المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تَمْهِيدٌ: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله - السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي - جـ ١

[مصطفى السباعي]

فهرس الكتاب

- ‌تَمْهِيدٌ:

- ‌البَابُ الأَوَّلُ:

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَعْنَى السُنَّةِ وَتَعْرِيفُهَا:

- ‌وُجُوبُ طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ:

- ‌وُجُوبُ طَاعَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ:

- ‌كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَلَقَّوْنَ سُنَّةَ الرَّسُولِ

- ‌لِمَاذَا لَمْ تُدَوَّنْ السُنّةُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ؟وَهَلْ كُتِبَ عَنْهَا شَيْءٌ فِي حَيَاتِهِ

- ‌مَوْقِفُ الصَّحَابَةِ مِنَ الحَدِيثِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ:

- ‌هَلْ حَبَسَ عُمَرُ أَحَداً مِنَ الصَّحَابَةِ لإِكْثَارِهِ الحَدِيثَ

- ‌هَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَشْتَرِطُونَ لِقَبُولِ الحَدِيثِ شَيْئًا

- ‌رِحْلَةُ الصَّحَابَةِ طَلَبًا لِلْحَدِيثِ إِلَى الأَمْصَارِ:

- ‌الفَصْلُ الثَّانِي:فِي الوَضْعِ فِي الحَدِيثِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

- ‌مَتَى بَدَأَ الوَضْعُ

- ‌فِي أَيِّ جِيلٍ نَشَأَ الوَضْعُ

- ‌البَوَاعِثُ التِي أَدَّتْ إِلَى الوَضْعِ وَالبِيئَاتِ التِي نَشَأَ فِيهَا:

- ‌أَوَّلاً: الخِلَافَاتُ السِّيَاسِيَّةُ:

- ‌هَلْ كَانَ الخَوَارِجُ يَكْذِبُونَ فِي الحَدِيثِ

- ‌ثَانِياً - الزَّنْدَقَةُ:

- ‌ثَالِثاً - العَصَبِيَّةُ لِلْجِنْسِ وَالقَبِيلَةِ وَاللُّغَةِ وَالبَلَدِ وَالإِمَامِ:

- ‌رَابِعاً - القِصَصُ وَالوَعْظُ:

- ‌خَامِسًا - الخِلَافَاتُ الفِقْهِيَّةُ وَالكَلَامِيَّةُ:

- ‌سَادِسًا - الجَهْلُ بِالدِّينِ مَعَ الرَّغْبَةِ فِي الخَيْرِ:

- ‌سَابِعًا - التَقَرُّبُ لِلْمُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي جُهُودِ العُلَمَاءِ لِمُقَاوَمَةِ حَرَكَةِ الوَضْعِ:

- ‌المَوْضُوعُ وَعَلَامَاتُهُ:

- ‌عَلَامَاتُ الوَضْعِ فِي السَّنَدِ:

- ‌عَلَامَاتُ الوَضْعِ فِي المَتْنِ:

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي ثِمَارِ هَذِهِ الجُهُودِ:

- ‌أَوَّلاً - تَدْوِينُ السُنَّةِ:

- ‌ثَانِياً - عِلْمُ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ:

- ‌ثَالِثًا - عِلْمُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ:

- ‌رَابِعًا - عُلُومُ الحَدِيثِ:

- ‌خَامِسًا - كُتُبُ المَوْضُوعَاتِ وَالوَضَّاعِينَ:

- ‌سَادِسًا - كُتُبٌ فِي الأَحَادِيثِ المُشْتَهَرَةِ عَلَى الأَلْسِنَةِ:

- ‌تَمْهِيدٌ:

- ‌البَابُ الثَّانِي: فِي الشُّبَهِ الوَارِدَةِ عَلَى السُنَّةِ فِي مُخْتَلَفِ العُصُورِ:

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ: السُنَّةُ مَعَ الشِّيعَةِ وَالخَوَارِجِ:

- ‌الفَصْلُ الثَّانِي: السُنَّةُ مَعَ المُعْتَزِلَةِ وَالمُتُكُلِّمِينَ:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُ: السُنَّةُ مَعَ مُنْكِرِي حُجِيَّتِهَا قَدِيمًا:

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُ: السُنَّةُ مَعَ مُنْكِرِي حُجِيَّتِهَا حَدِيثًا:

- ‌الجَوَابُ عَلَى الشُبْهَةِ الأُولَى:

- ‌الجَوَابُ عَنْ الشُبْهَةِ الثَّانِيَةِ:

- ‌الجَوَابُ عَنْ الشُبْهَةِ الثَّالِثَةِ:

- ‌الجَوَابُ عَنْ الشُبْهَةِ الرَّابِعَةِ:

- ‌الفَصَْلُ الخَامِسُ: السُنَّةُ مَعَ مَنْ يُنْكِرُ حُجِيَّةَ خَبَرِ الآحَادِ:

- ‌شُبَهُ مُنْكِرِي الحُجِيَّةَ:

- ‌الجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُبَهِ:

- ‌أَدِلَّةُ حُجِّيَّةَ خَبَرَ الآحَادِ:

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُ: السُنَّةُ مَعَ المُسْتَشْرِقِينَ:

- ‌خُلَاصَةُ قَوْلِ جُولْدْتْسِيهِرْ فِي السُنَّةِ وَتَشْكِيكِهِ بِهَا:

- ‌1 - مَوْقِفُ الأُمَوِيِّينَ مِنَ الدِّينِ:

- ‌2 - هَلْ كَانَ عُلَمَاءُ المَدِينَةِ وَضَّاعِينَ

- ‌3 - هَلْ اسْتَجَازَ عُلَمَاؤُنَا الكَذِبَ دِفَاعًا عَنْ الدِّينِ

- ‌4 - كَيْفَ بَدَأَ الكَذِبُ فِي الحَدِيثِ

- ‌5 - هَلْ تَدَخَّلتْ الدَّوْلَةُ الأُمَوِيَّةُ فِي وَضْعِ الأَحَادِيثِ

- ‌6 - أَسْبَابُ الاِخْتِلَافِ فِي الحَدِيثِ:

- ‌7 - هَلْ تَدَخَّلَ مُعَاوِيَةُ فِي الوَضْعِ

- ‌8 - هَلْ اِسْتَغَلَّ الأُمَوِيُّونَ الزُّهْرِيَّ لِوَضْعِ الأَحَادِيثَ

- ‌الإِمَامُ الزُّهْرِيُّ وَمَكَانَتُهُ فِي التَّارِيخِ:

- ‌اسْمُهُ وَوِلَادَتُهُ وَتَارِيخُ حَيَاتِهِ:

- ‌أَبْرَزُ أَخْلَاقِهِ وَصَفَاتِهِ:

- ‌اِشْتِهَارُهُ بِالعِلْمِ وَإِقْبَالُ النَّاسِ عَلَيْهِ:

- ‌ثَنَاءُ العُلَمَاءِ عَلَيْهِ بِسَعَةِ العِلْمِ:

- ‌مَكَانَتُهُ فِي السُنَّةِ:

- ‌آثَارُهُ فِي عِلْمِ السُنَّةِ:

- ‌آرَاءُ عُلَمَاءِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِيهِ:

- ‌مَنْ رَوَى عَنْهُ وَخَرَّجَ لَهُ:

- ‌رَدُّ الشُبَهِ الوَارِدَةِ عَلَى الزُّهْرِيِّ:

- ‌صِلَةُ الزُّهْرِيِّ بِالأُمَوِيِّينَ:

- ‌قِصَّةُ الصَّخْرَةِ وَحَدِيثُ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ

- ‌قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الوَلِيدِ الأُمَوِيِّ:

- ‌قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ:

- ‌ذَهَابُهُ لِلْقَصْرِ وَتَحَرُّكُهُ فِي حَاشِيَةِ السُّلْطَانِ:

- ‌حَجُّهُ مَعَ الحَجَّاِجِ:

- ‌تَرْبِيَتُهُ لأَوْلَادِ هِشَامٍ:

- ‌تَوَلِّيهِ القَضَاءَ:

- ‌9 - تَغْيِيرُ الأُمَوِيِّينَ الحَيَاةَ الدِّينِيَّةَ:

- ‌10 - كَذِبُ الصَّالِحِينَ وَتَدْلِيسُ المُحَدِّثِينَ:

- ‌11 - الاِعْتِرَافُ بِصِحَّةِ الحَدِيثِ (شَكْلِيٌّ):

- ‌12 - نَقْدُ ابْنِ عُمَرَ لأَبِي هُرَيْرَةَ:

- ‌13 - الصُّحُفُ المَكْتُوبَةَ:

- ‌الفَصْلُ السَّابِعُ: السُنَّةُ مَعَ بَعْضِ الكَاتِبِينَ حَدِيثًا:

- ‌خُلَاصَةُ فَصْلِ «الحَدِيثِ» فِي " فَجْرُ الإِسْلَامِ

- ‌هَلْ بَدَأَ الوَضْعُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ

- ‌أَحَادِيثُ التَّفْسِيرِ:

- ‌هَلْ اسْتَوْعَبَ البُخَارِيُّ كُلَّ الصَّحِيحِ فِي " جَامِعِهِ

- ‌عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ وَهَلْ كَانَ مُغَفَّلاً

- ‌حَدِيثُ «سَدِّ الأَبْوَابِ»:

- ‌أَحَادِيثُ الفَضَائِلِ:

- ‌أَحَادِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌تَغَالِي النَّاسِ فِي الاعْتِمَاد عَلَى السُنَّةِ:

- ‌عَدَالَةُ الصَّحَابَةِ:

- ‌هَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ يكذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا

- ‌اخْتِلَافُ العُلَمَاءِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ:

- ‌قَوَاعِدُ النَّقْدِ فِي السَّنَدِ وَالمَتْنِ:

- ‌ قَوَاعِدُ العُلَمَاءِ فِي نَقْدِ الحَدِيثِ:

- ‌ نَقْدُ أَحَادِيثَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ:

- ‌الحَدِيثُ الأَوَّلُ: «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ»:

- ‌الحَدِيثُ الثَّانِي: «مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ»

- ‌الحَدِيثُ الثَّالِثِ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ والْعَجْوَةُ مِنْ الْجَنَّةِ وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ»

- ‌الحَدِيثُ الرَّابِعُ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَاّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ انتََقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ»

- ‌العَمَلُ بَخَبَرِ الوَاحِدِ:

- ‌حَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

- ‌1 - رَدُّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ:

- ‌2 - عَدَمُ كِتَابَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْحَدِيثِ:

- ‌3 - تَحْدِيثُهُ بِغَيْرِ مَا سَمِعَهُ:

- ‌4 - إِنْكَارُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ الحَدِيثَ:

- ‌5 - تَرْكُ الحَنَفِيَّة حَدِيثَهُ أَحْيَانًا:

- ‌6 - اسْتِغْلَالُ الوُضَّاعَ كَثْرَةَ حَدِيثِهِ:

- ‌مَعَ أَبِي رَيَّةَ:

- ‌أَوَّلاً - الاخْتِلَافُ فِي اسْمِهِ:

- ‌ثَانِيًا - نَشْأَتُهُ وَأَصْلُهُ:

- ‌ثَالِثًا - أُمِّيَّتُهُ:

- ‌رَابِعًا - فَقْرُهُ:

- ‌خَامِسًا - إِسْلَامُهُ وَسَبَبُ صُحْبَتِهِ لِلْنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌سَادِسًا: قِصَّةُ جُوعِهِ وَمُلَازَمَتِهِ لِلْرَّسُولِ:

- ‌سَابِعًا: مُزَاحُهُ وَهَذَرُهُ:

- ‌ثَامِنًا - التَّهَكُّمُ بِهِ:

- ‌تَاسِعًا - كَثْرَةُ أَحَادِيثِهِ:

- ‌عَاشِرًا: تَشَيُّعُهُ لِبَنِي أُمَيَّةَ:

- ‌كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

- ‌كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ فِي «أَبِي رَيَّةَ» وَكِتَابِهِ:

- ‌البَابُ الثَّالِثُ: فِي مَرْتَبَةِ السُنَّةِ فِي التَشْرِيعِ الإِسْلَامِيِّ:وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ:

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي مَرْتَبَةِ السُنَّةِ مَعَ الكِتَابِ:

- ‌هَلْ تَسْتَقِلُّ السُنَّةُ بِالتَشْرِيعِ

- ‌حُجَجِ القَائِلِينَ بِالاسْتِقْلَالِ:

- ‌حُجَجُ المُنْكِرِينَ لِلاسْتِقْلَالِ:

- ‌الخِلَافُ لَفْظِيٌّ:

- ‌الفَصْلُ الثَّانِي: كَيْفَ اشْتَمَلَ القُرْآنُ عَلَى السُنَّةِ:

- ‌الطَّرِيقَةُ الأُولَى:

- ‌الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌أَمْثِلَةٌ لِلْحُكْمَيْنِ المُتَقَابِلَيْنِ:

- ‌أَمْثِلَةٌ لِمَا أُعْطِيَ حُكْمًا خَاصًّا بَيْنَ شَبَهَيْنِ:

- ‌أَمْثِلَةٌ لِلإِلْحَاقِ عَنْ طَرِيقِ القِيَاسِ:

- ‌الطَّرِيقَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌قِصَصُ السُنَّةِ:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي نَسْخِ السُنَّةِ بِالقُرْآنِ وَالقُرْآنُ بِالسُنَّةِ:

- ‌النَّسْخُ فِي القُرْآنِ:

- ‌ نسخ السُنَّة بالكتاب

- ‌نَسْخُ الكِتَابِ بِالسُنَّةِ:

- ‌الخَاتِمَةُ:فِي الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِ الكُتُبِ السِتَّةِ:

- ‌1 - الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ:

- ‌نَسَبُهُ وَعُمْرُهُ:

- ‌نَشْأَتُهُ وَمَدْرَسَتُهُ:

- ‌أُصُولُ مَذْهَبِهِ:

- ‌الضَجَّةُ الكُبْرَى حَوْلَهُ:

- ‌أَسْبَابُ هَذِهِ الضَجَّةِ:

- ‌مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌نَتَائِجُ هَذِهِ الضَجَّةِ:

- ‌هَلْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ قَلِيلَ البِضَاعَةِ فِي الحَدِيثِ

- ‌هَلْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُقَدِّمُ الرَّأْيَ عَلَى الحَدِيثِ

- ‌أَمْثِلَةٌ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ:

- ‌حَلَقَةُ أَبِي حَنِيفَةَ العِلْمِيَّةَ:

- ‌كَلِمَةُ إِنْصَافٍ:

- ‌2 - الإِمَامُ مَالِكٍ:

- ‌حَيَاتُهُ وَمَكَانَتُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌أُصُولُ مَذْهَبِهِ:

- ‌ المُوَطَّأُ ": - مَكَانَتُهُ - رِوَايَاتُهُ وَأَحَادِيثُهُ - شُرُوحُهُ:

- ‌هَلْ " المُوَطَّأُ "، كِتَابُ فِقْهٍ أَمْ كِتَابُ حَدِيثٍ

- ‌شُبْهَةُ القَوْلِ بِأَنَّهُ كِتَابُ فِقْهٍ:

- ‌جَوَابُ الشُّبْهَةِ:

- ‌3 - الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ:

- ‌حَيَاتُهُ وَمَكَانَتُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌دَوْرُُهُ فِي الدِّفَاعِ عَنْ السُنَّةِ:

- ‌أُصُولُ مَذْهَبِهِ:

- ‌4 - الإِمَامُ أَحْمَدُ:

- ‌حَيَاتُهُ وَمَكَانَتُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌أُصُولُ مَذْهَبِهِ:

- ‌ المُسْنَدُ ": مَرْتَبَتُهُ - أَحَادِيثُهُ:

- ‌5 - الإِمَامُ البُخَارِيُّ:

- ‌6 - الإِمَامُ مُسْلِمٌ:

- ‌7 - الإِمَامُ النَّسَائِيُّ وَ " سُنَنُهُ

- ‌8 - الإِمَامُ أَبُو دَاوُدُ وَ " سُنَنُهُ

- ‌9 - الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ وَ " جَامِعُهُ

- ‌10 - الإِمَامُ ابْنُ مَاجَهْ وَ " سُنَنُهُ

- ‌دَرَجَةُ " سُنَنِهِ

- ‌المَلَاحِقُ:

- ‌1 - مَتَى نَسُدُّ هَذِهِ الثَّغْرَةَ

- ‌2 - لَا…سَنُطَارِدُكَ يَا عَدُوَّ اللهِ

- ‌أَهَمُّ مَرَاجِعِ الكِتَابِ:

- ‌التفسير وعلومه:

- ‌الحديث وعلومه:

- ‌العقيدة والفرق:

- ‌الفقه وأصوله وتاريخه:

- ‌التاريخ:

- ‌الأدب:

- ‌المُحْتَوَى:

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌الباب الأول:

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث:

- ‌الفصل الرابع:

- ‌الباب الثاني:

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث:

- ‌الفصل الخامس:

- ‌الفصل السادس:

- ‌الفصل السابع:

- ‌الباب الثالث:

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الملاحق:

- ‌أهم المراجع:

- ‌المحتوى:

الفصل: ‌ ‌تَمْهِيدٌ: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله

‌تَمْهِيدٌ:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وحملة سُنّته والمدافعين عنها إلى يوم الدين، وبعد فهذا الكتاب الذي أقدمه اليوم للطبع، هو الرسالة التي تقدمت بها لنيل الشهادة «العالمية من درجة أستاذ» في الفقه والأصول وتاريخ التشريع الإسلامي من كلية الشريعة في الجامع الأزهر عام 1368 هـ - 1949 م، وقد رغبت عن نشره منذ ذلك الحين حتى الآن لعوامل كثيرة، من أهمها أني ألفت هذا الكتاب في ظروف صعبة كانت تضطرني إلى الإيجاز في كثير من الأبحاث، وكنت أرى من تمام الفائدة التوسع فيها والإكثار من الشواهد لتتضح معالمها، وإضافة أبحاث أخرى متعلقة بالموضوع، ولم يتح لي الوقت الكافي لتحقيق ما كنت أرجو من ذلك.

