الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
طُبع في آخر كتاب الكنى الملحق بـ «التاريخ الكبير» : (8/ 94 ــ 97) دائرة المعارف العثمانية.
الحمد لله الذي لا تُحصى نِعمه ولا يتناهى جُوده وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فإن جمعيتنا العلمية «دائرة المعارف العثمانية» لما اعتزمت طبع الكتاب الجليل «التاريخ الكبير» للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى؛ ظَفِرتُ بالجزء الرابع منه في الخزانة الآصفية بحيدراباد الدكن، فسارعت إلى استنساخه، ثم بعد البحث والتنقيب عُلم بأنّ في بعض مكاتب إسلامبول نسخة من الكتاب، وفي المكتبة المصرية نسخة أخرى، فاستحْصَلَت الجمعيةُ على صور مأخوذة منهما، وعند المقابلة تبيَّن أن المصرية منقولة عن الإسلامبولية، ووُجِد في آخر المجلد الرابع من النسخة الآصفية زيادة مشتملة على الكنى لا توجد في الإسلامبولية، مع أن في آخر الإسلامبولية ما لفظه: «كَمُل جميع كتاب التاريخ الكبير
…
». وذلك صريح في أنّ أبواب الكنى المتصلة بآخر النسخة الآصفية كتاب مستقلّ عن «التاريخ» .
ولكن الذي تبيَّن لنا بإمعان النظر أن هذا الجزء المشتمل على الكنى تأليف البخاريِّ قطعًا، وأنه إن لم يكن قطعةً من «التاريخ» فهو تتمّة له، فإن ابن أبي حاتم مع اقتفائه في ترتيب كتابه أَثَر البخاريّ في «التاريخ» غالبًا قال في أواخره:«باب ذِكْر مَن رُوي عنه العلم ممن عُرف بالكنى ولا يُسمى» ثم اقتفى في الترتيب أثر البخاري في هذا الجزء غالبًا، وربما سماه كقوله: «أبو المعلى بن رؤبة كذا قال البخاري في كتابه
…
» وراجع رقم (685) من هذا الجزء. ووجدنا ابنَ عبد البر في الكنى من «الاستيعاب» ربما نقل عن هذا
الجزء فيما يظهر، كقوله في الترجمة الرابعة من باب الخاء مِن كنى «الاستيعاب»:«أبو خالد ذكره البخاري قال: قال وكيع عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبي خالد وكانت له صحبة. قال: وفدنا إلى عمر رضي الله عنه ففضل أهل الشام» . وتجد هذه العبارة بتغيير يسير في الترجمة رقم 224 من هذا الجزء.
وقد نقل ابنُ حجر في كتبه كثيرًا عنها تارة يسميها «الكنى المفردة» وتارة «الكنى المجردة» . قال في ترجمة أبي حريزة: «ذكره البخاري في الكنى المفردة، وأورد له من طريق هُشيم عن أبي إسحاق الكوفي وهو الشيباني عن أبي حريزة» فإن نحو هذا تجده
(1)
في هذا الجزء في ترجمة أبي حريزة رقم 204.
وقال في ترجمة أبي سلالة: «قال أبو عمر تبعًا لأبي حاتم: حديثه عند حكّام بن سَلْم عن عنسبة بن سعيد عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عبد الله عنه» وهذا مأخوذ من كلام البخاري في الكنى المفردة، راجع ترجمة أبي سلالة في هذا الجزء رقم (356)، وانظر ترجمة أبي نجيح العبسي في «الإصابة» وفيها عن البخاري أنه ذكره «في الكنى المفردة» وترجمته في هذا الجزء رقم (833). وفي «تهذيب التهذيب» (12/ 161):«أبو عبيدة عن أنس في القراءة في الظهر، وعنه سفيان بن حسين ذكره البخاري في الكنى المجرَّدة» ، راجع رقم (448) في هذا الجزء. وفي «تعجيل المنفعة» (ص 507): «أبو علي الكاهلي عن أبي موسى الأشعري،
(1)
الأصل: «تجد» .
ذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لم يُسمّ
(1)
ونقل ذلك عن البخاري في الكنى المجردة»، وراجع رقم (453) في هذا الجزء. وربما اقتصر على قوله:«كتاب الكنى» أو «الكنى» أو «ذكره البخاري» فقط. ويظهر في مواضع من كلامه أنه وقف على هذا الكتاب، وفي مواضع أنما ينقل عنه بواسطة كتاب «الكنى» للحاكم أبي أحمد كأنه كان في نسخته نقص.
وقد عدَّ في «مقدمة الفتح» تصانيفَ البخاري إلى أن قال: «وكتاب الكنى، ذَكَره الحاكم أبو أحمد ونقل منه» . «المقدمة» طبعة ميرية ص 493. وفي «تهذيب التهذيب» (5/ 358) في ترجمة عبد الله بن فيروز: «قال أبو أحمد الحاكم في «الكنى» قال مسلم: أبو بشر ــ يعني بالمعجمة قال ــ وقد بيَّنا أن ذلك خطأ أخطأ فيه مسلم وغيره. وخليق أن يكون محمد ــ يعني البخاري ــ قد اشتبه عليه مع جلالته، فلما نقله مسلم مِن كتابه تابعه عليه، ومَن تأمَّل كتاب مسلم في الكنى عَلِم أنه منقول من كتاب محمد حذو القذّة بالقذّة، وتجلَّد في نقله حقّ الجلادة؛ إذ لم ينسبه إلى قائله والله يغفر لنا وله».
أقول: لكنّ السخاويّ وغيره ذكروا أن كتاب «الكنى» لمسلم خاصٌّ بكنى مَن عُرفت أسماؤهم، راجع «فتح المغيث» ص 424، وغالب هذا الجزء في كنى مَن لم تُعرف أسماؤهم، ثم ظهر لي أن كتاب مسلم في الكنى معظمه فيمن عُرفت أسماؤهم وأقلّه فيمن لم تُعرف أسماؤهم، فقد نقل عنه ذكر مَن لم يعرف اسمه، ففي ترجمة أبي خيرة من التعجيل:«خفي ذلك على البخاري وعلى مَن تبعه كمسلم والحاكم أبي أحمد وغيرهم فذكروه فيمن لا يعرف اسمه» التعجيل ص 482.
(1)
الأصل: «يسمه» .
وفي «تهذيب التهذيب» فيمن كنيته أبو عمر: «ويؤيد ذلك أن مسلمًا وغيره ذكروا الصيني فيمن لا يُعرف اسمه» (12/ 177).
وفيه في ترجمة أبي عمران الأنصاري: «قال الحاكم أبو أحمد: أخرجه محمد بن إسماعيل في «التاريخ» في باب سليم وباب سليمان وهو بسليمان أشبه، وكأنه غلط في نقله فأسقط النون، وربما يقع له الخطأ لاسيما في الشاميين ونقله مسلم في كتابه فتابعه على خطائه» تهذيب (12/ 185).
أقول: فقول الحاكم أبي أحمد: «ومن تأمل كتاب مسلم في الكنى عَلِم أنه منقول من كتاب محمد» يعني البخاري، أراد بكتاب البخاري «التاريخ» مع هذا الجزء من الكنى، نقل مسلم كنى مَن عُرفت أسماؤهم من التاريخ، وكنى مَن لم تُعرف أسماؤهم من هذا الجزء، وقد علمتَ تسميةَ الحافظ ابن حجر لهذا الجزء «الكنى المفردة» أو «الكنى المجردة» والاسم الأول يقتضي أنها ليست من التاريخ؛ لأن معناه الكنى المفردة عن التاريخ كما سموا كتاب «الأدب» للمؤلف «الأدب المفرد» يريدون المفرد عن «الجامع الصحيح» . والاسم الثاني محتمل، والظاهر أن معناه: الكنى المجرّدة عن الأسماء، أي أنها فيمن لم تُعرف إلا كنيته مجرّدة عن الاسم وذلك بالنظر إلى الغالب.
وبالجملة فعبارة الحاكم أبي أحمد «عَلِم أنه منقول من كتاب محمد» وأراد ما يشمل أصل «التاريخ» وهذا الجزء مع ما يدل عليه صنيع ابن أبي حاتم كما تقدم= ظاهرٌ في أن هذا الجزء إن لم يكن من «التاريخ» فهو تتمّة له، والله أعلم.
