الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فنهاية رفقة بها وشفقته عليها إنما هو أن يشتري لها جارية أو يستخدم وصيفة. وليس المقصود مجرد تخفيف الشغل عنها وإنما المقصود جعل الأمَةَ أو الخادمة رقيبة عليها حتى لا تخونه في عرضه. ولا أقول في ماله لأنه لا يخرج من البيت إلا بعد أن يقفل صناديقه. مع أن الجارية لا تكون إلاّ ذات ضلع مع سيدتها عليه وان شتمتها بين يديه وإهانتها: لأنها لا يهمها كون سيدتها تحب واحداً من الرجال أو أثنين أو عشرة. بل يهمها أن تنال عندها الطيب من المأكول والمشروب. فإذا كانت زلّة سيدتها كما يقال تحت يدها أدلَّت عليها بتلك الزلة وتجرأت على أن تطلب منها ما تشاء. لا بل تتمنى أن سيدتها تكثر من العشاق ما استطاعت. لأنها تؤمل منهم الصلة والإحسان. ومعلوم إنه كلما كثرت العشاق كثرت الصلات. وبعدُ فإن من طبع النساء في كل زمان ومكان الارتياح إلى شواغل الهوى وبواعث العشق وان يرين أهل الدنيا كلها مسترسلين إليها ومنهمكين فيها فالجارية التي تكون عند سيدة حرّة على فرض صحة ذلك لا تلبث أن تغاضب سيدتها حتى تغري زوجها ببيعها فيقع نصيبها عند أخرى غير حرّة. غير أن الرجال مغفلون. نعم هم مغفلون. فأما تبجحهم بكونهم يشترون لأزواجهم حلياً في ربيع يُسْرهم فذلك عائد إلى خبرهم. لأنهم لا يلبثون أن يسلبونهن إياها في خريف عسرهم وأفلاسهم. فأية امرأة ترضى لنفسها بان تقعد في بيتها كالفرس المسرج المعدَّ للركوب وهي محرومة من معاشرة الناس. قال فقلت والله ما قلت كلاماً أحسن من هذا. وهذه آثار النجابة بدت تسطع من طباعك فحيّاك الله وبيّاك. قالت وما بياك قلت ليس بشيء. قالت ولكنها عندي حسنة للازدواج. قلت كأنك تقولين إنه من قبيل تزويج لفظة بأخرى فيشم منه رائحة الزواج. قالت نعم الزواج سارَّ حتى في الألفاظ. قلت ولكن بقي لي عليك اعتراض وهو انك عرّضت في أول خطبتك هذه البليغة التي أفادتني اكثر من خطب صاحب المعّبر بأني اصلح شعرك وثيابك أمام الناس. أو بأنه يلزمني أن أفعل ذلك وهو مما فات فكري. قالت انك لمَّا تفعله ولكن ستفعله أن شاء الله عن قريب. فأني أراك تقدر النساء ولا تبخسهن حقهن وإني واحدة من عباد الله هؤلاء.
سفر ومحاورة
ثم لما كان الغد ذهب الفارياق إلى المعبر وهو موجس من تعبير الوحش. فجاءه الرئيس يقول قد عنّ لي أن أسافر إلى أرض الشام لأجل تغيير الهواء. فإن هواء ذلك القطر والأحلام فيه تصح ويسهل تعبيريها. وأني أراك مثلي ضعيف القوى ناحل الجسم فتجهز للسفر فعسى الله أن يوفق لنا أسبابه ونعود بخير. فاستأذن الفارياق الحاكم في ذلك فأذن له كرماً وتفضيلاً. فأقبل على زوجته يودعها ويقول: عهدي إليك يا زوجتي بادئ بدء أن تتذكري السطح فيبعثك على حفظ العهد والوداد. وأن تعني بأمر الذي أغادر عندك معه كبدي. وإذا أتاك فاسق بنبأ عني فتثبتي. إي إذا قال لك غداً أحد ممن حسدني عليك قد مات زوجتك في البحر وأكله الحوت ولم يبق في علم الوجود سوى أسمه فلا تركني إليه قبل أن يرد إليك كتاب مني تعتمدين عليه قالت ولكن تكتب لي إذا كان الخبر صحيحاً. قال فقلت يكتبه لك صاحب المعبّر. ولكني أرجو أن أصل سالماً وتقر عيني برؤية أهلي وأهلك وأبلغهم سلامك. قالت إلا تعين لي مدة لإرسال الكتاب. قلت شهرين. قالت هذا دهارير أية امرأة تصبر شهرين. قلت نحن سائرون في سفينة الريح فإن الطبيب قال لصاحب المعبر أنها أوفق من سفينة النار لما في هذه من رائحة الفحم التي تضر بالمصدورين. قالت أفعل ما بدأ لك ولكن أحذر من أن تفيق وتهوى غيري. قلت إنما أحذر من الثانية لا من الأولى. قالت لا بل مني فأحذر. قلت إنما عنيت أني أحذر من الهوى. قالت نعم إياك وإياه فأنه يزيدك ضني. قلت ليست البلاد التي نقصدها مظنّة لذلك. كهذه الجزيرة. قالت النساء والرجال في جميع البلاد سواء. ولا سيما أنك الآن في زي غريب والنساء كلهن تهافتن على الغريب. كما أن الرجال يتهافتون على الغريبة. قلت قد فهمت هذا التعريض غير أن المرأة المصونة إذا دخلت بين جيشين تخرج كما دخلت. قالت نعم تدخل امرأة. قلت وأين المصونة أراكِ حذفتها. قالت في زمن الفِطَحْل. قلت وما الفطحل. قالت دهر لم يخلق الناس فيه بعدُ. قلت من أين علمت هذه اللفظة الغربية. قالت سمعتك مرة تقولها فحفظتها وهو دليل على التهافت على الغريب. ثم سكنت مفكرة ثم ضحكت. فقلت لها ممّ تضحكين أمن الفطحل؟ قالت لا وغنما ذكرت حكاية عن امرأة سافر عنها زوجها فضحكتُ. قلت وما هي قلت كانت امرأة متزوجة برجل يربيها في بعض أحواله ولم تكن على يقين مما رابها منه. وأتفق أنه سافر عنها فحزنت لفراقه لكنها ظلت واحدة عليه. فجعلت مرة تدعو له وأخرى تدعو عليه. وقالت وأن كان بريئاً بلغته دعواتي الصالحة وإلا فيلحقه غيرها. فقلت هل في نيّتك إذاً أن تحاكيها. قالت معاذ الله أن أدعو. قلت قولي لك أو عليك حتى يفهم المعنى. قالت عليك قلت لله أنت ما أرى لي من يديك منجي. فالتفتت إلى الباب وقالت ما جاء أحد. قلت دعيني بحقك من الزبون ومن جاء فأنا الآن على جناح السفر. قالت سِرْ في أمن الله ولا ترتَبْ فإن للهزل وقتاً وللجد وقتاً وعرض المرأة هو من الأخير. قلت وهذا أيضاً كلام موجه كأنك تقولين أنه ليس من الأمور المقدمة. قالت ألا كن مطمئناً سواء كان من هذا أو ذاك فإنك ستجدني كما فأرقتني إن شاء الله. قال فوّدعتها والدمع هامل على جيدها وبكت هي أيضاً لفراقي فإنها كانت أول غيبة عنها. وكان من خلقها إذا بكت أن تبدو في طلعتها لوائح وجد شائقة. وملامح حسن رائقة. والنساء أشوق ما يكون إذا بكين. ولكن لا يكن كلامي هذا باعثاً على ضربهنّ شلت يدا من مسهن عن غضب. قال فتزايد بكائي لبكائها وأحسست ح بلوعة الفراق.
ثم أقلعنا وما كادت تغيب الأرض عنا حتى ثارت لواعج الأشواق في صدري وخطر ببالي كل ما قلته لي مصبوغا بالوسواس والهواجس. قال ومن كان حِلْس بيته لم يفارقه ولم تبرح رائحة زوجته منخريه لم يدرِ ما ألم الفراق بعد ليالي الوصل والعناق. ولا سيما إذا جرى ذلك أول مرة. فينبغي إذاً أن أصور لخاطر صاحبنا هذا الحلسيّ المغفومي بعض ما يقاسيه المحب من لوعة البين. عسى أن يرق فيدعو لجميع النائين عن أحبابهم بقرب الوصل وجمع الشمل فأقول: أن الفراق طالت مدته أم قصرت قربت طيّته أم بعدت عبارة عن فصل أحد المتواصلين وحرمانه من أنس صاحبه. وقد تكون لوعته اشد من لوعة الموت لأن فراق الميت مقرون بالأسف والتحسّر. وفراق الحيّ بهما وبالغيرة أيضا. وهي في مقابلة اليأس المتسبب عن فراق الميت بل هي أشد مضضا منه. هذا في حق المتزوجين المتحابين فأما في حق الكارهين فلا آسف ولا حسرة على كلا الحالين. ثم أن المحب المفارق إذا فارق حبيبه ورغد عيشه في غير وطنه. من طعام لذيذ يأكله أو مسامرة مطربة أو سماع غناء يتلذذ بهما أو رؤية أشياء بديعة ووجوه ناضرة سنيعة تقرّ بها عينه. فأول ما يخطر بباله إنما هو حبيبه النائي فيقول في نفسه ألا ليته الآن حاضر عندي ليشاركني في هذا النعيم. فإني احسبه اليوم محروماً منه بل ربما كان على قلبه غشاوة من الحزن والكمد. فكيف يتأتى لي أن ألهو وأفرح وهو محزون. وكيف يمرئني الطعام ويسوغ لي الشراب وهو الآن لعله مُقْهٍ عنهما وحشة واكتئابا إلى غير ذلك من الخواطر المكدرة والأفكار المحّسرة. فأما إذا قاسى جهداً ونكداً بعد فراقه فإنه يقول ويَبْاً لي وويحاً وويخاً وويساً وويلاً وويهاً. إن عيشي الآن نكد ذميم. وحالتي موحشة وفؤادي كليم. وقد جرى بيني وبين أليفي الاتفاق على أن نكون شركاء في السراء والضراء والنعماء والبأساء. وأحسبه الآن مفنّقا منعّما. مترفها برثا برجا بَرِعا طَرحا يسامره في الليل كل ربيز ظريف. ويجالسه في النهار كل كيس لبيب. ألا وكأني به أي بها تبتسم الآن ابتسامة رضى وإعجاب لمن طرأ على محاسنها وجمالها فقال لها. ليتك كنت تتخذين عوذة لتردّ عنك عين الحسود فإني لا أسمح بهذا الوجه المنير الوضّاح أن يراه كل أحد من الناس. ولا ينكر أن يتشهق