الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأمر أيضاً بإحراق الكتاب. وبعث جواسيس في البلد يتجسسون عن مؤلفه ونودي في الروابي والوهاد. ألا من دل على مؤلف كتاب كذا فإنه يجزي أحسن الجزاء. ويرقى إلى رتبة سنية. فلما سمع المؤلف بذلك اضطر إلى الاختفاء مدة حتى نُسي اسمه. فإن قلت أن هذا الفعل خلاف ما وصفته به من الحلم قلت إن عادة أهل تلك البلاد أن الحلم يكون محموداً في كل شيء إلا في أمرين حرمة العرض وحرمة الدين فأن الأخ ليبسل أخاه إلى الهلكة من أجلهما.
ثم أن الفارياق أقام عند هذا الحليم مدة لم يحصل فيها على طائل. وكانت نفسه عزيزة عليه فلم يرد أن يسأله. فمن ثم جمع ذات ليلة حطباً وتبناً كثيراً وأطلق فيهما النار فانبعث اللهيب نحو مقصورة بعير بيعر، فظن أن النار قد سرت في قصره. فاستوشى القيام والقعود فأقبلوا يتسابقون إلى موضع النار. فرأوا الفارياق يزيدها من الحطب الجزل فسألوه عن ذلك فقال أن هذه النار من بعض النيران التي تنوب عن اللسان. وأن لم يكن لها صورة لسان. وإن لم يكن لها صورة لسان. ومن فوائدها إنها تنبه الغافلين وتنذر الباخلين. أن وراءها لقولاً شديداً ولساناً حديداً. فقالوا ويحك إنما هي من بدعك أو يكلم أحد بالنار. لقد سمعنا إن الإنسان يكلم غيره ببوق أو بقرع عصا أو بإشارة إصبع أو بغمز عين أو برمز حاجب أو برفع يد من عند الإبط. فأما بالنار فبدعة وضلال. وكادوا أن يبدعوه ويكفروه وينسبوه إلى التمجس ويطرحوه النار. لولا أن قال قائل منهم. ردوا الجواب على مرسلكم. ولا تفعلوا شيئا عن تهوك. فلما أخبروه بما رأوا وسمعوا. استرآه واستنطقه عن ذاك الأجيج. فقال أصلح الله المولى. وزاده فضلا وطولا. قد كان لي كيس لا ينفعني ولا أنفعه. والأكياس ولما جاء على وزنها ورويها عادة مخالفة لسائر العادات وهي إنها إذا خفت ثقلت. وإذا ثقلت خفت. فلما خف كيسي في جوارك السعيد أي ثقل أحرقته بهذه النار. وإنما جعلتها عظيمة هكذا لأني كنت أتوهمه كرضوى في جيبي. حتى إنه كثيرا ما منعني عن النهوض والخروج لحاجة مهمة فلما سمع قوله ضحك من خرافته ورضخ له من كفه الجامدة شيئا يقابل ما كتبه له الفرياق في أسفاره في الخساسة. فأقبل يحنبش إلى بيته وآلى أن لا يكتب شيئاً بعد ذلك الإ ما طاب موقعه. وجل نفعه. رجاء إن تكون الأجرة على قدر العمل. وهيهات فإن أكثر الناس نفعاً وشغلاً. أقلهم أجراً وجعلا. ومن لم يحسن إلا التوقيع. احل المحل الرفيع. ولقمت يده وقدمه كما يلقم الثدي الرضيع.