(13)
خاتمة طبع
"الكفاية في علم الرواية"
وترجمة الخطيب البغدادي (ت 463)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يسّر لحفظ دينه من تقوم به الكفاية، ونصب لذلك من العلماء أعلامًا بذلوا أتم العناية، وأوضحوا معالم الرواية والدراية.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد، فقد تم طبع كتاب (الكفاية في علم الرواية) للإمام الكبير الحافظ الشهير أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، وهو الكتاب الذي جَمع من أحكام مصطلح الحديث كل ما يحتاج إليه، وأوعب في نقل الأقوال وإقامة الأدلة على ما ينبغي التعويل عليه.
وكانت جمعيتنا الموقرة قد ظفرت بنسخة من الكتاب محفوظة في المكتبة الآصفية للحكومة النظامية في عاصمتها المحروسة (حيدراباد ــ دكن) وأمرت بتصحيحه مولانا العالم الفاضل أبا عبد الله السورتي، فقام بالتصحيح بحسب الطاقة. ثم سمعت الجمعية بنسخة محفوظة في مكاتب إستانبول فاستدعت نقلًا منها بالتصوير الشمسي، فإذا بها نسخة جيدة جدًّا كما يعلم من خاتمتها التي أثبتناها آنفًا، فقابل عليها حضرة المدير مع حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ إبراهيم حمدي المدني مدير مكتبة شيخ الإسلام بالمدينة المنورة عند وروده إلى حيدراباد، وقام مصححو الدائرة باستدراك ما بقي من التصحيح، وجعلنا علامة النسخة الآصفية ــ صف ــ وعلامة النسخة الإستانبولية ــ قط ــ وعلامة المصحح الأول (س) وعلامة مصححي الدائرة (ح).
وتم طبعه في مطبعة الجمعية العلمية العليا، ذات الأيادي البيضاء، المشهورة (بدائرة المعارف العثمانية) بحيدراباد الدكن، صانها الله تعالى عن الفتن والمحن في ظل الملك المؤيد المعان، الذي اشتهر فضله في كل مكان، وعم كرمه القاصي والدان، السلطان بن السلطان سلطان العلوم مظفر الممالك آصف جاه السابع مير عثمان علي خان بهادر، لازالت مملكته بالعزِّ والبقاء دائمة التقدم والارتقاء.
وهذه الجمعية تحت صدارة ذي الفضائل السنية، والمفاخر العلية، النواب السير حيدر نوازجنك بهادر، رئيس المجلس الانتظامي ورئيس الوزراء في الدولة الآصفية، والعالم العامل بقية الأفاضل النواب محمد يارجنك بهادر رئيس المجلس العلمي للجمعية، وتحت اعتماد الماجد الأريب الشريف الحسيب النواب مهدي يارجنك بهادر عميد الجمعية ووزير المعارف والسياسة في الدولة الآصفية، ونائب أمير الجامعة العثمانية، والماجد الهمام النواب ناظر يارجنك بهادر شريك عميد الجمعية وركن العدلية. وضمن إدارة ذي الفضل السنيّ والمنهج السوي، مولانا السيد هاشم الندوي، ركن الجمعية ومدير المطبعة أدام الله تعالى درجاتهم سامية ومحاسنهم زاكية.
وعُني بتصحيحه من رجال الدائرة مولانا المدقق السيد هاشم الندوي، والرفقاء الأفاضل الشيخ محمد طه الندوي، والسيد أحمد الله الندوي، والشيخ محمد عادل القدوسي، والسيد حسن جمال
(1)
الليل المدني، والشيخ أحمد بن محمد اليماني، وخادمهم الحقير عبد الرحمن بن يحيى
(1)
كذا.
اليماني، ونظر نظرة ثانية وقت الطبع مولانا العلامة الفاضل محمود حسن صاحب معجم المصنفين وركن دائرة المعارف ستر الله عيوبهم وغفر ذنوبهم. وكان تمام الطبع في يوم الأربعاء عاشر شهر شعبان سنة 1357، والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خاتم النبيين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين آمين.