عليك من ابتلى بامرأة دميمة فإن العين حق وإن جمالك فريد فما يكون جوابها له إلا أن تقول له: ما أحسن عينيك فإنهما تريان الشيء كما هو. فأما عينا زوجي فإن عليهما غشاوة. وإن من مذهبه الفاسد أن يقول إن العين إذا ألفت شيئاً مهما كان بديعاً في الحسن قلّ اشتياق النفس إليه. أو كما تقول العامة ما تملكه اليد تزهد فيه النفس. غير إني أخشى من إنك إذا أكثرت من النظر إليّ والقرب مني لا تلبث أن تتمذهب بمذهبه فتراني على غير ما أنا عليه الآن. فيقول لها معاذ الله هذا كلام الجهال. فأما الصادقون مثلي في الحب وهيهات مثلي. فإنهم أبداً يتمثلون بقول أبي نواس:
يزيدك وجهها حسنا
…
إذا ما زدته نظرا
وإني أشهد الله عليّ وهو خير الشاهدين. وملائكته المقرّبين. وأنبياءه ورسله المكرمين. إنك إذا عاشرتني العمر كله فلن ترى عيني بشراً أحسن منك. فتقول له هذا شأن الرجال دائماً من إنهم يتملقون المرأة ليفتنوها ويخدعوها. فمرة يقولون لها تبارك الخلاق. ومرة افدي الغزال الشارد. ومرة يا سعد من كنت له. أو طوبى لمن رأى طيفك في المنام. وتارة ينظرون إليها وقد غرغرت أعينهم بالدمع. وتارة يزفرون وينحبون. كل ذلك حتى يتمكنوا منها مرة أو مرتين ثم هم من بعد ذلك عنها معرضون. وبسَّرها بائحون. فنحن منكم على حذر. ولا يخفي علينا ما بطن منكم وما ظهر. فيقول لها معاذ الله. حاشى لله. استغفر الله. ما شأني شأن المتملقين الملاذّين. ولا طبعي طبع الفاسقين. بل أن لساني في هواك ليقصر عنبيان ما تجنه سرائري. وما يخطر بخاطري. فيا ليتني اعرف لغة اعبّر بها عن فرط وجدي بك وتوقاني إليك. ولو اطّلعت على ضميري لصدّقتني وعلمت إني لست كأحد الناس وإن غرامي فوق كل غرام. فأطيلي عشرتي ولو بدون وصال ليتأكد لك صحة ما أقول. فتقول له وقد فتحت لهاتها وزال ضَرَسها. وما الفائدة في ذلك فإن المرأة ليست نجماً يرصد طلوعه وغروبه. ولا برقاً يشام ليعلم هل هو خلّب أو ماطر. ولا أحجية يحاول فكّها وإيشاؤها. وما يهمّها أن تكون أجمل من سائر النساء وجهاً وإنما يهمّها أن تكون أشوق للرجال وأفتن. فإن التشويق لا يتوقف على الجمال قدر ما يتوقف على حسن الشمائل والمحاضرة والملاطفة والمؤانسة والغنج والدلال والافترار والحدقلة والترنجح والغرنقة والوكوكة والترأد. فيقول لها نعم سبحان من جمع جميع هذه الأوصاف الحميدة فكل ما فيك شائق وكل ما في مشوق. فتقول له وقد أزدهر وجهها سروراً وإعجاباً. قد يقال أن نبض العاشق يكون مضطرباً فدعني أجسَ نبضك لأعلم هل ما قلته صدق أو لا فيقول لها نعم نعم خذي يدي فجسيّها وأجعل يدك واجعلي يدك الأخرى على قلبي. فتفعل ذلك. فيقول دعيني إذا أفعل بك كما فعلت بي لتنكشف هذه الحقيقة لكل منا. فتهجث وتحمر عند سماعها قوله أفعل بك ويضطرب نبضها ثم تسكن وتمد له يدها. فيجسها بإحدى يديه ثم يضع الثانية على قلبها ثم يرفعها قليلاً وقد حملاقه وأندلع لسانه. ثم يزفر زفرة طويلة ويقول:
لك الله من قرموطة ملأت يدي
…
لقابضها قبض على كُرة الأرض
لا سجمها إنسان مقلتي الفدا
…
وكل عزيزٍ من متاع ومن عرْض
فتقول له وقد دُغدغت ولكن عروق الإنسان النابضة فيه ليست في يده وقلبه فقط بل هي في سائر أعضائه. فينبغي على هذا أن نجس كل عضو فينا لنعلم أيّنا أكثر حركة وانتفاضاً ونفضاناً ونبضا وإزاء ونَيْضاً وأُزوح وحبَضاً. إذ لا يصح الحكم على شيء إلا بعد الاستقراء والاستقصاء. فيقول لها وقد طرب وجداً وحبوراً نعم نعم نعم القول ما قلتِ. غير أنه لما كان الإنسان يجهل حاله وكان من طبعه أن يلاحظ في غيره ما لا يلاحظ في نفسه كان لابد من أن يكون هذا الاستقراء بالتخالف أي -فتبتره قائلة قد فهمت ما عنيت وهو معلوم بالبديهة ومستغن عن التفسير وهذا هو الذي قصت. فهامت يدك وخذ يدي. حتى إذا جالت الأيدي بالجتّ والجس. والمَثّ والمس. والنجث والنجش والبحث والمعش. والضبث واللمس. والطمث والملش. والفحث والفتش. والقبث والمتش. والمرث والمرش. والمغث والمعش. والنبث