الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكأني بمعترض هنا يقول ما فائدة هذا الخبر البارد. قلت أن وجود الطنابير في الجبل عزيز جداً كما ذكرنا. فإن صنعة الإلحان والعزف بالملاهي يسم صاحبها بالشين. لما في ذلك من التطريب والتصبي والتشويق. والقوم هناك يغلون في الدين ويحذرون من كل ما يلذ الحواس. لذلك لا يشاءون أن يتعلموا الغناء والعزف بإحدى آلات الطرب أو يستعملوا في معابدهم وصلواتهم كما تفعل مشايخ الإفرنج خشية أن يفضي بهم ذلك إلى الإلحاد. فعندهم إن كل فن من الفنون اللطيفة كالشعر والإيقاع مثلا والتصوير مكروه. ولكن لو أنهم سمعوا ما يتغنى به في كنائس مشايخهم المذكورين من الموشحات أو ما يعزف به على الأرغن من اللحون التي ولع الناس بها في الملاعب والمراقص ومحال القهوة استجلاباً للرجال والنساء، لما رأوا في الطنبور إثماً. فإن الطنبور بالنسبة إلى الأرغن كالغصن من الشجرة وكالفخذ من الجسم. إذ لا يسمع منه إِلا طنطنة وفي الأرغن طنطنة ودندنة وخنخنة ودمدمة وصلصلة ودربلة وجلجلة وقلقلة وزقزقة ووقوقة وبقبقة وفقفقة وطقطقة ودقدقة وقعقعة وفرقعة وشخشخة وجرجرة وغرغرة وخرخرة وقرقرة وبربرة وطبطبة ودبدبة وكهكهة وقهقهة وبعبع وبعبعة وزمزمة وهمهمة وحمحمة وغطمطة وتأتأة ودأدأة وضأضأة ويأيأء وقأقأء وصهصلق وجلنبلق وغطيط وجخيف وفحيح وحفيف ونشيش ورنين ونقيق وطنين وعجيج وأرير ودوي وخرير وأزيز وهرير وصريف وصرير وشخب وصي وموا وغاق غاق وغق غق وطاق طاق وشيب شيب ومي ميء وطيخ طيخ وقيق قيق وخازباز وخاق باق. فإين هذا كله هداك الله من طن طن. فإن قيل إن الرغبة عن العزف به إنما هو لكونه يشبه الإلية. قيل فما بال النساء يدخلن الكنائس وعلى رؤوسهن هذه القرون الفضة وهي تشبه فنطيسة الخنزير أجلّك الله عن ذكره. وفنطيسة الخنزير أجلك الله عن ذكره تشبه كذا وكذا. فقد تبين لك إن اعتراضك غير وارد. وإن ذكر الطنبور كان في محله. فإن أبيت إلا العناد وتصديت لأن تخطئني وتعقبني بزلة وبغير زلة. وزمت أن تبدي للناس براعتك في الانتقاد عليّ أمسك عن إتمام هذا الكتاب. ولعمري لو إنك علمت سبب شروعي فيه وهو التنفيس عن كربك وتسلية خاطرك لما فتحت فاك عليّ بالملامة في شيء فقابل الإحسان أصلحك الله بالإحسان وأصبر عليّ حتى أفرغ من غزل قصتي. وبعد ذلك فإن لخاطرك إن تلقي بكتابي في النار أو الماء فافعل.
ولنعد الآن إلى الفارياق فنقول أنه أقام مع والدته في البيت يتعاطى النساخة. وأنه لم يلبث أن ورد عليه نعي والده في دمشق. فتفطر قلبه لهذا الفجع وود لو بقي الطنبور عند ناهبه. وكانت أمه تنفرد في كل صباح وتندب زوجها وتتحسر عليه وتذرف المدامع لفقده. فإنها كانت من الصالحات المتحببات لأزواجهن عن خلوص وداد وصدق وفاء. وكانت تظن أن أبنها لا يراها في انفرادها حتى لا يزيد حزنها برؤيتها إياه يبكي لبكائها. لكن الفارياق كان ينظرها في خلوتها ويبكي لوحشتها ووحدتها أشد البكاء. فإذا رجعت كفكف عبراته وتشاغل بالكتابة أو بغيرها. ومذ ذلك الوقت عرف أنه لا ملجأ له بعد الله غير كدّه فعكف على النساخة. غير إن هذه الحرفة مذ خلق الله القلم لا تكفي المحترف بها ولا سيما في بلاد لوقع قرشها طنين ورنين. ولرؤية دينارها تكبير وتعويذ إلا ذلك جود من خطه ورقق من فهمه.
