المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(5)مقدمة"موضح أوهام الجمع والتفريق"للخطيب البغدادي - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٢٥

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ مولده

- ‌ طلبه العلم:

- ‌ شيوخه:

- ‌ رحلاته:

- ‌ الرواة عنه:

- ‌ الثناء عليه:

- ‌ الأمير والأدب:

- ‌ الأمير والخطيب وهذا الفن:

- ‌ مؤلفات الأمير:

- ‌الإكمال ووصفه

- ‌ نُسَخ الإكمال:

- ‌ منهج الكتاب:

- ‌ الاصطلاحات والرموز:

- ‌قضايا فيها نظر

- ‌(2)مقدمةكتاب "الأنساب"لأبي سعد السمعاني

- ‌ فنّ الأنساب والحاجة إليه:

- ‌ التأليف فيه:

- ‌ أنساب السمعاني:

- ‌ الكتب التي تلته:

- ‌ ذِكْر سَلَفه

- ‌ اسمه ونسبه

- ‌ مولده ونشأته:

- ‌ رحلته:

- ‌ رجوعه إلى وطنه:

- ‌ بعض شيوخه:

- ‌ عدد شيوخه ومعاجمه:

- ‌ ثناء أهل العلم عليه:

- ‌ بعض الآخذين عنه:

- ‌ مؤلفات أبي سعد

- ‌ مكاتب السمعانيين:

- ‌ وفاة أبي سعد:

- ‌كتاب الأنساب

- ‌ النسخ التي طُبِع عنها وقُوبل عليها:

- ‌ التحقيق والتعليق:

- ‌ علم الجرح والتعديل:

- ‌ النقد والنُّقاد:

- ‌ أئمة النقد:

- ‌ اسمه ونسبه:

- ‌ مولده ونشأته وطلبه للعلم:

- ‌ مشايخه والرواة عنه:

- ‌ ثناء أهل العلم عليه:

- ‌ مصنفاته:

- ‌كتاب تَقْدِمة المعرفة للجرح والتعديل ومَزيَّته

- ‌كتاب الجرح والتعديل ومَزيَّته

- ‌ ترتيب الكتاب:

- ‌ البياضات:

- ‌ الأوهام:

- ‌ الأصول المطبوع عنها:

- ‌ تجزئة الكتاب لأجل الطبع:

- ‌ النقل عن الكتاب:

- ‌شُكر

- ‌ ابتداء التأليفات في التواريخ وكتب الرجال وأصنافها:

- ‌ جُرجان وكثرة علمائها:

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌ طلبه العلم، رحلته، شيوخه، الرواة عنه:

- ‌ مكانته في العلم، وتثبته، وثناء الأئمة عليه:

- ‌ مؤلفاته:

- ‌تاريخ جُرجان وترتيبه، ورواته، والنقل عنه

- ‌ النقل عن تاريخ جُرجان:

- ‌ من مزايا الكتاب:

- ‌ وصف النسخة الأصل:

- ‌كيفية التصحيح

- ‌(5)مقدمة"مُوَضِّح أوهام الجَمْع والتفريق"للخطيب البغدادي

- ‌تاريخ البخاري والتوهيمات

- ‌ اسم الكتاب:

- ‌ الموضوع والفائدة:

- ‌ النظر في تعقبات الرازيين:

- ‌ حكم الخطأ هنا:

- ‌ النسخة الأصل:

- ‌ طريقتنا في تحقيق الكتاب:

- ‌(7)مقدمة"المعاني الكبير"لابن قتيبة الدينوري

- ‌ مكانة الشعر القديم:

- ‌ تدوين الشعر:

- ‌أبيات المعاني

- ‌ المؤلفون في هذا الفن:

- ‌التعريف بابن قتيبة

- ‌ مبدأ أمره:

- ‌ شيوخه:

- ‌ الرواة عنه:

- ‌ مكانته في معرفة الشعر:

- ‌ اختيار الشعر:

- ‌ أقسام الشعر:

- ‌ مكانته في علوم الأدب وغيرها:

- ‌ غضّ بعضهم منه:

- ‌ حياته:

- ‌ وفاته:

