الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغاية ما أقوله أنا إن من شاعر امرأة ليلاً ولم يرها كما جرى لسيدنا يعقوب عمَّا وقع له ما وقع لصاحبنا هذا المكثر من اللعلاّت والأنات والأوّات. ولقائل أن يقول أن هذه القضية معكوسة في شأن المرأة اللابسة. فأن النظر إذا وقع عليها وهي متسترة وقفت معه المخيلة عند حدّ ما. بخلاف العريانة فإن المخيلة والقلب عند النظر إليها يطيران عليها ولا يقفان على حدٍّ فالمخيلة تتصور أشياء والقلب يشتهي أشياء أخرى. وللمجيب أن يقول أن ذلك إنما نشأ عن الفرق الحاصل بين الوجه والجسم. فأن الجسم من حيث كونه أكبر من الوجه اقتضى طيران المخيلة إليه: وحومان القلب عليه. وردّ هذا القول جماعة منهم الصباباتي والمباعليّ والألغزي وأبو إِرَّبان كبر الجسم هنا ليس سبباً للطيران والحومان. إذ لو لم يبدُ منه إلا موضع واحد لكفى. فبقي الأشكال غير مدفوع. وأجيب بأن العلة في ذلك إنما هي لكون الجسم جسماً والوجه وجهاً. وسفه هذا القول فأنه تحصيل للحاصل وقيل إنما هو لكون الوجه محلاً لأكثر الحواس. ففيه مخزن الشم والذوق والبصر وقريب منه مخزن السمع. وارتضاه جماعة منهم العزهي والتيتاي والذَوْذخي. وردّ بأن هذه الحواس لا مدخل لها هنا. فأن المراد من كونية المرأة لا يتوقف عليها أصالة فهي مستغنى عنها. وقيل إنما هو لكون الجسم يحوي أشكالاً كثيرة ففيه الشكل القمقمي والرماني والقرموطي والأطاري والخاتمي والقبي والعمودي والهدفي والصادي والميمي والمدرج والمخروط والهلاليّ ومنفرج الزاوية. وردّ بأنه كقول من قال أنه كبر من الوجه وجوابه كجوابه. وقيل إنما هو لكون العادة الأغلبية هي أن يكون الوجه حاسراً والجسم مستوراً. فإذا رأى الإنسان ما خالف العادة هاجت خواطره وطارت أفكاره. وقيل غير ذلك والله أعلم. ويحتمل إن هذه القاعدة التي استدركت ذكرها غير صحيحة فيا ليتني نسيتها فأن ذكرها أوجب المناقشة بين العلماء.
والحاصل أن الغرام البرقعي لما باض وفرخ في رأس الفارياق غردت أطياره عليه لأن يتخذ له آلة لهْو. فما عتم أن تأبَّط له طنبوراً صغيراً من السوق وجعل يعزف به في شباك له مطلّ على دار رجل من القبط وكان عند الخرجي خادم مسلم قد عشق ابنة القبطي فغار عليها من الطنبور فسعى بالفارياق إلى سيده قائلاً إذا سمع المارون في الطريق صوت الكنبور من دارك ظنوا أنها دسكرة أو حانة أو ثكنة "مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم الخ" لا دار للخرجيين. لأن هذه الآلة لا يستعملها غير الترك. فشكوه الخرجي على ذلك وأستصوب ما قاله وأوعز إلى الفارياق بإلغاء الآلة فألغاها وجعل يفكرِّ في التملص من أيدي هذه الزمرة التي لم يبرح آذاها واصلاً منكل شباك سواء في الجزيرة والأرض ثم بعد أيام قليلة هرب الخادم بالبنت وتزوج بها بعد أن أسلمت والحمد لله رب العالمين.