والنبش. والنقث والنكش. والنث والنتش. قالت وقد قوي حبضها ألا هيت لك. إلا هيت. فإن قولك على أي الحالين صدق. فيقول لها لبيك وسعديك لقد طالما شبحت يدي بالدعاء لأن أسمع هذه الدهوة المنعشة وهذه النعمة المطربة- أعلى هذا كان الفراق. أم من أجل هذا حسنت لي السفر بأن قلت لي ذات ليلة أني أرى بك يا رجل فتوراً. فلو سافرت إلى أرض طيبة الهواء لعاد نشاطك القديم. فعندنا إلى ذلك النعيم أفكانت هذه حيلة منك على تغيبي ليخلو لك الميدان فتمرحي فيه كيفما شئت وتتعاطى علم جس النبض وحركات الأعضاء. ألم يكن لي نبض كسائر الناس فتتعلمي به هذا العلم الجليل. أم تزعمين أنه ضعيف لا يصلح لأن يتعلم عليه. على أنه إن كان قد ضعف فإنما ضعف بسببك. وعهدي به من قبل ليلة عرسنا له ضربان وانتفاض وانتغاض. أفهكذا يفعل المتفارقون. وبمثل هذا يخون المترافقون. أيحل لك من الله أن تتنعمي الآن وأنا في حالة البؤس والشقاء. بطراً تجسين العروق وأنني عرق المجسة أن بي عُرَواء ألم يكفِ ما كنت أقاسيه معك في البيت حين كنت أغدو منه كادحاً وأرجع إليه رازحاً. وكانت همومك كلها عليَّ ولَوْمك كله متوجّهاً أليّ. فكنت أنصب لراحتك. وآرق لاجحاحتك وألغب لتشبعي. وأجهد لترتعي. وأبرد لتدفئي. وأقلق لتهدئي وأتهجَّد لتتهجدي. وأنحل لتمغدي. فقد تبين الآن أينا ذو أمانة ومداهنة وخيانة. وإذ كنت أقول لك أن الأمانة في النساء أقل منها في الرجال. فأن الرجل أبداً مشغول البال. مضعضع الأحوال. يليه عن اللذات كده ونجله. ويصرفه عن هواه رشده وعقله. والمرأة لا همّ لها إلاّ تشويق الرجال. وفتنتهم بها في كل حال. كنت تقولين لا بل المرأة أكثر حشمة وحياء. وأقل نهمة ورياء. وأميل طبعاً إلى التعفّف. وأبعد خلقاً عن التكلف. فإن جمعنا الدهر يوماً وأفضنا في حديث الوفاء. والمودة والصفاء حججتك بما لا تقدرين معه على الجواب. وأظهرت فضل الرجل على كل ذات نقاب. الخائنات الحانثات. المائنات الغادرات: فإن أبيت إلا الجحد والمكابرة. فالهراوة لديّ حاضرة. واليد للّطم واللّكم مبادرة. فإذا أمسكت بناصيتي أو جيبي. وأذعت بين الجيران عيبي، جعلت لك من الشجاب صلبياً أو من الذأط نصيباً ومتى خطر بباله ذلك هاج بع الغيظ كل هياج. وودّ لو يطير إلى بيته مع العجاج. فينقلب فرحه ترحاً وصفاؤه تكديراً. قال غير أن للحزن في مبادئه فائدة. وهي ذود شوارد الآمال المغررة والأماني المحالة إلى مراح البصيرة والرشد. بحيث يسكن البال عن الحوم على موارد المحال. ويستقر الحال على فطم النفس عن الاحتيال. وإلى هذا أشرت بقولي:
وربَّ حزنٍ القلب عن سفه
…
كما يصون إناءَ واهياً صدأه
وما انقضى عن لذاذات الهوى عجلا
…
سيّان غايته عندي ومبتدأه
قال وأروق الأفكار وأبدعها ما يخطر في ثلاثة أحوال: الأول في مبادئ الحزن. والثاني في الفراش قبيل النوم. والثالث في بيت الخلاء. فإن هذه الحال لما كانت عبارة عن تحليل مواد متكاثفة تتنفس عنها الأمعاء والأعفاج. كان هذا التحليل والتنفس أسفل مؤثراً في تحليل ما تعقد في طبقات الدماغ العليا في وقت واحد ومكان واحد. فيكون بعض المواد داهباً سفلاً وبعض الصُوَر صعداً. كالبخار الذي يصعد من الأرض فيعقد سحاباً ماطراً. فقد عرفت مما مرّ أنه يتحصل من الحزن من الفوائد ما لا يتحصل من الفرح. لأن الفرح يبعث على الطيش والذهول وتشتت الخواطر في أهواء النفس وأوطارها المنتشرة. فهو عبارة عن تعدّد أهواء وتفريق خواطر. والحزن عبارة عن ضمّها ولمّها ولهذا كان جل العلماء من الصعاليك المبتئسين وقل من نبغ في المعرف من الأغنياء في المعارف من الأغنياء والمترفين. إلا أن يكون قد غرس في طباعهم نوع من الزهد والعزوف المقترن بالحزن. قال وأحسن ما سنح لي من الخواطر إنما كان عن كان إنما كان عن بواعث أشجان، وخوالج أحزان. أما من وحشة فراق أو من خيبة وحرمان. أو من حسد على علم وبراعة، أمّا على مال وثروة فلا. اللهمّ إذا كان لمصلحة كإنشاء مدارس ومؤاساة محتاج.