ثم إن بعض أبحاث هذا الكتاب كانت قد نشرت بصورة موجزة في بعض المجلات الإسلامية في القاهرة ودمشق وغيرهما (1)، وكانت تردني الرغبة من كثير من القارئين بطبع هذه الأبحاث، ولكنني كنت أرجئ ذلك إلى وقت أتفرغ فيه لتحقيق ما كنت آمل من التوسع والإفاضة، حتى ظهر كتاب " أضواء على السُنَّةِ المحمدية " لمحمود أَبُو رَيَّةَ، وفيه ما فيه من تحقيق «غير علمي» حول السُنَّةِ وَرُوَّاتِهَا، فَأَلَحَّ عَلَيَّ أولئك الأصدقاء الكرام بطبع الكتاب لشدة الحاجة

(1) في القاهرة مجلة " الفتح " للأستاذ الكبير محب الدين الخطيب، وفي دمشق مجلة " المُسْلِمُونَ ".

ص: 1

إلى أبحاثه، وها أنا أقدمه كما كتبته من قبل، إلا ما أضفته على البحث المتعلق بأبي هريرة رضي الله عنه من تعليق موجز على ما جاء به كتاب «أَبِي رَيَّةَ» بحق أبي هريرة وإني لأرجو - حين تتيح لي حالتي الصحية - أن أتمكن من تحقيق ما كنت آمل إن شاء الله تعالى.

ملاحظات حول كتاب أَبِي رَيَّةَ:

-----------------------------

وهنا أجد أنه لا بُدَّ لي من إثبات الملاحظات الآتية حول كتاب «أَبِي رَيَّةَ» .

- 1 -

لا تخفى مكانة السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ «الحديث» في التشريع الإسلامي وأثرها في الفقه الإسلامي منذ عصر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى عصور أئمة الاجتهاد واستقرار المذاهب الاجتهادية، مِمَّا جعل الفقه الإسلامي ثروة تشريعية لا مثيل لها في الثروات التشريعية لدى الأمم جميعها في الماضي والحاضر، ومن يطلع على القرآن وَالسُنَّةُِ يجد أَنَّ لِلْسُنَّةِ الأثر الأكبر في اتباع دائرة التشريع الإسلامي وعظمته وخلوده، مِمَّا لا ينكره كل عالم بالفقه ومذاهبه.

هذا التشريع العظيم الذي بهر أنظار علماء القانون والفقه في جميع أنحاء العالم، وسيزيد إعجابهم به حين اطلاعهم عليه كله مُبَسَّطًا مَعْرُوضًا بأسلوب يألفه أبناء هذا الجيل - و" موسوعة الفقه الإسلامي " في كلية الشريعة بجامعة دمشق دائبة على تحقيق هذا الغرض - هو ما حمل ويحمل أعداء الإسلام في الماضي والحاضر على مهاجمة السُنّةِ والتشكيك في حُجِيَّتِهَا وصدق جَامِعِيهَا وَرُوَّاتِهَا من أعلام الصحابة والتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وعلى هذا الغرض التقى أعداء الإسلام اليوم من المُسْتَشْرِقِينَ ومن لَفَّ لَفَّهُمْ في الحضارة الغربية الحاضرة.

إنها سلسلة متتابعة من الجهود، لم تنقطع منذ أربعة عشر قرناً. وستظل قائمة ما دام للإسلام والحق أعداء يغيظهم ويغشي أبصارهم ضوء الإسلام الباهر،

ص: 2

فيندفعون بعصبية عمياء حمقاء لتهديم كل ما يتصل به من قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ وَاجْتِهَادٍ، ولتشويه كل من حمل لواءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، إلى حملته من أعلام السُنَّةِ والتشريع، ولإفساد الحقائق المتصلة به من حضارة وتاريخ.

ونحن لا نشك في أن هذه المعارك المتصلة بين الإسلام وخصومه، ستنتهي معركة اليوم منها - كما انتهت معارك الأمس - إلى هزيمتهم وكشف مقاصدهم الخبيئة الخبيثة، وبقاء الإسلام كالطود الشامخ تَرْتَدُّ على سفوحه الرمال والأعاصير لأن المعركة بين الإسلام وخصومه، معركة بين الحق والهوى، وبين العلم والجهل، وبين السماحة والحقد، وبين النور والظلمة، ومن سُنَّةِ اللهِ في الحياة أن ينتصر في هذه المعارك، الحق والعلم والسماحة والنور دائماً وأبداً {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (1).

- 2 -

ومن المؤسف أن يسير وراء أعداء الإسلام في الحاضر، فئة مِمَّنْ لا نشك في صدق إسلامهم من العُلَمَاءِ وَالكُتَّابِ، ولكنهم منخدعون بمظهر التحقيق العلمي «الكاذب» الذي يلبسه هؤلاء الأعداء من المُسْتَشْرِقِينَ والمُؤَرِّخِينَ وَالغَرْبِيِّينَ عن حقيقة أهدافهم ومقاصدهم، فإذا هم - وهم مسلمون - ينتهون إلى الغاية التي يسعى إليها أولئك - وَهُمْ يَهُودٌ أَوْ مَسِيحِيُّونَ أَوْ اسْتِعْمَارِيُّونَ - من إشاعة الشك والريبة في الإسلام وَحَمَلَتِهِ من حيث يدرون أو لا يدرون، فالتقى أعداء الإسلام وبعض أبنائه على صعيد واحد لا يُشَرِّفُ هؤلاء ولا أولئك، لا في ميدان العلم، ولا في سِجِلِّ التاريخ.

ومن الملاحظ أن هؤلاء الذين ينخدعون من المُسْلِمِينَ بِالمُسْتَشْرِقِينَ والمُؤَرِّخِينَ وَالكَاتِبِينَ من أعداء الإسلام الغَرْبِيِّينَ، لا يوقعهم في الفخ الذي نصبه لهم هؤلاء إلا أحد أربعة أمور غالباً:

1 -

إما جهلهم بحقائق التراث الإسلامي وعدم اطلاعهم عليه من ينابيعه الصافية.

(1)[سورة الأنبياء، الآية: 18].

ص: 3

2 -

وإما انخداعهم بالأسلوب العلمي «المزعوم» الذي يَدَّعِيهِ أولئك الخصوم.

3 -

وإما رغبتهم في الشهرة والتظاهر بالتحرر الفكري من ربقة التقليد كما يَدَّعُونَ.

4 -

وإما وقوعهم تحت تأثير «أهواء» و «انحرافات» فكرية، لا يجدون مجالاً للتعبير عنها إلا بالتستر وراء أولئك المُسْتَشْرِقِينَ الكَاذِبِينَ.

- 3 -

في هذا الجو النفسي الذي ذكرناه، أخرج «أَبُو رَيَّةَ» - على ما يبدو - كتابه " أضواء على السُنَّةِ المحمدية "، وقد تصفحت كتابه عند العزم على طبع هذا الكتاب، فرأيت مصادره الأصلية في كل ما خرج به على رأي جمهور المُحَقِّقِينَ من علماء السلف والخلف، لا تتعدى المصادر التالية:

1 -

آراء أئمة الاعتزال التي نقلت عنهم في الكتب.

2 -

آراء غُلَاةِ الشِيعَةِ التي جهروا بها في مؤلفاتهم.

3 -

آراء المُسْتَشْرِقِينَ التي بثوها في كتبهم و" دائرة معارفهم ".

4 -

«حكايات» تذكر في بعض كتب الأدب التي كان مؤلفوها موضع الشبهة في صدقهم وتحريهم للحقائق.

5 -

«أهواء» دفينة للمؤلف ظلت تحوك في صدره سنين طويلة.

أما ما ذكره خلال كتابه من نقول عن مصادر محترمة في الأوساط العلمية الإسلامية، فإنها لا تعدو أن تكون وردت في تلك المصادر في مورد غير الذي أورده المؤلف فوضعها في غير مواضعها، أو أن تكون هي في حد ذاتها حقائق مُسَلَّمَةٍ لدى المُحَقِّقِينَ ولكنهم لا يقصدون منها ما قصده المؤلف، فيذكرها إِيهَامًا للقارئ بأن أصحابها يلتقون معه في فكرته وأهوائه، أو تكون نصوصا «مبتورة» انتزع منها ما يَرُدُّ على المؤلف، ولم يذكر منها إلا ما يريد أن يثبته في البحث الذي يتناوله - وسنرى نموذجا لذلك في بحث أبي هريرة - أو أن تكون من أقوال بعض

ص: 4

العلماء نقلاً عن المعتزلة، فينسبها إلى هؤلاء العلماء أنفسهم، كما فعل فيما نقل عن ابن قتيبة، وبالجملة فإن أصحاب هذه المؤلفات والنصوص التي نسبها إليهم لا يلتقون معه في آرائه ونزعاته.

وأخطر من ذلك أنك بينما تراه ينسب إلى عمر الغفلة مع كعب الأحبار حين أخذ يخبره عن قُرب مقتله، يستدل بما نسب إلى عمر من يقظته حول أحاديث أبي هريرة لِيُشَكِّكَ فيها، وبينما تراه يتظاهر باحترام الأئمة والعلماء وَالمُحَقِّقِينَ، ينسب إليهم الغفلة والتقصير في التحقيق في السُنَّةِ على الأسلوب الذي يدعو إليه.

وأكثر من تَسَتَّرَ بأسمائهم وتظاهر بالنقل عنهم - تأييدًا منهم في زعمه لفكرته التي يدور حولها، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ طاهر الجزائري والإمام محمد عبده، والسيد رشيد رضا رحمهم الله جَمِيعاً - لم يقل واحد منهم بما انتهى إليه، بل إنهم ليبرؤون جميعاً مِمَّا قاله، وخاصة من الكلام «البذيء» في حق أبي هريرة، ومن النتائج الخطيرة التي انتهى إليها بحثه.

ومن الملاحظ أنه أكثر من «ثبت» المصادر التي رجع إليها في بحثه، لِيُوهِمَ قُرَّاءَهُ بأهمية كتابه، ومنها كتب في التفسير والحديث والفقه، وعلوم القرآن وَالسُنَّةِ، ليس فيها كلمة واحدة من نتائج بحثه الذي انتهى إليه، وكلها تكذّبه في دعاويه، ومنها مصادر تاريخية ليست من المصادر التي يعتبرها العلماء مرجعا للتحقيق في تدوين السُنّة وَرُوَّاتِهَا وعلمائها، ومن المصادر التاريخية مصادر لا يوثق بها أبداً لدى جمهور المُحَقِّقِينَ، ومنها كتب في الأدب واللغة والنحو والشعر لا رابطة بينها وبين هذا الموضوع الخطير.

بقي أن نذكر المصادر الجديرة بالاهتمام عنده، وهي التي تدلنا على صحة «تحقيقه العلمي» ومصادر وحيه في هذا التحقيق - {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (1) وإليك هي:

1 -

" تاريخ التمدن الإسلامي " لجرجي زيدان.

2 -

" العرب قبل الإسلام " لجُرجي زيدان.

3 -

" دائرة المعارف الإسلامية " للمستشرقين.

(1)[سورة الأنعام، الآية: 121].

ص: 5

4 -

" الحضارة الإسلامية " لكريمر.

5 -

" السيادة العربية " لفلوتن.

6 -

" حضارة الإسلام في دار السلام " لإبراهيم اليازجي.

7 -

" تاريخ العرب المطول " لفليب حتي، وإدوار جرجس، وجبرائيل جبور.

8 -

" تاريخ الشعوب الإسلامية " لكارل بروكلمان.

9 -

" المسيحية في الإسلام " للقس إبراهيم لوقا.

10 -

" وجهة الإسلام " لجماعة من المُسْتَشْرِقِينَ.

11 -

" العقيدة والشريعة في الإسلام " لجولدتسيهر.

ومع ذلك فهو يَدَّعِي في آخر كتابه أنه أيد بحوثه بأقوم البراهين وأقوى الأسانيد (ص 354) وأنه رجع إلى مصادر ثابتة لا يرقى الشك إليها ولا يدنو الريب منها! (ص 197).

ننتقل بعد ذلك إلى إلقاء نظرة على مصادره الرئيسية الخمسة التي ذكرناها آنفا.

-4 -

أما آراء أئمة الاعتزال - وقد سماهم بأرباب العقول الصريحة - فقد حققنا في بحث موقف المعتزلة مِنَ السُنَّةِ - في هذا الكتاب - أنهم ما بين مُنْكِرٍ لِلْسُنَّةِ كلها، وما بين مشترط في قبولها شروطاً لا يمكن أن تقع، وَرَجَّحْنَا أن رؤساء الاعتزال - وخاصة الذين طعنوا منهم في الصحابة - كانوا من الرقة في الدين بحيث يصف أحدهم - ثمامة بن أشرس - جمهور المسارعين إلى الصلاة بأنهم «حَمِيرٌ»! وكانوا من الشعوبية وَالكُرْهِ للعرب بحيث يقول ثمامة نفسه:«انْظُرْ إِلَى هَذَا العَرَبِيِّ، يَعْنِي (مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم) مَاذَا فَعَلَ بِالنَّاسِ؟» (*) فماذا ننتظر من هذا الشعوبي الماجن أن يقول عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما ننتظر أن يكون رأيه في السُنّةِ التي حَقَّقَهَا أئمة الحديث وَمُحَقِّقُوهُمْ؟

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*)[قارن بما ورد في صفحة 141 من هذا الكتاب].

ص: 6

والمعتزلة قوم فتنتهم الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، وما نقل من الفلسفة الهندية والأدب الفارسي. وقد كانوا كلهم أو جمهورهم مِمَّنْ يَمُتُّونَ إلى أصل فارسي فَأَوَّلُوا القرآن لينسجم مع الفلسفة اليونانية، وَكَذَّبُوا الأحاديث التي لا تتفق مع هذه العقلية اليونانية الوثنية، واعتبروا فلاسفة اليونان أنبياء العقل الذي لا خطأ معه، هؤلاء هم الذين قامت المعركة الفكرية بينهم وبين جمهور علماء المُسْلِمِينَ. وَهُمْ الذين يُسَمِّيهِمْ «أَبُو رَيَّةَ» بالعلماء وأصحاب العقول الصريحة، في مقابلة أئمة الحديث وفقهاء الإسلام كمالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن المُسَيَّبِ وغيرهم!

ومن المعلوم أن أصحاب العقول الراجحة عند «أَبِي رَيَّةَ» الذين اسْتَغَلُّوا سلطة الدولة وحملوا الخلفاء على التنكيل بأئمة المُسْلِمِينَ وتعذيبهم وسجنهم بضعة عشر عَامًا، واستقاء «أَبِي رَيَّةَ» من آراء هؤلاء واضح في كل ما نقله عن ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " ومن يرجع إلى ما كتبه ابن قتيبة في كتابه هذا، يجد أن ما نقله أَبُو رَيَّةَ عن ابن قتيبة إنما هو كلام أئمة الاعتزال ضد الصحابة وَالمُحَدِّثِينَ، نقله ابن قتيبة عنهم ثم رَدَّ عليهم بما هو موضوع كتابه كله!! ولكن «أَبَا رَيَّةَ» نسب أقوالهم إلى ابن قتيبة، وهكذا يكون «التحقيق العلمي» و «الأمانة العلمية» !.

- 5 -

وأما اعتماده على مصادر الشِيعَةِ، فأحب أن أمهد لذلك بكلمة صريحة قبل مؤاخذته على الاعتماد على مصادرهم، نحن نقرأ بالألم الممزوج بالحسرة ما كان من الفتن الدموية بين عَلِيٍّ ومعاوية حول الخلافة، ثم ما جرت وراءها من ذيول لا نزال نلمس آثارها حتى اليوم، وأنا لا أشك في أن أعداء الله واليهود، وكثيرا من الأعاجم الذين استولى الإسلام على بلادهم، كان لهم أثر كبير في إيقاد نار تلك الفتن، ثم في توسيع شقة الخلاف بين المُسْلِمِينَ بالكيد والدسائس واختلاق الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث ينسبونها إليه، وأعتقد أن جمهور المُسْلِمِينَ - وَهُمْ أَهْلُ السُنَّةِ - كانوا أكثر إنصافاً وتأدباً مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أثنى الله عليهم في كتابه ورضي عنهم

ص: 7

وَنَوََّهَ بفضلهم في الهجرة والنصر، فليس من الجائز ولا المعقول ولا اللائق بكرامة دين الله ورسوله أن ينقلب هؤلاء الأصحاب بعد وفاة الرسول إلى الحالة التي تُصَوِّرُهُمْ بها مصادر الشِيعَةِ، ولو أنك قرأت وسمعت ما يكتبونه ويقولونه في مجالسهم في حق هؤلاء الأصحاب، لقلت: إنهم أشبه ما يكونون بعصابة من اللصوص وَقُطَّاعِ الطُرُقِ، لا دين لديهم ولا ضمائر عندهم تَرْدَعُهُمْ عن الكذب والتآمر والتهالك على الدنيا وحيازة أموالها ولذائذها:(لشدَّ ما تحلَّبا شطريها)(1)، مع أن الثابت الصحيح من تاريخهم أنهم كانوا أتقى للهِ وأكرم في السيرة من كل جيل عرفته الإنسانية في القديم والحديث، ومع أن الإسلام لم ينتشر في العالم إلا على أيديهم وبجهادهم ومفارقتهم الأهل والبلد في سبيل الله والحق الذي آمنوا به.