- ‌ تراثه العلمي ومؤلفاته:

- ‌كتاب المعاني الكبير

- ‌(8)مقدمة"الفوائد المجموعة"للشوكاني

- ‌ المؤلفات في الموضوعات:

- ‌ قواعد يحسن تقديمها:

- ‌(11)مقدمة"كشف المُخدَّرات والرياض المزهراتشرح أخصر المختصرات"لزين الدين البعلي الدمشقي

- ‌(12)«البحث عن كتاب الكنى»(1)للإمام البخاري

- ‌(14)خاتمة طبع«نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر»لعبد الحي الحسني

- ‌(15)خاتمة طبع«معجم الأمكنة لنزهة الخواطر»لمعين الدين الندوي

- ‌(16)تقريظ"فضل الله الصَّمَد في توضيح الأدب المفرد"للسيد فضل الله الجيلاني

- ‌(17)تقريظ"مسند الصحيحين"لعبد الحق الهاشمي

- ‌(18)تحقيق في لفظة (أبنا) و (أنبأ)الواقعة في"السنن الكبرى للبيهقي

- ‌(19)تحقيق نِسبة (العندي)

الفصل: ‌(5)مقدمة"موضح أوهام الجمع والتفريق"للخطيب البغدادي

(5)

مقدمة

"مُوَضِّح أوهام الجَمْع والتفريق"

للخطيب البغدادي

(ت 463)

ص: 175

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

أمّا بعد، فمن الواضح أنّ معظم العلوم الإسلامية مدارها على النقل، وأنّ النّقل لما عدا نصّ كتاب الله تعالى من شأنه أن يختلط صحيحه بسقيمه، فأصبح مفتقرًا إلى النقد، وعماد النقد النظر في أحوال الناقلين.

وقد اعتنى علماء سلفنا بنقل تلك العلوم من قراءات وتفسير وحديث وآثار وفقه، وكذا التاريخ واللغة والأدب بأسانيد متصلة يحدِّث بها اللَّاحق عن السابق إلى أن تمّ تقييدها في المصنفات. وإلى جانب ذلك عُنوا بالبحث عن أحوال الرواة وبيانها للناس لتُنْقل ثم تُقيد كغيرها.

وأوّل مصنف جامع لأسماء الرواة ــ إلّا ما شذّ ــ هو "التاريخ الكبير" للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، احتوى على بضعة عشر ألف ترجمة. وفي عصره جمع أصحاب الإمامين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين مجاميع ممّا أفاداه في أحوال الرواة، ثم كثرت المصنفات والمجاميع في ذلك.

هذا والأسماء قد تشتبه، فيتفق الرجلان فأكثر في الاسم واسم الأب واسم الجد ونحو ذلك، كأحمد بن جعفر بن حمدان، أربعة في طبقة واحدة. وكثيرًا ما يُذْكر الراوي بأوصافٍ متعددة كمحمد بن سعيد بن حسان الشامي المصلوب، يقال له: محمد بن حسان، محمد بن عبد الرحمن، محمد بن زكريا، محمد بن أبي قيس، محمد بن أبي زينب، محمد بن أبي

ص: 177

الحسن، محمد بن أبي عتبة، محمد بن أبي حسان، محمد بن أبي سهل، محمد الطبري، محمد الأردني، محمد مولى بني هاشم، أبو عبد الرحمن الشامي، أبو عبد الله الشامي، أبو قيس الملائي، أبو قيس الدمشقي، إلى غير ذلك.

والأئمة إنما يعرفون أكثر الرواة قبلهم من أسانيد الأخبار التي تجيء من طريقهم، وإذ كان الأمر كذلك فطبيعي أن يقع لبعض الأئمة الخطأ فيَعدُّ الاثنين فأكثر واحدًا لاتفاق الاسم والطبقة، ويعدّ الواحد اثنين فأكثر لاختلاف الاسم، أو يتردد بين الأمرين، كما لا يُؤمَن أن يقع الاشتباه لمن ينظر في أسانيد الأخبار، وفي ذلك من الخلل ما فيه، فقد يكون أحد الرجلين موثَّقًا والآخر مجروحًا، فمن ظنهما واحدًا، كان بين أن يردّ خبر الثقة أو يقبل خبر المجروح، ومن حسب الواحد اثنين، قد يَعدُّ أحدَهما ثقة والآخر غير ثقة، فيكون قد اعتقد في رجل واحد أنّه ثقة غير ثقة، إلى غير ذلك من المفاسد.

