الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعر من أجودها قوله:
قوِّض خيامك عن أرض تُهان بها
…
وجانِبِ الذلَّ إنّ الذلَّ مُجتنَبُ
وارحل إذا كانت الأوطانُ منقصةً
…
فالمَنْدلُ الرطْبُ في أوطانه حطبُ
*
الأمير والخطيب وهذا الفن:
قد سبق أنّ الخطيب من شيوخ الأمير ومن الرواة عنه في الجملة، والنظر هنا فيما يتعلّق بكتاب "تهذيب مستمر الأوهام"، ففي "التذكرة":"قال أبو الحسن محمد بن مرزوق: لمّا بلغ الخطيب أنّ ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه "المؤتنف" وصنف في ذلك تصنيفًا، وحضر عنده ابن ماكولا، سأله الخطيب عن ذلك فأنكر ولم يقرّ، وأصرّ وقال: هذا لم يخطر ببالي. وقيل: إنّ التصنيف كان في كُمه، فلمّا مات الخطيب أظهره، وهو الكتاب الملقب بمستمر الأوهام".
قال المعلمي: ظاهر صيغة الذهبي أنّ الحكاية ثابتة عن محمد بن مرزوق، ومحمد بن مرزوق ثقة من الرواة عن الخطيب، ومولده سنة 442، ومات سنة 517.
وفي "معجم الأدباء": "قال
…
الحميدي
…
" فذكر الكلمة التي تقدمت في الثناء على الأمير، وقال عقبها: "قال: وبلغ أبا بكر الخطيب أنّ ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه "المؤتنف"، وصنّف في ذلك تصنيفًا، وحضر عنده ابن ماكولا، وسأله الخطيب عن ذلك فأنكره ولم يقرّ به، وقال: تنسبني الناس إلى ما لا أحسنه من الصنعة، واجتهد الشيخ أبو بكر أن يعترف بذلك، وحكى له ما كان من عبد الغني بن سعيد في تتبعه أوهام الحاكم أبي عبد الله
في كتاب "المدخل"، وحكايات عدة من هذا المعنى، قال: أرني إيّاه، فإن يكن صوابًا استفدته منك، ولا أذكره إلاّ عنك، فأصرّ على الإنكار، وقال: لم يخطر هذا ببالي قط، ولم أبلغ هذه الدرجة، أو كما قال".
قال المعلمي: ظاهر السياق أنّ هذه الحكاية حكاها الحُميدي.
لكن الأمير يقول في خطبة "تهذيب مستمر الأوهام" ما نصّه: "بعد ذلك، فإنّ أبا بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ وكان أحد الأعيان ممّن شاهدناه معرفة وإتقانًا، وحفظًا وضبطًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفنّنًا في علله وأسانيده، وخبرة برواته وناقليه، وعلمًا بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره، وسقيمه ومطروحه، ولم يكن للبغداديين بعد أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني من يجري مجراه، ولا قام بعده بهذا الشأن سواه، وقد استفدنا كثيرًا من هذا اليسير الذي نحسنه به وعنه، وتعلّمنا شطرًا من هذا القليل الذي نعرفه بتنبيهه ومنه، فجزاه الله عنّا الخير ولقاه الحسنى، ولجميع مشايخنا وأئمتنا ولجميع المسلمين، كان قد عمل بالشام كتابًا سمّاه "المؤتنف تكملة المؤتلف"، ولمّا عاد إلى بغداد قرأ عليّ شيئًا من أوّله مغربًا عليّ به مشرفًا لي بما ضمَّنه إياه، ومعرّفًا لي قدر ما تيسر له، وأنه قد استدرك فيه على أئمة هذا العلم أشياء تم عليهم السهو فيها، ونبّه على أشياء غفلوا عنها ولم يحيطوا بها معرفة، ووجدته كبيرًا فظننت أنّه قد استوعب ما يحتاج إليه في هذا المعنى، ولم يدع بعده لمتتبع حكمًا.
