الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُليمة في التوكل
وبعد فلمناسبةِ ذكرِ التوكُّل واقترانِه بالتّقوى فيما أوردنا عليك من الآياتِ الكريمةِ والأحاديثِ الشريفة، وإشادة الإسلام به، والحثِّ على أن يكونَ شعارَ المؤمن في كلّ أسبابه، رأينا أن نلمَّ به وبحقيقته إلماماً. فنقول: التوكُّل: كلمةٌ يراد بها أمران، لا يعدُّ التوكل توكُّلاً على الحقيقة إلا إذا تحقّقا معاً. فأما أول الأمرين فهو: الاعتقاد بأنّ الله عزَّ وتقدّس هو وحده الذي بيده كل شيء، وأنّه لا سواه الذي له مقاليد السموات والأرض، وأن جميع الخلق فقراء كلَّ الفقر إلى عونه سبحانه، وأنه:
إذا لَمْ يكُنْ عَونٌ من اللهِ للفَتى
…
فأوَّلُ ما يَجني عليه اجْتِهادُهُ
وكل هذا ممّا لا خفاءَ بأنّه ممّا تقتضيه عقيدةُ التّوحيد التي قام عليها الإسلام؛ وأما الأمر الآخر فهو: أن لا يكونَ المرءُ وَكَلةً، فلا يعتمد بعد اللهِ إلا على نفسِه، وهذا الأمر الثاني يكاد يكون ضربَ قولهم اليوم الاعتماد على النفس أو قول الطّغرائيّ:
وإنّما رَجُلُ الدُّنيا وواحِدُها
…
مَن لا يُعوِّلُ في الدُّنْيا على رَجُلِ
والشطر الأول، يقتضي الاعتقادَ بالقدر خيرِه وشرِّه، والشطر الآخر يقتضي السَّعيَ والاحتياطَ لأمره، ولا تَنافرَ بينهما البتّة، وإنّما هما، لدى إنعام النظرِ، شيءٌ واحدٌ يُعبَّر عنه
بالتوكل. . .
جاء رجلٌ إلى سيدنا رسول الله فقال له: إنّي أرسل ناقتي وأتوكّل: فقال صلوات الله عليه: (بل اعْقِلْها وتوكَّل). . . ومرّ الشّعبيُّ بإبلٍ قد فشا فيها الجَرَب: فقال لصاحبها: أما تداوي إبلَك؟ فقال: إنّ لنا عجوزاً نتّكل على دُعائِها! فقال: اجْعل مع دعائِها
شيئاً من القَطِران. . . وقال أبو عبيدةَ بن الجراح لعمرَ رضي الله عنه حين كره طواعين الشام ورجع إلى المدينة: أتفرُّ من قدرِ الله؟ قال: نعم، إلى قدرِ الله. . . فقال له أينفع الحذرُ من القدر؟ فقال: لسنا ممّا هناك في شيءٍ تأمل إنّ الله لا يأمر بما لا ينفع ولا ينهى عما لا يضرُّ ألقِِ بالَك وقد قال تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وقال تعالى:{خُذُواْ حِذْرَكُمْ} . . . وفي كتاب كليلة: لا يمنع العاقلَ يقينُه بالقدرِ مِن توقّي المخوفِ، بل ليجمعَ تصديقاً بالقدرِ وأخذاً بالحزمِ، وقال شاعر:
والمَرْءُ تَلْقاهُ مِضْياعاً لفُرْصَتِه
…
حتّى إذا فاتَ أمْرٌ عاتَبَ القَدَرَا
وقال آخر:
إذا عُيِّروا قالوا مَقاديرُ قُدِّرَتْ
…
وما العارُ إلا ما تَجُرُّ المَقادِرُ
وقال آخر:
وأوَّلُ عَجْزِ القومِ عمَّا ينوبُهُم
…
تَدَافُعُهُمْ عنه وطُولُ التَّواكُلِ
وقالوا في المثل: من العجز الإحالةُ على المقادير. . .
وإليك ما قاله الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري، المسمّى فتح الباري تأييداً لهذا الذي قلنا في التوكّل: والمراد بالتوكّل اعتقادُ ما دلّت عليه الآية: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} ، وليس المراد به تركَ التسبّب، والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأنّ ذلك قد يجرّ إلى ضدِّ ما يراد من التوكّل، وقد سُئل أحمد - بن حنبل - عن رجلٍ جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجلٌ جهل العلمَ تأمل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ جعل رزقي تحت ظلِّ رمحي)،