قسيس وكيس وتحليس وتلحيس
قرأ الفصل المتقدم ثم أتاه خادمه يدعوه للعشاء فترك الكتاب وقام يستقبل الكأس والطاس والقدح والكوب مما اختلفت أشكاله وتفاوتت مقاديره. ثم أقبلت عليه إخوانه يسامرونه فمنهم من قال له إني ضربت اليوم جاريتي ونزلت بها إلى السوق على عزم أن أبيعها ولو بنصف ثمنها. وذلك لأنها أجابت سيدتها جوابا سخيفا. ومنهم من قال له وأنا أيضا ضربت أبني أشد الضرب لأني رأيته يلعب مع أولاد الجيران ثم حبسته في الكنيف وهو باق إلى الآن فيه. وبعضهم قال وأنا أيضا حرجت اليوم على زوجتي بأن تطلعني على جميع ما يخطر ببالها ويخلع صدرها من الأفكار والهواجس. وبما تحلمه أيضاً في الليل من الأحلام التي تنشأ عن امتلاء الدماغ من بخار الطعام. أومن دخان الغرام قبل النيام. وقلت لها أن لم تخبرني باليقين أضريت بك أبانا القسيس فيكفرك ويحظر عليك ثم يستخرج منك كل ما تكتمين وتضمرين ويطلع على كل ما تسترين وتخفين وتصونين وعلى ما تحذرين منه، وتحرصين عليه، وترتاحين له وتميلين إليه وتكلفين به. وقد خرجت من داري غضبانا متنمرا وجزمت بأن لا أصالحها إِلا إذا كانت تقص عليّ أحلامها. وبعضهم قال إن مصيبتي في بنتي أعظم. وذلك إنها بعد أن تمشطت اليوم وتعصبت وتعطرت وتطيبت وتوسطت وتبرقشت وتزينت وتبرجت، وتزيغت وتضرجت وتزخفت وتزبرجت وتشوفت وتسرجت وتنقشت وترقشت وتزهنعت وتبرقت وتحلفت وتزوقت وتقينت وتزلقت وتزيرقت وتألقت جلست بالشباك لتنظر الواردين والصادرين. فنهيتها عن ذلك فأنصرفت ثم خالفتني فرجعت إلى موضعها. وأوهمتني إنها تخيط هناك بعض ملبوس لها. فكانت كلما غرزت بالأبرة غرزة تنظر نظرتين. فقمت إليها مستشيطاً غيظاً وجبذتها بشعرها الذي مشطته وعقصته فطلع بيدي منه خصلة وهاهي معي. وهيهات إن تنتهي عن غيها ولو نتفت شعرها كله. فإنها كالمهرة الجامحة بغير عنان. لا يردها لكم بالأكف ولا ضرب بعيدان نعم أن من ملأ أعصاله بألوان الطعام وأذنيه بمثل هذا الكلام فلا بد وأن يكون قد نسي.
ما جرى على الفارياق من الوقوع الحسي والمعنوي ومن فجعه بنعي أبيه. ومن إقباله على نسخ الكتب من ذلك جودة الخط فمن ثم اضطررت إلى الإعادة. وأزيد هنا أن أقول:
إنه لما شاعت براعته في النسخ أرسل إليه من اسمه على وزان بعير بيعر يستدعيه لنسخ دفاتر كان يودعها كل ما كان يحدث في زمانه. وليس الغرض من ذلك إفادة أحد من العالمين. وإنما كان إمساكاً للحوادث من أن تتفلت من مدار الأيام. أو تنفك من سلسلة الأحوال. فأن كثيراً من الناس يرون أن إحضار الماضي وجعله حالاً منظوراً من الأمور العظيمة. ولذلك كانت الإفرنج حراصاً على تقييد كلما يقع عندهم. فخرج عجوز من بيتها صباحاً وعودها إليه في الساعة العاشرة وهي تقود كلباً لها. والريح عاصفة والمطر واكف لا يفوت أقلامهم ولا يعدو خواطرهم. ففي مقدمة ديوان Lamartine أعظم شعراء الفرنساوية الموجودين في عصرنا وهو ديوان الذي سماه التأمل الشعري ما ترجمته. وكانت العرب يدخنون التبغ في قصبات لهم طويلة وهم ساكتون وينظرون إلى الدخان متصاعداً كأعمدة زرقاء لطيفة إلى أن يضمحل في الهواء اضمحلالاً يشوق الرائي. والهواء إذ ذاك شفاف لطيف إلى أن قال: ثم أن صحي من العرب جعلوا الشعير في مخال من شعر المعزي ووضعوها في أعناق الخيل وهي حول خيمتي. وأرجلها مربوطة في حلق من حديد وهي غير متحركة. ورؤوسها مخفوضة إلى الأرض مظللة بنواصيها الشعثة. وشعرها أشهب براق يخرج منه دخان تحت أشعة الشمس الحامية وكانت الرجال قد اجتمعت تحت ظل زيتونة من أعظم ما يكون. وفرشوا تحتهم على الأرض حصيراً شامياً وأخذوا في الحديث والحكايات عن البادية وهم يدخنون التبغ وينشدون أشعار عنتر وهو من شعراء العرب الذين اشتهروا بالحماسة والرعاية أي رعاية البهائم والبلاغة وقد بلغت أشعاره منهم مبلغ التنباك في الأركيلة. وحين كان يرد عليهم من الأبيات ما يؤثر في حسهم أكثر كانوا يرفعون أيديهم إلى آذانهم ويطرقون برؤوسهم ويصرخون تارة بعد تارة الله الله الله. إلى أن قال في وصف امرأة رآها تبكي عند قبر زوجها وكان شعرها مسدلاً من عند رأسها ملتفاً عليها ومماساً للأرض. وكان صدرها مكشوفاً كله على ما جرت بع العادة عند نساء تلك البلاد من بلاد العرب. وحين كانت تتطأطأ للثم صورة العمامة على رجال القبر أو تصغي أذنها إليه كان ثدياها البارزان يمسان الأرض ويرسمان في التراب شكلهما كالقالب. أهـ صفحة 24 وسائر هذه المقدمة على هذا النمط مع انه سماها مقدور الشعر أي ما قدره الله تعالى على الشعر والشعراء.
