الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَابِعًا - التَقَرُّبُ لِلْمُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ:
ومن أمثلة ذلك ما فعله غياث بن إبراهيم، إذ دخل على المهدي وهو يلعب بالحَمَامِ فروى له الحديث المشهور «لَا سَبَقَ إِلَاّ فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ» (1) وزاد فيه «أَوْ جَنَاحٍ» إرضاءً للمهدي، فمنحه المهدي عشرة آلاف درهم، ثم قال بعد أن وَلَّى:«أَشْهَدُ أَنَّ قَفَاكَ قَفَا كَذَّابٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» ، وَأَمَرَ بِذَبْحِ الحَمَامِ.
وهنالك أسباب أخرى للوضع كالرغبة في الإتيان بغريب الحديث من متن وإسناد، والانتصار للفتيا، والانتقام من فئة معينة، والترويج لنوع من المآكل أو الطيب أو الثياب، وقد توسع العلماء في ذكرها وضربوا لها الأمثال.
ونتيجة لما ذكرناه من بواعث الوضع، نذكر فيما يلي أشهر أصناف الوَضَّاعِينَ وَهُمْ:
1 -
الزنادقة.
2 -
أرباب الأهواء والبدع.
3 -
الشُعُوبِيُّونَ.
4 -
المُتَعَصِّبُونَ لجنس أو بلد أو إمام.
5 -
المُتَعَصِّبُونَ للمذاهب الفقهية مع جهل وقلة دين.
6 -
القُصَّاص.
7 -
الزهاد والمغفلون من الصالحين.
8 -
المتملقون للملوك، والطالبون الزلفى إليهم.
9 -
المُتَطَفِّلُونَ على الحديث مِمَّنْ يُفَاخِرُونُ بِعُلوِّ الإسناد وغريب الحديث.
ولا بد لي في ختام هذا البحث من إبداء ملاحظة، كثيراً ما تَرَدَّدَتْ على الخاطر، ثم قويت أثناء كتابة هذا الفصل، وهي ما كان لتساهل الخلفاء والأمراء مع الوَضَّاعِينَ من أثر سَيِّءٍ جَرَّ على الدين كثيراً من البلاء، ولو وقفوا منهم موقف الجد وقضوا على رؤسائهم، كما هو حكم الله في مثل هذه الحالة، لما انتشرت هذا الانتشار، بل رأينا مع الأسف أن خليفة كالمهدي رغماً عن اعترافه بكذب غياث بن إبراهيم وزيادته في الحديث تقرباً إلى هواه، كافأه بعشرة آلاف درهم
…
وما تقوله الرواية من أنه أمر بذبح الحَمَامِ لأنه كان سبباً في هذه الكذبة، فهو مدعاة
(1) أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، ورواه الشافعي والحاكم وَصَحَّحَهُ.
للعجب
…
إذ كان خيراً للمهدي أَنْ يُؤَدِّبَ هذا الكاذب الفاجر، ويترك الحمام من غير ذبح، بدلاً من أن يذبح الحمام ويترك من يستحق الموت حراً طليقاً ينعم بمال المُسْلِمِينَ، بل نحن نرى للمهدي تساهلاً آخر مع كذاب آخر، وهو «مقاتل بن سليمان البلخي» فقد قال له مقاتل:«إِنْ شِئْتََ وَضَعْتُ لَكَ أَحَادِيثَ فِي العَبَّاسِ وَبَنِيهِ» فقال له المهدي: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا
…
» ثم لم يفعل معه شيئاً. بل نجد أنهم ذكروا عن الرشيد وقد روى له أبو البختري الكَذَّابُ حَدِيثًا مكذوباً،
«أن النَّبِيَّ كَانَ يُطَيِّرُ الحَمَامَ!» لا يزيد في تأنيب أبي البختري - وقد أدرك كذبه - على أن يقول له: «أُخْرُجْ عَنِّي، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَعَزَلْتُكَ» وقد كان هذا الكذاب قاضياً للرشيد
…
إن هذه المواقف مِمَّا يحاسب الله عليها هؤلاء الخلفاء إِنْ صَحَّتْ عنهم تلك الروايات، وإذا كنا نذكر لهم فضل تَعَقُّبِهِمْ للزنادقة الذين أفسدوا دين الإسلام، فإننا لا ننكر أن من الدوافع التي حملتهم على تَعَقُّبِهِمْ بالقتل هو أنهم كانوا خارجين على حكمهم بدليل أننا لم نرهم فعلوا بِالكَذَّابِينَ وَالوَضَّاعِينَ الذين تقربوا إليهم بالكذب على رسول الله إِرْضَاءً لأهوائهم، عُشْرَ ما فعلوه مع الخارجين على حكمهم، ولقد كان القُصَّاصُ يملأون المساجد بأكاذيبهم على مسمع من الأمراء والملوك، وكان الكَذَّابُونَ مِنَ الزُهَّادِ وغيرهم يسرحون ويمرحون دُونَ أن يجدوا من يضرب على أيديهم ويوقفهم عند حَدِّهِمْ، ولولا أن هَيَّأَ الله لدينه من العلماء الأثبات والأئمة الحفاظ في كل مصر وعصر، يَذُبُّونَ عن شريعة الله تحريف المُحَرِّفِينَ، وَيُجَرِّدُونَ سُنَّةَ رسول الله من كل ما خالطها من دَسٍّ وتحريف، لكانت المصيبة شاملة، ولكانت معالم الحق في دين الله مدروسة مطموسة، لا نستطيع أن نهتدي إليها إلا بشق الأنفس، وهيهات أن نصل إلى لُبَابِ الحق لولا نهضة السلف الجبارة التي قَاوَمُوا بها الوضع وَالوَضَّاعِينَ، وحفظوا بها حديث رسول الله من الكذب وَالكَذَّابِينَ إلى يوم الدين.