الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال أقل الحاضرين رشدا وفضلا. وأكثرهم هزلا. يا قوم. إني قائل قولاً ولا لوم. إن أسعد الناس وأحظاهم. وأترفهم وأرضاهم. البغي الجميلة التي تفتح بابها لقاصدها. وتبيح نفسها لمراودها. فإنها تغتنم أنس زائرها وماله. وتتبله بحبها حتى يرى ذله فيها عزاً له. ومتى تمكنت من نفر يبذلون لها العين. ويكفونها مؤونة الأطيبين. فلا تحتاج بعدها إلى البحث عن مراود في المسالك. والتعرض للمكارة والمهالك. فإذا هي شاخت وجدت مما ادخرته في صباها ما تنفق منه عن سعة. وما تكفر به عن سيئاتها السالفة فتعيش في دعة. ويثني عليها الناس بالتوبة الناصعة. والمعيشة الواسعة والإنسان مطبوع على النسيان مطبوع على النسيان. لا يبالي إلا بما هو كائن لا بما كان. ولا سيما إذا كان الحاضر يجدي نفعا جزيلا. ويسرا مأمولا وكفى بأئمة الدين إذا نالوا منها العطايا الوافرة. والصلاة المتواترة. أن ينتشروا عليها أحسن الثناء ويبرئوها منكل فحش وخنى. فلها منهم على كل صلة صلوات. وعلى كل دعوة دعوات. فمن ما رآني في ذلك فليسأل قرينته. ويكظم ضغينته. ريثما أقيم له على ذلك البراهين. ممن غبر وبقي من العالمين. فلما سمعت الجماعة دعواه. ولحنت مغزاه. ضحكوا من هذيانه. ورأوا أن الجواب على بهتانه. على طريقة الجدال إِنما هو من وضع الشيء في غير صوانه. فأضربوا عنه صفحاً. وقالوا له قبحاً لرأيك وشقحاً فلو كان أهل صقع على رأيك لفسدت الأرض. وبار العرض. ولم يبق من الصلاح أثر ولا برض. وإنما اللوم على الكأس التي ذهبت بلبك. وكشفت عن فساد مذهبك. وقبح اربك. ولعلك تهتدي إلى الرشاد إذا أفقت من خمارك. وتبين لك فضاعة هترك واستهتارك. فرأى إن السكوت له اسلم عاقبة من المحاورة والمجاوبة. والمناقرة والمغاضبة. وإن الجمهور يغلب الفرد. وإن كانوا على ضلال. وكان هو على هدى وقصد. فاستف تنفيدهم. وخشي وعيدهم. وتفرقوا ولم يجمعوا رأيهم على أي الناس اسعد. وأي عيش أرغد. إذ رأوا دون كل حرفة نغصاً. ومع كل حالة عنصا. وفي كل أكلة مغصاً، وقد فاتهم من أحوال الناس كثير مما ضاق وقتهم عن ذكره. كما ضاق هذا الفصل عن إحصاء كل ما أوردوه وعن حصره فقف على هذا القدر الذي ذكرته. وسر معي إلى استئناف قصة من غادرته وعليكم السلام.
إغضاب شوافن وأنشاب براثن
السجع للمؤلف كالرجل من خشب للماشي. فينبغي لي أن لا أتوكأ عليه في جميع طرق التعبير لئلا تضيق بي مذاهبه. أو يرميني في ورطة لا مناص لي منها. ولقد رأيت أن كلفة السجع اشق من كلفة النظم. فإنه لا يشترط في أبيات القصيدة من الارتباط والمناسبة ما يشترط في الفقر المسجعة. وكثيرا ما ترى الساجع قد دارت به القافية عن طريقه التي سلك فيها حتى تبلغه إلى ما لم يكن يرتضيه لو كان غير متقيد بها. والغرض هنا أن نغزل قصتنا على وجه سائغ لأي قارئ كان. ومن أحب أن يسمع الكلام كله مسجعا مقفى ومرشحا بالاستعارات ومحسنا بالكايات فعليه بمقامات الحريري أو بالنوابغ للزمخشري. فنقول إن صاحبنا الفارياق بعد إقامته مدة على الحالة التي ذكرناها جرى بينه وبين جده من النزاع والمناقشات ما أوجب عليه ترك ما كان فيه واقتفاء طريق آخر من طرق المعاش. فتاح له أن يكون معلما لإحدى بنات الأمراء وكانت ذات طلعة بهية. وشمائل مرضية. تامة الظرف. ناعسة الطرف ولكن ليس المراد بذلك إنها كانت لا تبصر من يحبها كما يكون من به نعاس. وإنما المعنى أنها ذابلته. حتى ولا هذه العبارة مفصحة بما أريد أن أقوله. فإنها توهم إنها كانت ذابلة مع أنها كانت غضة بضة. بل المقصود أن نقول إنها كانت كأنها تنظر عن تحشيف. ولكن مادة حشف لا تعجبني فإن فيها معاني اليبوسة والخساسة والرداءة وشيء آخر تجل الملاح عن ذكره. بل المراد أنها كانت تكسر جفنيها عند النظر. ولا الكسر أيضاً لائق لها. فلا أدري كيف ألحن للقارئ ما أردت. ولعل الأوفق أن يقال أنها كانت ترمي بسهام عن عينها. ولم يكن سنها مانعاً من تتبيل من ينظرها. فأن القلب يعلق بهوى الصغيرة الجداء كما يعلق بهوى الكبيرة الوطباء. إذ ليس كل عشق مؤديا إلى الدعارة. فقد عشق الناس الرسوم والأطلال والآثار. والأشكال والديار. ومنهم من عشق لرؤيته كفاً مخصباً أو عقيصة شعر أو ثوبا أو سراويلات أو تكة أو