ومن الواضح أن السبب الذي بدأت به الفرقة، وهو النزاع حول الأحق بالخلافة ورئاسة الدولة، لم يعد موجوداً في عصرنا هذا، بل منذ عصور كثيرة، فقد أصبحنا جميعاً تحت سلطة المستعمرين، فلم يبق لنا ملك نتقاتل عليه، ولا خلافة نختلف من أجلها، وذلك مِمَّا يقتضي جمع الشمل وتقريب وجهات النظر، وتوحيد كلمة المُسْلِمِينَ على أمر سواء، وإعادة النظر في كل ما خلفته تلك المعارك من أحاديث مكذوبة على صحابة رسول الله وأصفيائه، وَحَمَلَةِ عرشه وحاملي لوائه.

وقد بدأ علماء الفريقين في الحاضر يستجيبون إلى رغبة جماهير المُسْلِمِينَ في التقارب، ودعوة مُفَكِّرِيهِمْ إلى التصافي، وأخذ علماء السُنّةِ بالتقارب عَمَلِيًّا، فاتجهوا إلى دراسة فقه الشِيعَةِ ومقارنته بالمذاهب المعتبرة عند الجمهور، وقد أدخلت هذه الدراسة المقارنة في مناهج الدراسة في الكليات وفي كتب المؤلفين في الفقه الإسلامي، وإنني شخصياً - منذ بدأت التدريس في الجامعة - أسير على هذا النهج في دروسي ومؤلفاتي.

(1) كلمة نسبها صاحب " نهج البلاغة " إلى عَلِيٍّ رضي الله عنه في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

ص: 8

ولكن الواقع أن أكثر علماء الشِيعَةِ لم يفعلوا شيئاً عملياً حتى الآن، وكل ما فعلوه جملة من المجاملة في الندوات والمجالس، مع استمرار كثير منهم في سَبِّ الصَحَابَةِ وإساءة الظن بهم، واعتقاد كل ما يروى في كتب أسلافهم من تلك الروايات والأخبار، بل إن بعضهم يفعل خلاف ما يقول في موضوع التقريب، فبينما هو يتحمس في موضوع التقريب بين السُنَّةِ وَالشِيعَةِ، إذا هو يصدر الكتب المليئة بالطعن في حق الصحابة أو بعضهم مِمَّنْ هم موضع الحب والتقدير من جمهور أَهْلِ السُنَّةِ.

في عام 1953 زرت عَبْدَ الحُسَيْنَ شَرَفَ الدِّينِ في بيته بمدينة «صور» في جبل عامل، وكان عنده بعض علماء الشِيعَةِ، فَتَحَدَّثْنَا عن ضرورة جمع الكلمة وإشاعة الوئام بين فريقي الشِيعَةِ وَأَهْلِ السُنَّةِ، وأن من أكبر العوامل في ذلك أن يزور علماء الفريقين بعضهم بعضاً، وإصدار الكتب والمؤلفات التي تدعو إلى هذا التقارب. وكان عَبْدُ الحُسَيْن رحمه الله مُتَحَمِّسًا لهذا الغرض، وخرجت من عنده وأنا فرح بما حصلت عليه من نتيجة، ثم زُرْتُ في بيروت بَعْضَ وجوه الشِيعَةِ من سياسيين وَتُجَّارَ وأدباء لهذا الغرض، ولكن الظروف حالت بيني وبين العمل لتحقيق هذه الفكرة، ثم ما هي إلا فترة من الزمن حتى فوجئت بأن عَبْدَ الحُسَيْنِ أصدر كتاباً في أبي هريرة (*) مليئاً بالسباب والشتائم!! ولم يتح لي حتى الآن قراءة هذا الكتاب الذي ما أزال أسعى للحصول على نسخة منه، ولكني علمت بما فيه مِمَّا جاء في كتاب أَبِي رَيَّةَ من نقل بعض محتوياته ومن ثناء الأستاذ عليه، لأنه يتفق مع أَبِي رَيَّةَ في هذا الصحابي الجليل (1)

(1) ذكرت هنا في هذه المقدمة التمهيدية للطبعة الأولى أني لم أكن حين كتابتها أملك نسخة من كتاب " أبي هريرة " للشيخ عبد الحُسَيْن شرف الدين. ولكني بعد ذلك استطعت شراء نسخة من الكتاب المذكور في طبعته الثانية التي تمت في حياة المؤلف، وبعد أن قرأته كله تأكد لي ما كنت أظنه. فقد انتهى مؤلفه إلى القول «بأن أبا هريرة رضي الله عنه كان منافقاً كافراً وأن الرسول قد أخبر عنه بأنه من أهل النار!.» ولما كان أَبُو رَيَّةَ قد أثنى على هذا الكتاب ومؤلفه، فإنه يكون موافقاً لمؤلفه في تلك النهاية التي انتهى إليها رأيه في أبي هريرة .. ونعوذ بالله من الخذلان وسوء المصير! ..

-----------------------

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*)[طبع كتاب " أبو هريرة " لعبد الحسن شرف الدين الموسوي، الطبعة الثانية: 1375 هـ - 1956 م في 296 صفحة، منشورات الطبعة الحيدرية في النجف].

ص: 9

لقد عجبت من موقف عَبْدِ الحُسَيْن في كلامه وفي كتابه معاً، ذلك الموقف الذي لا يدل على رغبة صادقة في التقارب ونسيان الماضي، وأرى الآن نفس الموقف من فريق دُعَاةِ التقريب من علماء الشِيعَةِ، إذ هم بينما يقيمون لهذه الدعوة الدُّورَ، وينشئون المجلات في القاهرة، ويستكتبون فريقاً من علماء الأزهر لهذه الغاية، لم نر أثراً لهم في الدعوة لهذا التقارب بين علماء الشِيعَةِ في العراق وإيران وغيرهما، فلا يزال القوم مُصِرِّينَ على ما في كتبهم من ذلك الطعن الجارح والتصوير المكذوب لما كان بين الصحابة من خلاف، كَأَنَّ المقصود من دعوة التقريب هي تقريب أَهْلِ السُنَّة إلى مذهب الشِيعَةِ، لا تقريب المذهبين كل منهما إلى الآخر.

ومن الأمور الجديرة بالاعتبار أن كل بحث علمي في تاريخ السُنَّةِ أو المذاهب الإسلامية مِمَّا لا يتفق مع وجهة نظر الشِيعَة، يقيم بعض علمائهم النكير على من يبحث في ذلك، ويتسترون وراء التقريب، ويتهمون صاحب هذا البحث بأنه متعصب معرقل لجهود المصلحين في التقريب، ولكن كتاباً ككتاب المرحوم الشيخ «عبد الحُسَيْن شرف الدين» في الطعن بأكبر صحابي موثوق في روايته للأحاديث في نظر جمهور أهل السُنَّة، لا يراه أولئك العاتبون أو الغاضبون عملاً مُعرقِلاً لجهود الساعين إلى التقريب! ..

ولست أحصر المثال بكتاب " أبي هريرة " وفيها من التشنيع على عائشة أم المؤمنين وعلى جمهور الصحابة ما لا يحتمل سماعه إنسان ذو وجدان وضمير، مِمَّا يُذَكِّّرُ الناسَ بآثار الماضي، ويؤجج نيران التفرقة من جديد، وكتاب «أَبِي رَيَّةَ» هو من هذه الكتب التي إن رضي الشِيعَةُ عما جاء فيه بحق الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، فإنه - بلا شك - سبب لفتح أبواب العداوة من جديد، أو على الأقل سبب للأخذ والرد وتذكر موقف الشِيعَةِ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا كنا نأخذ عليه اعتماده على مصادر الشِيعَةِ في كتابه المذكور، وإذا كنا نتحدث عن موقف الشِيعَةِ من الحديث فإنما نبحث ذلك، أَوَلاًً: في حدود النطاق

ص: 10

العلمي التاريخي، وحقائق التاريخ لا مجاملة في الحديث عنها حين يكون المجال مجال علم ودراسة وتحقيق، وثَانِياً: لتصحيح الأخطاء التاريخية التي استمدها من كتب الشِيعَةِ.

ولقد كنت كتبت بَحْثَ موقف الشِيعَةِ مِنَ السُنَّةِ في هذا الكتاب - وهو أطروحة علمية تقدم إلى علماء في معهد علمي لنيل شهادة علمية - ومع ذلك فلقد كنت أُرْجِئ نشر هذا الكتاب - المقدم للطبع الآن - لأسباب عديدة:

منها أنني أريد أن أقدم لبحثي ذاك بتمهيد أوضح فيه رأيي بضرورة التقارب بين السُنَّةِ وَالشِيعَةِ في هذا العصر الذي نعيش فيه، وأنني لم أقصد ببحثي الإساءة إلى شعور الشِيعَةِ أو استثارة عداوتهم، لا لشيء إلا لأني كنت وما أزال من دُعَاةِ التقارب الصحيح وتصفية آثار الماضي.

ولما أخذت إحدى المجلات العلمية مني النسخة الوحيدة التي عندي من كتابي هذا رغبة في نشر بعض أبحاثه، لَفَتَ نظر المسؤول عنها إلى أن فيه بعض الأبحاث التي أريد التمهيد لها ببعض الإيضاح، ولكنني فوجئت وأنا في بيروت للاستشفاء أن هذه المجلة نشرت البحث المتعلق بموقف الشِيعَةش وَالسُنَّةِ، وأن ذلك ترك أثراً غير مستحب في الأوساط الشِيعِيَّةِ، وَعَلَّقَتْ عليه بعض مجلاتهم، أخبرني بذلك الشاعر الكبير الأستاذ «أحمد الصافي النجفي» الذي أقدر فضله وأدبه، فأوضحت له موقفي من هذا الموضوع وأنه نشر بغير علمي.

وهكذا أريد أن ألفت النظر الآن مرة أخرى إلى أن كل ما جاء في هذا الكتاب إنما هو عرض تاريخي لَا بُدَّ منه لكل من يُؤَرِّخُ لِلْسُنَّةِ ويتحدث عن مراحل جمعها وتدوينها. ولا يستطيع أن يغفل ذلك عالم يحترم نفسه ويريد من العلماء أن يحترموا كتابه، ولم أكتب فيه إلا ما أعتقد أن البحث العلمي يؤيده ويثبته.

ومع هذا فليس فيما كتبته ما يسيء إلى أية شخصية يحترمها الشِيعَةُ ويُجِلُّونَهَا كما يفعلون هم بالنسبة إلى جمهور الصحابة، ذلك أنا نُحِبُّ عَلِيًّا رضي الله عنه ونُجلُّهُ ونعرف مكانته من الإسلام والعلم والفضل، كما نُحِبُّ أئمة أهل البيت من

ص: 11

ذرية عَلِيٍّ رضي الله عنه ونحترم علمهم وفضلهم، وحبذا لو يفعل الشِيعَةُ كما نفعل، فنلتقي على كلمة سواء!.

وأعود فأكرر دعوتي للمخلصين من علماء الشِيعَةِ، وفيهم الوَاعُونَ الراغبون في جمع كملة المُسْلِمِينَ، أن نواجه جميعاً المشاكل التي يعانيها العالم الإسلامي اليوم، من انتشار الدعوات الهدامة التي تجتث جذور العقيدة في قلوب شباب السُنَّةِ وشباب الشِيعَةِ على السواء، بل هي أقوى على ذلك بالنسبة لقلوب شباب الشِيعَةِ، ولعل في الحوادث الجارية الآن (1) في بعض بلادنا العربية ما يؤكد ما أقول به، وأكرر دعوتي بوضع أسس التقارب الصحيح العملي لا القولي.

وفي مقدمة ذلك الاتفاق على تقدير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين على أيديهم انتقل هذا الدين إلينا، وبواسطتهم أخرجنا اللهُ من الظلمات إلى النور.

- 6 -

أما المُسْتَشْرِقُونَ الذين اتَّخَذَ منهم أَبُو رَيَّةَ تكأة لآرائه، فقد كتبت عنهم كلمة موجزة في كتابي هذا، قبل أن أزور أكثر جامعات أوروبا عام 1956 وأختلط بهم وأتحدث إليهم وأناقشهم.

فلما تم لي ذلك ازددت إيمانا بما كتبته عنهم واقتناعاً بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله سواء كان تشريعياً أم حضارياً. لما يملأ نفوسهم من عصبية تأكل قلوبهم حقداً ضد الإسلام والعرب والمُسْلِمِينَ.

كان أول من اجتمعت بهم هو البروفسور «أَنْدِرْسُونْ» رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في العالم الإسلامي - في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن - وهو متخرج من كلية اللاهوت في جامعة كمبردج، وكان من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية - كما حدثني هو بذلك عن نفسه - تعلم اللغة العربية من دروس اللغة العربية التي كان يلقيها بعض علماء الأزهر في الجامعة الأمريكية في القاهرة ساعة كل أسبوع لِمُدَّةِ سَنَةٍ

(1) أي في سَنَةِ 1960 عند ظهور الطبعة الأولى للكتاب.

ص: 12

واحدة. كما تَعَلَّمَ العَامِيَّةَ المِصْرِيَّةَ من اختلاطه بالشعب المصري حين توليه عمله العسكري الآنف الذكر. وَتَخَصَّصَ في دراسة الإسلام من المحاضرات العامة التي كان يلقيها المرحوم «أحمد أمين» والدكتور «طه حسين» والمرحوم الشيخ «أحمد إبراهيم» .... وبهذه الدراسات العميقة! في اللغة والإسلام استحق لقب «بروفسور» وانتقل من الخدمة العسكرية بعد الحرب إلى رئاسة قسم قوانين الأحوال الشخصية في جامعة «لندن» كما ذكرنا.

لا أريد أن أذكر أمثلة عن تعصبه ضد الإسلام - وقد حدثني كثيراً عن ذلك المرحوم الدكتور «حمود غرابة» مدير المركز الثقافي الإسلامي في لندن - حينذاك - ولكني أكتفي بأن أذكر ما حدثني به البروفسور «أَنْدِرْسُونْ» نفسه من أنه أسقط أحد المتخرجين من الأزهر الذين أرادوا نوال شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي من جامعة لندن لسبب واحد هو أنه قدم أطروحته عن حقوق المرأة في الإسلام وقد برهن فيها على أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها الكاملة، فعجبت من ذلك وسألت هذا المستشرق:«وَكَيْفَ أَسْقَطْتَهُ وَمَنَعْتَهُ مِنْ نَوَالِ الدُّكْتُورَاهْ لِهَذَا السَّبَبِ، وَأَنْتُمْ تَدَّعُوْنَ حُرِيَّةِ الفِكْرِ فِي جَامِعَاتِكُمْ؟» قَالَ: «لأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " الإِسْلَامِ يُمْنَحُ المَرْأَةَ كَذَا، وَالإِسْلَامُ قَرَّرَ لِلْمَرْأَةِ كَذَا "، فَهَلْ هُوَ نَاطِقٌ رَسْمِيٌّ بِاسْمِ الإِسْلَامِ؟ هَلْ هُوَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ الشَّافِعِيَّ حَتَّىَ يَقُولَ هَذَا الكَلَامَ وَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِ الإِسْلَامِ؟ إِنَّ آراءَهُ فِي حُقُوقِ المَرْأَةِ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا فُقَهَاءُ الإِسْلَامِ الأَقْدَمُونَ، فَهَذَا رَجُلٌ مَغْرُورٌ بِنَفْسِهِ حِينَ ادَّعَى أَنَّهُ يَفْهَمُ الإِسْلَامِ أَكْثَرَ مِمَّا فَهِمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ» .

هذا هو كلام هذا المستشرق الذي لا يزال حَيًّا يرزق، ولا أدري إن كان لا يزال في عمله في جامعة لندن أم أحيل إلى التقاعد (المعاش).

وَزُرْتُ جامعة أدنبرة «أسكتلندا» فكان المستشرق الذي يرأس الدراسات الإسلامية فيها قِسِّيسًا بلباس مدني وقد وضع لقبه الديني مع اسمه على باب بيته، وإني لأشهد أنه كان دمث الأخلاق لطيف الحديث.

وفي جامعة «جلاسكو» (أسكتلندا أيضاًً) كان رئيس الدراسات العربية فيه قِسِّيسًا عاش رئيساً للإرسالية التبشيرية في القدس قرابة عشرين سَنَةً حتى

ص: 13

أصبح يتكلم العربية كأهلها، وقد حدثني بذلك عن نفسه في هذه الزيارة وكنت قد اجتمعت به قبل ذلك في المؤتمر الإسلامي المسيحي الذين انعقد في «بَحَمْدُونْ» (لبنان) عام 1954.

وفي جامعة أكسفورد وجدنا رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية فيها يَهُودِيًّا يتكلم العربية ببطء وصعوبة وكان أيضاً يعمل في دائرة الاستخبارات البريطانية في ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وهناك تعلم العربية العامية، وتلك هي مؤهلاته التي بَوَّأَتْهُ هذا القسم، ومن العجيب أني رأيت في منهاج دراساته التي يلقيها على طلاب الاستشراق: تفسير آيات من القرآن الكريم من " الكَشَّافِ " للزمخشري (إي والله وهو لا يحسن فهم عبارة بسيطة من جريدة عادية) ودراسة أحاديث من " البخاري " و" مسلم "، وأبواب من الفقه في أمهات كتب الحَنَفِيَّةِ والحنابلة، وسألته عن مراجع هذه الدراسات، فأخبرني أنها من كتب المُسْتَشْرِقِينَ أمثال: جولدتسيهر، ومرجليوث، وشَاخْتْ، وحسبك بهؤلاء عنواناً على الدراسات المدخولة المدسوسة المُوَجَّهَةِ ضد الإسلام والمُسْلِمِينَ.