وأني لا عجب من هؤلاء الرهبان فأنهم مع ما هم فيه من الوحشة والحرمان فما أحد منهم نبغ في علم أو مأثرة. ولو كنت راهباُ لملأت الدير نظماً ونثراً والّفت على العدَس وحده خمسين مقامة. ليت شعري كيف يمكن لبشر إذا خلا في صومعته ورأى تحتها الغياض المدهامّة والبحر الساجي والجواري المنشآت. وعن يمينه وشماله الجبال الشامخة المكللة بالثلج وفوقه الرقيع الصافي وأمامه القرى والمنازل أن يقضي نهاره كله وهو يرمش ويرضيك ويتثاءب ويتمطى ويملد معدته من دون تأليف ونظم ولا سيما أن من حسن ساكنات تلك الديار ما يشرح الصدر ويروج عن البال. فإذا كانت هذه المناظر البهيجة كلها لا تهيج هؤلاء النسّاك على تأليف كتاب فأيّ شيء بعدها يهيجها. هذا وأن كثيراً من المسجونين قد ألفوا وهم في الضنك تآليف بديعة، يعجز عنها سكان القصور الوسيعة. فأما ما قيل عن عبد الله بن المعتز من أنه كان ينظر إلى أواني داره ويشبه بها فليس كل كعبد الله. فأنّا نرى الناس الآن كلما زاد ثراهم قل حجاهم. والحاصل أن وحشة الفراق تبعث الخاطر على ابتكار المعاني الدقيقة. وكذلك الصدّ والهجران والأعراض والمطل والعتاب والشفون والدلال والتمنع والتعزز من طرف المحبوب. ولكن ليس محصول هذا الحاصل إغراء الحبيب بهجر محبَّه حملا له على النظم. أو تعمد الفراق بعثاً له على وصف ما يجده من الشوق واللوعة. فإنه أحسنه ما جاءت به المقادير دون تعريض له. وها أنا أبرئ نفسي عند العاشقين والمتزوجين وأقول: أنه إذا جرى بينكم وحشة أوجبت الفراق، أوفراق أوجب الوحشة. أوصدّ أو هجر أو لجاج. أو جدال أو اعتلاج أو تقافس أو صراع بالشَغْربية والشغزبية والقرطبي والألهاد والدهشرة والظُهارية والمبأشة والبأش والعُرْضة والنُقَض والمراسغة والتنسّف والتعرُّق والاعتقال فما يكون عليَّ في ذلك عتاب ولا ملام.
انتهى كلام الفارياق وقد أحسن فيه. إلا أنه لم يحكِ عن نفسه أنه كان عند الحزن جزعاً جَرِعاً كثير والهواجس قليل الحيلة والتدبير غير ثابت الرأي ولا مُضب على ما في نفسه فإنه لم تكد أرض الجزيرة تغيب عنه حتى طفق يشكو من النساء ومن بطرهن عند غياب بعولتهن عنهن. فسمعه الخرجي وزوجته فقالا له ما بالك تشكو لا خوف عليك من تعبير الوحش مدة السفر كلها. وإذا بلغت أرضكم إن شاء الله فلا أحلم إلا الأحلام البينة. قال ما شكواي من الوحش ولا الجن بل من الأنس. فأني سمعت اليوم كذا وأوجست كذا ولعلي أرجع وأجد كذا أو لا أجد كذا أو لا أرجع ولا أجد البتة. فلما سمعت بذلك ثارت زبانية سقر من أنفها فقالت له. هل بلغ من طيشك أن تسيء الظنّ في النساء المتزوجات. قال قد ظنّ فيهن من ذلك من قبلي الحليم الرزين. قالت ليست هذه الخلة عندنا نحن معاشر الإفرنج هذا زوجي ما يخامره ريب فيّ. قال أن السيد مشغول بالأحلام بحيث لم يبق في رأسه موضع لغيرها. أليس أن عالمكم بيرون يقول أخْون ما تكون المرأة ما إذا غاب عنها زوجها. قالت أنه شاعر وأن كلام الشعراء لا يؤخذ به في حكم على النساء إلا إذا كان نسبياً وغزلاً. ثم بينما هم كذلك إذا بالريح هاجت الأمواج فاضطربت السفينة ومادت أيّ ميد. فلزم كل مكانه مدة أربعة أيام حتى ذهل كل من ركابها عما وراءه وقدامه.
