الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعند قوله هذا تذكر الفارياق قول المطران لقيعر قيعار وأولجت فيها. فذكرها للخواجا المذكور فغلب عليه الضحك حتى فحص الأرض برجله. ثم قال نعم وإني لفي كتب الكنيسة كلها أغلاطا فاضحة من هذا النوع. فقد قرأت في كتاب منها عن بعض الرهبان إنه كان من التواضع على جانب عظيم حتى إنه كان كلما مرّ عليه رئيسه يقوم وينتصب عليه، أي له. وعن آخر أنه بلغه عن راهبة ما أنها كانت ذات كرامات ومشاهدات. فكان يستمني دائما أن يراها، أي يتمني. وعن آخر أنه كان خرج من ديره وغاب عنه مدة طويلة ثم رجع فوجد رئيسه الأول قد مات وولى رئاسته أحد أصحابه. وأنه بعد أن تفاوضا وتباشرا قلده الرئيس خدمة تهبيب الرهبان ليلاً. أي إيقاظهم من هب إذا قام. وعن بعض المطارنة إنه كان إذا وعظ في الكنيسة ينتعظ له كل من يسمعه، أي يتعظ. وغير ذلك مما لا يحصى بل قد ورد في الإنجيل وكلام الرسل كلام فاسد المعنى ومنشاه فيما أظن جهل المعربين. فمن ذلك ما ورد في إنجيل متى خطابا عن المسيح عم. إحذروا لا يضلكم أحد فإنه سيأتي باسمي كثيرون قائلين أنا هو المسيح فلا تصدقوهم. والمراد أن يقال أن كثيراً ينتحلون أسمي فيدعي كل منهم بأنه هو المسيح. وشتان ما بين الكلامين. وفي رسالة ماربولس إلى طيموتاوس. ولتكن الشمامسة أزواج زوجة واحدة. ومقتضاة اشتراك الشمامسة في بضع واحد. معاذ الله أن يكون كلامي هذا ازدراء بالدين وإنما أوردت ذلك شاهدا على جهل من عرب وألفّ من أهل ملتنا. نعم أن بعض المطارنة قد ألفوا تآليف مفيدة جودوا عباراتها وحرروا معانيها. إلا أن الجمهور من أهل الكنيسة جهال أغبياء لا يعجبهم إلا الكلام الفاسد الركيك. ولقد أفضى بنا هذا الاستطراد إلى غير الغرض.
فلنعد إلى ما كنا بصدده وهو إسعافك أيها الخدين بما يريحك من حمل الخرج. هل لك في أن تكون كاتبا عند رجل من السراة الأغنياء يريد أن ينشي ممدحاً يكتب فيه بلغات مختلفة مساعيه ومعاليه. فيكون شغلك فيه في كل يوم بيتين أو أكثر بحسب الاقتضاء. قال فقلت إني يا سيدي ما بلغت من العلم ما يؤهلني إلى هذه الرتبة. ونحن في هنا في بلد العلم والأدب فأخشى أن يصدى لي قوم يزيفون كلامي ويخطئونني. فأخجل والله بعدها من أن انظر إلى وجه مخلوق من البشر. فإني رجل أحب الخمول وإن بضاعتي في ذلك لمزاجاة. قال لا تخش من ذلك فإن أهل مصر وإن كانوا قد تقصوا حد العلم وبرعوا في الفضل والأدب على غيرهم. إلا أنهم لا يتعنتون على الناظم أو الناثر بلفظة يخل فيها عفوا. أو بمعنى يخطي فيه سهواً. فإنهم أهل سماح ومياسرة. على أن من نبغ في الشعر أن لم يلق من ينتقد قوله مرة ومن يخطئه أخرى فلا يمكنه أن يصل إلى مرتبة الشعراء المجيدين. ولو بقي ينظم أبياتا ويودعها سمعه فقط لما عرف الخطأ من الصواب قط. فلا يكاد أحد يصيب إلا عن خطأ. وقد جرت العادة بين الشعراء بأن ما يستهجنه بعضهم من المعاني والألفاظ يستحسنه البعض الآخر. فلا يزال الشاعر والمؤلف بين أثنين عاذل وعاذر. ومخطئ ومصوب. ومفسق ومبري. ومعترض ومناضل. وراتق وفاتق. وممزق ورافئ. وخارق وراقع. وحاضر ومسوغ. ومضيق وموسع وقائل لم وقائل لأن. حتى ترجع حسناته سيئاته. وتتداول الناس أبياته. وقد طالما حاول الشهرة أناس بالقول المردود. والكلام المقصود. فمنهم من نظم أبياتا مهملة أي عارية عن النقط فأهملت. ومنهم من التزم فيها الحبك بأن يجعل في أول بيت منها حرفا من حروف اسم الممدوح فتركت وألغيت. ومنهم من جعل دابة التجنيس والتوريات البعيدة فردت وزيفت.