أما جامعة كمبردج فكانت رئاسة قسم الدراسات العربية والإسلامية فيها للمستشرق المعروف «آربري» واختصاصه في اللغة العربية فحسب.

وقد قال لي - خلال أحاديثي معه -: «إِنَّنَا - نَحْنُ المُسْتَشْرِقِينَ - نَقْعَ فِيْ أَخْطَاءٍ كَثِيْرَةٍ فِيْ بُحُوثِنَا عَنْ الإِسْلَامِ، وَمِنَ الوَاجِبِ أَنْ لَا نَخُوضَ فِي هَذَا المَيْدَانِ لأَنَّكُمْ - أَنْتُمْ المُسْلِمِينَ العَرَبَ - أَقْدَرُ مِنَّا عَلَىَ الخَوْضِ فِي هَذِهِ الأَبْحَاثِ» .

وفي مانشستر (إنكلترا) اجتمعت بالبروفسور «رُوبْسُونْ» وكان يقابل " سنن أبي داود " على نسخة مخطوطة، وله كتابات في تاريخ الحديث، يتفق فيها غالباً مع آراء المُسْتَشْرِقِينَ المُتَحَامِلِينَ، وقد حرصت على أن أُبَيِّنَ له أن الدراسات الاستشراقية السابقة فيها تَحَامُلٌ وَبُعْدٌ عَنْ الحَقِيقَةِ، وتعرضت لآراء جولدتسيهر وَأَثْبَتُُّّ له أخطاءه التاريخية والعلمية، فكان مِمَّا أجاب به عنه:«لَا شَكَّ أَنَّ المُسْتَشْرِقِينَ فِي هَذَا العَصْرِ أَكْثَرَ إِطِّلَاعًا عَلَى المَصَادِرِ الإِسْلَامِيَّةِ مِنْ جُوَلْدْتْسِيهِرْ نَظَرًا لِمَا طُبِعَ وَنُشِرَ وَعُرِفَ مِنْ مُؤَلَّفَاتٍ إِسْلامِيَّةٍ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ فِي عَصْرِ جُوَلْدْتْسِيهِرْ» ، فَقُلْتُ لَهُ:

ص: 14

«أرجو أن تكون أبحاثكم - المُسْتَشْرِقِينَ - في هذا العصر أقرب إلى الحق والإنصاف من جولدتسيهر، ومرجليوث، وأمثالهما، فقال: أرجو ذلك» .

وفي جامعة «ليدن» بهولندا اجتمعتُ بالمستشرق اليهودي «شَاخْتْ» وهو الذي يحمل في عصرنا هذا رسالة «جولدتسيهر» في الدَسِّ على الإسلام والكيد له وتشويه حقائقه، وباحثته طويلا في أخطاء «جولدتسيهر» وتعمُّدِهِ تحريف النصوص التي ينقلها عن كتبنا، فأنكر ذلك أول الأمر، فضربت له مثلاً واحداً مِمَّا كتبه جولدتسيهر في تاريخ «السُنّة» - وهو ما نقلناه عنه في هذا الكتاب - وكيف حرَّفَ قول الزُّهْرِي:«إِنَّ هَؤُلَاءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ «الأَحَادِيثَ» إلى لفظ «عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ» فاستغرب ذلك، ثم راجع كتاب جولدتسيهر - وكنا نجلس في مكتبته الخاصة - فقال: معك الحق أن جولدتسيهر أخطأ هنا، قلت له: هل هو مجرد خطأ؟ فاحتدَّ وقال: لماذا تسيئون به الظن؟ فانتقلت إلى بحث تحليله لموقف الزُّهْرِي من عبد الملك بن مروان، وذكرت له من الحقائق التاريخية ما ينفي ما زعمه جولدتسيهر - وقد ذكرت ذلك في هذا الكتاب - وبعد مناقشة في هذا الموضوع قال: وهذا خطأ أيضاً من جولدتسيهر، ألَا يخطئ العلماء؟ قلتُ له: إن جولدتسيهر هو مؤسس المدرسة الاستشراقية التي تبني حُكمها في التشريع الإسلامي على وقائع التاريخ نفسه، فلماذا لم يستعمل مبدأه هنا حين تكلم عن الزُّهْرِي؟ وكيف جاز له أن يحكم على الزُّهْرِي بأنه وضع حديث فضل المسجد الأقصى إرضاء لعبد الملك ضد ابن الزبير، مع أن الزُّهْرِي لم يلق عبد الملك إلا بعد سبع سنوات من مقتل ابن الزبير؟ وهنا اصفرَّ وجه «شَاخْتْ» وأخذ يفرك يداً بيد. وبدا عليه الغيظ والاضطراب، فأنهيت الحديث معه بأن قلت له: لقد كانت مثل هذه «الأخطاء» كما تسميها أنت، تشتهر في القرن الماضي، ويتناقلها مستشرق منكم عن آخر على أنها حقائق علمية، قبل أن نقرأ - نحن المُسْلِمِينَ - تلك المؤلفات إلا بعد موت مؤلفيها، أما الآن فأرجو أن تسمعوا منا ملاحظاتنا على «أخطائكم» لتصحِّحُوها في حياتكم قبل أن تتقرر كحقائق علمية عندكم.

ومن الملاحظ أن هذا المستشرق كان يدرِّسُ في جامعة القاهرة - فؤاد سابقا -

ص: 15

وله مؤلف في تاريخ التشريع الإسلامي، وكله دَسٌّ وتحريف على أسلوب أستاذه جولدتسيهر.

وفي جامعة «أبسلا» (السويد) التقيت بالشيخ المستشرق «نيبرج» وهو الذي كان قد أشرف على طبع كتاب " الاستبصار " لابن الخياط - على ما أظن - وطبعته قَدِيمًا «لجنة التأليف والترجمة في القاهرة» وجرى بيني وبينه حديث طويل كان أكثره حول أبحاث المُسْتَشْرِقِينَ ومؤلفاتهم عن الإسلام وتاريخه، وجعلت «جولدتسيهر» محور الحديث عن المُسْتَشْرِقِينَ، وذكرت له أمثلة من أخطائه وتحريفه للحقائق، فكان مِمَّا قاله بعد ذلك: إن جولدتسيهر كان في القرن الماضي ذا شهرة علمية ومرجعاً للمستشرقين، أما في هذا العصر - بعد انتشار الكتب المطبوعة في بلادكم عن العلوم الإسلامية - فلم يعد جولدتسيهر مرجعاً كما كان في القرن الماضي .. لقد مضى عهد جولدتسيهر في رأينا! ..

وقد أتيح لي خلال تلك الرحلة أن أواصل زيارة الجامعات عدا ما ذكرته منها في عواصم كل من «بلجيكا» و «الدانمارك» و «النرويج» و «فنلندا» و «ألمانيا» و «سويسرا» و «باريس» واجتمعت بمن كان موجوداً حينئذ من المُسْتَشْرِقِينَ فيها.

ومِمَّا ذكرته آنفاً وما دوَّنتُه في مذكّراتي عن المُسْتَشْرِقِينَ الذين لقيتهم خلال تلك الرحلة، اتضحت لي الحقائق التالية:

أَوَلاً - إن المُسْتَشْرِقِينَ - في جمهورهم - لا يخلو أحدهم من أن يكون قسيساً أو استعمارياً أو يهودياً، وقد يشذ عن ذلك أفراد.

ثَانِياً - إن الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية - كالدول السكندنافية - أضعف منه عند الدول الاستعمارية.

ثَالِثاً - إن المُسْتَشْرِقِينَ المعاصرين في الدول غير الاستعمارية يتخلون عن جولدتسيهر وآرائه بعد أن انكشفت أهدافه الخبيثة.

رَابِعاً - إن الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة، وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنباً إلى جنب، يلقى منهما كل تأييد.

ص: 16

خَامِساً - إن الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه لسمعة المُسْلِمِينَ.

ففي فرنسا لا يزال «بْلَاشِيرْ» (*) وَ «مَاسِينْيُونْ» (**)(1) وهما شَيْخَا المُسْتَشْرِقِينَ الفِرَنْسِيِّينَ في وقتنا الحاضر يعملان في وزارة الخارجية الفرنسية كخبيرين في شؤون العرب والمُسْلِمِينَ.

وفي إنجلترا رأينا - كما ذكرت - أن الاستشراق له مكان محترم في جامعات لندن وأكسفورد وكمبردج وأدنبره وجلاسكو وغيرها، ويشرف عليه يهود وإنجليز استعماريون وَمُبَشِّرُونَ، وهم يحرصون على أن تظل مؤلفات جولدتسيهر ومرجليوث ثم شَاخْتْ من بعدهما، هي المراجع الأصلية لطلاب الاستشراق من الغَرْبِيِّينَ، وللراغبين في حمل شهادة الدكتوراه عندهم من العرب والمُسْلِمِينَ وهم لا يوافقون أبداً على رسالة لطلب الدكتوراه يكون موضوعها إنصاف الإسلام وكشف دسائس أولئك المُسْتَشْرِقِينَ.

وقد حدَّثنا الدكتور محمد أمين المصري - وهو خِرِّيج كلية أصول الدين في الأزهر وكلية الآداب ومعهد التربية في جامعة القاهرة - عما لقيه من عناء في سبيل موضوع رسالته التي أراد أن يتقدم بها لأخذ شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعات إنجلترا.

لقد ذهب إليها (في عام 1958 م) لدراسة الفلسفة وأخذ شهادة الدكتوراه بها، وما كاد يطلع على برامج الدراسة - وخاصة دراسة العلوم الإسلامية فيها - حتى هاله ما رآه من تحامل ودَسٍّ في كتب المُسْتَشْرِقِينَ، وخاصة «شَاخْتْ» فقرر أن يكون موضوع رسالته هو نقد كتاب شَاخْتْ.

تقدم إلى البروفسور «أَنْدِرْسُونْ» ليكون مشرفاً على تحضير هذه الرسالة

(1) كان هذا وقت الطبعة الأولى التي كتب المؤلف رحمه الله هذه المقدمة لها، أما الآن فماسينيون في عداد الأموات منذ سنوات.

-----------------------

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) ريجيس بلاشير ( Régis Blachère) م (1318 - 1393 هـ=1900 - 1973 م) من أشهر مستشرقي فرنسا في القرن العشرين ومن أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق. ولد في مونروج Mont rouge ( من ضواحي باريس). تعلم العربية في الدار البيضاء (بالمغرب الأقصى) وتخرج في كلية الآداب في الجزائر (1922م). عُيِّنَ أستاذاً في معهد الدراسات المغربية العليا في الرباط (1924 - 1935م) وانتقل إلى باريس محاضرا في السوربون (1938م)، فمديراً لمدرسة الدراسات العليا العلمية (1942م) وأشرف على مجلة "المعرفة" الباريسية، بالعربية والفرنسية. وألف بالفرنسية كتبا كثيرة ترجم بعضها إلى العربية، ونجح في فرض تدريسها في بعض المعاهد الثانوية الفرنسية. من كتبه:

1 -

ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية في ثلاثة أجزاء، أولها مقدمة القرآن الكريم. ثم نشر الترجمة وحدها في عام 1957م ثم أعيد طبعها عام 1966م.

2 -

تاريخ الأدب العربي، نقله إلى العربية د. إبراهيم الكيلاني.

3 -

قواعد العربية الفصحى.

4 -

أبو الطيب المتنبي، نقله إلى العربية د. أحمد أحمد بدوي.

5 -

معجم عربي فرنسي إنكليزي.

ص: 17

وموافقاً على موضوعها، فأبى عليه هذا المستشرق أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب «شَاخْتْ» ، وعبثاً حاول أن يوافق على ذلك، فلما يئس من جامعة لندن، ذهب إلى جامعة كمبردج وانتسب إليها وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية فيها برغبته في أن يكون موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرناه، فلم يبدوا رضاهم عن ذلك، وظن أن من الممكن موافقتهم أخيراً، ولكنهم قالوا له بصريح العبارة: إذا أردت أن تنجح في الدكتوراه فتجنب انتقاد شَاخْتْ، فإن الجامعة لن تسمح لك بذلك، وعندئذ حَوَّلَ موضوع رسالته إلى " معايير نقد الحديث عند المُحَدِّثِين "، فوافقوا، ونجح في نوال - الدكتوراه - وهو الآن مُدَرِّسٌ في كلية الشريعة بجامعة دمشق.

هذه كلمة موجزة عما تحققته بنفسي عن المُسْتَشْرِقِينَ، وخاصة كتب جولدتسيهر وآرائه، وقد أفردت لمناقشته فصلاً خَاصًّاً في هذا الكتاب بينت فيه تحامل هذا المستشرق اليهودي، وتشويهه للحقائق، وتحريفه للنصوص، وتأويله للوقائع التاريخية وفق هدفه الذي سعى إليه، واعتماده على مصادر لا قيمة لها في نظر العلم، وتكذيبه للمصادر العلمية المعترف بها عند أئمتنا وعلمائنا المُحَقِّقِينَ.

ومن المؤلم أن طلاب العالم الإسلامي الذين يدرسون باللغة الإنجليزية في بلادهم لا يزالون مضطرين إلى دخول الجامعات الإنجليزية، فلا يجد طلاب الدراسات الإسلامية أمامهم مراجع لدراساتهم التي ينالون بها الدكتوراه غير تلك المراجع المسمومة، وهم لا يعرفون اللغة العربية، فيتقرر عندهم أن تلك الدسائس حقيقية مأخوذة من كتب الفقهاء والعلماء المُسْلِمِينَ أنفسهم.

إن هذا مِمَّا يدعو جامعاتنا العربية للتفكير في إنشاء أقسام لفروع شهادة الدكتوراه باللغة الإنجليزية. وأعتقد أن ذلك من شأنه أن يُحَوِّلَ أنظار كثيرين من طلاب العالم الإسلامي عن جامعات الغرب إلى بلادنا العربية. فنصون هؤلاء من التأثر بدسائس المُسْتَشْرِقِينَ المُتَعَصِّبِينَ الاِسْتِعَمَارِيِّينَ.

ومن جهة أخرى فقد خدع ببحوث المُسْتَشْرِقِينَ وخاصة المستشرق اليهودي

ص: 18

جولدتسيهر - عدد من كتابنا الفضلاء، أمثال الدكتور «أحمد أمين» رحمه الله، والدكتور «علي حسن عبد القادر» .

أما الأستاذ «أحمد أمين» فقد أَفْرَدْتُ له بحثاً خَاصًّاً في هذا الكتاب، وَبَيَّنْتُ أخطاءه التي وقع فيها نتيجة ثقته بـ (جولدتسيهر) وتأثره بآرائه.

وأما الدكتور «علي حسن عبد القادر» (مدير المركز الثقافي الإسلامي بلندن - في عام 1961 - على ما بلغني) فإني - قبل أن أروي قصتي معه - أحب أن أعترف بفضله ودماثة خُلُقِهِ واعترافه بالحق حين يظهر له.

لما كنا طلابا في السَنَةِ الثانية والثالثة في قسم تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع «العالمية من درجة أستاذ» في كلية الشريعة، وكان ذلك عام 1939 عَيَّنَتْ مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي رحمه الله، الدكتور علي حسن عبد القادر أستاذاً لنا يُدَرِّسُ تاريخ التشريع الإسلامي، وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حَدِيثًا - وهو مُجَازٌ من كلية أصول الدين في قسم التاريخ، ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه في قسم الفلسفة على ما أذكر.

كان أول درس تلقيناه عنه أن بدأه بمثل هذا الكلام:

«إِنِّيَ سَأُدَرِّسُ لَكُمْ تَارِيخَ التَّشْرِيعِ الإِسْلَامِيَّ، وَلَكِنَْ عَلَى طَرِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ لَا عَهْدَ لِلأَزْهَرِ بِهَا، وَإِنِّيَ أَعْتَرِفُ لَكُمْ بِأَنِّي تَعَلَّمْتُ فِي الأَزْهَرِ قُرَابَةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ عَامًا فَلَمْ أَفْهَمِ الإِسْلَامِ، وَلَكِنِّي فَهِمْتُ الإِسْلَامَ حِينَ دِرَاسَتِيِ فِي أَلْمَانْيَا» ، فعجبنا - نحن الطلاب - من مثل هذا القول وقلنا فيما بيننا: لنستمع إلى أستاذنا لعله حقاً قد علم شيئاً جديراً بأن نعلمه عن الإسلام مِمَّا لا عهد للأزهر به، وابتدأ درسه عن تاريخ السُنَّة النَّبَوِيَّةِ ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه، علمنا فيما بعد أنه كتاب جولدتسيهر " دراسات إسلامية " وكان أستاذنا ينقل عبارته ويتبناها على أنها حقيقة علمية، واستمر في دروسه نناقشه فيما يبدو لنا - نحن الطلاب - أنه غير صحيح، فكان يأبى أن يخالف جولدتسيهر بشيء مِمَّا ورد في هذا الكتاب، حتى إذا وصل في دروسه إلى الحديث عن الزُّهْرِيِّ، واتهامه بوضع الأحاديث للأمويين، ناقشته في ذلك - بحسب معلوماتي المجملة عن الزُّهْرِيِّ من أنه إمام في السُنَّةِ، وموضع ثقة

ص: 19

العلماء جميعاً - فلم يرجع عن رأيه، مِمَّا حملني على أن أطلب منه ترجمة ما قاله جولدتسيهر عن الزُّهْرِيِّ تماماً، فترجمه لي في ورقتين بخط يده، وبدأت أرجع إلى المكتبات العامة للتحقيق في سيرة الزُّهْرِيِّ وفي حقيقة ما اتهمه به هذا المستشرق. ولم أترك كتاباً مخطوطاً في مكتبة الأزهر وفي دار الكتب المصرية من كتب التراجم إلا رجعت إليها ونقلت منها ما يتعلق بِالزُّهْرِيِّ، واستغرق ذلك ثلاثة أشهر كنت أشتغل فيها منذ مغادرتي كلية الشريعة بعد الدروس حتى أواخر الليل، فلما تجمعت لدي المعلومات الصحيحة، قلت لأستاذنا الدكتور عبد القادر:«لَقَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ جُولْدْتْسِيهِرْ قَدْ حَرَّفَ نُصُوصَ الأَقْدَمِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّهْرِيِّ» ، فأجابني بقوله:«لَا يُمْكِنُ هَذَا، لأَنَّ المُسْتَشْرِقِينَ - وَخَاصَّةً جُولْدْتْسِيهِرْ - قَوْمٌ عُلَمَاءٌ مُنْصِفُونَ لَا يُحَرِّفُونَ النُّصُوصَ وَلَا الحَقَائِقَ!» ..