وبعد سفر أثني عشر يوماً بلغوا مدينة بيروت وهم جياع تعبون شاحبون مبتئسون. والهالج يترقب أو فرصة من الدهر لهبوط الأحلام. فلما دخلوا البلد كان أول ما طرق مسامعهم من كلام أهلها الركيك قول المخبّر أن أهل الجبل قد ربقة الطاعة لوالي مصر وتجندوا عليه. فكان أهل المدينة في شغب واضطراب. وكان دوار البحر والفراق لم يزل يميد براس الفارياق. فصعد إلى جهة الجبل ليرى أهله فلقي بظاهر المدينة عسكر الأهلين مخيما فهول عليه أحدهم بإطلاق بندقيته فطار نصف قلبه من صدره ولم يزد قلب المهول شيئا. لكن بعض الناس يرتاح للأذى إن لم يحصل له فائدة. ثم لطف الله به وأنقذه من القوم فبلغ منزل أهله. فلما علم قدومه عند أهل القرية أقبلوا يسلمون عليه مثنى وثلاث ورباع فكان ينظر إليهم ويتعجب منهم لبعد عهده بعاداتهم. فإن النساء كن يأتين ويقعدن على الأرض. فمنهن من كانت تقعد بين يديه القُرْفصاء أو الهَبْنقة أو الأربعاء أو الفرشحة أو البرثطة أو البرقطة أو الفرشطة أو القَعْفَزي. أو ثَبْجا أو احتفازا أو إمتعاسا أو إستيفازا أو إقعاء كقعدة القرد وهي مشمرة قميصها فتشفّ سراويلاتها عن ومّاحها. وهي عادة ألفنها ولا يرين فيها عيباً. وأكثرهن تبدي ثدييها سواء كانت كاعبا أو هضلاء أو طرطبة. ويومئذ افرغ عليه شحن المسائل فمن قائلة مالك يافارياق نحيلا. ومن قائلة وقد صرت ضئيلاً. وأخرى ما لسحنتك قد كلحت. وغيرها ولطلعتك قد قَبُحت. ولا سنانك قد قلحت. وجبهنك لتُحت. وأرنبتك فُطِحت. وأساريرك ازحت. وبشرتك قسحت. وشفتك تقرّحت. وعنقك شقُحت. وعينك لَجحت. وقامتك تقنَّحت. وشعراتك تصوّحت. وعجيزتك رَسحت. وذقنك طُحّت. ولهجتك قَحْقحت. قال فتشاءمت من هذه القوافي وقلت لم يبق بعد تعدد هذا الحت إلا أن يقلن وتلك قد نكحت. ثم قالت واحدة منهن إيه وهذه هَنَة قد زادت فيك. فقالت أخرى أوه وهذا شيء نقص منك. ثم جعلن يقلبنه ويعرضنه كم يقلب الشاري السلعة. وكلهن يقلن بنغمة واحدة يا فارياق يا فارياق أين الطنبور وأوقات السرور. أين أبياتك في العقوص والطنطور. أنسيت يوم كذا وليلة كذا. قال فكنت مسروراً بمؤانستهن وسلامة ضمائرهن عن المنكر كما هو خلق نسا تلك البلاد فإنهن لا يأبين من لمس الرجال والدنو منهم ومماسة الرُكْب دون المركب. إلا أنه كثرت مسائلهن عليّ. وطال قعودهن بين يدي. وإنا محتاج إلى الراحة والانفراد. ومع ذلك فمجلس النساء مؤنس على كل حال ولاسيما لمن مضى عليه في البحر اثنا عشر يوماً من دون رؤيتهن. فلو نتفن بعد هذا العهد الطويل لحيته وشواربه بالمسائل لما لحقه من ذلك أذى.