واكتفوا من ذلك بمجرد الشهرة بين قومهم ولم يبالوا بالتعرض للَّوم والتفنيد.
وإني أعيذك من أن تعدّ في جملة هؤلاء. فإني رأيت في إنشائك نزوات أفكار لطيفة تدل على قريحة جيدة. وسليقة متوقدة. وبعد فمن ذا الذي ما ساء قط. قال فقال والله أن لك عليّ لمنتين عظيمتين الأولى عنايتك بمعاشي. والثانية تنشيطك إياي إلى النظم. فقد كنت جزمت بأن لا أقول الشعر إلا مكتوما عن الناس وها أنا لك يا سيدي من الشاكرين. وبكرمك من الزائرين. ثم انصرف من عنده داعيا له وقد اضمر مفارقة الخرجي في اليوم القابل.
أبيات سرية
لم يكن لصاحبنا الفارياق عند الخرجي من الأثقال إلا جثته فقط. فلذا تأبَّط طنبورة ووضع دواته في حزامه وقال له. قد أعانني الله واراني طريقا غير التي طرقتها لي أنت وحزبك الخرجيون. فأنا اليوم مفارقك لا محالة. قال كيف تفارقني وما أسأت إليك في شيء. قال هذا الطنبور يشهد عليك بأنك سؤتني. قال أن العازف به لا تقبل له شهادة فكيف تصح شهادته هو مع كونه سببا في جرح شهادة صاحبه. قال بل تصح كما صحت شهادة حجر آبائك. وإنه لينطق بمساويك كما نطقت أتان جدك. وبدك حصون عنقاشيتك كما دك المدن برق ربيبك. قال ما هذا الكلام. قال وحي والهام. قال لا باس في تعزف به فقد علمت إن الخادم عن حسد شكاك. قال بل أني عازف به عند من يقولون لي زد ويعاد وأحسنت والله. لا عند عجم لا يذكرون اسم الله إلا في الابتهال. قال قد خلطت واشططت. قال قد فرطت وقسطت. قال انك كنود. قال انك من اليهود ثم ولى عنه وهو سامد الرأس جاحظ العينين من الغيظ.