وفي رحلة شاتوبريان إلى أمريكا وهو أيضاً من أعظم شعراء عصره ما صورته. وكان منزل رئيس الدول المتحدة عبارة عن دار صغيرة مبنية على أسلوب إنكليزي في البناء من دون خفرة عندها من العسكر ولا حشم داخلها. فلما قرعت الباب فتحت جارية صغيرة فسألتها هل الجنرال في البيت فأجابت نعم. فقلت أن عندي رسالة أريد أن أبلغه إياها. فسألتني عن اسمي وصعب عليها حفظه فقالت لي بصوت منخفض أدخل يا سيدي وأورد هذه العبارة باللغة الإنكليزية Walk in sir تنبيهاً على معرفته لها ثم مشت أمامي في ممشى طويل كالدهليز. ثم دخلت بي إلى مقصورة وأشارت إليّ أن أجلس فيها منتظراً الخ صفحة 25. وفي موضع آخر أنه رأى بقرة عجفاء لامرأة من هند أمريكا فقال لها وهو راث لحالها: ما بال هذه البقرة عجفاء؟ فقالت له إنها تأكل قليلاً وأورد هذه العبارة أيضاً باللغة الإنكليزية وهي She eats very little. وفي موضع آخر ذكر أنه كان يرى كسف السحاب بعضها في شكل حيوان وبعضها في شكل جبل أو شجرة وما أشبه ذلك.
فإذ قد عرفت هذا فأعلم إن اعتراضك عليّ في إيراد ما هو غير مفيد لك لكنه مفيد لي لا يكون إلا تعنتاً فإن هذين الشاعرين كتبا ما كتباه ولم يخشيا لومة لائم، ولم يعترض عليها أحد من جنسيهما. وقد اشتهر فضلهما وصيتهما حتى أن مولانا السلطان أدام الله دولته أقطع لا مرتين في أرض أزمير إقطاعات عظيمة. ولم يسمع عن ملك من ملوك الإفرنج إنه أقطع شاعراً عربياً أو فارسياً أو تركياً مقدار جريب واحد في أرض عامرة. ولا غامرة. فأما كون وازن بعير بيعر قد حاكى الإفرنج في تاريخه وهو عربي وأبواه أيضاً عربيان وعمه وعمته كذلك عربيّان. فما لم أتيقنه إلى الآن. ولعلي أعلمه بعد إنجاز هذا الكتاب فأخبر به القارئ إن شاء الله. وإنما أرجو أي القارئ ألا يقطع قراءته لجهله سبب هذه المحاكاة وإن يكن العلم به مهماً.