ولما دُعي به فأجاب قال لي بعض المتشاغلين والمعتنين بهذا العلم: لقد تَعِب الخطيب وأتْعَب، تَعِب بما جمعه، وأتعب من أراد أن يعرف الحقيقة في [اسم] لأنّه يحتاج أن يطلبه في كتاب الدارقطني، فإن لم يجده
ففي كتابَي عبد الغني، فإن لم يجده ففي كتاب الخطيب، ثم يحتاج أن [يفصل] طبقاته أيضًا، فيمضي زمانه ضياعًا، ويصير ما أريد من إرشاده تضليلًا، فلو أنّك جمعتَ شمل هذه الكتب، وجعلتها كتابًا واحدًا حُزْت الثواب ويسرت على مبتغي العلم الطِّلاب، وراجعني في ذلك مراجعة تجرّمت لها وأوجبت له فيها رعايةً لحقه ورغبة في مساعدته، واغتنامًا للأجر في إفادة مسترشد وتعليم جاهل ومعرفة
(1)
طالب.
وبدأت بالنظر في كتاب الخطيب فوجدته يذكر في أوله أنّه قد جمع فيه من مؤتلف أسماء الرواة وأنسابهم ومختلفها، وممّا يتضمن كتب أصحاب الحديث من ذلك، وإن لم يكن المذكور راويًا، ما شذّ عن كتابي أبي الحسن علي بن عمر وأبي محمد عبد الغني بن سعيد المصنفين في "المؤتلف والمختلف"، وفي "مشتبه النسبة"، وأنّه يذكر ما رسم فيهما أو في أحدهما على الوهم، ودخل على مدوّنه فيه الخطأ والسهو، ويبين فيه صوابه، ويورد شواهده، ويذكر صحيح ما اختلفوا فيه ممّا انتهى إليه علمه، ويقر ما أشكل عليه من ذلك؛ لينسب كل قول إلى صاحبه.
وجعله خمسة فصول، أورد في الأول منها ما لم يذكراه ولا واحد منهما، وفي الثاني أوهام كتبهم، وفي الثالث ما أغفلاه ممّا أوردا له نظائر، وفي الرابع أشياء ذكراها وقصّرا في شرحها وإيضاحها فبينها وأتم نقصانها، وفي الخامس ما أورداه من الأحاديث نازلة ووقعت له عالية. ولما أنعمتُ النظر فيه وجدته قد ذكر في الفصل الأول ما قد ذكراه أو أحدهما، وفي الفصل الثاني قد غلّطهما في أشياء لم يغلطا فيها وأخل بأوهام لهما ظاهرة،
(1)
لعل الصواب: "ومعونة". [المؤلف].
وفي الفصل الثالث قد كرّر أشياء ذكراها أو أحدهما، وأخل بنظائر لِمَا ذكراه لم يهتد إليها، وفي الفصل الرابع لم يشرح ممّا ضَمِن بيانه إلا شيئًا يسيرًا. وفي كتبهم أشياء كثيرة تحتاج إلى شرح وبيان، وإيضاح وتعريف، ولاسيما كتاب عبد الغني، فإنّ أكثر ما فيه غير مبين.
[و] وجدت له في تضاعيف الكتاب أوهامًا من تصحيف، وإسقاط أسماء من أنساب، وأغلاطًا غير ذلك، فتركته على ما هو عليه، وجمعت كتابي الذي سميته بـ"الإكمال"، ولم أتعرض فيه لتغليطه ولا لتغليط غيره، ورسمت ما غلط فيه واحدٌ منهم في كتابه على الصحة.
ولما أعان الله على تمامه ذكرت ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من كتم علمًا عَلِمه أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار". وما رُوي عن بعض السلف أنّه قال: ما أوجب الله تعالى على الجهال أن يتعلموا حتى أوجب على العلماء أن يعلّموا. وخشيت أن تبقى هذه الأوهام في كتبهم، فيظن من يراها أنّها الصحيح ويتبع أثرهم فيها فيضلّ من حيث طلب الهداية، ويزلّ من جهة ما أراد الاستثبات، وإذا رأى كتابي بما [يخالفها] تصور أن الغلط ما ذكرته أنا، وإن أحسن الظن بي جعل قولي خلافًا وقال: كذا ذكر فلان، وكذا ذكر فلان.
فاستخرت الله تعالى، ورغبت إليه في عضدي بالتوفيق والإرشاد، وسألته إلهامي القصد، وتأييدي بالسداد، وجمعت في هذا الكتاب أغلاط أبي الحسن علي بن عمر وعبد الغني بن سعيد ممّا ذكره الخطيب وممّا لم يذكره؛ لتكون أغلاطهما في مكان واحد، وما غلَّطهما فيه وهو الغالط، وأغلاط الخطيب في "المؤتنف"، ورتبته على حروف المعجم ليسهل طلبه على ملتمسه، ويقرب وجوده من طالبه، وتَثْبت الحجة على ما ذكرته،
والدليل على ما أوردته، واعتمدت الإيجاز والاختصار، ولم أسق الطرق، وأُكْثِر بتكرير الأسانيد.