لذلك اعتنى المحدِّثون بهذا الباب، فوضعوا لبيانه فنَّين، فنّ المتفق والمفترق، لِمَا اتفق اثنان فأكثر في اسم واحد، وفنّ مَن يُذْكَر بأوصاف متعددة، لمن يُذْكَر باسمين فأكثر وهو واحد. كما وضعوا في علوم الحديث فنونًا أخر تذكر في كتب المصطلح.

وكان قدماء الأئمة في شُغل عن هذا التفنين بما هو أهم منه من جمع الأصول وحياطتها، ثم في القرن الرابع بدأ العمل فيها، فألَّف

(1)

بعضهم في

(1)

الأصل: "فبها تألف" خطأ.

ص: 178

بعض الفنون، واعتنى بعضهم برسمها والتمثيل لها كما فعل أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في كتاب "معرفة علوم الحديث".

فلمّا جاءت النوبة إلى الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي

(1)

وجَّه عنايته إلى التأليف في تلك الفنون، فصنّف في كلّ فنّ كتابًا، صارت عمدةً لأهل الحديث بعده، كما قال ابن السمعاني عند ذكر (الخطيب) في "الأنساب". وقال ابن الجوزي في "المنتظم" بعد أن ذكر جُملة من مؤلفات الخطيب:"مَن نظر فيها عرف قدر الرجل وما هيئ له ممّا لم يتهيأ لمن كان أحفظ منه كالدارقطني وغيره"، وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة "شرح النخبة" بعد أن ذكر مؤلَّفَي الخطيب "الكفاية" و"الجامع":"وقلَّ فن من فنون الحديث إلاّ وقد صنّف فيه كتابًا مفردًا، فكان كما قال الحافظ ابن نُقْطة: كل مَن أنصف عَلِم أنّ المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه". وقال الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السِّلَفي:

تصانيف ابن ثابت الخطيب

ألذّ من الصبا الغض الرطيب

يراها إذ رواها من حواها

رياضًا للفتى اليَقِظ اللبيب

ويأخذ حُسْن ما قد صاغ فيها

بقلب الحافظ الفطن الأريب

فأيةُ راحةٍ ونعيم عيش

يوازي عيشها أم أي طيب

ألَّف الخطيب في فنِّ (المتفق والمفترق) كتابًا، ولم يذكروا أحدًا سبقه إلى التأليف فيه، وألَّف في مَن يُذكر بأوصاف متعددة كتابه (المُوَضِّح)، وقد سُبِق في الجملة؛ ذكروا أنّ أبا زرعة أخذ على "تاريخ البخاري" عدة قضايا

(1)

ترجمة الخطيب معروفة وقد لخصتها في آخر كتابه الجليل (الكفاية) المطبوع بدائرة المعارف العثمانية، فلم أر هنا الإطالة بذكرها. [المؤلف].

ص: 179

في الجمع والتفريق.

والجمع: عدّ الاثنين فأكثر واحدًا. والتفريق: عدّ الواحد اثنين فأكثر.

وذكروا أنّ لعبد الغني بن سعيد مؤلَّفًا سماه (إيضاح الإشكال)، فأمّا مآخذ أبي زرعة فقد جمعها ابن أبي حاتم، وأشار إليها في كتابه (الجرح والتعديل) وليست بكثيرة. وأمّا كتاب عبد الغني فقرأت على لوح الجزء الثاني من "المُوَضِّح" فائدة بخط بعض أهل العلم، ذكر فيها "إيضاح الإشكال"، وأنّ السيوطي لخَّصه في خمس عشرة ورقة، قال:"والذي فيه من الأسماء قليل جدًّا بالنسبة لما ذكره الخطيب".

