةً فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْوُعَّاظِ يَذْكُرُونَ فِي مَجَالِسِهِمُ الْحَفْلَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مُجْرَيَاتٍ هِيَ مُخِلَّةٌ بِكَمَالِ التَّعْظِيمِ، حَتَّى يَظْهَرَ مِنَ السَّامِعِينَ لَهَا حُزْنٌ وَرِقَّةٌ، فَيَبْقَى فِي حَيِّزِ مَنْ يُرْحَمُ لَا فِي حَيِّزِ مَنْ يُعَظَّمُ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَرَاضِعَ حَضَرْنَ وَلَمْ يَأْخُذْنَهُ؛ لِعَدَمِ مَالِهِ إِلَّا حليمة رَغِبَتْ فِي رَضَاعِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْعَى غَنَمًا وَيُنْشِدُونَ:
بِأَغْنَامِهِ سَارَ الْحَبِيبُ إِلَى الْمَرْعَى
…
فَيَا حَبَّذَا رَاعٍ فُؤَادِي لَهُ يَرْعَى.
وَفِيهِ: فَمَا أَحْسَنَ الْأَغْنَامَ وَهُوَ يَسُوقُهَا. وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الْمُخِلِّ بِالتَّعْظِيمِ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي ذَلِكَ؟ .
فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: يَنْبَغِي لِمَنْ يَكُونُ فَطِنًا أَنْ يَحْذِفَ مِنَ الْخَبَرِ مَا يُوهِمُ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ نَقْصًا، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ - هَذَا جَوَابُهُ بِحُرُوفِهِ.
فَصْلٌ
وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الصَّمْتِ عَنْ مطرف قَالَ: لِيَعْظُمْ جَلَالُ اللَّهِ فِي صُدُورِكُمْ، فَلَا تَذْكُرُوهُ عِنْدَ مِثْلِ قَوْلِ أَحَدِكُمْ لِلْكَلْبِ: اللَّهُمَّ أَخْزِهِ، وَلِلْحِمَارِ وَلِلشَّاةِ.
فَصْلٌ
قَالَ السهيلي فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَ إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ مَا نَصُّهُ: وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَقُولَ نَحْنُ هَذَا فِي أَبَوَيْهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ» "، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] الْآيَةَ.
فَصْلٌ
رَعْيُ الْغَنَمِ لَمْ يَكُنْ صِفَةَ نَقْصٍ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ حَدَثَ الْعُرْفُ بِخِلَافِهِ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ فَرُبَّ حِرْفَةٍ، هِيَ نَقْصٌ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَفِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، وَفِي الْمُرُوءَةِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَسْطُورَةٌ
حَتَّى فِي الْمِنْهَاجِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَصْمَ لَمْ يُخْرِجْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا مَخْرَجَ الشَّتْمِ وَالتَّنْقِيصِ، حَيْثُ قَالَ: وَأَنْتَ يَا رَاعِيَ الْمِعْزَى، صَارَ لَكَ كَلَامٌ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَوْطِنِ لَا يُحْتَجُّ فِيهِ بِأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ أَبَدًا، خُصُوصًا بَيْنَ الْعَوَامِّ، هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى.
وَقَدْ تَذَكَّرْتُ هُنَا نُكْتَةً لَطِيفَةً: قَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي التَّرْشِيحِ: كُنْتُ يَوْمًا فِي دِهْلِيزِ دَارِنَا فِي جَمَاعَةٍ، فَمَرَّ بِنَا كَلْبٌ يَقْطُرُ مَاءً يَكَادُ يَمَسُّ ثِيَابَنَا فَنَهَرْتُهُ، وَقُلْتُ: يَا كَلْبُ يَا ابْنَ الْكَلْبِ، وَإِذَا بِالشَّيْخِ الْإِمَامِ - يَعْنِي وَالِدَهُ الشَّيْخَ تقي الدين السبكي - يَسْمَعُنَا مِنْ دَاخِلٍ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: لِمَ شَتَمْتَهُ؟ فَقُلْتُ: مَا قُلْتُ إِلَّا حَقًّا أَلَيْسَ هُوَ بِكَلْبٍ ابْنِ كَلْبٍ؟ فَقَالَ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّكَ أَخْرَجْتَ الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِ الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ فَائِدَةٌ لَا يُنَادَى مَخْلُوقٌ بِصِفَتِهِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْإِهَانَةِ - هَذَا لَفَظُهُ فِي التَّرْشِيحِ.