ترجمة المؤلف
[الخطيب البغدادي]
هو الحافظ الكبير الإمام محدث الشام والعراق أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي (بن ثابت)
(1)
صاحب التصانيف
(2)
.
نسبه: ذكر في تاريخ بغداد ترجمة لوالده فقال: "علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الخطيب والدي
…
وكان يذكر أن أصله من العرب وأن له عشرة
(3)
يركبون الخيل مسكنهم بالجصاصة
(4)
من نواحي الفرات"
(5)
.
مولده: ولد يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة 392 هـ هكذا ذكره ابن السبكي
(6)
وابن خلكان
(7)
. وقال ابن الجوزي في "المنتظم": "ولد يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة 391 هـ كذا رأيته في خط أبي الفضل ابن خيرون"
(8)
. وقال الذهبي: "ولد سنة اثنتين
(1)
زيادة من تاريخ ابن خلكان. [المؤلف، وكذا جميع حواشي هذه الخاتمة].
(2)
تذكرة الحفاظ (3/ 312).
(3)
لعل الصواب عشيرة.
(4)
لعل الصواب "الحصاصة" بالحاء المهملة، انظر معجم البلدان والقاموس.
(5)
تاريخ بغداد (11/ 359).
(6)
طبقات الشافعية (3/ 16).
(7)
الوفيات (1/ 32).
(8)
المنتظم مخطوط.
وتسعين وثلثمائة"
(1)
ونحوه لابن السمعاني
(2)
وابن الصلاح
(3)
وغيرهم، وأشار ابن خلكان إلى هذا الاختلاف فقال:"وقيل: إنه ولد سنة 391 والله أعلم"، واقتصر النووي في "التقريب" على إحدى وتسعين وثلاثمائة، زاد السيوطي في "شرحه"
(4)
: "أو اثنتين"، وقال السخاوي في "فتح المغيث"
(5)
: "مولده في جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وقيل: سنة اثنتين وهو المحكي عن الخطيب نفسه".
نشأته وطلبه للعلم: قال ابن السبكي: "كان لوالده الخطيب أبي الحسن علي إلمام بالعلم وكان يخطب بقرية درزيجان
(6)
إحدى قرى العراق فحض ولده أبا بكر على السماع في صغره فسمع وله إحدى عشرة سنة ورحل إلى البصرة وهو ابن عشرين سنة وإلى نيسابور ابن ثلاث وعشرين سنة ثم إلى أصبهان ثم رحل في الكهولة إلى الشام" ثم ذكر دخوله الدينور والكوفة والري وهمذان والحجاز ودمشق، وذكر الذهبي نحو ذلك وزاد: والحرمين والقدس وصور وغيرها.
حرصه على العلم: قال ابن الجوزي وغيره: "قرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزية في خمسة أيام"، قال: "وكان حريصًا على
(1)
تذكرة الحفاظ (3/ 312).
(2)
الأنساب (ورقة 203 ب).
(3)
علوم الحديث طبع الطباخ (ص 388).
(4)
تدريب الراوي مخطوط.
(5)
(ص 476).
(6)
ضبطه ياقوت ووقع في الطبقات "درزنجان".
علم الحديث وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه".
مشايخه: فيهم كثرة جدًّا فمن مشاهيرهم من الحفاظ: البرقاني وأبو نعيم الأصبهاني وأبو سعد الماليني وأبو بكر الحِيري وأبو حازم العبدوي، ومن الفقهاء: القاضي أبو الطيب الطبري، وأبو الحسن المحاملي، وأبو نصر بن الصباغ وغيرهم.
الرواة عنه: قال الذهبي: "روى عنه البرقاني شيخه وأبو الفضل بن خيرون والفقيه نصر المقدسي وأبو عبد الله الحميدي وعبد العزيز الكتاني وأبو نصر بن ماكولا
…
وخلق يطول عدهم".
