الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعلماء الحديث إنما بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الهادي الذي أخبر اللهُ عنه أنه أُسْوَةٌ لنا وقدوة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة وَخُلُقٍ وشمائل وأخبار وأقوال وأفعال، سواء أَثْبَتَ ذلك حُكْمًا شَرْعِيَّا أم لا.
وعلماء الأصول إنما بحثوا عن رسول اللهِ المُشَرِّعِ الذي يضع القواعد لِلْمُجْتَهِدِينَ من بعده: وَيُبَيِّنُ للناس دستور الحياة، فعنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام وتقررها.
وعلماء الفقه إنما بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبا أو حرمة أو إباحة أو غير ذلك.
ونحن هنا نريد بِالسُنَّةِ ما عناه الأصوليون، لأنها - بتعريفهم - هي التي يبحث عن حُجِيَّتِهَا ومكانتها في التشريع، وإن كنا تعرضنا لإثبات السُنَّةِ تَارِيخِيًّا بالمعنى الأعم الذي عناه المُحَدِّثُونَ.
وُجُوبُ طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ:
كان الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفيدون أحكام الشرع من القرآن الكريم الذي يتلقونه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثيرًا ما كانت تنزل آيات القرآن مجملة غير مُفَصَّلَةٍ، أَوْ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، كالأمر بالصلاة، جاء مُجْمَلاً لم يُبَيِّنْ في القرآن عدد ركعاتها ولا هيئتها ولا أوقاتها، وكالأمر بالصلاة، جاء مُطْلَقًا لم يُقَيَّدْ بالحد الأدنى الذي تجب فيه الزكاة، ولم تُبَيِّنْ مقاديرها، ولا شروطها، وكذلك كثيرًا من الأحكام التي لا يمكن تنفيذها دُونَ الوقوف على شرح ما يتصل بها من شروط وأركان ومفسدات، فكان لَا بُدَّ لهم من الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة الأحكام معرفة تفصيلية واضحة.
وكذلك كانت تقع لهم كثير من الحوادث التي لم ينص عليها القرآن، فَلَا بُدَّ من بيان حكمها عن طريقه عليه الصلاة والسلام، وهو مُبَلِّغٌ عن ربه، وأدرى الخلق بمقاصد شريعة الله وحدودها ونهجها ومراميها.
وقد أخبر الله في كتابه الكريم عن مهمة الرسول بالنسبة للقرآن أنه مُبَيِّنٌ له وَمُوَضّحٌ لمراميه وآياته، حيث يقول الله تعالى في كتابه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1)، كما بيّن أن مهمته إيضاح الحق حين يختلف فيه الناس:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2). وأوجب النزول على حكمه في كل خلاف: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3). وأخبر أنه أوتي القرآن والحكمة ليعلم الناس أحكام دينهم فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4).
وقد ذهب جمهور العلماء وَالمُحَقِّقِينَ إلى أن الحكمة شيء آخر غير القرآن، وهي ما أطلعه الله عليه من أسرار دينه وأحكام شريعته، ويعبر العلماء عنها بِالسُنَّةِ، قال الشافعي رحمه الله:«فَذَكَرَ اللهُ الكِتَابَ وَهُوَ القُرْآنُ، وَذَكَرَ الحِكْمَةَ فَسَمِعْتُ مَنْ أُرْضَى مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالقُرْآنِ يَقُولُ: " الحِكْمَةُ سُنََّةُ رَسُولِ اللهِ "، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ وَاللهُ أَعْلَمُ، لأَنََّ القُرْآنَ ذُكِرَ وَأُتْبِعَتْهُ الحِكْمَةَ، وَذَكَرَ اللهُ مَنَّهُ عَلَىَ خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ، فَلَمْ يَجُزْ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُقَالَ الحِكْمَةُ هُنَا إِلَاّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ الكِتَابِ، وَأَنَّ اللهَ افْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ، وَحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ، فُرِضَ إِلَاّ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لِمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَنََّ اللهَ جَعَلَ الإِيمَانَ مَقْرُونًا بِالإِيمَانِ بِهِ» (5)
(1)[سورة النحل، الآية: 44].