وتركتُ أغلاطًا للخطيب رحمه الله في تراجم أبواب حكاها عن الشيخين وَهِم عليهما أو على أحدهما فيها، ورتبها على غير ما رتباه تركًا للمضايقة، ولأن ذلك ممّا لا يضر طالب العلم جهلُه، ولا تنفعه استفادته، ويعلم الله تعالى أن قصدي فيه تبصير المسترشد، وإرشاد الحائد، وتيسير الطرق على حافظي شريعة الإسلام، وتقريب البعيد على ناقلي سنن الأحكام، وهو بقُدْرته ولطفه لا يضيع أجر من أحسن عملًا، إنّه جواد كريم رؤوف رحيم"
(1)
.
قال المعلمي: سُقت هذه الخطبة بطولها لما اشتملت عليه من المطالب، وأصل مقصودي هنا أنّ الأمير ينص على أنّه إنّما بدا له أن يؤلف في هذا الفن بعد أن "دُعي الخطيب فأجاب"، وأنّه بدأ بتأليف "الإكمال" فلمّا تمّ شرع في تأليف "تهذيب مستمر الأوهام". قد يقال: إن كلمة "دُعي به فأجاب"، وإن كان ظاهرها الموت فإنها تحتمل غيره، ويقوّي هذا الاحتمال عدول الأمير إليها عن التصريح بالموت، وهذا ربّما يُشعر بأنّ القضية وقعت في حياة الخطيب، ولكن لم يشأ الأمير أن يصرح في كتابه بما
(1)
عندي من "تهذيب مستمر الأوهام" نسخة مصورة مكبرة عن فلم بمعهد المخطوطات كما في فهرسه رقم 190 في كتب التاريخ وفي الفهرس أنها كتبت في القرن السابع. وفي النسخة نقص في أثنائها. ولم يصلني إلا بعد طبع الجزء الأول من الإكمال. [المؤلف].
ينافي
(1)
ما قاله للخطيب، ولا مجال لأن يكذب فورَّى بهذه الكلمة.
قال المعلمي: هذا بادي الرأي وجيه، لكن يرده أنّ في آخر "الإكمال" (نسخة دار الكتب) ما نصه:"قال الأمير أبو نصر هبة الله بن علي بن جعفر رحمه الله: فرغتُ من تصنيف هذا الكتاب يوم الاثنين ثالث شعبان من سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان الابتداء بتصنيفه ليلة السبت الثاني من صفر سنة أربع وستين وأربعمائة، عملت إلى بعض حرف الحاء ثم تشاغلت عنه مدة طويلة ثم عدت فأكملته يوم الأحد سلخ شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وبدأت بكَتْب هذه النسخة في سنة سبع، ثم خرجت من بغداد، وقد بلغت إلى آخر العاشر منها، ثم عدت إلى تبييضه الثاني من شهر رمضان سنة سبعين وأربعمائة وفرغت منها يوم الثلاثاء السادس عشر من شوال سنة سبعين وأربعمائة". والخطيبُ توفي في سابع ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وبين وفاته وشروع الأمير في تصنيف "الإكمال" ــ على حسب ما ذكره ــ أقل من شهرين، ولم ينص على تاريخ ابتدائه تصنيف كتابه الثاني (تهذيب مستمر الأوهام) ولكن في آخره ما نصه:"قال الأمير أبو نصر ابن ماكولا رحمه الله: وهذا آخر ما وجدناه إلى آخر صفر من سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة مع تقسم الفكر، وتشعّث الخاطر بأهوال الزمان ونوائبه، وقلة التنقير والتفتيش، ولعل الوقت يتسع فأعيد النظر مرة أخرى وأتقصَّى التفتيش، فإن وجدت شيئًا ألحقته بمكانه".
ويشهد لما ذكره الأمير أنّ الخطيب إنّما عاد إلى بغداد سنة اثنتين
(1)
في الأصل: "يتأخى" ولا معنى لها.
وستين كما في "التذكرة" ص (1142) عن ابن السمعاني، وبين ذلك ووفاة الخطيب أقل من سنتين، ولا أرى هذه المدة تتسع لتحصيل الأمير نسخةً من كتاب الخطيب ثم نظره فيه ثم تعقبه له، وتأليفه كتابًا في ذلك يحضر إلى الخطيب وهو في كمه، ثم لا داعي للأمير بعد وفاة الخطيب إلى أن يصرح بما تقدم لو كان يعلم أنّه خلاف الواقع، وفي وسعه أن يبهم الأمر.