عندئذ أزمعت على إلقاء محاضرة في الموضوع في دار جمعية الهداية الإسلامية - قرب سراي عابدين قَدِيمًا - وأرسلت إدارة الجمعية بطاقات الدعوة لهذه المحاضرة إلى علماء الأزهر وطلابه، فاجتمع يومئذ عدد كبير منهم ما بين أساتذة وطلاب، ومن بينهم أستاذنا الدكتور عبد القادر - الذي رجوته حضور هذه المحاضرة، وإبداء رأيه فيما أقول، فتفضل مشكوراً بالحضور، وأصغى إلى المحاضرة كلها التي كانت تدور حول ما كتبه جولدتسيهر عن الإمام الزُّهْرِيِّ، وختمتها بقولي: هذا هو ما أراه في هذا الموضوع، وهذا هو رأي علمائنا في الزُّهْرِيِّ، فإن كان لأستاذنا الدكتور عبد القادر مناقشة حول الموضوع إن لم يقتنع بما ذكرته، فأرجو أن يتفضل بالكلام، فنهض الدكتور - حَفِظَهُ اللهُ -، وقال بصوت سمعه الحاضرون جميعاً:«إِنِّي أَعْتَرِفُ بِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ مَنْ هُوَ الزُّهْرِيُّ حَتَّى عَرَفْتُهُ الآنَ، وَلَيْسَ لِي اعْتِرَاضٌ عَلَى كُلِّ مَا ذَكَرْتَهُ» ، وَانْفَضَّ الاجتماع، ثم دخلنا غرفة الأستاذ السيد مُحَمَّدٍ الخَضِرْ حُسَيْن رحمه الله رئيس الجمعية الأستاذ الأكبر للجامع الأزهر فيما بعد - فكان مِمَّا قاله أستاذنا الدكتور - حَفِظَهُ اللهُ -، - وكان ذلك بحضور السيد الخضر حسين رحمه الله: «إِنَّ بَحْثَكَ هَذَا فَتْحٌ جِدِيدٌ فِي بُحُوثِ المُسْتَشْرِقِينَ، وَأَرْجُو أَنْ تُعْطِينِي نُسْخَةً مِنْ هَذِهِ المُحَاضَرَةِ لأُبْعَثَ بِهَا إِلَى المَجَلَاّتِ العِلْمِيَّةِ التِي تُعْنَى بِبُحُوثِ المُسْتَشْرِقِينَ فِي أَلْمَانْيَا، وَإِنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّهَا

ص: 20

سَتُحْدِثُ دَوِيًّا فِي أَوْسَاطِ المُسْتَشْرِقِينَ»، فشكرته على ذلك واعتبرته تشجيع أستاذ لتلميذه.

وبعد أيام دعاني لزيارته في البيت، فكان مِمَّا اتفقنا عليه أَنْ نَتَفَرَّغَ معاً في الصيف لترجمة كتاب جولدتسيهر وَالرَدِّ عَلَيْهِ، ولكني اعتقلت بعد ذلك من قبل السلطات العسكرية الإنجليزية في القاهرة في بدء قيام الحرب العالمية الثانية وأقصيت عنها سبع سنوات، وفي خلال هذه الفترة أصدر الدكتور عبد القادر كتابه " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي " ولم يتح لي الاطلاع عليه إلا بعد ثلاث سنوات حين أفرج عني في أواسط الحرب الأخيرة.

هذه قصتي مع الدكتور علي حسن عبد القادر وهي التي كانت سبباً في تأليف هذا الكتاب. لم أجد مانعاً من ذكرها لما فيها من العبرة، وأظن أن الدكتور عدل عن رأيه السابق في المُسْتَشْرِقِينَ وخاصة جولدتسيهر، وَبَدَّلَ رأيه في أمانته وإخلاصه للحق وعدم تحريفه للنصوص.

و «أَبُو رَيَّةَ» هو ثالث من رأيتهم من الباحثين في تاريخ السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، المتأثرين بجولدتسيهر و" دائرة المعارف الإسلامية " وغيرها، وإني لأرجو أن يقرأ ما كتبته الآن، وما أوردته في ثنايا الكتاب من مناقشة له وللمستشرقين وللأستاذ أحمد أمين، قراءة من يريد أن يصل إلى الحق. فلعله يرجع عن كثير من آرائه التي أنشأ من أجلها كتابه " أَضْوَاءٌ عَلَى السُنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ " ولعله فاعل ذلك إن شاء الله.

وكلمة أخيرة أقولها بصدد الحديث عن المُسْتَشْرِقِينَ:

منذ أن انتهت الحروب الصليبية بالفشل من الناحية العسكرية والسياسية، لم ينقطع تفكير الغرب في الانتقام من الإسلام وأهله بطرق أخرى، فكانت الطريقة الأولى هي دراسة الإسلام ونقده، وفي جَوِّ هذا التفكير الذي ساد البيئة المسيحية في الغرب خلال القرون الوسطى نشأت فكرة الاستيلاء على البلاد الإسلامية عن طريق القوة والغلبة حين بدأ العالم الإسلامي يتدهور سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وأخذ الغرب يسطو مرة بعد مرة على بلد بعد بلد في العالم الإسلامي،

ص: 21

وما كاد ينتهي للغرب استيلاؤه على أكثر أقطار العالم الإسلامي حتى بدأت الدراسات الغربية عن الإسلام وتاريخه تنمو وتتكاثر بقصد تبرير سياستهم الاستعمارية نحو هذه الشعوب، وقد تم لهم في القرن الماضي دراسة التراث الإسلامي من جميع نواحيه الدينية والتاريخية والحضارية، ومن الطبيعي أن تكون الدراسة محجوبة عن إصابة الحق فيها بحاجبين:

(الأول): التعصب الديني الذي استمر لدى ساسة أوروبا وقادتها العسكريين حتى إذا دخلت جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى بيت المقدس، قال اللورد «اللَّنْبِي» ( Lord Allenby] (*) كلمته المشهورة:«الآنَ انْتَهَتْ الحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ» أي من الناحية العسكرية. أما التعصب الديني فما يزال أثره باقياً في كثير مِمَّا يكتب الغَرْبِيُّونَ عن الإسلام وحضارته، وأكثر ما نجد إنصاف الإسلام ورسوله عند العلماء والأدباء الغَرْبِيِّينَ الذين تَحَلَّلُوا من سلطة ديانتهم، ونضرب لذلك مثلا بكتاب " حضارة العرب " لمؤلفه «غوستاف لوبون» فإنه أعظم كتاب ألفه الغَرْبِيُّونَ في إنصاف الإسلام وحضارته.

هذا، لأن «غوستاف لوبون» فيلسوف مادي لا يؤمن بالأديان قطعاً، من أجل هذا ومن أجل إنصافه للحضارة الإسلامية، لا ينظر إليه الغَرْبِيُّونَ في أوساطهم العلمية نظر التقدير الذي يستحقه علمه.

فهو - بلا شك - من أعظم علماء الاجتماع والتاريخ في القرن التاسع عشر، ومع هذا فقد تحامل عليه الغَرْبِيُّونَ - وخاصة الفِرَنْسِيِّينَ - لما ذكرناه.

(الثاني): أن القوة المادية والعلمية التي وصل إليها الغَرْبِيُّونَ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أدخلت في نفوس علمائهم ومؤرخيهم وَكُتَّابِهِمْ قدراً كبيراً من الغرور حتى اعتقدوا أن الغَرْبِيِّينَ أصل جميع الحضارات في التاريخ - ما عدا المصرية - وأن العقلية الغربية هي العقلية الدقيقة التأمل التي تستطيع أن تفكر تفكيراً منطقياً سليماً، أما غيرهم من الشعوب - وخاصة الإسلامية - فإن عقليتهم بسيطة ساذجة، أو بالأصح «ذرية» كما عبر بذلك المستشرق «جب» في

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*)[إدموند هنري هاينمان ألنبي (بالإنجليزية: Edmund Henry Hynman Allenby) ، الفايكونت الأول اللنبي (23 ابريل 1861 - 14 مايو 1936) ضابط وإداري بريطاني، اشتهر بدوره في الحرب العالمية الأولى حيث قاد قوة التجريدة المصرية في الاستيلاء على فلسطين وسوريا عامي 1917 و1918].

ص: 22

كتابه " وجهة الإسلام " ويقصد بذلك أن العقلية الإسلامية تدرك الأمور بواسطة الجزئيات ولا تدركها إدراكاً كلياً.

وهم لم يحكموا بذلك إلا على ضوء ما رأوه بأعينهم من ضعف الشعوب التي استعمروها وما سادها من جهل وما شملها من تأخر في كل نواحي الحياة.

فلما بدأ اتصالنا بالحضارة الغربية في أوائل هذا القرن، وانتشرت الثقافة بيننا، لم يجد المثقفون - من غير علماء الشريعة - أمامهم طريقا مُمَهَّدًا للحديث عن تراثنا المبعثر في كتب قديمة غير منظمة تنظيماً يتفق وتنظيم الكتب العلمية عند الغَرْبِيِّينَ، إلا كُتُبَ المُسْتَشْرِقِينَ الذين أفنوا أعمارهم في دراسة ثقافتنا وتتبع مصادرها في خزائن الكتب العامة عندهم، حتى ليظل أحدهم عِشْرِينَ عَامًا في تأليف كتاب من ناحية من نواحي ثقافتنا، يرجع فيه إلى كل ما وصلت إليه يده من مصادر قديمة من كتب علمائنا الأولين.

وبهذا الدأب المتواصل عند علمائهم، والتفرغ الكامل له، والرغبة الاستعمارية والدينية التي ألمحت إليها، استطاعوا أن ينظموا الحديث عن ثقافتنا تنظيما بهر أبصار «مُثَقَّفِينَا» واستولى على ألبابهم، وخاصة عندما قارنوا بين أسلوبهم وبين أسلوب كتبنا العلمية القديمة، فاندفعوا إلى الاقتباس من كُتُبِ المُسْتَشْرِقِينَ معجبين بعلمهم وسعة اطلاعهم، ظانين أنهم لا يقولون إلا الحق، وأنهم - فيما خالفوا فيه الحقائق المقررة عندنا - أصح حُكْمًا، وأصوب رأياً، لأنهم يسيرون وفق منهج علمي دقيق لا يحيدون عنه.

ومن هنا نشأت الثقة ببحوث هؤلاء الغَرْبِيِّينَ والاعتماد على آرائهم.

ولم يتح لهؤلاء المثقفين أن يرجعوا إلى المصادر الإسلامية التي استقى منها المُسْتَشْرِقُونَ وغيرهم من الباحثين الغَرْبِيِّينَ، إما لصعوبة الرجوع إلى مصادرنا، أو للرغبة في سرعة الإنتاج العلمي، أو لشهوة الإتيان بحقائق مخالفة لما هو سائد في أوساطنا العلمية والدينية وغيرها.

وكانت فترة من الزمان طغى علينا هذا الشعور بالنقص والضعف وعدم الثقة بأنفسنا إزاء الباحثين الغَرْبِيِّينَ، وإعظامهم وإكبارهم وعدم سوء الظن بهم، حتى

ص: 23

إذا بدأت حركات الوعي السياسي وبدأ استقلالنا السياسي عن سيطرة الغَرْبِيِّينَ، ابتدأ عندنا الشعور بوجوب الاستقلال الفكري، الشعور بشخصيتنا وقيمة حضارتنا وتراثنا، الشعور بالخجل لموقفنا السابق من اتكالنا على المُسْتَشْرِقِينَ في معرفة ما عندنا من تراث وعقيدة وتشريع، وانتشر هذا الوعي في أوساطنا المثقفة من دينية وغيرها، فبدأنا نكتشف الحقيقة، حقيقة هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ في أبحاثهم وأهدافهم الدينية والاستعمارية من ورائها. وما زلنا نسير في هذا الاتجاه الذي لم يستكمل قوته واستقلاله الذاتي بعد، لأنها سُنَّةُ اللهِ في الأشياء. ولكنا واصلون إلى هذه المرحلة بإذن الله، حتى يأتي يوم يستغرب فيه أبناؤنا وأحفادنا كيف كنا بسطاء مخدوعين بهؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ إلى هذا الحد.

سيأتي يوم ننقلب فيه نحن إلى دراسة تُرَاثِ الغَرْبِيِّينَ وَنَقْدِ ما عندهم من دين وعلوم وحضارة، وسيأتي اليوم الذي يستعمل فيه أبناؤنا وأحفادنا مقاييس النقد التي وضعها هؤلاء الغَرْبِيُّونَ، في نقد ما عند هؤلاء الغَرْبِيِّينَ أنفسهم من عقيدة وعلوم، فإذا هي أشد تهافتاً. وأكثر ضعفاً مِمَّا يلصقونه اليوم بعقيدتنا وعلومنا.

تُرَى لو استعمل المُسْلِمُونَ معايير النقد العلمي التي استعملها المُسْتَشْرِقُونَ في نقد القرآن وَالسُنَّةُ، في نقد كتبهم المقدسة وعلومهم الموروثة، ماذا كان يبقى لهذه الكتب المقدسة والعلوم التاريخية عندهم من قوة؟ وماذا يكون فيها من «ثبوت» ؟

تُرَى لو استعمل المُسْلِمُونَ في المستقبل معايير النقد العلمي التي يزعم المُسْتَشْرِقُونَ أنهم يأخذون بها عند نقد تاريخنا وأئمتنا، في نقد تاريخ الحضارة الأوروبية ومقدساتها وفاتحيها ورؤسائها وعلمائها، أَلَا يخرجون بنتيجة من الشك وسوء الظن أكبر بكثير مِمَّا يخرج به المُسْتَشْرِقُونَ بالنسبة إلى حضارتنا وعظمائنا؟ ألَا تبدو هذه الحضارة مُهَلْهَلَةً رَثَّةَ الثِّيَابِ؟ وألَا يبدو رجال هذه الحضارة من علماء وسياسيين وأدباء بصورة باهتة اللون لا أثر فيها لكرامة ولا خلق ولا ضمير؟

كثيرا ما أتمنى أن يتفرغ منا رجال للكتابة عن هذه الحضارة وتاريخ علمائها بنفس الأسلوب الذي يكتب به المُسْتَشْرِقُونَ من تتبع الأخبار الساقطة، وفهم

ص: 24

النصوص على غير حقيقتها، وقلب المحاسن إلى سيئات، والتشكيك في كل خير يصدر عن هؤلاء الغَرْبِيِّينَ، ولو حصل هذا لخرجت منه صورة لهذه الحضارة ولرجالها مضحكة مخزية ينكرها المُسْتَشْرِقُونَ قبل غيرهم!! أتُرَى أحداً ينهض منا لهذا العِبْءِ، عِبْءَ استعمال المقاييس النقدية عند الغَرْبِيِّينَ بالأسلوب الذي ذكرناه لإعطاء صورة عنهم وعن عقائدهم وعن حضارتهم ليقرأها المُسْتَشْرِقُونَ بأنفسهم، فَيَرَوْا كيف عادت هذه الطريقة التي زعموا أنهم يستخدمونها لمعرفة «الحقيقة» في تاريخنا وديننا، وَبَالاً عليهم، لعلهم يخجلون - بَعْدَئِذٍ -، استمرارهم في التحريف والتضليل والهدم!.

وبعد فإني أعتقد أنه قد انقضى ذلك العهد الذي كنا فيه نعتمد في مصادر معرفتنا بعلومنا وتاريخنا على هؤلاء الغَرْبِيِّينَ، مع أنهم ليست لهم مصادر إلا كتبنا ومُدوَّناتنا، ولئن كُنَّا بها جاهلين من قبل، فلقد آن الأوان أن نرفع عن جباهنا خزي الجهالة بمصادرنا، وعار الاتكال في فهمها على فهم الغرباء عن لغتنا، ونزيل وصمة الاعتقاد بديننا وعلمائنا ما يريد منا هؤلاء المُسْتَشْرِقُونَ المتعصبون أن نعتقده في ذلك من شك وسوء ظن، ولقد آن الأوان أن نفعل ذلك بما نفضنا عنه الغبار ونثرناه عن كنوزنا العلمية الدفينة، وبما ملأ نفوسنا من وعي كريم وشعور باستقلال الشخصية.

ولئن بقي بعد الآن من يحسن الظن بفهمهم أو رأيهم في علومنا، فليقرأ - إن شاء الله - هذا الكتاب وغيره من الكتب التي تكشف عن دسائس هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ، فينكشفون على حقيقتهم كما هم في الواقع، وكما أرادوا لأنفسهم أن يكونوا.