وسار واكترى محلا آوى فيه الطنبور وتوجه إلى المدح فما استقر به المجلس إلا وورد بشير إليه وبيده رقعة فيها بيتان يراد ترجمتهما. فلما عرضا على مترجمي اللغات العجمية وأديت ترجمتها إلى جهبذ الممدح انتهت النوبة أخيرا إلى الفارياق. فأخذ القلم وكتب:
ركب السريّ اليوم خير جواده
…
يا ليته منا امتطى أكتافا
إذ ليس فينا رامح أو رافس
…
بل كلنا يغدو به رفافا
فلما قابل الجهبذ هذين البيتين بالأصل وجدهما يشتملان على المعنى اشتمال البطن على الجنين أو الأمعاء على العفج. مع عدم الحشو بالألفاظ التي يستعملها الشعراء غالبا لسد ما في أبياتهم من الخلل. فأعجب بهما جداً وقال. هما حريان بأن يفضلا على الترجمة العجمية. فإني لا أرى فيها إلا معاضلة ألفاظ ولكن لعل هذه عادة القوم فدعهم وعادتهم. غير أنه لما أشتهر البيتان عند أهل النقد اعترض بعض أن قوله رامح أو رافس من الألفاظ المترادفة فتكون الأولى أو الثانية لغواً. فالأولى أن يقال جامح أو رامح وفيه مع ذلك سجع. وأجيب بأن للفظة رامح معاني كثيرة منها الثور له قرنان واسم فاعل من رمح إذا طعن بالرمح أو صار ذا رمح. ورمح البرق لمع ورد بأن الثور ليس له مدخل هنا بقرينه. فإن الناس لا تركب الثيران وإن أشار إليه المتنبي في الغبب. واسم الفاعل بمعنى طاعن لا يناسب المقام. لأن المركوب لا يكون طاعناً.
ثم ورد في اليوم القابل بشير ثان معه رقعة فيها بيتان آخران فقال الفارياق:
قام السري مبكراً لصبوحه
…
فارتجت الأرضون من تبكيره
أو ما ترى ذي الشمس من شباكه
…
مدّت إليه شعاعها لسروره
فاعترض على البيت الثاني إنه غير لفق للأول. وأجيب أنه متفرغ عليه ومرتبط به. لأن الأرضين لما ارتجت وخشي العالمون سطوته ترضته الشمس بشعاعها. ورد بأن ترضي الشمس كان متراخيا عن ارتجاج الأرضين فلا يفيد. وأجيب بأن الترضي حاصل على أي حال كان. فإن الشمس لا يمكنها أن تطلع قبل وقت الطلوع. وضحك قوم من هذا التعليل.
ثم ورد في اليوم الثالث بشير آخر فقال الفارياق:
نام السريّ مهنئاً بالأمس لم
…
يخطر بخاطره الشريف هموم
إن نام نامت أمة الثقلين أو
…
أن قام قامت والكري جريم
فأعترض على لفظة الثقلين إنها ثقيلة. وإن أمة حقها أن تكون أمتا.
ورد بأن اللفظة خفيفة ولا عبرة في كونها مشتقة من الثقل.
ثم ورد في اليوم الرابع بشير آخر فقال:
شرب السريّ فحلّ شرب المُسْكر
…
فأستغن عن فتوى الفقيه المنكر
وإذا أصر على الخلاف محرّم
…
فاعمد إلى حدّ الحسام الأبتر
فاعترض عليه أنه مبالغة قبيحة تفضي إلى الكفر وتعطيل الشرع. وأجيب عنه بأنه طبق الأصل.
ثم ورد في اليوم الخامس بشير آخر فقال:
خرج السرّ مع السرّية ماشيا
…
غلسا إلى الحمام كي يتنعما
من كان يدعك مرّة جسميهما
…
خَلقُت يداه على المدى أن تلثما
فأعترض عليه أن الأولى أن يقال ماشيين. ورد بأنه لا محظور منه فأن السري هو الأصل بدليل تغليب ماشيين. ثم أعترض أن الأفصح أن يقال جسمهما أو أجسامها. وأجيب بأن الأفصح لا ينفي الفصيح ثم قيل إنه ارتكب ضرورة بحذف حرف الجر في المصراع الأخير إذ حق الكلام إن يكون خلقت يداه بأن. على أن تثنيه اليد هنا لا معنى لها فإن الداعك لا يدعك بكلتا يديه. وأجيب بأنه لا مانع من حذف الجر مع أن. وأن التثنية للإيذان بأن كل الجوارح مخلوقة لخدمة الممدوح.
ثم ورد في اليوم السادس بشير آخر فقال:
خلع السري اليوم نعليه على
…
مثن عليه مبالغ في مدحه
فاستبشروا يا عصبة الشعراء من
…
هذا السخاء بيمنه وبسحنه
فاعترض عليه بأن اليمن والسنح بمعنى واحد. وأجيب بأنه كقول الشاعر وألفى قولها كذبا ومينا.