وأمّا كتاب الخطيب ــ وله أكتب هذه المقدمة ــ فهو هذا:

ص: 180

"موضح أوهام الجمع والتفريق"

هذا الكتاب مشهورٌ بين أصحاب الحديث، يذكرونه في ترجمة الخطيب، وفي كتب علوم الحديث (المصطلح) وينقلون عنه في كتب الرجال.

* وصفه:

ابتدأه الخطيب بالحمد والصلاة، وبيان موضوع الكتاب والحاجة إليه، ثم روى عن الدارقطني قضيتين في الجمع والتفريق أخذهما على البخاري، ثم ذكر الخطيب أنّ في "تاريخ البخاري" قضايا كثيرة من هذا الباب، وأنّه سيذكرها ثم يذكر ما شاكلها ممّا وقع لغير البخاري، ثم يذكر ما اختلفوا فيه ولم يتبين له الصواب، ثم يذكر ما له رُسِم الكتاب، ثم قال: "ولعلّ بعض من ينظر فيما سطرناه

يُلْحق سيئ الظن بنا، ويرى أنّا عَمَدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا. وأنّى يكون ذلك وبهم ذُكِرْنا، وبشعاع ضيائهم تبصَّرْنا

ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلامًا

لزم المهتدين بمبين أنوارهم .... بيان ما أهملوا وتسديد ما أغفلوا

وذلك حق للعالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم". ثم ذكر حكايات في أنّ الكامل من عُدّت سقطاته، وأنّه لا يسلم من الخطأ كتاب غير كتاب الله عز وجل. ثم روى عن أبي زُرعة أنّه وجد في "تاريخ البخاري" خطأ كثيرًا، فوافقه صالح بن محمد الحافظ، واعتذر عن البخاري بأنّ الخطأ ممّن قَبْله.

ثم ذكر أنّ ابن أبي حاتم جمع الأوهام التي أخذها أبو زرعة على البخاري في كتاب مفرد. قال الخطيب: "ونظرت فيه فوجدت كثيرًا منها لا

ص: 181

تلزمه، وقد حكى عنه في ذلك الكتاب أشياء هي مدونة في تاريخه على الصواب بخلاف الحكايات عنه"، ثم أخذ عليه أنّه لم ينص على عدم قصده انتقاص البخاري مع أنّه أغار على "تاريخه" فضمنه "كتاب الجرح والتعديل"، وذكر حكاية الحاكم أبي أحمد، وقد ذكرتُها وأجبتُ عنها في مقدمتي لكتاب (الجرح والتعديل). ثم روى كلمة ابن عقدة في حاجة أهل الحديث إلى "تاريخ البخاري". ثم قال: "فمن أوهام البخاري في الجمع والتفريق

" فساق أربعة وسبعين فصلاً، غالبها في التفريق وهو موضوع الكتاب، وبعضها في الجمع وهو من موضوع فن المتفق والمفترق، يسوق في كل فصل عبارة "التاريخ"، ثم يذكر رأيه ويستدلّ عليه بكلام بعض الأئمة، وبسياق الأسانيد التي تشهد لقوله مع أحاديثها. ويتوسع في ذكر الأحاديث والاختلاف فيها ويستطرد لفوائد أخر.

ثم ذكر قضايا لابن معين، ثم لجماعة من الأئمة إلى أن ختم بالدارقطني، ثم ساق فصلاً فيما اختلف فيه من ذلك ولم يَبِن له الصواب: الجمع أم التفريق؟ وبتمامه تم القسم الأول من الكتاب، وهو نحو خمسيه.

ثم شرع في القسم الثاني بسياق أسماء الرواة الذين ذُكِر كل منهم بوصفين أو أكثر فقال: "باب الألف، إبراهيم بن أبي يحيى

" وساق من طريقه خبرًا بهذا الاسم، ثم قال: "وهو إبراهيم بن محمد الذي حدث عنه محمد بن إدريس الشافعي وعبد الرزاق"، وساق عن كل منهما خبرًا عن إبراهيم بهذا الاسم. وحكايةً عن صالح بن محمد الحافظ أن شيخ عبد الرزاق هو ابن أبي يحيى. ثم قال: "وهو إبراهيم بن محمد بن أبي عطاء الذي روى عنه ابن جريج" ثم ساق خبرًا بذلك، ثم حكايةً عن ابن معين