وإذا كنا نشتد هذه الشدة في حق المُحَرِّفِينَ وَالمُضَلِّلِينَ أمثال جولدتسيهر، فإننا لا نغمط غيرهم من المُنْصِفِينَ حَقَّهُمْ في نشر نفائس كُتُبِنَا القديمة، ودأبهم في البحث عن الحقيقة، فليس العلم محتكرا لأُمَّةٍ دُونَ أُمَّةٍ.

والإسلام - وهو دين الله للعالم كله - لا يمكن أن يستأثر بفهمه قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ،

ص: 25

فليفهم منه من شاء ما شاء، بشرط أن يَتَحَلَّى بصفة العلماء، وهي الإنصاف والإخلاص للحق، والبعد عن العصبية والهوى.

وأرى أخيراً أن أختم هذه الكلمة عن المستشرق بكلمة للعلَاّمة غوستاف لوبون، يحلل فيها سِرَّ تحامل العلماء الغَرْبِيِّينَ على تراثنا، وإنكارهم لفضل حضارتنا.

قال العلامة «غوستاف لوبون» في كتابه " حضارة العرب " بعد أن أقام الأدلة على تأثير الحضارة العربية الإسلامية في الغرب، وأثرها في نشوء الحضارة الغربية الحديثة:

«وَقَدْ يَسْأَلُ القَارِئُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: لِمَاذَا يُنْكِرُ تَأْثِيرَ العَرَبِ عُلَمَاءُ الوَقْتِ الحَاضِرِ الذِينَ يَضَعُونَ مَبْدَأَ حُرِيَّة الفِكْرِ فَوْقَ كُلِّ اعْتِبَارٍ دِينِيٍّ كَمَا يَلُوحُ؟

لَا أَرَىَ غَيْرَ جَوَابٍ وَاحِدٍ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الذِي أَسْأَلُ نَفْسِي بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ اسْتِقْلَالَنَا الفِكْرِيَّ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ الظَّوَاهِرِ بِالحَقِيقَةِ، وَإِنَّنَا لَسْنَا أَحْرَارَ الفِكْرِ فِي بَعْضِ المَوْضُوعَاتِ كَمَا نُرِيدُ.

فَالَمَرْءُ عِنْدَنَا ذُو شَخْصِيَّتَيْنِ: (الشَّخْصِيَّةُ العَصْرِيَّةِ) التِي كَوَّنَتْهَا الدِّرَاسَاتُ الخَاصَّةُ وَالبِيئَةُ الخُلُقِيَُّةُ والثَّقَافِيَّةُ، وَ (الشَّخْصِيَّةُ القَدِيْمَةُ) غَيْرَ الشَّاعِرَةِ التِي جَمَدَتْ وَتَحَجَّرَتْ بِفِعْلِ الأَجْدَادِ فَكَانَتْ خُلَاصَةً لِمَاضٍ طَوِيلٍ.

فَالشَّخْصِيَّةُ غَيْرِ الشَّاعِرَةِ وَحْدَهَا، وَوَحْدَهَا فَقَطْ، هِيَ التِي تَتَكَلَّمُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ وَتُمْسِكُ فِيهِمْ المُعْتَقَدَاتُ نَفْسَهَا مُسَمَّاةً بِأَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَتُمْلِي عَلَيْهِمْ آرَاءَهُمْ، فَيَلُوحُ مَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الآرَاءِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فَيُحْتَرَمَ.

فَالحَقُّ أَنَّ أَتْبَاعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ظَلُّوا أَشَدَّ مَنْ عَرَفَتْهُ أُورُوبَا مِنَ الأَعْدَاءِ إِرْهَابًا، عِدَّةَ قُرُونٍ، فَهُمْ عِنْدَمَا كَانُوا لَا يُرْعِدُونَنَا بِأَسْلِحَتِهِمْ كَمَا فِي زَمَنِ شَارْلْ مَارْتَلْ وَالحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ، أَوْ يُهَدِّدُونَ بَعْدَ فَتْحِ القُسْطَنْطِينِيَّةِ، كَانُوا يُذِلُّونَنَا بِأَفْضَلِيَّةِ حَضَارَتِهِمْ السَّاحِقَةِ، فَلَمْ نَتَحَرَّرْ مِنْ نُفُوذِهِمْ إِلَاّ بِالأَمْسِ.

لَقَدْ تَرَاكَمَتْ أَوْهَامُنَا المَوْرُوثَةُ ضِدَّ الإِسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ فِي قُرُونٍ كَثِيرَةٍ، فَصَارَتْ جُزْءًا مِنْ مِزَاجِنَا، فَأَضْحَتْ طَبِيعَةً مُتَأَصِّلَةً فِينَا تَأَصُّلَ حِقْدِ اليَهُودِ عَلَى النَّصَارَى، الخَفِيُّ أَحْيَانًا، وَالعَمِيقُ دَوْمًا.

فَإِذَا أَضَفْنَا إِلَى أَوْهَامِنَا المَوْرُوثَةَ ضِدَّ المُسْلِمِينَ، وَهَمَّنَا المَوْرُوثَ الذِي زَادَ مَعَ القُرُونِ بِفِعْلِ ثَقَافَتِنَا المَدْرَسِيَّةِ البَغِيضَةِ القَائِلَةِ:" إِنَّ اليُونَانَ وَاللَاتِينَ وَحْدَهُمْ مَنْبَعُ العُلُومِ وَالآدَابِ فِي الزَّمَنِ المَاضِي "، أَدْرَكْنَا - بِسُهُولَةٍ - سِرَّ جُحُودِنَا العَامِّ لِتَأْثِيرِ العَرَبِ العَظِيمِ فِي تَارِيْخِ حَضَارَةِ أُورُوبَا.

ص: 26

وَيَتَرَاءَىَ لِبَعْضِ الفُضَلَاءِ أَنَّ مِنَ العَارِ أَنْ يُفَكِّرُ فِي أُورُوبَا الْنَّصْرَانِيَّةِ مَدِيْنَةُ فِيْ خُرُوْجِهَا مِنْ دُوْرِ الْتَوَحُّشِ لِأُوْلَئِكَ الْكَافِرِيْنَ (أُيِّ المُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ الْغَرْبِيُّونَ يُلَقِبُّونَهُمْ) فَعَارٌ ظَاهِرٌ كَهَذَا، لَا يُقْبَلُ إِلَاّ بِصُعُوَبَةٍ».

ثم ذكر في هامش هذا الكلام مثلاً لالتقاء الأوهام الموروثة مع الثقافة في العالم الفاضل فيضطرب في حكمه على الأشياء، بالخطبة التي ألقاها مسيو «رِينَانْ» في «السوربون» عن الإسلام (1). فقد اضطرب فيها بين الاعتراف بفضل العرب في تقدم العلوم ستمائة سَنَةٍ، وبين زعمه بأن الإسلام اضطهد العلم والفلسفة وقضى على الروح في البلاد التي دانت له، وأمثلة من هذه المتناقضات في خطابه الذي ختمه «رينان» بقوله:«إِنَّنِي لَمْ أَدْخُلْ مَسْجِدًا مِنْ غَيْرِ أَنْ اهْتَزَّ خَاشِعًا أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنَ الحَسْرَةِ عَلَى أَنَّنِي لَسْتُ مُسْلِمًا» (2).

وأما «الحكايات» التي نقلها أَبُو رَيَّةَ من بعض كتب الأدب، فهي أغرب ما رأيناه في دعوى «التحقيق العلمي» .

إن «أَبَا رَيَّةَ» يرفض كل ما رواه أئمة الحديث المُتَثَبِّتُونَ وأئمة الفقه المجتهدون، من حقائق لا تعجبه، ثم يأتي إلى كتب لم تؤلف لتاريخ الرجال، ولم تصنف للتحقيق في سيرتهم وأحوالهم، وإنما ألفت لجمع النوادر والحكايات التي يتفكه بها الناس في مجالسهم، ويتزيدون بما شاءت لهم أهواؤهم وخيالاتهم. يأتي إلى هذه الكتب فيستخرج من «حكاياتها» الأدلة والشواهد لدعوى خطيرة تذهب بكيان السُنّةِ كلها إن صحت.

فهل هذا هو سبيل التحقيق العلمي إلا أن يكون على سُنَّةِ جولدتسيهر الذي يُكَذِّبُ ما جاء في " موطأ مالك "، ويؤيد ما جاء في " حياة الحيوان " للدميري؟!.

(1) وهي التي رَدَّ عليها في وقتها الإمام «محمد عبده» رحمه الله، رَدَّهُ المشهور.

(2)

" حضارة العرب "، ترجمة الأديب الكبير الأستاذ «عادل زعيتر» رحمه الله. ص 688 - 690 من الطبعة الثانية.

ص: 27

إن من المُسَلَّمِ به عند علمائنا «غَيْرَ المُحَقِّقِينَ» تحقيق «أَبِي رَيَّةَ» أن علم الحديث لا يؤخذ من كتب الفقه، وعلم التفسير لا يؤخذ من كتب اللغة، لأن كل علم له مصادره التي يعرف منها حقائقه وقضاياه.

ومن المُسَلَّمِ به في علم التاريخ الحديث أن حقائقه لا تؤخذ إلا من مصادر التاريخ الثابتة الموثوقة، فمن استمد وقائعه من مصادر غير موثوقة، لم يكن لبحثه أية قيمة علمية، ولا لمن يفعل ذلك مكان بين العلماء المحترمين.

فماذا نقول عن «أَبِي رَيَّةَ» الذي أخذ يخوض في موضوع خطير جد الخطورة ويهدم رجلاً له في تاريخ السُنّةِ خلال أربعة عشر قرناً، وعند مئات ألوف الملايين منذ عصر الصحابة حتى عصرنا هذا، مكانة مرموقة هي عنوان التقدير والثقة والاحترام!! ثم يعتمد «أَبُو رَيَّةَ» في بحثه الخطير هذا وفي هجومه الكبير كُتُباً، ككتاب " ثمار القلوب " للثعالبي و" مقامات " بديع الزمان الهمذاني وأسانيد تالفة في كتاب " الحِلْيَةِ " لأبي نعيم، وهو الكتاب الذي ألفه لرجال التصوف والزهد من رجال الإسلام، وفي سنده ما هو غير صحيح، وَلَمْ يَدَّعِ رحمه الله أنه ألفه ليكون مرجعاً في تاريخ الرجال، ومن قرأه وتتبع أسانيده، علم صحة ما نقول.

ماذا نقول عن صنيع «أَبِي رَيَّةَ» هذا؟ إن كان يعلم أن هذا صنيع غير المُحَقِّقِينَ، فقد وضع نفسه بينهم، وإن كان لا يعلم، فقد حكم بنفسه على قيمة تحقيقه «العلمي» الذي لم يقم به أحد من المُسْلِمِينَ منذ ألف سَنَةٍ!؟

تلك هي حقيقة المصادر التي خرج منها «أَبُو رَيَّةَ» برأيه الذي يخالف آراء جمهور العلماء وَالمُحَدِّثِينَ. وما عدا ذلك من المصادر الموثوقة التي ذكرناها في «ثبت» مراجعه فقد بَيَنَّا فيما سبق طريقته في تحريف النصوص وإيرادها في غير مواردها وتحميلها ما لم يرده قائلوها، وتلك براعة لا يحسد عليها، وخصلة لا يمدح فاعلها، وأقل ما يقال فيه: إنه «دَلَّسَ» عَلَى القُرَّاءِ. مَنْ دَلَّسَ ولو مرة واحدة لا يُقبل قوله كما زعم في نقله عن الشافعي رحمه الله.

ص: 28

أما رأيي في نتائج البحث الذي تضمنه كتابه، فإنها تتلخص فيما يلي:

(أَوَلاً) - إنه يذهب إلى أن السُنَّةَ لَمْ تُدَوَّنْ في عهد النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم وأنه يرى كما يرى جمهور العلماء، من أن سبب ذلك هو نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يتفق مع جمهور الباحثين قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

(ثَانِياً) - أنه يرى أن عدم تدوين السُنَّةِ في عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَدَّى إلى وجود الخلاف بين فِرَقِ المُسْلِمِينَ، كما أدى إلى الوضع والكذب في الحديث مِمَّا كان له أكبر الضرر في ضياع السُنَّةِ الحقيقية.

ويؤدي هذا إلى أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هو سبب هذه الأضرار في رأيه. ويلزم من هذا أن النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لو كانت له مثل هذه الفطنة التي وصل إليها «أَبُو رَيَّةَ» في تحقيقه «العلمي» لما نشأت هذه الأضرار!! ولا أدري إن كان «أَبُو رَيَّةَ» يرضى بهذه النتيجة الفجة! ولا أظن مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر وبرسوله صلى الله عليه وسلم يذهب به الغرور إلى هذا الحد.

ونحن نعتذر له بأن «لازم المذهب ليس بمذهب» كما قال علماؤنا رحمهم الله، وأنه لا يمكن أن تعتقد ما يلزم رأيه من تلك النتيجة القبيحة.

(ثَالِثاً) - إِنَّ السُنَّةَ الصحيحة - ولو كانت صحيحة بحسب مقياسه فحسب - ليست ديناً عَامًّا يُلْزَمُ المُسْلِمُونَ بِاتِّبَاعِهِ، وأن الدين العام هو ما جاء في القرآن، لأنه متواتر، وفي السُنَّةِ العَمَلِيَّةِ، لأنها من حيث العمل بها أصبحت متواترة.

وما عدا ذلك - وَهِيَ السُنَّةُ القَوْلِيَّةُ - فليس يلزم العمل بها، بل لكل إنسان أن يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، ذلك لأن تركها ليس بكفر، وما كان كذلك فكل مسلم في سَعَةٍ من العمل به أو هجره!!

وعدا ما في هذا الرأي الخطير من مخالفة صريحة لكتاب الله، ومن قضاء على التراث التشريعي الإسلامي كله، فإنه دعوة إلى فوضى في العقيدة والتشريع لا يقول بها رجل يحترم نفسه، ويحترم شريعته، ويحترم كيان أُمَّتِهِ الاجتماعي.

ص: 29

أما ما استند إليه في ذلك من كلام الإمام محمد عبده، وتلميذه السيد رشيد رضا - رَحِمَهُمَا اللهُ -، فلنا رأي لَا نُلْزِمُ به أحداً، ولا ينتقص من قدرهما وجهادهما في شيء.

أما الشيخ محمد عبده رحمه الله فلا شك أنه كان من أكبر رُوَّادِ الإصلاح في عصرنا الحديث، وأنه كان في عصره فيلسوف الإسلام ولسانه الناطق وعقله المفكر وسلاحه الذائد عن حماه كل عدو وكل مُفتَرٍ مِنَ الغَرْبِيِّينَ وخاصة المُسْتَعْمِرِينَ منهم، ونوره المشرق تجاه الجمود الذي ران على العالم الإسلامي من مئات السنين.

ولكنه - مع هذا - كان قليل البضاعة من الحديث، وكان يرى في الاعتماد على المنطق والبرهان العَقْلِيَيْنِ خير سلاح للدفاع عن الإسلام، ومن هذين العاملين، وقعت له آراء في السُنَّةِ وَرُوَّاتِهَا وفي العمل بالحديث والاعتداد به، ما صح أن يتخذه مثل «أَبِي رَيَّةَ» تكأة يتكئ عليها، ليخرج على المُسْلِمِينَ بمثل الآراء التي خرج بها.

أما السيد رشيد رضا رحمه الله فيظهر أنه كان أول أمره متأثراً بوجهة أستاذه الشيخ محمد عبده رحمه الله، وكان مثله في أول الأمر قليل البضاعة من الحديث قليل المعرفة بعلومه، ولكنه منذ استلم لواء الإصلاح بعد وفاة الإمام محمد عبده، وأخذ يخوض غمار الميادين الفقهية والحديثية وغيرهما وأصبح مرجع المُسْلِمِينَ في أنحاء العالم في كل ما يعرض لهم من مشكلات، كثرت بضاعته من الحديث وخبرته بعلومه حتى غدا آخر الآمر حَامِلَ لِوَاءِ السُنَّةِ، وأبرز أعلامها في مصر خاصة، نظراً لما كان عليه علماء الأزهر من إهمال لِكُتُبِ السُنّةِ وعلومها، وتبحرهم في المذاهب الفقهية والكلامية واللغوية وغيرها.

لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ رحمه الله في آخر حياته، وكنت أتردد على بيته، فأستفيد من علمه وفهمه للشريعة ودفاعه عن السُنَّةِ ما أجد من حق تاريخه عَلَيَّ أن أشهد بأنه كان من أشد العلماء أَخْذًا بِالسُنَّةِ (القَوْلِيَّةِ) وإنكاراً لما يخالفها في المذاهب الفقهية. وإني على ثقة بأنه لو كان حَيًّا حين أصدر «أَبُو رَيَّةَ» كتابه، لكان أول من يَرُدُّ عليه في أكثر من موضع في ذلك الكتاب.

ص: 30

(رَابِعاً) - إن الذين عنوا بالتشريع من أئمة الإسلام وفقهائه، لم يكونوا أهلاً لتمحيص السُنّةِ وبيان صحيحها من موضوعها، وإن الأدباء وعلماء الكلام من المعتزلة، هم أهل لذلك، وحسبنا أن نَحْكِي عنه رأيه هذا، التدليل على حقيقة غيرته عَلَى السُنَّةِ، وورعه في دين الله عز وجل.

(خَامِساً) - إن الصحابة والتَّابِعِينَ وفقهاء الإسلام وأئمة الحديث ثلاثة عشر قرناً كاملةً قد خدعوا بأبي هريرة رضي الله عنه، ولم يفطنوا إلى «تفاهة أمره» و «حقارة منبته» وجرأته في الكذب إرضاء للأمويِّين! إنهم لم يفطنوا لما فطن إليه «أَبُو رَيَّةَ» فيا لسوء حظ المُسْلِمِينَ الذين حرموا من رأي «أَبِي رَيَّةَ» الصائب وبصيرته النافذة خلال هذه القرون كلها!