مكانته في الحديث وثناء الأئمة عليه: قال ابن السمعاني: "كان إمام عصره بلا مدافعة وحافظ وقته بلا منازعة، صنف قريبًا من مائة مصنف صارت عمدة لأصحاب الحديث". وقال الذهبي: "طلب هذا الشأن ورحل فيه إلى الأقاليم وبرع وصنف وجمع وسارت بتصنيفه الركبان وتقدم في عامة فنون الحديث" إلى أن قال: "قال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفةً وحفظًا وإتقانًا وضبطًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفننًا في علله وأسانيده وعلمًا بصحيحه وغريبه وفرده ومنكره ومطروحه، ثم قال: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله. وسألت الصوري عن الخطيب وأبي نصر السجزي ففضل الخطيب تفضيلاً بينًا. وقال مؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني مثل الخطيب. قال أبو علي البَرَدَاني: لعل الخطيب لم يرَ مثل نفسه. وقال أبو إسحاق الشيرازي الفقيه: أبو بكر الخطيب يُشبَّه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. قال أبو سعد السمعاني: كان الخطيب مهيبًا وقورًا ثقة متحريًّا حسن
الخط كثير الضبط فصيحًا ختم به الحفاظ".
علومه غير الحديث: قال ابن الجوزي: "قرأ القرآن والقراءات"، وقال الذهبي:"قال ابن النجار في ترجمة الخطيب: نشأ ببغداد وقرأ القرآن بالروايات وعلّق شيئًا من الخلاف"، وقال الذهبي:"كان من كبار الشافعية"، وقال ابن السبكي:"كان من كبار الفقهاء". وحكى السيوطي في "تدريب الراوي" عن النووي: أنه ذكر كلامًا للخطيب والبيهقي في مذهب الشافعي في مراسيل ابن المسيب ثم قال: "فهذان إمامان حافظان فقيهان شافعيان مضطلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه". وسيأتي عن التبريزي ما يعلم منه مكانة الخطيب في العلوم الأدبية، ويأتي في الكلام على عقيدته ما يعلم منه معرفته بالكلام.
مذهبه وعقيدته: قال ابن الجوزي: "كان أبو بكر الخطيب قديمًا على مذهب أحمد بن حنبل فمال عليه أصحابه ــ الحنابلة ــ لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه فانتقل إلى مذهب الإمام الشافعي وتعصَّب في تصانيفه عليهم ورمز إلى ذمهم وصرح بقدر ما أمكنه".
ثم ذكر أمثلة مما زعمه تعصبًا من الخطيب على الحنابلة. ومن نظر بعين الإنصاف لم يجد فيها مثالاً واحدًا يظهر منه التعصب، وكأنه أراد بالمبتدعة الأشاعرة قال ابن السبكي:"وكان يذهب في الكلام إلى مذهب أبي الحسن الأشعري". ونجد الخطيب ينقل في "الكفاية" من كتب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني رأس الأشاعرة بروايته عن محمد بن عبيدالله المالكي عن الباقلاني.
وحكى ابن السبكي عن الكتاني أنه قال: "وكان ــ الخطيب ــ يذهب إلى
مذهب أبي الحسن الأشعري"، ثم حكى عن شيخه الذهبي أنه حكى ذلك ثم قال: "مذهب الخطيب في الصفات أنها تُمر كما جاءت صرّح بذلك في تصانيفه". ثم قال ابن السبكي: "قلت وهذا مذهب الأشعري فقد أُتي الذهبي من عدم معرفته بمذهب الشيخ أبي الحسن كما أُتي أقوام آخرون وللأشعري قول آخر بالتأويل".
أقول: لم يزد الذهبي على التنبيه على الصواب؛ لأن المشهور من مذهب الأشعري هو التأويل فخشي الذهبي أن يتبادر إلى ذهن السامع أن الخطيب كان يؤوّل، وابن السبكي شديد العقوق لأستاذه الذهبي. وقد نقل الذهبي في "التذكرة" من نصوص الخطيب ما هو صريح في أن مذهبه في العقائد هو مذهب السلف.
مصنفاته: قد تقدم قول ابن السمعاني: "صنف قريبًا من مائة مصنف"، وذكر غيره أعدادًا مختلفة وذكر الذهبي وابن الجوزي عدة منها لا نطيل بذكرها، وأشهرها وأكبرها "تاريخ بغداد" ومن أهمها كتاب "الكفاية".