قال وأعجب من ذلك إني كنت أرى الأمراء يقعدون على الحصير وعند النوم يرقدون فوقه على فراش واحد. وربما اجتزءوا بالبيض والأرز واللبن عن الحمام والفراخ والدجاج من دون شراب ولا فاكهة ولا نقل. وأرجلهم ظاهرة فإذا قعدوا على الحصير خلعوا نعالهم بالقرب منه فتبقى منه بمرأى منهم. وترى بعض خدمهم يقوم على رؤوسهم أي بازائها لا فوقها وفي حزامه الملعقة. وآخر في جيبه الطاس من فضة إشارة إلى غنى الأمير وإلى كونه كأحد الناس غير مستغن عن اللعق والشرب. وهو قاعد مطرق لا كتاب عنده فيطالعه ولا سمير له فيسامره ولا آلة لهو تطربه. وقد يقضي ساعات من النهار هكذا بل يوماً وأياماً ولا يرى من امرأة أصلا حتى تعمش عيناه ويظلم فكره وتلقس نفسه وتحرض معدته. فأين هذا من مجالس الإفرنج التي تزين بالمتكآت النفسية وتفرش بالزرابي الفاخرة وتوطأ بالنعال. ولا تزال الحسان مقبلات عليها مدبرات. فمن هيفاء تشرفها بوطأة. ومن غيداء بطفرة. ومن زهراء بزفنة. ومن وطباء بحركة. ومن دهسار باضطجاعة. فمن يصبر على هذه الحال فيا أمير الناد. وواحد الأمجاد. وراكب الجواد. ورامي الجريد على العباد. قل لخادمك حامل الطاس ينح نعليك من أمامك. بل البسهما وتعال معي إلى بلاد الإفرنج لتنظر الأمراء منهم مخاصرين لأزواجهم وأولادهم سائرين بهم إلى المنارة والحدائق ومواضع اللهو واللعب والطرب. ولا حرج على أزواجهم أن يبتسمن أو يملن أعناقهن أو يتفرَّسن أو يوكوكن أو يحدقلن أو يحرجلن أو يفرجلن أو يهرجلن أو يهركلن أو يتبازين أو يُكْببن. ولا على أولادهم أن يطفروا ويمرحوا. حتى إذا كحلوا أعينهم برؤية الكحل باتوا ليلتهم تلك على الوثير من الفرش مع وتائرهم. ليت شعري لم لا تضم إليك مع جملة هؤلاء الحفّان والوُصفاء والبساتقة والساتقة والهبانقة والمهنة والمناصف والنَصَف والحفَدَ والمقاتِورة والخدم والحشم الذين حولك ثلاثة نفر من العازفين بالات الطرب، ليجلوا عن خاطرك صدأ همّ الوحدة والاعتزال في كل يوم عند الأصيل أو في العشاء. وأذن لي في استعطافك لأن تأذن لجيرانك في أن يأتوا هم أيضاً ويطربوا لطربك. فيدعوا لك بتأييد دولتك، وتخليد غبطتك. ودوام بقائك وسمو ارتقائك وفي أن أسألك لمَ لا تعيّن في العام عيداً لمولدك أو لمولد السيدة أو الأولاد المحروسين. فيكون يوم فرح وحبور لك ولجميع من ينتمي إليك. بحيث تصطنع فيه مأدبة وتدعو إليها دعوة جفلي لا نقري، أي خير في رمي الجريد وأصابتك به كتف خويدمك الهبد الحقير أو ضرسه حتى تعطله عن الأكل وأنت لاه عن أحسن الرمي وأصوبه وأصرده وأمرقه. وأنت آمن هناك من أن يقال لك بَرْحى برحى بل يقال لك مرحى مرحى. هذا ما عدا إيلام أبطك الفاخر العاطر برمي الجريد. وما الفائدة من وقوف الخويدم بين يديك وفي حزامه الملعقة أو على رأسه الخوان أو على صدره القصعة والباطنة أو بيده العُس والقعب أو على عاتقه المائدة أو على عنقه القدر. وأنت لا تأكل مع السيدة وأولادها ولا تأخذ ولدك وتضعه على ركبتك. ولا تحمله على ظهرك ولا تتطأطأ له لثيب فوق رأسك. ولا تحتجره ولا تحتضنه ولا تتوركه ولا تعانقه ولا تحول له خدك ليبوسك. ولا تمكنه من أن يبعث بشاربيك أو يعص إصبعك أو أنفك ليضحك قليلاً فأضحك أنا كثيراً. ولا تطعمه بيدك ليعرف إنك محسن إليه. ولا تأكل شيئاً مما يلوكه. ولا تركبه على جحش وتقوده به الجحش ولا تغني له في الليل ليرقد على نغمتك فيقوم في الصباح يغني لك غناء أطرب من غناء الفقنّس ومعبد وأبي البَدَّاح وسواط والعثعث وخليلان وعمر بن بانة والزّنام وممدود عبد الواسط الرباني وزلزل وعرفان والجرادتين وابنة عفزر وسَلامة وشَمُول وأبن جامع السهمي ودُبيس ورقيق وأبن مُحرز والمشدود وهاشم بن سليمن ودحمان الأشقر وطويس وابن شريح والدلال بن عبد النعيم وأبن طنبور اليمني وحكم الوادي وإبراهيم الموصلي. وأشجى من
الرُنُم ومن صوت كل دُعْبب غريض
…
الرنم المغنيات المجيدات والغريض
المغني المجيد ومثله الدعبب.
ولا تبابئه ولا تغازله بابا قال له بأبي أنت.
ولا تناغيه ولا تباغمه باغمه حادثه بصوت رخيم.
ولا تنادغه ولا ترأمه نادغه غازله ورئمت الناقة ولدها عطفت عليه ولزمته.
ولا تنغّره ولا ترخمه نغّر الصبي دغدغه كنغّزه ورخمت المرأة ولدها لاعبته.
ولا تهينم لهولا ترعمّه رعّمه مسح رعامه أي مخاطه غير أن صاحب القاموس خصه بالمرأة بل المتبادر من عبارته أنه مسح رعام الرُعموم للمرأة الناعمة فالعفو مرجو منهما على كل حال.
ولا ترزم لِرزَمته أرزمت الناقة حنَّت على ولدها والرزمة صوت الصبي.
ولا تتجنّث عليه تجنث عليه رئمه وأحبه وتلفف على الشيء يواريه ولا تقرمه ولا تسمتّه التقريم تعليم الأكل والتسميت الدعاء للعاطس ولا تُفدى له ولا تُصهْيه أفدى فلان رقص أبنه وأصهاه دهنه بالسمن ووضعه في الشمس.