وبعدُ فالخَطْب سهل، فإنّ الحكاية لم تُثبِت أنّ الأمير صنف، وإنّما ذكرت أنّه بلغ الخطيب أنّ ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه وصنف في ذلك تصنيفًا، ولم تُبين من الذي بلّغ الخطيب ذلك. والمخلص من التعارض هو أنّ الأمير لما اطلع على كتاب الخطيب كان يعرض له الاعتراض بعد الاعتراض، ويهاب الخطيب، ولكنه يذكر ذلك لبعض من يثق به، وكأنه تكرر ذلك فتوهم بعض أولئك الذين كان يثق بهم أنّه قد شرع في تصنيف يتعقب فيه الخطيب، فنُمِي ذلك إلى الخطيب فجرى ما جرى، والأمير صادق فيما أجاب به الخطيب؛ لأنّه لم يكن قد بدا له أن يصنف تصنيفًا، وصادق فيما قاله في كتابيه.
أمّا ما يظهر من كلام الأمير من تأخر جمعه "التهذيب" عن تصنيفه "الإكمال" فقد يعارضه ما يوجد من الإحالة عليه في "الإكمال"، ويُوَفَّق إمّا بأن تكون تلك الإحالة متأخرة ألحقها الأمير في "الإكمال"، ولم تكن فيه عندما أتمّ تصنيفه أول مرَّة، وإمّا ــ وهو المتّجِه ــ بأنّ الأمير عزم أولا على تصنيف الكتابين، وبدأ بتصنيف "الإكمال" مهذبًا، وكان كلّما رأى وهمًا في تلك الكتب التي هذبها قيد ذاك الوهم في دفتر خاص، فلمّا أتمّ تصنيف "الإكمال" وتأكد عزمه على تصنيف "التهذيب" شرع في تصنيفه بعد أن
تجمعت له مادة ذلك، ويشهد لهذا أنّه فيما قد وقفت عليه الإحالات، قال فيها:"ذكرناه في الأوهام"، ولم يذكر اسم التهذيب.
وليتدبر القارئ اعتذار الأمير عن تعقبه أوهام المتقدمين، فإنّي لم أرَ في معناه اعتذارًا يضاهيه في المتانة والإقناع. وقد سمعتَ ثناءه البالغ على الخطيب وتواضعه في نفسه، وأوضَح الحالَ في مقدمة "الإكمال" إذ قال:"ولست أدّعي التقدمَ عليهم في هذا الفن ولا المساواة لهم فيه ولا المقاربة، وإنّما أدعي أني تتبعت هذا الفن أوفى ممّا تتبعوه، وصرفت إليه اهتمامي أكثر ممّا صرفوه، وتركت التأويل الضعيف الذي أجعله طريقًا إلى تغليط أئمة هذا الشأن الذين بأقوالهم نقتدي، ولآثارهم نقتفي، ولأنّي كُفيت مؤنة التتبع لما أودعوه كتبهم فخفّ عنّي أكثر الثقل وسقط عني عُظْم العناء".
وقد كان الأمير معنيًّا من صباه بضبط الأسماء، فقد مرّ بك في بيان تاريخ ولادته قوله في ضبط (أبّا)"وثبتني فيه السعيد أبي" وتقدم هناك ما يتعلق به، ولا بد أنّه جرى على ذلك في طلبه العلم، ويشهد لذلك ما يدل عليه كلامه من جمعه كثيرًا من الكتب في التواريخ والنِّسَب بالخطوط الموثوقة، فينقل عن "تاريخ مصر" لابن يونس، ويذكر أنّه عنده بخط أبي عبد الله الصوري الحافظ المتقن، وينقل عن "تاريخ بخارى" لغُنجار، ويذكر أنّه عنده بخط غنجار المؤلف، وينقل عن كتاب شبل بن تكين في النِّسب، ويذكر أنّه عنده بخط شبل، وهكذا يقول في كتب أخرى "بخط ابن الفرات ــ بخط ابن عبدة النسابة ــ بخط علي بن عيسى الرَّبَعي، في كتاب أحمد بن محمد بن سعيد بخطه في نسب حمير"، ونحو ذلك في نسب قضاعة وغيرها ويبين في مواضع أسانيده بهذه الكتب عن أهلها المتقنين لها
كالنسَّابة العمرى، والشريف النسابة، وغير ذلك، وسيتضح ذلك من فهرس الكتب الذي سيرتب في فهارس "الإكمال" إن شاء الله.