ص: 182

بإثبات ذلك، ثم حكاية عن صالح بن محمد الحافظ بخلاف ذلك، وردّها بشواهد من الرواية، ومن أقوال الأئمة يسوق كل ذلك بسنده. ثم قال: "وهو أبو إسحاق بن محمد .... وهو أبو إسحاق الأسلمي

وهو أبو إسحاق بن سمعان

وهو أبو إسحاق ابن أبي عبد الله

وهو أبو الذئب

". ثم قال: "ذِكْر إبراهيم الصائغ

" وعلى هذه الوتيرة إلى آخر الكتاب.

ص: 183

مع الخطيب

لا يرتاب ذو علم أنّ الخطيب مُحسن مصيب في بيان ما أخطأ فيه مَن قَبْله مِن الأئمة، وأنّه بذلك مؤدّ حق الله عز وجل وحقّ العلم وأهله، وحق أولئك الأئمة أنفسهم، فإنّهم إنّما أرادوا بيان الحق والصواب، فإذا أخطأ أحد منهم، كان ذلك نقيض ما قصد وأحبّ، فالتنبيه على خطائه ليرجع الأمر إلى ما قصده وأحبه من حقه على كل من له حق عليه.

وكذلك لا يرتاب عارف أنّ الخطيب كان عارفًا بحق العلم وسلف العلماء، وخاصة أولئك الأئمة الذين لولاهم لما كان شيئًا مذكورًا، وأنّه كان محبًّا لهم لا هوى له في الغض منهم والطعن فيهم. ومع هذا فإنّنا لا نبرّئ الخطيب من أن يكون له هوى في إظهار سعة علمه، ودقة فهمه، وعلوّ مكانته، وإذ كان من الوسائل إلى ذلك أن يبين أنّه استدرك على كبار الأئمة، وعرف الصواب فيما أخطأوا فيه، كان يحرص على أن يجد لأحدهم خطأ يعرف هو صوابه فيبين ذلك. إنّنا نظلم الخطيب إذا عبناه بهذا، فإنّ لنفسه عليه حقًّا، فإذا أحبَّ مع أداء الواجب أن يَظْهر قدرُه ويسير ذكرُه، لم يكن عليه في ذلك حرج، كيف وقد يريد بذلك أن ينتفع الناس بعلمه، ويغتنموا الاستفادة من كتبه.

وقد يكون الحامل له على هذا أنّ أهل عصره لم يكن كثير منهم أو أكثرهم يعرفون له حقّه، وينزلونه المنزلة التي تنبغي له، بل منهم من عاداه وآذاه وحاول إهلاكه. ومن يدري؟ فلعلّه كان في ذلك خير كثير للعلم وأهله وللخطيب نفسه، فلعله لو رُزِق التوقير البالغ من أهل عصره ما انبعثت همته

ص: 184

إلى الحرص على إظهار علمه بتلك المؤلفات الجليلة.

بيد أنّا نأخذ عليه أمورًا:

الأوّل: كلمات كان في غنىً عنها، كقوله في بعض ما أخذه على البخاري:"وهذا خطأ قبيح" ونحو ذلك، ولولا أنّ الأئمة قبله قد أطلقوا كلمة "الوهم" على ما يشاكل تلك القضايا التي سماها أوهامًا لأخذنا عليه هذه الكلمة؛ لأنّها قد تُشْعِر بالغفلة، وعامة ما يصحّ فيه قوله من تلك القضايا إنّما هي أخطاء اجتهادية بنى مَن وقعت له على ما عنده من الأدلة، والأدلة في هذا الباب منتشرة غاية الانتشار، وفي "تاريخ البخاري" بضعة عشر ألف ترجمة، وقد يتعلق بالترجمة الواحدة عددٌ من الأخبار، ولو تحرّى البخاري أن لا يقع له خطأ البتة لترك علمه في صدره. على أنّ كثيرًا من القضايا التي ذكر الخطيب أنّ البخاري وهم فيها، إنّما جاء الوهم من نُسْخة الخطيب أو من غفلته عن اصطلاح البخاري أو إشارته، وسأنبه على ما تنبهت له من ذلك، وعلى كل حال فالأوهام هنا ليست من قبيل أوهام الرواة التي تنشأ عن غفلة أو نسيان أو نحو ذلك، ممّا يخدش في حفظ الراوي وضبطه.