(2)
[سورة النحل، الآية: 64].
(3)
[سورة النساء، الآية: 65].
(4)
[سورة آل عمران، الآية: 164].
(5)
" الرسالة " للشافعي: ص 78.
وواضح مِمَّا ذكره الشافعي هنا رحمه الله أنه يجزم بأن الحكمة هي السُنَّةُ، لأن الله عطفها على الكتاب، وذلك يقتضي المغايرة، ولا يصح أن تكون شيئاً غير السُنَّةِ، لأنها في معرض المِنَّةِ من الله علينا بتعليمنا إياها، ولا يمن إلا بما هو حق وصواب، فتكون الحكمة واجبة الاتباع كالقرآن، ولم يوجب علينا إلا اتباع القرآن والرسول، فتعين أن تكون الحكمة هي ما صدر عن الرسول من أحكام وأقوال في معرض التشريع.
وإذا كان كذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي القرآن وشيئاً آخر معه يجب اتِّبَاعَهُ فيه. وقد جاء ذلك مصرحاً في قوله تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (1) وما دام اللفظ عَامًّا فهو شامل لما يحله ويحرمه مِمَّا مصدره القرآن، أو مصدره وحي يوحيه الله إليه، وقد روى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:«أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» .
ويدل على ذلك أن الله أوجب على المُسْلِمِينَ اتباع الرسول فيما يأمر وينهى فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) وقرن طاعة الرسول بطاعته في آيات كثيرة من القرآن فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3)، وحث على الاستجابة لما يدعو، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (4)، واعتبر طاعته طاعة لله واتباعه حُبًّا لله:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (5). وقال أيضاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
(1)[سورة الأعراف، الآية: 157].
(2)
[سورة الحشر، الآية: 7].
(3)
[سورة آل عمران، الآية: 132].
(4)
[سورة الأنفال، الآية: 24].
(5)
[سورة النساء، الآية: 80].
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1). وحذر من مخالفة أمره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2). بل أشار إلى أن مخالفته كفر: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (3). ولم يبح للمؤمنين مطلقا أن يخالفوا حكمه أو أوامره {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} (4). واعتبر من علامات النفاق الإعراض عن تحكيم الرسول في مواطن الخلاف: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5). بل جعل من لوازم الإيمان ألَاّ يذهبوا حين يكونون مع رسول الله دُونَ أن يستأذنوا منه:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6). قال ابن القيم: «فَإِذَا جُعِلَ مِنْ لَوَازِمِ الإِيمَانِ أَنَّهُمْ لَا يَذْهَبُونَ مَذْهَبًا إذَا كَانُوا مَعَهُ إلَاّ بِاسْتِئْذَانِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ لَا
(1)[سورة آل عمران، الآية: 31].
(2)
[سورة النور، الآية: 63].
(3)
[سورة آل عمران، الآية: 32].
(4)
[سورة الأحزاب، الآية: 36].
(5)
[سورة النور، الآيات: 47 - 51].
(6)
[سورة النور، الآية: 62].
يَذْهَبُوا إلَى قَوْلٍ وَلَا مَذْهَبٍ عِلْمِيٍّ إلَاّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، وَإِذْنُهُ يُعْرَفُ بِدَلَالَةِ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أُذِنَ فِيهِ» (1).