كتاب الكفاية: قال الحافظ ابن حجر: "أول من صنف في ذلك ــ يعني اصطلاح الحديث ــ القاضي أبو محمد الرامهرمزي فعمل كتاب "المحدث الفاصل" لكنه لم يستوعب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري لكنه لم يُهَذِّب ولم يرتب، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل على كتابه مستخرجًا وأبقى أشياء للمتعقب، ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي فعمل في قوانين الرواية كتابًا سماه "الكفاية" وفي آدابها كتابًا سماه "الجامع لآداب الراوي والسامع" وقلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا مفردًا، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: كل من أنصف عَلِم أن المحدثين بعد الخطيب
عيال على كتبه"
(1)
.
تعبده: روى الذهبي عن أبي الفرج الإسفراييني قال: كان الخطيب معنا في الحج فكان يختم كل يوم قريب الغياب قراءة ترتيل ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب فيقولون: حدِّثنا، فيحدث. قال الذهبي: "وقال عبد المحسن الشيحي: عادلت الخطيب من دمشق إلى بغداد فكان له في كل يوم وليلة ختمة.
ثروته وكرمه: يعلم من كلام العلماء في ترجمته أنه كان له ثروة طائلة، وكان ينفق منها على أهل الحديث وطلبة العلم، ويتنزَّه عن قبول صِلات الناس. قال الذهبي: قال أبو زكريا التبريزي: كنت أقرأ على الخطيب بحلقته بجامع دمشق كتب الأدب المسموعة له وكنت أسكن منارة الجامع فصعد إليّ وقال: أحببت أن أزورك فتحدثنا ساعة، ثم أخرج ورقة وقال: الهدية مستحبة اشتر بهذه أقلامًا. فإذا خمسة دنانير، ثم صعد نوبة أخرى ووضع نحوًا من ذلك، وكان إذا قرأ الحديث يسمع صوته في آخر الجامع كان يقرأ معربًا صحيحًا". وقال ابن السبكي: ولما مرض وقف جميع كتبه وفرق جميع ماله في وجوه البر وعلى أهل العلم والحديث، وكان ذا ثروة ومال كثير فاستأذن أمير المؤمنين القائم بأمر الله في تفريقها فأذن له. وسبب استئذانه أنه لم يكن له وارث إلا بيت المال".
وفاته: اتفقوا على تاريخ وفاته، وهذه عبارة ابن الجوزي في "المنتظم":"كان يقول: شربتُ ماء زمزم على نية أن أدخل بغداد وأروي بها "التاريخ"
(1)
مقدمة شرح النخبة مخطوط.
وأن أحدث بها وأُدْفَن بجنب بشر بن الحارث، وقد رزقني الله دخولها ورواية "التاريخ" بها وأنا أرجو الثالثة، وأوصى أن يدفن إلى جانب بشر. توفي ضحوة نهار يوم الاثنين سابع ذي الحجة من هذه السنة (سنة 463) في حُجرة كان يسكنها بدرب السلسلة في جوار مدرسة النظامية، وحمل جنازته أبو إسحاق الشيرازي وعَبَر به على الجسر، وجازوا به في الكرخ، وحُمِل إلى جامع المنصور وحضر الأماثل والفقهاء والخلق الكثير، وصلى عليه أبو الحسين بن المهتدي ودفن إلى جانب بشر، وكان أحمد بن علي الطريثيثي قد حفر هناك قبرًا لنفسه فكان يمضي إلى ذلك الموضع ويختم فيه القرآن عدة سنين، فلما أرادوا دفن الخطيب هناك منعهم وقال: هذا قبري أنا حفرته وختمت فيه ختمات ولا أمكنكم، فقال له أبو سعد الصوفي: يا شيخ! لو كان بشر الحافي في الحياة ودخلت أنت والخطيب عليه أيُّكما كان يقعد إلى جانبه؟ قال: الخطيب! فقال: كذا ينبغي أن يكون في حالة الموت. فطاب قلبه ورضي فدفن الخطيب هناك". رحمه الله تعالى.