الأمر الثاني ممّا نأخذه على الخطيب: أنّه يستشهد في توهيم الأئمة بروايات من طريق بعض الكذابين أو المتَّهمين، وكان عليه إن لم يُعرض عنها البتة أن ينصّ على عذره، كأن يقول: وفلان وإن كان معروفًا بالكذب فلا مانع من الاستشهاد به في مثل هذا؛ لأنّه لا غرض له في الكذب فيه، وإذًا لقبلنا منه هذا العذر على ما فيه.

الثالث: أنّه يذكر بعض قضايا قد سبقه إلى مثل قوله فيها من هو أجلّ منه، فلا يذكر ذلك مع أنّ الظاهر أنّه وقف عليه. ولسنا ننكر على الخطيب أنّه

ص: 185

أهل لإدراك الصواب في تلك القضايا ولو لم يبينه غيره، فلا يكون سكوته انتحالاً ولا تشبعًا بما لم يُعْطَ، ولكن كان ذكر ذلك أنفى للتهمة عنه، وأثبت لقوله.

الرابع: أنّه لم ينصف البخاري، فقد ذكر له نحو ثمانين قضية سماها أوهامًا، وهذا العدد وإن لم يكن شيئًا بالنسبة إلى بضعة عشر ألف ترجمة جمعها البخاري من الأسانيد، فالواقع أنّه لا يلزم البخاري من ذلك إلا اليسير كما سأوضحه إن شاء الله، لكن كلام الخطيب في تلك القضايا مفيد جدًّا من جهات أخرى، كما يعرف بالاطلاع عليها، وعلى كل حال فهذه المآخذ مغتفرة في جانب فضل الخطيب وإفادة كتابه هذا.

ص: 186

الأصل

كان الأخ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة عافاه الله قد اطلع على نسخة هذا الكتاب (الموضح)، في مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب برقم 339، وذكره لي عند رجوعه إلى مكة المكرمة، وذكر علاقته "بتاريخ البخاري"، وإنّ من تمام ما قُمتُ به وقامت به جمعية دائرة المعارف العثمانية في حيدراباد الدكن من خدمة "التاريخ" تلك الخدمة البالغة أن تقوم بخدمة هذا الكتاب (الموضح). ولم أهتمّ حينئذٍ بالأمر لأنّي لم أقدره قدره. ثم سافر فضيلته مرّة أخرى إلى الشام، فأخذ لنفسه صورًا من الكتاب، وعند رجوعه إلى مكة المكرمة أراني، فلمّا تصفَّحت الكتاب علمت أنّي كنت على خطأ في عدم اهتمامي به أوّلاً، فبادرت إلى نَسْخِه وتحقيقه والتعليق عليه.

هذا والنسخة مقسومة إلى جزأين، يقع الأول في 134 ورقة، ينتهي بانتهاء باب الألف من القسم الثاني من قسمي الكتاب ــ وقد مرّ بيان ذلك ــ. ويقع الجزء الثاني في 129 ورقة، وعدد الأسطر في الصفحة تختلف ما بين 27 ــ 33، ومعدل كلمات السطور خمس عشرة كلمة في السطر. وتاريخ كتابته سنة 627، وسمى الكاتب نفسه في آخر الجزء الأول: محمد بن أبي عبد الله بن جبريل بن عرار الأنصاري، وفي آخر الجزء الثاني: محمد بن محمد بن أبي عبد الله بن عرار بن محمد بن أحمد بن علي الأنصاري. وفي آخر الجزء الأول على الحاشية بخط كاتب الأصل: "بلغ هذا الجزء الأول مقابلة مع الإمام الحافظ"(؟) ، في بعض المواضع محو وسقط سأنبه عليه في التعليقات.

ص: 187