فَصْلٌ
الْمُمَارَاةُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالتَّدْلِيسُ، وَقَصْدُ الِانْتِقَامِ بِالضَّغَائِنِ الْبَاطِنَةِ لَا يَضُرُّ إِلَّا فَاعِلَهُ، وَلَا يُصِيبُ الْمُشَنَّعَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِهِ شَيْءٌ وَالْحَقُّ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ السبكي: أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُخَاصِمُهُ كُلُّ صَالِحٍ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ صَالِحٍ فِي الصَّلَاةِ حَقًّا حَيْثُ فِيهَا: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَكَذَلِكَ الْمُدَلِّسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُخَاصِمُهُ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعُدَّتُهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَكَ عِنْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَأَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ لِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَصْمِي، يَقُولُ لِي: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الْكَذِبَ عَنْ حَدِيثِي؟ وَكَذَلِكَ أَقُولُ: لَأَنْ يَكُونَ كُلُّ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصَمَائِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُخَاصِمَنِي نَبِيٌّ وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ.
[وَاللَّهُ أَعْلَمُ] .
مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ قُضَاةُ بَلَدِهِ، فَقَالَ لَهُ سُلْطَانُ الْبَلَدَ: ارْجِعْ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَأَبَى وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِقَوْلِ أَحَدٍ، وَلَوْ قَامَ الْجَنَابُ الْعَالِي عليه الصلاة والسلام مِنْ قَبْرِهِ مَا سَمِعْتُ لَهُ، حَتَّى يُرِيَنِي النَّصَّ، فَهَلْ يُكَفَّرُ بِهَذَا؟ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مُدَّةٍ: لَوْ سَبَّنِي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ لَسَبَبْتُهُ، وَصَارَ يُفْتِي الْعَامَّةَ وَالسُّوقَةَ بِجَوَازِ هَذَا.
الْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَرْجِعُ لِأَحَدٍ وَلَوْ قَامَ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَبْرِهِ مَا سَمِعَ لَهُ حَتَّى يُرِيَهُ النَّصَّ، فَهَذَا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ هَذَا صَدَرَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ، وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ
بِالْمُسْلِمِ وَاللَّائِقُ بِحَالِهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ قَامَ مالك مِنْ قَبْرِهِ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْجَنَابِ الرَّفِيعِ لِحِدَةٍ حَصَلَتْ عِنْدَهُ فَهَذَا لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُعَزَّرُ إِذَا عُرِفَ بِالْخَيْرِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى سَبْقِ اللِّسَانِ، وَلَا يُكْتَفَى مِنْهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ النَّدَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَلَأِ بِالْخَطَأِ، وَيُبَالِغَ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَيَحْثُوَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُكْثِرَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِوُجُوهِ الْبِرِّ، وَالِاسْتِقَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْعَثْرَةِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِقَادِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُصَمِّمُ، فَيَقُولُ مَثَلًا: لَوْ أَمَرَنِي الْإِنْسُ وَالْجِنُّ بِهَذَا مَا سَمِعْتُ لَهُمْ، وَلَوْ رُوجِعَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لَقَالَ: مَا أَرَدْتُ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ، وَلَوْ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَبْرِهِ حَقِيقَةً، وَقَالَ لِي: لَبَادَرْتُ إِلَى امْتِثَالِ قَوْلِهِ، وَسَمِعْتُ مِنْ غَيْرِ تَلَعْثُمٍ، وَلَا تَوَقُّفٍ، وَلَكِنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ قُلْتُهَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ؛ لِعِلْمِي بِأَنَّ قِيَامَهُ الْآنَ مِنْ قَبْرِهِ وَقَوْلَهُ لِي غَيْرُ كَائِنٍ وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً، فَهَذَا لَا يُكَفَّرُ، وَلَكِنَّهُ أَتَى بِعَظِيمٍ مِنَ الْقَوْلِ؛ فَيُعْزَلُ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرًا لَائِقًا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الْقَتْلِ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِقَادِ، بِحَيْثُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيًّا، وَقَالَ لَهُ: الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا حَكَمْتَ لَمْ يَسْمَعْ لَهُ وَهَذَا كُفْرٌ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]، وَقَالَ تَعَالَى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، وَقِصَّةُ الَّذِي حَكَمَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِ، وَجَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لِيَحْكُمَ لَهُ فَقَتَلَهُ عمر بِالسَّيْفِ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ أَهْدَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَهُ، وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا سَمِعْتُ لَهُ حَتَّى يُرِيَنِي النَّصَّ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم نَفْسُهُ: هُوَ النَّصُّ فَأَيُّ نَصٍّ يُرِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ؟ وَالظَّنُّ بِالْمُسْلِمِ إِنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي فَمِنْ أَخْطَأِ الْخَطَأِ وَأَقْبَحِهِ، وَأَشَدُّ مِنْ قَوْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي السُّوءِ الْإِفْتَاءُ بِإِبَاحَتِهَا، فَأَمَّا أَصْلُ الْمَقَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَوْ سَبَّنِي نَبِيٌّ، أَوْ مَلَكٌ لَسَبَبْتُهُ، فَالْجَوَابُ فِيهَا كَمَا قَالَ ابن رشد، وابن الحاج: أَنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ؛ بِالضَّرْبِ