ولا تدسم له نونته النونه النقرة في ذقن الصبي الصغير وكذا الفحصة وتدسيمها تسويدها كيلا تصيبها العين.
ولا تبدي له البجبجة البجبجة شيء يفعل عند مناغاة الصبي.
ولا الحَوْفَزي الحوفزي أن تلقي الصبي على أطراف رجليك فترفعه.
ولا تقول له حَلْقة قولهم للصبي إذا تجشَأ حلقة أي حلق رأسك حلقة بعد حلقة.
ولا بحباح بحباح كلمة تنبي عن نفاذ الشيء وفنائه.
ولامَحْماح هو كقولهم بحباح ومثله حَمْحام وهمهام.
ولا كخْ كخْ يقال عند زجر الصبي عند تناول شيء.
ولا تَعنى بدَنَعه دنع الصبي جُهد وجاع واشتهى وطمع وخضع وذلّ ولؤم.
ولا بقَقَته صوت يصوت به الصبي أو يصوت به إذا فزع.
ولا تكترث لبأبأته ولا لببّته بأبأ الصبي قال بابا وبّبه حكاية صوته.
ولا لتغتغته ولا لثغثغته التغتغة حكاية صوت الضحك والثغثغة عضّ الصبي قبل أن يتّغر.
ولا لتأتأته ولا لدأدأته تأتأة حكاية صوت وهي ايضاً مشي الطفل والدأدأة صوت تحريك الصبي في المهد.
ولا لدَعْبعَه ولا لحَتارشه دعبع حكاية لفظ الطفل الرضيع وحتارش الصبي حركاته.
ولا لادْرامه أدرم الصبي تحرك أسنانه ليستخلف آخرَ.
ولا لفصيصه ولا لأنتداغه فصَّ الصبي فصيصاً إذا بكى بكاء ضعيفاً. وانتدغ ضحك خفّياً.
ولا تبالي بمعِقْاده المعقاد خيط فيه خرزات تعلق في عنق الصبي.
ولا بِقرْزَحلته من خرز الصبيان.
ولا بدرَّاجته الدراجة الحال التي يدرج عليها الصبي إذا مشى.
ولا بحقابه الحقاب خيط يشد في حقو الصبي لدفع العين.
ولا بصُمتته الصُمتة ما أصمت به الصبي من طعام ونحوه ومثلها السُكتة.
فبحق عبوديتي لك يا سيدي ودالّتي عليك إلا ما وضعته يوماً على ركبتك أو أركبته على ظهرك. ثم لا بأس في أن تدعه يلعب مع أولاد من هم متسّمون بشرف خدمتك فإنه لم يزل بعدُ صغيراً لا يعلم هذه الفروق. ثم لا بأس أيضاً في أن تسهر هذه الليلة مع حريمك المحترم مع بعض رجال قريتك وأزواجهم ممن يتأدبون في المحاضرة بحضرة النساء. فإني أرى صدر السيدة قد ضاق من الوحدة وما عندكم من كتب أو لهو حتى ينشرح بها. ولا غرو أن تستفيدا كلاكما من مسامرة رعيتكما شيئاً. فإن رأس الفقير ليس بأضيق ولا اصغر من رأس الأمير عن أن يشتمل على أراء سديدة مما يخلو عنه رأس غيره وأن يكن اكبر عمامة منه وأغلظ قذالاً. وكيف ترجو أن تكون السيدة وبناتها ذوات رشد ودراية وهن مقصورات في الدار العامرة. أم كيف ترضى لهن وحاشاك الجهل والغباوة.
وانتم يا سادتي الحكام والمشايخ والكبراء والمطارنة جربوا مرة أن تجتمعوا بأهلكم وأزواجكم مع أهل جيرانكم. "ولكن المطارنة ليس لهم أزواج لتنزههم عن ألواج" وأن ترفعوا فرق المذاهب من بينكم فذلك أدعى لكم إلى الحظ والسرور. إنما الدنيا النساء إنما الدنيا البنون. أعلموا رحمكم الله إن الاجتماع بالنساء لا يخل بشرف المنصب. اعلموا هداكم الله إن فرق الآراء في الأديان لا يمنع من الألفة والمخالّة اعلموا أصلحكم الله إن في حمل الإنسان ولده على ظهره وتطوّقه برجليه اللطيفتين للَذة اعظم من لذة تطويل الجُبب وتوسيع الأكمام وتكوير العمامة ومن وقوف الخدمة وأيديهم على صدورهم. اعلموا فقهكم الله إن العرب لم تخصّ حركات الطفل بأسماء إلا وهي تريد أن تلاحظوها وتتنبّهوا لها. حتى إنها وضعت لحدثه حرفين غريبين في التركيب لا ثالث لهما في اللغة كلها وهما الصَّصَصُ والقَقَقُ. اعلموا وفقكم الله إن مستر ومسيو وهر وسنيور أنعم منكم بألا وأحسن حالا اعلموا نصركم الله إن الفارياق رجع الآن إلى بيروت وإني أنا العبد الحقير كاتب سيرته مفكر في إنشاء مقامة تسرّ العزب منكم والمتزوج معاً.