ثم قضية الوقت والتفرغ، فقد كان الخطيب رحمه الله موزَّع الوقت والنظر بين عدة المؤلفات يؤلفها معًا، يجعل ساعة لهذا وساعة لذاك، مع اشتغاله بالتسميع وغيره، وقريب من ذلك حال الدارقطني، فأمّا الأمير فإنه حصر همه في هذا الفن.
* خروج الأمير آخر مرة من بغداد ووفاته:
توافقت الروايات على أن الأمير قُتِل في بعض بلدان الشرق، اغتاله غِلمان له أتراك، وأخذوا ماله وفرُّوا.
واختُلف في الموضع والتاريخ، أمّا الموضع فقيل: خوزستان أو الأهواز، وهما واحد، وقيل: جرجان، وقيل: كرمان.
وأمّا التاريخ فذكر ابن الجوزيُّ الأميرَ في وفيات سنة 475 من "المنتظم"، وجزم بوفاته فيها، ثم ذكره في وفيات سنة 486 وجزم بوفاته فيها أو في التي تليها، وكلا القولين مرويّ عن شيخه محمد بن ناصر، ففي "التذكرة":"قال ابن ناصر: قُتل الحافظ ابن ماكولا، وقد كان سافر نحو كرمان، ومعه مماليكه الأتراك، فقتلوه وأخذوا ماله في سنة خمس وسبعين وأربعمائة، هكذا نقل ابن النجار. وقال أبو سعد السمعاني: سمعت ابن ناصر يقول: قتل ابن ماكولا بالأهواز إما في سنة ست ــ أو سبع ــ وثمانين وأربعمائة". وفي "التقييد": "أخبرنا محمد بن عمر بن علي بن خليفة
الحربي قال: أبنا ابنُ ناصر إجازة: مولد
(1)
أبي نصر ابن ماكولا في سنة عشرين وأربعمائة، وقتل في سنة خمس وتسعين (كذا) وأربعمائة بخوز كربان (كذا) قتله غلمان له من الأتراك وأخذوا الموجود من ماله". وقوله:"وتسعين" محرف والصواب "وسبعين" جزمًا. وفي "وفيات ابن خلكان": "قال الحُميدي: خرج إلى خراسان ومعه غلمان له أتراك فقتلوه بجرجان، وأخذوا ماله وهربوا، وطاح دمه هدرًا، رحمه الله تعالى" والحميدي توفي سنة 488، كما مرّ في الرواة عن الأمير. وفي معنى الأول ما ذكره ابن عساكر عن إسماعيل ابن السمرقندي قال:"سنة نيف وسبعين وأربعمائة". وفي معنى ــ بل هو عبارة عنه فيما أرى ــ قول ابن السمعاني "بعد الثمانين". فأمّا قول ابن خلكان: "وقال غيره في سنة تسع وسبعين" فشاذ، ولم يبين قائله، وكذلك قول ياقوت وتبعه الكُتبي "سنة خمس وثمانين" وأراه وهما.
وثَمّ قضايا قد يستدل بها على تأخر موت الأمير عن سنة 475:
الأولى: أنّ ابن ناصر من الرواة عن الأمير مع أنّه إنّما ولد سنة 467، ويجاب عن هذا بأنّه لا مانع من سماع ابن ثماني سنين، مع أنّ ابن ناصر إنّما يروى عن الأمير بالإجازة كما صرّح به ابن نقطة في "التقييد"، قال:"وآخر من حدّث عنه بالإجازة محمد بن ناصر".
الثانية: ما في "التذكرة" من طريق ابن المقيّر وابن الأخضر عن ابن ناصر: "عن كتاب أبي نصر الأمير إليه" ومن طريق أبي الحسن بن الفراء عن الأمير
…
، فذكر خبرًا هو في "الإكمال" في رسم (فافاه) و"الإكمال" يرويه
(1)
في النسخة "مولى". [المؤلف].