من هذا كله كان لَا بُدَّ للصحابة من الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يُفَسِّرُ لهم أحكام القرآن وَيُبَيِّنُ لهم مشكلاته، ويحكم بينهم في المنازعات ويحل بينهم الخصومات، وكان الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - يلتزمون حدود أمره ونهيه، وَيَتَّبِعُونَهُ في أعماله وعباداته ومعاملاته - إلا ما علموا منه أنه خاص به - فكانوا يأخذون منه أحكام الصلاة وأركانها وهيئاتها نزولاً عند أمره صلى الله عليه وسلم «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (2) ويأخذون عنه مناسك الحج وشعائره امتثالاً لأمره أيضاً «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (3) وقد يغضب إذا علم أن بعض صحابته لَمْ يَتَأَسَّ به فيما يفعله، كما روى مالك في " الموطأ " عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنِ رَجُلا مِنَ الصََّحَابَةِ أَرْسَلَ امْرَأَتَهُ تَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حُكْمِ تَقْبِيْلِ الصَّائِمِ لِزَوْجَتِهِ، فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ» ، فَرَجَعَتْ إِلَىَ زَوْجِهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ:" لَسْتُ مِثْلَ رَسُولِ اللهِ، يُحِلُّ اللهُ لِرَسُولِهِ مَا يَشَاءُ "، فَبَلَغَ قَولُهُ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ وَقَالَ:«إِنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ» (4) وكما غضب حين أمر الصحابة بالحلق والإحلال من الإحرام في صلح الحديبية فلم يفعلوا، إذ شق ذلك عليهم حتى بادر بنفسه فتحلل فابتدروا يقتدون به.
وقد بلغ من اقتدائهم به أَنْ كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك، دُونَ أن يعلموا لذلك سبباً أو يسألوه عن عِلَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ، فقد أخرج " البخاري " عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ،
(1)" إعلام الموقعين ": 1/ 58
(2)
أخرجه " البخاري " عن مالك بن الحويرث.
(3)
أخرجه " مسلم " عن جابر.
(4)
أخرجه " مسلم " عن عمر بن أبي سلمة وأخرجه الشافعي أيضاً في " الرسالة ": ص 404 مرسلا عن عطاء.
فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ نَبَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا» ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ.
وروى القاضي عياض في كتابه " الشِّفَا " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَىَ القَوْمُ ذَلِكَ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَىَ صَلَاتَهُ قَالَ:«مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟» قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَقَالَ:«إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا» وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي " الطَّبَقَاتِ "، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ فِي مَسْجِدِهِ بِالمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى المَسْجِدِ الحَرَامِ فَاسْتَدَارَ إِلَيْهِ وَدَارَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ (1).
بل بلغ من امتثالهم أمر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أن فعلوا ذلك حتى في شؤون الدنيا، فقد أخرج " أبو داود " وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " عَنِ ابْنِ مَسْعُودِ رضي الله عنه: أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: «اجْلِسُوا» فَجَلَسَ بِبَابِ المَسْجِدِ - أَيْ حَيْثُ سَمِعَ النَّبِِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ -، فرآه النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ لَهُ:«تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ» .
وهكذا كان الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته، يعتبرون قوله وفعله وتقريره حُكْمًا شَرْعِيًّا لا يختلف في ذلك واحد منهم، ولا يجيز أحدهم لنفسه أن يخالف أمر القرآن، وما كان الصحابة يراجعون رسول الله في أمر إلَاّ إذا كان فِعْلُهُ أَوْ قَوْلُهُ اجْتِهَادًا منه في أمر دنيوي، كما في غزوة بدر حين راجعه الحباب بن المنذر في مكان النزول، أو إذا كان اجْتِهَادًا منه في بحث ديني قبل تقرير اللهِ له أو نهيه عنه، كما راجعه عمر في أسرى بدر وصلح الحديبية، أو إذا كان غريباً عن عقولهم فيناقشونه لمعرفة الحكمة فقط، أو كانوا يظنون فعله خَاصًّاً به فلا يلزمون أنفسهم اتِّبَاعَهُُ، أو إذا أمرهم بأمر فظنوا أنه للإباحة وأن غير المأمور به أولى. أما ما عدا ذلك فكان منهم التسليم المطلق والاتباع التام والالتزام الكامل.
(1)" الطبقات الكبرى " لابن سعد: 2/ 7.