نحو ذلك. وأعرف من أحب هرة امرأة فكان يلاعبها. ويخيل له الغرام أنه ملاعب صاحبتها. وكثيرا ما كانت تنشب فيه أظفارها وتدميه. وهو يستعذب ذلك ويستحليه. أما لاستعذاب العذاب في هوى المحبوب. أو لاعتقاده أن مداعبة النساء أيضا لا تخلوا من خدش أو دماء. فكون الجرح منهن أصالة أو وكالة إنما هو شيء واحد. وقد سئل أحد العشاق عن مبلغ الوجد منه فقال كنت أرتاح للريح إذا مرت على نتن مقبلة من صوب المحبوب. هذا وأن عشق أهل تلك البلاد أكثره على هذا النمط. أي أن العاشق منهم يكلف بأثر من محبوبه كمنديل أو زهرة أو رسالة وخصوصا بنصة شعر فيشمه ويضمه ويقبله ويعانقه كما قيل
الشعر مثل الشَّعر داعية الهوى
…
والشَّعر مثل الشعر ذخر يذخر
من غاب عنك فلست تنظره سوى
…
بالشعر وهو الأكثر
فإن قيل أنهم إنما عشقوا ذلك طمعا في وصال الحبيب الذي تفضل بهذه النعم لا كلفا بها من حيث هي هي. قلت ما المانع من أن تعشق الصغيرة طمعا في أن تصير كبيرة. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. وربّ أمل أحلى من فوز. وقد علم أهل الدراية أن من حرمه الله من الجمال لغاية لا يعلمها إلا هو عوضه عنه زيادة قصاص له بحدة الفكر والبصيرة وشدة التصور والتخيل ودقة الحدس فيكون أسرع إلى العشق وأكثر حرصا على أهل الجمال إذ الإنسان كلما بعد الشيء المقصود كان توقانه إليه أكثر وتولعه به أشدَّ. والمراد من ذلك كله أن نقول أن الفارياق كان يعلم من صغره إنه بمعزل عن الجمال. وإنه من صبائه كان يعظم أهله ويميزهن على غيرهن وإن القبيح معذور على عشق المليح كما قال الشاعر:
وقالوا يا قبيح الوجه تهوى
…
مليحا دونه السمر الرقاق
فقلت وهل أنا إلا أديب
…
فكيف يفوتني هذا الطباق
قالوا أو أقول إنا عنهم. وقد يكون عشق الصغير كبيرا كما يكون عشق الكبير صغيرا. فإن الصغير لما كان غير ذي رشد يرده عن الاسترسال والتمادي في هواه كان هذا الاسترسال معقبا للجموع دون حد. ألا ترى أن الصغير إذا ولع بشيء من اللعب واللهو فإنه يتهتك فيه وينهمك غاية ما يكون. فكيف به إذا جنح إلى شيء هو أقوى من كل ما يستميل الطبع ويشوق النفس. نعم إن الكبير يقدر منافع ما يقصده من معشوقه أكثر من الصغير ولذلك يكون حرصه عليه أبلغ وطلبه له اكثر. غير إن عزة نفسه وسورة طباعه ونهيته قد تمنعه من أن يسلم عنان مشيئته للهوى. فيكون في طريق ميله وتوقانه تارة مقدما رجلا وتارة مؤخرا أخرى. والصغير متى ما استرسل استسهل. وبعد فقد نذرت على نفسي أن أكتب كتابا. وإن أودعه كل ما راق لخاطري من القول سديدا كان أو غير سديد فإني اعتقدت أن غير السديد عندي قد يكون عند غيري سديدا كما تحقق لدي عكسه. فإن شئت فأذعن أولا فليس هذا الوقت وقت العناد والخلاف.
والحاصل أن الفارياق لبث يعلم سيدته الصغيرة وجعل من دأبه أن يتودد إليها بإغضاء النظر على إصلاح غلطها. بل لم يكن يرى إن صاحبة هذا الجمال يجوز ردها. فتأخرت هي في العلم وتقدم هو في الهوس فمما قال فيها.
بروحي من أعلمه وقلبي
…
أسير هواه لن يستطيع صبراً
أغار عليه وجداً من حروف
…
يفوه بها فتلثم منه ثغراً
والحمد لله على كون اللغة العربية خالية عن الياء الفارسية والفاء الإفرنكية وإلا لزادت غيرة صاحبنا وربما كان ذلك سبباً في جنونه. فإن الغيرة والجنون يخرجان من مخرج واحد كما أفاده المشايخ الراسخون في الزواج. وهنا دقيقة وهي أن بعض العتاول جمع عتول وهو من لا خير عنده للنساء يستثقل المؤنث في الغزل والنسيب فيجعله مذكراً وبعضهم يضمره. وعليه قول الفارياق أعلمه. والظاهر إن المقدر في ذلك لفظة شخص. فيا ليت هذا الحرف كان في لغتنا مؤنثا كما هو في الفرنساوية والطليانية حتى لا يجد الناسب محيدا عن التأنيث.
فأما تعليم نساء بلادنا القراءة والكتابة فعندي إنه محمدة بشرط استعماله على شروطه. وهو مطالعة الكتب التي تهذب الأخلاق وتحسن الإملاء. فإن المرأة إذا اشتغلت بالعلم كان لها به شاغل استنباط المكايد واختراع الحيل كما سيأتي ذكر ذلك. ولا بأس بالمتزوجات بقراءة كتابي هذا وأمثاله. لأنه كما إن من ألوان الطعام ما يباح للمتزوجين دون غيرهم. فكذلك هي ألوان الكلام. والظاهر إن اللغة العربية شرك للهوى إذ يوجد فيها من العبارات الشائقة المتصبية ما لا يوجد في غيرها.