ويا لسوء حظ الإسلام، إذ رزق خلال هذه العصور أئمة وعلماء بُلْهاً مُغَفَّلِينَ يعتمدون في كتبهم وفقههم واجتهادهم على رجل «حقير، أكول، كَذَّابٍ، كل همه جمع المال وأكل الطعام!

» كما يصفه اليوم أَبُو رَيَّةَ.

(سَادِساً) - إِنَّ السُنَّةَ بما دخلها من الوضع، وبما أدرجه رُواة السُنّة الموثوقون من كلامهم في فن الحديث، وما لحق الحديث من «شذوذ» و «اضطراب» و «رواية بالمعنى» وغير ذلك جَعَلَ السُنَّةَ كلها في موضع الشك والريبة فيها وفي مُدَوَّنَاتِهَا الصحيحة، بحيث لم تعد محلاً للثقة والاعتماد. هذه من النتائج التي يخرج بها قارئ كتابه مِمَّنْ لا علم له بِالسُنَّةِ وعلومها، وهذا هو ما سعى ويسعى إليه المُسْتَشْرِقُونَ المُتَعَصِّبُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، ثم يزعم مع ذلك «أَبُو رَيَّةَ» أنه إنما أَلَّفَ كتابه «للدفاع عَنْ السُنَّةِ القولية وحياطتها مِمَّا يشوبها» لا يبتغي إلا وجه الله وابتغاء مرضاته!! ولم أكن أدري من قبل، أن دعم الشيء يكون بالتشكيك فيه، وخدمة الشريعة بالالتقاء مع أعدائها والساعين إلى هدمها! وفوق كل ذي علم عليم، وإنا لله وإنا إليه راجعون

(سَابِعاً) - أنه شكك في كل الأحاديث والآثار الصحيحة التي تَحَدَّثَتْ عن أشياء موجودة في الكتب بين أيدينا لليهود والنصارى، وأن ذلك دليل على اليد اليهودية أو المسيحية في الدَسِّ على الحديث.

أما ما جاء في الآثار والأحاديث من نقول عن التوراة، لا نجدها الآن في

ص: 31

التوراة، فذلك دليل على كذب تلك الأحاديث!

وهذا - لعمري - موقف متناقض لا يصير إليه عالم «محقق» .

إن الله تعالى نص على حقيقتين وَاضِحتَيْنِ بالنسبة إلى التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء السابقين:

الأولى - أن الله أنزلها على الأنبياء، ومبادؤها واحدة في جميع الديانات.

الثانية - أن أتباع هذه الديانات بَدَّلُوهَا وَحَرَّفُوهَا {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (1).

فسبيل المؤمن العالم إذا رُوِيَ له حديث صح سنده أن يعرضه على كتاب الله فإن توافق معه اطمأن قلبه إليه واعتقده، وإن خالفه - وهذا ما لا وجود له في الأحاديث الصحيحة قطعاً - جاز له رَدُّهُ مهما كانت الثقة برجاله.

وعلى هذا الهَدْيِ سار علماؤنا رحمهم الله منذ الصحابة حتى من بعدهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقواعد الدين، وَرَدُّوا كل ما يخالف ذلك.

ولكن «أَبَا رَيَّةَ» اتخذ مبدءاً آخر، وهو أن كل حديث عن التوراة والإنجيل هو مدسوس على الإسلام من قبل اليهود أو النصارى.

وعلى هذا كَذَّبَ ما رواه أبو هريرة وغيره عن كعب من أن التوراة نَصَّتْ على اسم الرسول صلى الله عليه وسلم واتهم في ذلك مسلمي اليهود من أسلم منهم في عصر الرسول، ومن أسلم بعده.

ولا أدري كيف ساغ له مثل هذا القول وهو العالم «المُحَقِّقُ» ! مع أن القرآن الكريم نص على هذا في أكثر من آية.

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (2).

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (3).

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ

(1)[سورة المائدة، الآية: 13].

(2)

[سورة الأعراف، الآية: 157].

(3)

[سورة الصف، الآية: 6].

ص: 32

بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (1).

فهذه آيات من كتاب الله صريحة في الدلالة على أن اسم الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء ذكره صراحة في التوراة والإنجيل، وجاء ذكره وذكر صحابته عن طريق التشبيه والتمثيل في التوراة والإنجيل أيضاً.

فأية غرابة وأية مناقضة، وأي شيء فيه يستنكره عقل المسلم إذا روى أهل الكتاب مِمَّنْ أسلموا أن اسم النَّبِيِّ أو وصف صحابته أو بعضهم مكتوب في التوراة؟

وإذا كان ما روي عنهم لا نجده الآن في التوراة والإنجيل المعترف بهما لدى اليهود والنصارى في عصرنا هذا، فهل يكون ذلك دليلاً على كذب تلك الأخبار، أم يكون نَاشِئًا مِمَّا أخبر الله عنهم أنهم حَرَّفُوا هذه الكتب وَبَدَّلُوهَا؟

وَأَيًّا كان فـ «أَبُو رَيَّةَ» بين أمرين: إما أن يعترف بِصِحَّتِِهِمَا فَيُكَذِّبَ كل ما جاء من الأخبار مِمَّا لا يجده اليوم فيهما، وإما أن يعترف بتبديلهما فيعترف بما صح من تلك الأخبار ولو لم نجدها فيهما.

أما أن يقول: إن ما جاء في تلك الأخبار متفقاً مع ما في التوراة والإنجيل فذلك دليل على أن واضعيها يهوداً أو نصارى، وما جاء في تلك الأخبار مِمَّا لا وجود له فيهما فذلك دليل على كذب تلك الأخبار لأنا لا نجدها فيهما، فهذا هو التناقض، والتحكم بالهوى، والمجازفة لا «التحقيق» .

(ثَامِناً) - إنه - بعد كل ما انتقده على السلف في تقصيرهم في تمحيص الحديث، وضع لنا قاعدة لتلافي ذلك التقصير أو تلك «الغفلة» وهي عرض الحديث على «العقل الصريح» فما وافقه قَبِلَهُ، وإلا فلا.

وحكاية عرض الحديث على «العقل» حكاية قديمة نادى بها المعتزلة وَطَبَّقَهَا فِعْلاً، فرفض كل حديث لا يرتضيه «عقله» .

ونادى المُسْتَشْرِقُونَ حَدِيثًا، وتابعهم فيها الأستاذ أحمد أمين رحمه الله. وضرب لذلك أمثلة من الأحاديث الصحيحة وهي في رأيه - «غير مقبولة للعقل» .

(1)[سورة الفتح، الآية: 29].

ص: 33

وناقشناه في هذه الدعوى وفي الأمثلة التي ذكرها وأفردنا لمناقشته فصلاً خَاصًّاً في هذا الكتاب.

وينادي بها اليوم الأستاذ «أَبُو رَيَّةَ» ويجعلها هي الأساس فيما ينبغي أَنْ يُقْبَلَ أَوْ يُرَدَّ من الأحاديث، ويقول:«إن علماءنا الأقدمين لو علموا بها لَنَقَّوْا السُنّةَ من كثير مِمَّا علق بها» .

وهذه الدعوة تبدو مقبولة لدى كثير من «المُثَقَّفِينَ» الذين يهتم بهم كثيراً «أَبُو رَيَّةَ» ولكنها - عند التدقيق - لا تعني شيئاً ولا تنتج شيئاً في علوم الشريعة، بل لا تنتج إلا الفوضى في قبول الأحاديث ورفضها.

ما هو العقل الصريح الذي يريده «أَبُو رَيَّةَ» ؟ وما حدوده، وما مدى الاتفاق عليه؟

لئن كان يريد من العقل الصريح ما يقبله العقل من بدهيات الأمور، فهذا أمر واقع في تاريخ السُنّةِ، فقد وضع أئمة النقد من علماء الحديث علامات لمعرفة الحديث الموضوع، منها:«أن يكون متنه مخالفاً لبداهة العقول وللمقطوع به من الدين أو التاريخ أو الطب أو غير ذلك» وعلى هذا نفوا آلافاً من الأحاديث وحكموا عليها بالوضع.

ولئن كان يريد غير هذا مِمَّا يستغربه «العقل» ، فإن «استغراب» العقل شيئاً أمر نسبي يتبع الثقافة والبيئة وغير ذلك مِمَّا لا يضبطه ضابط ولا يحدده مقياس. وكثيراً ما يكون الشيء مستغرباً عند إنسان، طبيعياً عند إنسان آخر ولا يزال الذين سمعوا بالسيارة في بلادنا، واستغربوها قبل أن يروها، لأنها تسير من غير خيول تقودها، في حين كانت عند الغَرْبِيِّينَ أمراً مألوفاً عادياً. والبدوي في الصحراء كان «يستغرب» ما يقولونه عن المذياع «الراديو» في المدن، وَيَعُدُّهُ كذبة من أكاذيب الحَضَرِيِّينَ. فلما سمع الراديو لأول مرة ظن أن «الشيطان» هو الذي يتكلم فيه، كما يظن الطفل أن الذي يتكلم إنسان ثَاوٍ فيه.

ومن المقرر في الإسلام أنه ليس فيه «ما يرفضه» العقل ويحكم باستحالته، ولكن فيه - كما في كل دين سماوي - أمور قد «يستغربها» العقل ولا يستطيع أن يتصورها، كأمور النُبُوَّاتِ وَالحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ. وشأن المسلم إذا

ص: 34

سمع خبراً ما، أن يرفض ما يرفضه العقل، ويتأنى فيما «يستغربه» حتى يتيقن من صدقه أو كذبه.

وطريق التيقن (أو العلم) في الإسلام أحد أمور ثلاثة:

1 -

إما الخبر الصادق الذي يتيقن السامع من صِدْقِ مُخْبِرِهِ، كأخبار الله في كتبه وأخبار الأنبياء.

2 -

وإما التجربة والمشاهدة بعد التأكد من سلامة التجربة فيما يقع تحت التجربة والاختبار.

3 -

وإما حكم العقل فيما ليس فيه خبر صحيح ولا تجربة مشاهدة.

ومن إعجاز القرآن أنه وضع هذه القواعد الثلاثة لتحقق «العلم» أو اليقين، في هذه الآية الكريمة:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1).

ومن تمام الإعجاز في هذه الآية أنها جاءت مرتبة هكذا: الخبر الصادق (السمع) ثم التجربة (البصر) ثم المحاكمة العقلية (الفؤاد) على أنها هي (العناصر) الثلاثة التي ينشأ عنها كل علم، ولن تجد في الحياة «علماً» لا ينشأ من عنصر هذه العناصر.

والقرآن يعتبر أن ما يقوم على غير هذه العناصر، لا يسمى «علماً» بل هو إما الظن «غلبة احتمال الشيء» ، وإما الوهم والخيال.

ونصوص الشريعة، ما كان منها من أصول العقيدة فلا بد فيها من العلم وهو «التَيَقُّنُ الجَازِمُ المُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ عَنْ دَلِيلٍ» كالإيمان بالله وصفاته، والنبوات والأنبياء، والملائكة، والجنة والنار.

وما كان منها، من فروع الشريعة (الأحكام العملية) فيكفي فيها الظن، لأن اشتراط العلم فيها غير متحقق في كثير منها، وهذا مُسَلَّمٌ به لدى الدارسين للشريعة وعلومها.

والأحاديث التي صَحَّحَهَا علماؤنا رحمهم الله ليس فيها ما يرفضه العقل أو يحيله لأنها إما أن تتعلق بأمور العقيدة، وهذه يجب أن تتفق مع القرآن، وقد قلنا بأننا نقطع أن ليس في القرآن شيء يحكم العقل بفساده أو بطلانه أو استحالته،

(1)[سورة الإسراء، الآية: 36].

ص: 35

وإما أن تتعلق بالأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وآداب وغيرها، وليس في حديث من هذه الأحاديث التي صَحَّحَهَا علماؤنا ما يرفضه العقل أو يحكم باستحالته، وإما أن تكون أخباراً عن الأمم الماضية أو أخباراً عن عالم الغيب مِمَّا لا يقع تحت النظر كشؤون السماوات والحشر والجنة والنار، وهذه ليس فيها ما يحكم العقل ببطلانه، وقد يكون فيها ما لا يدركه العقل فيستغربه.

فإذا جاءت عن طريق ثابت يفيد القطع فيجب اعتقادها، وإن جاءت عن طريق يفيد غلبة الظن فليس من شأن المسلم أن يبادر إلى تكذيبها.

وبهذا نرى أن فريقاً كبيراً من الناس لا يفرقون بين ما يرفضه العقل، وبين ما يستغربه، فَيُسَاوُونَ بينهما في سرعة الإنكار والتكذيب، مع أن حكم العقل فيما يرفضه، ناشئ من استحالته، وحكم العقل فيما يستغربه، ناشئ من «عَدَمِ القُدْرَةِ عَلَى تَصَوُّرِهِ» وفرق كبير بين ما يستحيل وبين ما لا يدرك.

على أننا نرى من الاستقراء التاريخي، وتتبع التطور العلمي والفكري، أن كثيراً مِمَّا كان غامضا على العقول أصبح مفهوماً واضحاً، بل إن كثيراً مِمَّا كان يعتبر حقيقة من الحقائق أصبح خرافة من الخرافات، وما كان مستحيلاً بالأمس أصبح اليوم واقعاً. ولا تحوجنا الأمثلة لذلك، فنحن نعيش في عصر استطاع فيه الإنسان أن يكتشف القمر بصواريخه. وهو الآن يستعد للنزول فيه (1) وفي غيره من الكواكب، ولو أن إنساناً فكر في مثل هذا في القرون الوسطى أو منذ مائة سَنَةٍ لَعُدَّ من المجانين.

والذين ينادون بتحكيم العقل في صحة الحديث أو كذبه، لا نراهم يُفَرِّقُونَ بين المُسْتَحِيلِ، وبين «المُسْتَغْرَبِ» فيبادرون إلى تكذيب كل ما يبدو غريباً في عقولهم. وهذا تهور طائش ناتج من اغترارهم بعقولهم من جهة، ومن اغترارهم بسلطان العقل، ومدى صحة حكمه فيما لا يقع تحت سلطانه من جهة أخرى.

ونحن نرى أن أكثر ما يستندون إليه في تكذيب ما صَحَّحَهُ الجمهور، إنما هي أحاديث تتعلق، إما بأخبار الأمم الماضية، وإما بالأمور الغيبية.

(1) وقد تحقق ذلك بعد وفاة المؤلف رحمه الله.

ص: 36

وخذ لذلك مثلا مِمَّا ذكره «أَبُو رَيَّةَ» ، نموذجاً لبعض ما رواه أبو هريرة ليؤكد دعواه كذب أبي هريرة في الحديث، ونسبته ما أخذه من الإسرائيليات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أخرج " مسلم " عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ» .

هذا ما استغربه، بل مِمَّا ادَّعَى «ضمناً» كذبه، لأنه من رواية أبي هريرة عن الرسول، وقد كان أبو هريرة - في زعمه - ينسب ما سمعه من كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولك أن تسأل أَبَا رَيَّةَ: ما وجه الغرابة في هذا الحديث؟ ألأنه ذكر أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سَنَةٍ؟ أليست الجنة من أمور الغيب؟ هل استطاع أن يعرف ما فيها، إلا مِمَّا عَرَّفَنَا اللهُ وَرَسُولُه ُإِيَّاهُ؟ أليس في عالم الشهادة ما استطاع العلم أن يكشف من عظمته، واتساعه ما لا يكاد يتصوره العقل؟ ألَا يُحَدِّثُنَا علماء الفلك الآن عن كبر حجم الشمس بالنسبة إلى أرضنا أكثر من مليون مَرَّةٍ، والشمس إحدى ملايين الشموس التي تكبر شمسنا هذه بملايين المرات؟ ألَا يُحَدِّثُنَا هؤلاء العلماء عن شموس في هذا الفضاء الرحيب، لم يصل إلى الأرض نورها حتى الآن منذ مليون أو أكثر من السنوات الضوئية؟ أَيُصَدِّقُ العقل مثل هذه الأمور العلمية التي يكشف عنها العلماء في هذا العصر، لولا أنها مِمَّا يذيعه أولئك العلماء؟ فيا عجباً كيف يُصَدِّقُ «أَبُو رَيَّةَ» أن يعرف العلماء سَعَةَ هذا الكون العجيب إلى حد لا يصل إليه خيال أكبر عقل إنساني على وجه الأرض؟ ثم هو لا يُصَدِّقُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم المتصل بوحي السماء، المُسْتَمِدُّ عِلْمَهُ مِنْ عِلْمِ اللهِ خالق هذا الكون العجيب - يقول:«إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ» ؟.

وما هي هذه السنون المائة بجانب هذه الملايين من السنين الضوئية؟!

ليست المشكلة مع «أَبِي رَيَّةَ» وأضرابه مشكلة استعمال العقل أو تركه، ولا هي مشكلة تأليه العقل المخلوق، أو عبوديته للخالق؟ إن هؤلاء «الأحرار» ، «العباقرة» في الشريعة يريدون أن «يُؤَلِّهُوا» عقولهم معها، وَيَتَخَلَّوْا عن عقولهم مع غيرها؟

ص: 37

وخذ لذلك مثلاً آخر مِمَّا أنكره على أبي هريرة، وقد رواه " البخاري "، و" مسلم ":«تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَاّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ: فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ» (1).