الناس عن ابن المقير عن ابن ناصر عن الأمير، فيظهر أنّ الذهبي إنّما أخذ رواية ابن المقير لذاك الخبر من سند "الإكمال" نفسه. فأمّا ما في سياق الخبر من مخالفة لما في "الإكمال"؛ فكأنّ الذهبي ساق لفظ ابن الفراء عن الأمير ولم يسق لفظ ابن ناصر، وعلى هذا فابن ناصر يروي الإكمال أو يروي ذاك الخبر على الأقل بحق إجازة كتب بها الأمير إليه، وابن ناصر نشأ يتيمًا من عائلة هي إلى الفقر أقرب منها إلى التوسّط، فكيف يظن به وهو في السابعة من عمره تقريبًا أن يكتب الأمير إليه؟ أمّا أن يكتب إليه وهو ابن سبع عشرة سنة أو نحوها فهذا لا غبار عليه، فإنّ ابن ناصر كان في ذاك السن طالبًا لبيبًا، فغير ممتنع أن يكتب إلى الأمير يلتمس منه الإجازة فيسعفه الأمير بالكتابة إليه بها.
والذي يظهر لي أنّ كلمة "إليه" من زيادة بعض الرواة توهمًا، وإنّما أصل اللفظ "عن كتاب الأمير أبي نصر"، ويقصد بالكتاب ههنا كتاب الإجازة، كأنّ الأمير كتب إجازة لجماعة التمسوا منه ذلك وكتبوا أسماءهم وكان فيهم من يعتني بابن ناصر، فكتب اسم ابن ناصر معهم، فكتب الأمير بالإجازة لمن في ذاك الكتاب.
وممّا يشهد لهذا ما في رسم (فتحويه) من استدراك ابن نقطة عند ذكر هبة الله بن أبي الصهباء ــ أحد شيوخ الأمير ــ ما لفظه: "وسمع منه أبو نصر ابن ماكولا، ونسبه في إجازته كذلك
…
" دلّ هذا على أنّه كانت هناك إجازة من الأمير مكتوبة معروفة بين أهل العلم اطلع عليها ابن نقطة وأنّها كانت لجماعة، إذ لو كانت لواحد لكان الظاهر أن يسميه ابن نقطة، يقول: "في إجازته لفلان". على أنّه لو صحت كلمة "إليه" لم يكن فيها ما ينافي أن تكون الكتابة وابن ناصر في السابعة مثلًا؛ لأنّ الواقع فيما يظهر كما مرّ أنَّ جماعة
كتبوا إلى الأمير يلتمسون الإجازة، وكتبوا ابن ناصر معهم، فكتب الأمير إلى المسمَّيْن في الكتاب، ومنهم ابن ناصر، وقد تقدم عن ابن ناصر أنّه قال مرة: إنّ الأمير قُتل سنة خمس وسبعين، فكيف يقول هذا، وعنده كتاب الأمير إليه بعد هذا التاريخ؟
الثالثة: ما في رسم (الحبَّال) من "الإكمال" ذكر إبراهيم الحبال المتقدم في شيوخه رقم (26) وقال: "وكان مكثرًا ثقة ثبتًا
…
"، وفي "الإكمال" أيضًا في رسم (بزرك) في ذكر الوزير نظام الملك: "وكان ثقة ثبتًا"، وهذه الصيغة "كان ثقة" إنّما تقال عادة فيمن قد مات، ولم يمت الحبَّال إلا سنة 482، ولا نظام الملك إلا في سنة 485، وربما كانت هذه الكلمة هي مستند ابن ناصر في قوله الثاني: إنّ الأمير توفي سنة ست وثمانين وأربعمائة أو في التي تليها، وقد تكون هي مستند ياقوت إذ قال: إنّ وفاة الأمير سنة خمس وثمانين وأربعمائة إن لم يكن وهم. ولا يخدش في هذا وجود هذه الكلمة في جميع نسخ "الإكمال" التي وقفت عليها، ومنها النسخة التي ذُكِر في آخرها قول الأمير: إنّه فرغ من التبييض سنة سبعين وأربعمائة، لاحتمال أنّ الأمير زاد في النسخة زيادات بعد هذا التاريخ، ولما ظهرت النسخة التي زاد فيها ألحق أرباب النسخ التي كانت قبل ذلك تلك الزيادات في نسخهم.
وقد يُنظر في هذه القضية بأن كلمة "كان ثقة" ربما تقال فيمن هو حي، ففي ترجمة ابن المسلمة (المذكور في شيوخ الأمير رقم 22) من "تاريخ بغداد" هذه الكلمة "وكان ثقة
…
"، مع أنّ الخطيب توفي قبله.
وبالجملة فلم يتضح لي ترجيح لأحد القولين على الآخر، غير أنّ اشتهار الأول بين البغداديين بدون مخالف محقّق يدل على أنّ الأمير خرج