وصف مصر
قد وصف مصر كثير من المؤرخين المتقدمين ومدحها جمّ غفير من الشعراء الغابرين وها أنا اليوم واصفها ومادحها بما لم يسبقني إليه أحد من العالمين فأقول إنها مصر، من الأمصار. أو مدينة من المدن أو مدورة من المدر. أو كورة من الكور أو قصبة من القصب. أو بحرة من البحر. أو ماهة من الماهات أو قرية من القرى أو قارية من القواري أو عاصمة من العواصم أو صقع من الأصقاع أو دار من الديار أو بلدة من البلاد أو بلد من الأبلاد. أو قطر من الأقطار أو شيء من الأشياء. غير أن أهلها يقولون إنها مصر الأمصار ومدينة المدن وعاصمة العواصم وشيء الأشياء إلى آخره. وما أدري فرق ذلك وكيف كان فيها مدينة غاصة باللذات السائغة متدفقة بالشهوات السابغة توافق المحرورين من الرجال خلافا لما قاله عبد اللطيف البغدادي. يجد بها الغريب ملهى وسكناً وينسى عندها أهلا ووطنا ومن خواصها أن ما يذهب من أجسام رجالها يدخل في أجسام نسائها فترى فيها النساء سمانا كالاقط بالسمن على الجوع والرجال كالحشف بالشيرج على الشبع، ومنها أن أسواقها لا تشبه رجالها البتة. فإن لأهلها لطافة وظرافة وأدبا وكياسة وشمائل مرضية وأخلاقاً زكية وأسواقها عارية عن ذلك رأسا. ومنها أن ماءها لا يشبه عيشها أي خبرها. فإن الأول عذب والثاني تافه. ومنها أن العالم فيها عالم والأديب أديب والفقيه فقيه والشاعر شاعر والفاسق فاسق والفاجر فاجر. ومنها أن نساءها يمشين تارة على الأرض كسائر النساء وتارة على السقف وعلى الحيطان. ومنها تذكر المؤنث وتأنث المذكر مع أن أهلها متقنون للعلم وأي إتقان. ومنها أن حّماماتها لا تزال تقرأ فيها سورة أو سورتان من القرآن فيها ذكر الأكواب والطائفين بها. فالخارج منها يخرج طاهرا وجبنا. وأعجب من ذلك أن كثيرا من رجالها ليس لهم قلوب. وقد عوض الواحد منهم عن قلبه بكتفين وظهرين وبأربعة أيدي وأربعة أرجل. ومن ذلك أن كثيرا من البنات اللائي يغسلن اقمصتهن في بعض مجاري النيل يتعممن بقمصانهن بعد غسلهن ويمشين عريانات. ومنها أن قوماً منهم بلغهم أن نساء الصين يتخذون أو بالحري يُتخذ لهن قوالب من حديد لتصغير أرجلهن عن المقدار المعهود. فجعلوا يشذبون أصابعهم واعتقدوا أن اليد إذا كان بها أربع أصابع فقط كانت أخف للعمل وأنفع لصاحبها. مع أن الأصابع والكفوف عندهم ليست مما يكسى حتى تقضي عليهم بزيادة النفقة. كما هو شأن الإفرنج الذين لا يغادرون عضوا من أعضائهم إلاّ ويكسونه احتفالا به وتفخيماً له أو حذراً عليه من العدوى. ومن ذلك أي من الخواص لا من الأعضاء أن البنات اللائي يُستخدمن في الميري لحمل الآجر والجبس والتراب والطين والحجر والخشب وغير ذلك، يحملنه على رؤوسهن وهن فرحات جامحات رامحات سابحات صادحات مادحات مازحات. غير آحات ولا ترحات ولا دالحات ولا رازحات ولا كالحات ولا نائحات. ومن كان نصيبها من الآجرّ نظمت عليه موالاً أجريّا. أو من الجبس غنت له أغنية جبسية. كإنما هن سائرات في زفاف عروس.