ودونك مثالاً مما كان يكتبه الفارياق في أساطير بعير بيعر. في هذا اليوم وهو الحادي عشر من شهر آذار سنة 1818 قصَّ فلان ابن فلانة بيت فلانة ذنب حصانه الأشهب بعد أن كان طويلاً يكنس الأرض. وفي ذلك اليوم بعينه ركبه فكبا به. فإن قلت ما سبب النسبة إلى الأم دون الأب قلت أن بعير بيعر كان من المتديّنين، المتورعين المتقين. فنسبة الولد إلى أمه أصح وأصدق من نسبته إلى أبيه. فإن الأم لا تكون إلا واحدة بخلاف الأب ولكون الجنين لا يمكنه الخروج إلا من مخرج واحد، ومن ذلك اليوم نظرت سفينة في البحر ماخرة فظُن إنها بارجة قدمت من إحدى مراسي فرنسا لتحرير أهل البلاد، لكنه عند التحقيق ظهر أنها كانت زورقاً مشحوناً ببراميل فارغة وكان سبب قدومه للاستقاء من عين كذا. فإن قيل أن هذا خلاف المعهود، فإن من شأن الكبير أن يبدو للعين عن بُعد صغيراً لا عكسه. قيل أن الإنسان إذا أعطى نفسه هواها رأى الشيء بخلاف ما هو عليه. فمن أحب مثلاً امرأة قصيرة لم ير بها قِصْراً. ومنخلا بمحبوبته في فترة رآها أوسع من صرح بلقيس. فإنا نرى النور الصغير عن بُعدٍ كبيراً. فلا غرو أن يبدو الزورق بارجة أو شونة. فإن القوم هناك ما زالوا يحملون بأن رؤوسهم قد تبرطلت ببراطل الفرنساوية ولحموا عرضهم بعرضهم حتى يروا نساءهم كما قال الشاعر:
تصيد ظباؤنا الأسدُ الضواري
…
بلحظ أو بلفظ في المسالك
وغزلان الفرنج تصيد أيضاً
…
بذَيْن معا وبالأيدي كذلك
وكان بعير بيعر سُتْهمَا جَعْظَرا أُحرقه. لكنه كان حليماً يجب السلم والدعة. وكان من التغفل على جانب عظيم. فكان مفوضاً أموره المعاشية إلى رجل لئيم شرس الأخلاق عيده به كبر وعنجهية وعجرفة وتفجُّس وغطرسة. وكان تمضي عليه الساعة والساعتان وهولا يبدي ولا يعيد. فيظن الغر أنه معمل فكره في تدبير الدول. أو تلخيص النحل. فقد جرت العادة بأن الرجل إذا كان ذا منزلة رفيعة فإن كان عييا مفحماً عُدّ رزيناً وقوراً. وأن يك مهذاراً عد فصيحاً. فأما أموره المعادية فإنها كانت تعلو وتسفل وتضوي وتجزل وتفتق وترتق بتدبير قسيس ذي دعابة وفكاهة وبشاشة وهشاشة. قصير سمين. أبيض بدين. وكان هذا القسيس الصالح قد تمكن من حريمه تمكناً لا يباريه فيه النسيم. وألقى عصاه عند إحدى بناته وكانت ذات وجه وسيم ومنطق رخيم. وكانت تزوجت برجل قد جُنّ وتخبل فخلته وجنونه واعتصمت بعقوة أبيها فكان القسيس آمراً عليها مطاعاً. ناهياً وزاعاً فكانت كلما دخل فيها شيء أوخرج منها شيء تطالعه به لأنها كانت ممن قفط قطري الدين والدنيا معاً. وكانت تعترف له بجرائرها في الخلوة. وهو يسألها عن كل زلة وهفوة. فيقول لها هل تتذبذب أليتاك ويترجرج ثدياك عند صعودك الدرك أو عند المشي. وهل يحدث فيك هذا الارتجاج من لذة. فقد ورد في بعض الأخبار أن بعض الجلامظة كان يرتاح إلى أي ارتجاج كان. حتى كان كثيراً ما يتمنى أن تتزلزل الأرض من تحته. وتمور الجبال من فوقه. وهل يمثل لك في الحلم ضجيع يكافحك. وخليع يصافحك إذ لا فرق عند الله بين اليقظة والمنام. وأن أعظم الحقائق إنما بني على الأحلام. وهل وسوس إليك الوسواس الخناس فاشتهيت أن تكوني خُنْثَى، أي ذكراً وأنثى لا ذكر ولا أنثى كما تقول العامة. فإن هذا القول لم يرتضه المحققون من الربانيين اللاتين وغير ذلك من الوسائل التي يضيق عن تفصيلها هذا الفصل. وكان أبوها لا يسيء به الظن لما تقرر عنده من أن كل من لبس السواد فهو من الفاطميين أهواءهم عن اللذات الخاصين أنفسهم عن الشهوات حتى أنه نظر يوماً في بعض الكتب هذا البيت وهو:
وذموا لنا الدّنيا وهم يرضعونها
…
أفاويق حتى ما تدّر لنا ثعل
فظن أنه تعريض بهم وتلميح إليهم. فأمر بإحراقه فأحرق وذرى رماده. ورأى يوماً آخر بيتين في كتاب آخر وهما:
ما بال عيني لا ترى من بين من
…
لبس السواد من العباد نحيفاً
ما كان من لحمٍ وشيء غيره
…
فيهم فأصلب ما يكون وقوفاُ