طعام واِلتهام
بينما كان الفارياق رأسه ورجلاه في البيت كان فكره يصعد في الجبال. ويرتقي التلال. ويتسور الجدران. ويتسنم القصور ويهبط الأودية والغيران ويرتطم في الأوحال. ويخوض البحار. ويجوب القفار. إذ كان أقصى مراده أن يرى غير منزله وناسا غير أهله. وهو أول عناء الإنسان في حياته. فعن له أن يزور أخاً له كان كاتبا عند بعض أعيان الدروز. فسار وحقائبه الأماني. فلما أجتمع به ورأى ما كان عليه القوم من الخشونة والتقشف ومن الأحوال المغايرة لطباعه. أنكر بعضها ووطن نفسه على تحمل البعض الآخر. ولم يشأ وشك الرجوع من دون تقصي معرفتهم. ولو كان رشيدا لصرف نفسه عن هواها من أول يوم. إذ ليس من المحتمل إن أهل مدينة أو قرية يغيرون أخلاقهم وما ربوا عليه لأجل غريب دخل فيهم. ولا سيما إذا كانوا شياظمة ذوي بسطة وبأس. وكان هو قميا. ولكن الإنسان كلما قل شغله كثر فضوله فلا يكتفي بمجرد ما يسمع بإذنه حتى يرى بعينه. وكان الفارياق كلما زاد بهؤلاء القوم خبرة ونقداً. زاد أعراضاً عنهم وزهداً لأنهم كانوا غلاظ الطباع. بهم جفاء وإفظاع. وسخي الوساد والملبوس. ملازمي الضعف والبؤس. وأقذرهم كان طباخ الأمير فإن قميصه كان أنتن من الممحاة. وقدميه أقلتا من الوسخ ما لا تكاد تكشطه عنه المسحاة. وكانوا إذا قعدوا للطعام سمعت لهم زمزمة وهمهمة. وقعقعة وطعطعة. فخلتهم وحوشا على جيفة يثرملون ويرهطون وينهسون ويتعرقون ويتمششون ويتلمظون ويتمطقون ويلوسون ويلطعون ويتنطعون وكل ذلك في فرشطة خفيفة. فكنت ترى في جبهة كل منهم مضمون ما قيل من لفلف. لم يتقصف. فإذا قاموا رأيت الرز مزروعا في لحاهم والوضر متقاطرا من كساهم. فكان الفارياق إذ آكلهم قام جوعانا. ومعت أمعاؤه في الليل. فبات سهراناً. فكان يقول لأخيه عجباً لمن يعاشر هؤلاء الناس. من الأكياس. ما الفرق بينهم وبين البهائم. سوى باللحى والعمائم. لا جرم إنهم عائشون في الدنيا لسد بصائرهم وأفكارهم. ولفتح أفواههم وأدبارهم لا يكاد أحد منهم يظن أن الله تعالى بشرا إلَاّ وكان دونه وما يدرون إن الإنسان ليس له بمجرد النطق فضل على العجماوات ومزية على الجمادات. فإن الكلام إنما هو مادة لصورة المعاني. ولا تنفع المادة وحدها إذا لم تحل فيها الصورة التي هي الوجود الثاني. وقد يقال إن الرقين. تغطي أفن الأفين. وهؤلاء قد حرموا من العقل والنعمة. ورضوا من الكون كله بالنسمة. كيف تطيق إن تعاشر هؤلاء الهمج وفضلك بين الناس قد بلج. فقال له أخوة إن كثيرا ليحسدونني على مكانتي عند الأمير. وإني لكيد حسادي أصبر على العسير كما قيل.
وكم أشياء يحسبها أناس
…
لفاعلها نعيم وهي بؤسُ
ولولا إن يكيد بها حسوداً
…
لأنكر ذكرها وبه عبوسُ
وفضلا عن ذلك فإن القوم ذوو نخوة ومروءة. وشهامة وفتوة. وإنهم وأن يكونوا سيئي الأدب على الطعام. فهم متأدبون في الفعال والكلام. لا ينطقون بالخنى ولا يعرف بينهم لواط ولا زنا.
غير إن الفارياق كان يرى كله في المأدبة فكأنه كان قد تخرج على بعض الإفرنج أو كان فيهم نسبة. فمن ثم استدعى بقريحته على هجوم فلبته. ونادى القوافي لوصفهم فأجابته. فنظم فيهم قصيدة بين فيها سوء حالهم وخشونة بالهم. من جملتها
في ثغر كل منهم سكيَّنة
…
وسلاحه الماضي فأين المطعمُ
ثم عرضها على أخيه وكان مشهوداً له بالأدب. وعلم لغة العرب. فاستحسنها منه على صغر سنه. وأعجب ببراعة فنه. ثم لم يلبث أن اشتهر أمرها وشاع ذكرها. وذلك لأن أخاه من شدة إعجابه بها تلاها على كثير من معارفه فبلغها بعض الحساد إلى أمير الناد. وكان هذا المبلغ نصرانياً فإن الحسد لا يكون إلا عند النصارى. مع أن كثيراً ممن تليت عليهم من الدروز كانوا داخلين في عداد المهجوين.