ونحن لا ندري ما وجه الاستنكار لهذا الحديث؟

إن كان وجه الإنكار، هو أن الله يضع «رِجْلَهُ» ففي القرآن جاء إثبات اليد، والوجه، والعين، والمجيء وغير ذلك للهِ تعالى، ومذاهب العلماء معروفة في مثل هذه الألفاظ، فالسلف يقولون بها من غير تأويل مع تنزيه اللهِ عن مشابهته للبشر في شيء ما، والخلف يذهبون إلى تأويل اليد بالقدرة مثلا، تمشياً مع مبدأ تنزيه الله عن مشابهة البشر، وهو المبدأ الذي يُسَلِّمُ به الجميع. فما يقال في القرآن يقال مثله في الحديث.

وإن كان الاستنكار لِتَكَلُّمِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فقد جاء في القرآن أن الله قال للسماوات والأرض:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (2).

وإن كان وجه الإنكار، أو «الاستغراب» أن يأتي اللهُ إلى النار، فإن القرآن أثبت المجيء، يوم القيامة بقوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (3).

وفي القرآن الكريم أيضاً: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (4).

وبالجملة، فإن تحكيم العقل في مسألة الألوهية، وصفاتها من سخافة العقل نفسه، ولا تُؤَدِّي عند هؤلاء المغترين بعقولهم، إلا إلى الإلحاد غالباً، فَخَيْرٌ للعقل أن يُفَكِّرَ فيما يستطيع التفكير فيه، وإذا كان العقل لا يزال عاجزاً عن معرفة سِرِّ

(1) أخرجه " البخاري ": 8/ 122 بشرح ابن حجر، و" مسلم ": 17/ 180 بشرح النووي.

(2)

[سورة فصلت، الآية: 11].

(3)

[سورة الفجر، الآية: 22].

(4)

[سورة ق، الآية: 30].

ص: 38

الحياة في الإنسان نفسه، وعن الإحاطة بجزء كحبة الرمل من صحراء هذا الكون العجيب، فكيف يستطيع أن يعلم حقيقة خالق هذا الكون كله؟ أترى تستطيع النملة التي تدب في سفح جبال هملايا أن تحيط بارتفاع هذه الجبال وسعتها وقطرها؟ رضي الله عن الشاعر أحمد الصافي النجفي، حين يقول فيما سمعته منه:

يَعْتَرِضُ العَقْلُ عَلَى خَاِلٍق *

*

* مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ العَقْلُ

وللنظر إلى المسألة من ناحية أخرى:

لنفرض أن تحكيم العقل في الأحاديث هو الصواب، فنحن نسأل: أي عقل هذا الذي تريدون أن تُحَكِّمُوهُ؟

أعقل الفلاسفة؟ إنهم مختلفون، وما من متأخر منهم إلا وهو ينقض قول من سبقه.

أعقل الأدباء؟ إنه ليس من شأنهم، فإن عنايتهم - عَفَا اللهُ عَنْهُمْ - بالنوادر والحكايات.

أعقل علماء الطب، أو الهندسة، أو الرياضيات؟ ما لهم ولهذا؟

أعقل المُحَدِّثِينَ؟ إنه لم يعجبكم، بل إنكم تتهمونهم بالغباوة والبساطة.

أعقل الفقهاء؟؟ إنهم مذاهب متعددة، وعقليتهم - في رأيكم - كعقلية المُحَدِّثِينَ.

أعقل المُلْحِدِينَ؟ إنهم يريدون أَنَّ إيمانكم بوجود الله، جهل منكم وخرافة.

أعقل المؤمنين بوجود الله؟ تعالوا نَرَ طوائفهم:

إن منهم: من يرى أن الله يحل في إنسان فيصبح إلهاً!

ومنهم: من يرى أن روح الله تتقمص في جسد، فيكون إلهاً!

ومنهم: من يرى أن الله ومخلوقاته في وحدة كاملة!

ومنهم: من يرى أن الله ذو ثلاثة أقانيم في ذات واحدة!

ومنهم: من يرى البقر والفأر والقرد يجب أن يتوجه إليها بالعبادة!

ستقولون: إننا نريد تحكيم عقل المؤمنين بإله واحد في دين الإسلام.

فنحن نسألكم: عقل أي مذهب من مذاهبهم ترتضون؟

ص: 39

أعقل أهل السُنَّة والجماعة؟ هذا لا يُرْضِي الشِيعَةَ، ولا المعتزلة.

أم عقل الشِيعَةِ؟ هذا لا يرضي أَهْلَ السُنَّةِ، ولا الخوارج.

أم عقل المعتزلة؟ إنه لا يرضى جمهور طوائف المُسْلِمِينَ!

فأي عقل ترتضون؟

سيقول أَبُو رَيَّةَ: «إنني أرتضي عقل المعتزلة، لأنهم أصحاب العقول الصريحة» ونحن سنعرض على أَبِي رَيَّةَ مثالاً لما رفضه عقل المعتزلة من حديث:

يحكي ابن قتيبة في كتابه " تأويل مختلف الحديث " أن مِمَّا رَدَّهُ المعتزلة حديث «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِأَصْوَاعَ مِنْ شَعِيرٍ» فقد قالوا فيه بأنه حديث يُكَذِّبُهُ النظر (1)(أي النظر العقلي) ثم شرح ابن قتيبة رأيهم هذا بما تستطيع الرد عليه بأيسر الرد وأقربه إلى العقل والنظر

فما رأي «أَبِي رَيَّةَ» وأضرابه في إنكار عقل المعتزلة لمثل هذا الحديث؟ على أن ابن قتيبة تتبع كل ما أنكرته عقولهم من الأحاديث، وأجاب عنها بأجوبة حَالَفَهُ التوفيق في أكثرها. وللأحاديث التي نرى أنه لم يوفق في الإجابة عنها أجوبة للعلماء مقبولة معقولة، وإني سأضرب للقارئ مثلاً عن هذا النقاش الذي دار بين عقل ابن قتيبة «المُحَدِّثِ» وبين عقل فلان «المُعْتَزِلِي» .

قال ابن قتيبة:

قالوا (أي المعتزلة): حديث يفسد أوله آخره، رويتم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إَذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثًلاًثًا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» قالوا: وهذا الحديث جائز لولا قوله: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وما مِنَّا مِنْ أحد إلا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه وحيث باتت رجله وأذنه وأنفه وسائر أعضائه، وأشد الأمور أن يكون مَسَّ بها فرجه في نومه، ولو أن رجلا مَسَّ فرجه في يقظته، لَمَا نقض ذلك من

(1) ص 176.

ص: 40

طهارته، فكيف بأن يمسه وهو لا يعلم. والله لا يؤاخذ الناس بما لا يعلمون، فإن النائم قد يهجر (أَيْ يَهْذِي) في نومه فَيُطَلِّقُ وَيَكْفُرُ وَيَفْتَرِي، ثم لا يكون بشيء من ذلك مُؤَاخَذًا في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة.

فأجاب ابن قتيبة بقوله: «ونحن نقول: إن هذا النظار علم شيئاً وغابت عنه أشياء، أما علم أن كثيراً من أهل الفقه قد ذهبوا إلى أن الوضوء يجب من مس الفرج في المنام وفي اليقظة بهذا الحديث وبالحديث الآخر " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " وإن كنا نحن لا نذهب إلى ذلك، ونرى أن الوضوء الذي أُمِرَ به من مَسَّ فرجه، غسل اليد، لأن الفروج مخارج الحدث والنجاسات. إلى أن يقول: فإذا كان الوضوء من مَسَّ الفرج هو غسل اليدين تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المستيقظ من منامه أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء لأنه لا يدري أين باتت يده، يقول: لعله في منامه مَسَّ بها فرجه أو دبره .. وليس يؤمن أن يصيب يده شيء من النجاسات .. وخص النائم بهذا، لأن النائم قد تقع يده على هذه المواضع وهو لا يشعر، فأما اليقظان فإنه إذا لمس شيئاً من هذه المواضع فأصاب يده منه أذى علم به ولم يذهب عليه فيغسلها قبل أن يدخلها في الإناء أو يأكل أو يصافح» . اهـ. (1).

هذا مثل العقل المعتزلي «الصريح» وعقل المُحَدِّثِ «الضعيف» .

وأزيد على ذلك أن مبادئ الصحة العامة تجعل عقل الطبيب في هذه المسألة يُؤَيِّدُ عقل المُحَدِّثِ، لا عقل المعتزلي.

وقصارى القول أن أئمة الحديث وفقهاء المُسْلِمِينَ لم يلغوا عقولهم عند تصحيح الأحاديث، وإنما أوقفوها عند الحد الذي يجب أن تقف عنده بحكم الشرع، وبحكم العقلاء غير «المغرورين» بعقولهم.

(1) ص 160 - 162 باختصار بسيط. ويلحظ أيضاً أن كلام المعتزلة في هذا الحديث يفيد أنهم فهموا أنه يوجب اعتبار يد النائم نجسة، وهذا سوء فهم منهم، فالأمر النبوي بغسلها ليس لنجاستها، بل للنظافة احتياطا ضد القذارة التي يحتمل أن تلحق النائم بلمسها أو حَكِّهَا بعض أماكن قذرة من بدنه، ولا يحتمل مثل ذلك في بقية أعضاء بدنه كالأذن والأنف والعين مِمَّا ليس أداة للمس والحك كاليد. فليتأمل في هذه (العقول الصريحة) التي لا تميز بين اليد والأنف والعين في هذا الشأن!!.

ص: 41

وأخيراً أذكر رأيي في المؤلف نفسه (أَبِي رَيَّةَ)، والله يعلم أني لا أريد أن أغمطه حقه.

أَوَلاً: إنني أحاول أن أصدق المؤلف فيما ادعاه في مقدمة كتابه وفي آخره من أنه عُنِيَ بهذه الأبحاث دفاعاً عن سُنَّةِ الرسول وعن سمعة الدين من تشويه الكَذَّابِينَ وغيرهم. إذ لا يجوز لي أن أتحكم في نيته وغرضه وأن أكذبه فيما ادَّعَى من حسن النية، ولكنه في رأيي كانت له مع هذه النية «رغبات نفسية» فأخذ في البحث على هُدَى هذه الرغبات، ولو تخلى عنها وَتَجَرَّدَ منها، لأداه بحثه المجرد إلى غير ما انتهى إليه.

ثَانِياً: إنه ذكر ما عاناه في سبيل بحثه من تتبع للكتب وتنقيب عن الأخبار خلال سنين طويلة، ولا شك أن جهد العالم في البحث والتنقيب يستحق الشكر والأجر، ولكنه بجانب هذا أنكر جهود جميع علماء السُنَّةِ من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا هذا، أنكره من حيث نعى عليهم تقصيرهم في تمحيص الأحاديث، وغفلتهم عن تحكيم «العقل» في النقد، ومن حيث اعتبر جهودهم في معرفة المُدْرَجِ فِي الحَدِيثِ، وَالمُضْطَرِبِ، وَالشَاذِّ، وَالمُعَلَّلِ، وغير ذلك مِمَّا هو من مفاخر اليقظة العلمية في ميادين العلم، لقد اعتبر ذلك كله مَدْعَاةً للشك في الحديث بدل أن يكون مَدْعَاةً للثقة به، وإن في إنكاره لجهود هؤلاء العلماء خلال ثلاثة عشر قرناً أو تزيد - وهي الجهود التي لا مثيل له ولا لِعُشْرِ معشارها لدى أُمَّةٍ من الأمم - مَدْعَاةً للعبرة والعظة، فإذا كان جهد أَبِي رَيَّةَ في بعض سنوات، وهو في بلده يقلب صحائف الكتب، ثم تعبه في «تبويب كتيبه الصغير» إذا كان هذا جهد مِمَّا يستحق أن يَمُنَّ به على العلم وَالمُثَقَّفِينَ وَالمُعْتَنِينَ بالدراسات الدينية. أن يرجو من الله أجره وثوابه، فهل يعد هذا شيئا بجانب جهود أولئك العلماء الذين كان أحدهم يمشي آلاف الأميال على قدميه، ويطوف بأقطار العالم الإسلامي عشرات السنين، ويسهر الليالي على ضوء الشمعة والقنديل؟ هذا مع أنهم لَمْ يَمُنُّوا بجهودهم تلك على المُسْلِمِينَ وإنما كانوا يرجون رضى الله وحده، أفيكون من عرفان جميلهم أن يأتي مثل أَبِي رَيَّةَ فَيَتَّهِمَهُمْ بالتقصير لأنهم كان يجب عليهم أن يُؤَلِّفُوا مثل كتابه منذ ألف سَنَةٍ؟ .. إن كان قَارِئٌ لكتابه يستطيع أن يجيب على هذا السؤال.

ص: 42

ثَالِثاً: إنه أطرى كتابه بقوله: «وهذه الدراسة الجامعة التي قامت على قواعد التحقيق العلمي، هي الأولى في موضوعها. لم ينسج أحد من قبل على منوالها .. » وقوله: «وبخاصة لأن هذا المُصَنَّفَ لم يكن له من قبل مثال نحتذيه، ولا طريق عَبَّدَهُ لنا أحد مِمَّنْ سبقنا فنتبعه ونسير عليه» . وقد كان يجب أن يؤلف مثله منذ ألف سَنَةٍ.

ونحن نعلم أن من أبرز صفات العالم تواضعه، ومن أبغض صفاته عند الله وعند الناس تفاخره بعلمه وجهوده، ومن قواعد شريعتنا أن تفاخر الإنسان بعمله يحبط أجره، ومن أخلاق علمائنا أن يعترفوا في مقدمة كتبهم باحتمال الخطأ والزلل، وأن يطلبوا مِمَّنْ يَطَّلِعُ على خطأ في كتبهم أن يصلحها ويستغفر لمؤلفها، ولا أريد أن أتحدث عن مغزى إطراء المؤلف لكتابه من الناحية النفسية. فهو - على ما يظهر - عليم بالتحليل النفسي أيضاً،! ولكني أذكر هنا كلمة لابن عطاء الله السكندري رحمه الله:«لأَنْ تَصْحَبَ جَاهِلاً لَا يَرْضَىَ عَنْ نَفْسِهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ عَالِمًا يَرْضَىَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَيُّ عِلْمٍ لِعَالِمٍ يَرْضَىَ عَنِ نَفْسِهِ؟ وَأَيُّ جَهْلٍ لِجَاهِلٍ لَا يَرْضَىَ عَنِ نَفْسِهِ؟» .

رَابِعاً: إنه كان قاسياً مع من يظن أنهم سَيَتَوَلَّوْنَ الرَدَّ عليه، فقال في حقّهم:«وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته مِمَّنْ تعفَّنت أفكارهم وتحجرت عقولهم» وقال في آخر كتابه بعد أن تفاخر بجهوده في هذا الكتاب: «وأن تضيق به صدور الحشوية وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار، الذين يخشون على علمهم المُزَوَّرِ من سطوة الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يستأكلون بها أموال الناس أن يكشفهم نور العلم الصحيح، ويهتك سترهم ضوء الحُجَّةِ البالغة، فهذا لا يهمنا، إذ ليس لمثل هؤلاء خطر عندنا ولا وزن في حسابنا» .

وسيمر بك في تَعَقُّبِنَا إياه على ما كتبه عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، أنه وصفه بألفاظ نابية بذيئة يترفع عنها السوقة، ولم يقل في حقه مثلها المُسْتَشْرِقُونَ من اليهود والنصارى!!

ولا أدري إن كان من قواعد التحقيق العلمي التي لم ينسج أحد من قبل على منوالها أن يكون مُدَّعِي العلم قليل الأدب بذيء الكلام، شنيع التهجم على

ص: 43

من يتصدى لتاريخهم أو على من قد يتصدون للرد عليه في المستقبل؟ ولكن الذي أدريه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحَيَاءُ مِنْ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَالبَذَاءُ مِنْ الجَفَاءِ وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ» ولا أدري إن كان «أَبُو رَيَّةَ» يطعن في هذا الحديث لأنه مِمَّا رواه أبو هريرة رضي الله عنه، فإليه حَدِيثًا آخر يرويه زيد بن طلحة بن ركانة عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلامِ الحَيَاءُ» وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

أما بعد، فهذا تعليق إجمالي على كتاب «أَبِي رَيَّةَ» ، وكنت أَوَدُّ لو أتمكن من التعليق التفصيلي على هذا الكتاب، ولكن حالتي الصحية التي اشتدت - خاصة - عند كتابة هذه المقدمة، جعلتني أعدل عن ذلك، اكتفاءًا بما ذكرته من الحقائق الثابتة عند أهل العلم، في تاريخ السُنَّةِ وتدوينها وهي رَدٌّ واضح على ما جاء في كتاب أَبِي رَيَّةَ من الأباطيل، واكتفاء بما صدر من رد بعض العلماء الأفاضل على هذا الكتاب (1).

والله أسأل أن يهدينا للحق ويثبتنا عليه، وأن يجنبنا الزلل والخطأ، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً.

مصطفى حسني السباعي

رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق

وأستاذ الأحوال الشخصية في كليتي الشريعة والحقوق

دمشق: 15 من شعبان 1379 هـ / 12 من شباط 1960 م

(1) صدر في الرد عليه كتابان أحدهما " ظُلُمُاتُ أَبِي رَيَّةَ أَمَامَ أَضْوَاء عَلَى السُنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ " لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، وهو كتاب قَيِّمٌ وإنْ كُنْتُ أتمنى أن لو أنه خَلَا من الألفاظ القاسية، و (الثاني) - " الأَنْوَارُ الكَاشِفَةُ لِمَا فِي كِتَابِ أَضْوَاء عَلَى السُنَّةِ، مِنَ الزَّلَلِ وَالتَضْلِيلِ وَالمُجَازَفَةِ " للعالم المُحَقِّقِ الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المُعَلَّمِي اليماني. وقد اطلعت عليهما منذ شهور تقريباً فجزاهما خيراً.

ص: 44