من ذلك أن فيها دوانين عظيمين يقال لكل منهما الديوان المخدّمي. فالديوان الأول قيمته رجل يجهز للرجال ما يلزمهم لتبريد فرشهم من هو. والديوان الثاني وهو دونه في القدر والشأن قيمته امرأة تجهز ما يلزمهم لتسخنهم من هي. وأصل منشئ الديوان الأول عجميّ. وقد صار الآن من الشهرة والنباهة عند العرب بحيث إنك لا تزال تسمع بذكره والثناء عليه في كل مقام ولا يكاد يخلو منه مجلس أنس أو غناء أو أدب. ومن ذلك أن البرنيطة فيها تنمى وتعظم. وتغلظ وتضخم وتتسع وتطول وتعرض وتعمق. فإذا رأيتها على راس لابسها حسبتها شونة. قال الفارياق وكثيراُ ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف صح في الإمكان وبدأ للعيان أن مثل هذه الروس الدميمة. الضئيلة الذميمة. الخسيسة اللئيمة. المهينة المُليمة. المستنكرة المشئومة. المستقذرة المهوعة. المستقبحة المستفظعة. المستسمجة المستشنعة. المسترذلة المستبشعة. تقل هذه البرانيط المكرمة. وكيف إنماها هواء مصر وكبرها إلى هذا المقدار. وقد طالما كانت في بلادنا لا تساوي قارورة الفراش. ولا توازن ناقورة الفراش. وكيف كانت هناك كالتراب. فأصبحت هنا كالتبر. يا هواء مصر يا نارها يا ماءها يا ترابها ضيري طربوشي هذا برنيطة وأن يكن أحسن منها عند الله والناس وأفضل. وأجل وأمثل. وللعين أبهى وأكمل. وعلى الرأس أطبق. وبالجسم أليق. وغير ذي قرون تتملق لتتلمق. ويرزق عليها لترزق. قال فلم يغن عني النداء شيئاً وبقي راسي مطربشاً. وطرف دهري مطرفشاً. ومن ذلك أن قوماً من الهُككاء المهاكيك فيها يمرأون ويبرقعون لحاهم ويزاحمون ذوات البراقع على مورد الإناثية. فتراهم يتحففون ويهجلون ويتبازون ويوكوكون ويوزوزون ويباغمون وهم أقبح خلق الله. ومن ذلك أن لضابط البلد شفقة زائدة على أهلها تقرب من حد الظلم. وذلك أنه يأمر جميع السالكين قي طرقها ليلاً أن يتخذوا لهم فوانيس وإن كانت الليلة مقمرة. خفية أن يعثروا بشيء في أسواق المدينة فيسقطوا في هوة أو جبّ فتنكسر أرجلهم أو تندق أعناقهم. ومن وجد ليلاً يطوف من غير ذوي البرانيط وليس بيده فانوس غُلّت رجله إلى يده. ويده إلى عنقه. وعنقه إلى حبل. والحبل إلى وتد. والوتد إلى حائط. والحائط إلى ناكر ونكير. وتصلية سعير. ومن ذلك أن لبني حنا فيها أسلوباً في الكتابة لا يعرفه أحد إلا هم. ولهم حروف كحروفنا هذه إلا أنها لا تقرأ إلا إذا أدخلها الإنسان في عينه كذلك رأيتهم يفعلون. ومنها أنه إذا مات منهم أحد فلا يزال أهل الميت يندبونه وينوحون عليه حتى يؤوب إليهم ووطبه ملان من الطريخ. ومن خصائصها أيضاً أن البغاث بها يستنسر والذباب يستصقر. والناقة يستعبر. والجحش يستهمر. والهر يستنمر. بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة.
ومن ذلك أن كثيراً من أهلها يرون أن كثرة الأفكار في الرأس يكثر عنها الهموم والاكدار أو بالعكس. وأن العقل الطويل يتناول البعيد من الأمور. كما أن الرجل الطويل يتناول البعيد من الثمر وغيره. وأن تلك الكثرة سبب في الإقلال. وهذا الطول موجب لقصر والآجال. وأوردوا على ذلك براهين سديدة قالوا أن العقل في الرأس كالنور في الفتيلة. فما دام النور موقداً فلا بد وإن تنفذ الفتيلة ولا يمكن إبقاؤها إلا بإطفاء النور. أو كالماء في الوادي. فإذا دام الماء جارياً فلابد وأن ينضب أو ينصب في البحر فمتى حُقن بقي. أو كالفلوس في الكيس. فما دام المفلس أي صاحب الفلوس يمدّ يده إلى كيسه وينفق منه في ما عنده. إلا أن تربط يده عن الكيس أو يربط الكيس عن يده. أو كالتيس النازي. فإنه إذا دام نزوه نزفت مادة حياته فهلك فلا بد من نجفه. فمن ثم اصطلحوا على طريقة لتوقيف جريان العقل في ميدان الدماغ حيناً من الأحيان ليتوفر لهم في غيره. وذلك بشرب شيء من الحشيش أو بمضغة أو بالنظر إليه أو بذكر اسمه فحين يتعاطونه تغيب عنهم الهموم ويحضر السرور. وتولي الأحزان. ويرقص المكان. فمن يرهم على هذه الحالة ودّ لو يكتُب في زمرتهم ويدخل في دائرتهم وأن يكن قاضي القضاة. ومن ذلك أن طرقها لا تزال غاصة بالإبل المحملة فينبغي للسائر فيها إذا رآها مقبلة أن يخلي لها الطريق. لا فلا يأمن أن يفقد إحدى عينيه. وقد ينشأ عن هذا الزحام فوائد كما في حكاية المرأة التي سارت مع أمها لتحضر عرس أختها فطالعها من محلها.