ثم ورد في اليوم السابع بشير آخر فقال:
حكّ السري اليوم أسفل جسمه
…
بأظافر ظفرت بكل مؤمّل
فالناس بين مصّفر ومرتل
…
ومدفّف ومزمر ومطبّل
فأعترض عليه صرف أظافر. وأجيب بأن ذلك غير محظور لا سيما وقد وليها قوله ظفرت.
ثم ورد في اليوم الثامن بشير آخر فقال:
طوبى لمن في الناس أصبح حالقاً
…
رأس السريّ الأحلس الملحوسا
لا زال محفوظاً بلطف الله ما
…
حلتتله شعراً شريفاً موسى
فأعترض عليه بأن الملحوس غير وارد في صفة الرأس. وأجيب بأنه لا بأس به هنا للجناس. ثم قيل أن محفوفاً مع ذكر الرأس ثقيلة. وأجيب بأنها خفيفة بالنسبة إلى رأس السري. قلت وكان الأولى أن يعاب عليه قوله طوبى لمن. فأنه مطلق لا يفيد أن السري حلق رأسه في يوم معين. غير أن الجناس في المصراع الثاني شفع في البيت كله.
ثم ورد في اليوم التاسع بشير آخر فقال:
بَسَم الزمان عن المنى وتنوّرا
…
لما أستحم سريناً وتنورا
إن المعالي من أسافله زهت
…
والشعر بالشعراء أكسب مفخرا
فأستحسن هذان البيتان جداً لما فيهما من المطابقة والجناس التام وغيره إلا قوله مفخراً.
ثم ورد في اليوم العاشر بشير آخر فقال:
قحب السري وأي شهم ماجد
…
بين البرية مثله لا يقحب
ذي سنة فرضت على كل الوري
…
أن المخالف منهم ليصلب
فعيب عليه لفظة قحب وأجيب بأنها فصيحة بمعنى سعل.
ثم ورد في اليوم الحادي عشر بشير آخر فقال:
عطس السري فكلنا يبكي دماً
…
وأرتاعت الأرضون والأفلاك
حرس الإله دماغه عن عطسة
…
أخرى تموت برعبها الأملاك
ثم ورد في اليوم الثاني عشر بشير آخر فقال:
فسى الأمير فأيّ عرف عاطر
…
في الكون فاح وأيّ مسك ديفا
يا ليت أعضاء العباد جميعهم
…
تغدو لنشوة ذا العبير أنوفا
فعيب عليه قوله فسّى. إذ التكثير هنا لا معنى له. وأجيب بأن القليل المنسوب إلى السري كثير. وعليه بظلام للعبيد. فإن أدنى ما يكون من الظلم في حق الباري تعالى كثير.
ثم ورد في اليوم الثالث عشر مبشر فقال:
حبق السري اليوم في وقت الضحى
…
والجو أدكن ليس يسفر عن شرق
فتعطرت أرجاؤنا بأريجه
…
فكان من حبق له عرف الحبق
فأستحسنا لما فيهما من التجنيس: ثم ورد في اليوم الرابع عشر مبشر آخر فقال:
قد أسها اليوم السري فكلنا
…
فرح ففي إسهاله التسهيل
قاستبضعوا خزاً إليه مطرزاً
…
وتسابقوا أن البطيء قتيل
فأستحسن البيت الأول للجناس. وعيب عليه قوله مطرزاً. إذ التطريز هنا لا موجب له بل فيه إيلام. وأجيب بأنه طبق الأصل. وأن حق الترجمة أن لا تزيد على الأصل المترجم منه في المعنى ولا تنقص عنه ولا سيما في الأمور المهمة الخطيرة. وقد كان يجب أن يعاب عليه قوله فكلنا فرح وأن علله بقوله ففي إسهاله التسهيل. إذ المتبادر أن التسهيل مسبب عن حتف الممدوح وكأنه الجناس شفع فيه.