الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(- 430 هـ) فعمل على كتاب الحاكم مستخرجاً، وأبقى أشياء لمن تتبع هذا البحث ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي (- 463 هـ) فصنّف في قوانين الرواية كتاباً سَمَّاهُ " الكفاية " وفي آدابها كتاباً سَمَّاهُ " الجامع لآداب الشيخ والسامع " وقد أفرد لكل من فنون الحديث مصنّفاً خَاصًّاً، ثم جاء من بعده القاضي عياض (- 544 هـ) فألّف كتابه " الإلماع " مستمداً بحوثه من كتب الخطيب .. ثم جاء الشيخ الحافظ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح الشَهْرَزُورِيِّ الدِّمِشْقِيُّ (- 643 هـ) فألَّفَ كتابه المشهور بـ " مقدمة ابن الصلاح " أملاه على تلاميذه بالمدرسة الأشرفية في دمشق من غير ترتيب محكم، إلا أنه كتاب شامل لكل ما تفرق في غيره من كتب المُتَقَدِّمِينَ، ولهذا عكف الناس عليه، وَأَكَبُّوا على شرحه بين ناظم وناثر كـ " ألفية " العراقي و" شرحها " للسخاوي، و" التقريب " للنووي، وشرحه " التدريب " للسيوطي، وغير ذلك من الكتب المعروفة، كما اختصر أيضاًً الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي (- 774 هـ) في كتابه " اختصار علوم الحديث "(1) ثم تتابعت التآليف في هذا الشأن. ومن أشهرها " ألفية " الحافظ العراقي (- 806 هـ) و" نُخْبَةُ الفكر في مصطلح الأثر " للحافظ ابن حجر ومن آخرها " توجيه النظر " للعلامة الشيخ طاهر الجزائري و" قواعد التحديث " للقاسمي الدمشقي.
ثَالِثًا - عِلْمُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ:
ومن ثمار هذه الجهود المباركة علم الجرح والتعديل أو علم ميزان الرجال، وهو علم يبحث فيه عن أحوال الرُّوَاةِ وأمانتهم وثقتهم وعدالتهم وضبطهم أو عكس ذلك من كذب أو غفلة أو نسيان، وهو علم جليل من أَجَلِّ العلوم التي نشأت عن تلك الحركة المباركة لا نعرف له مثيلاً أيضاًً في تاريخ الأمم الأخرى، وقد أَدَّى إلى نشأة هذا العلم حِرْصُ العلماء على الوقوف على أحوال الرُّوَاةِ، حتى يميزوا بين الصحيح من غيره، فكانوا يختبرون بأنفسهم من يعاصرونهم من الرُّوَاةِ
(1) طبع هذا الكتاب طبعاً مُتقناً مع تعليق للأستاذ أحمد محمد شاكر سماه " الباعث الحثيث ".
إذ كان ذلك ذَبًّا عن دين الله وَسُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قِيلَ لِلْبُخَارِيِّ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ التَّارِيخَ يَقُولُونَ: فِيهِ اغْتِيَابُ النَّاسِ، فَقَالَ:«إِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ رِوَايَةً وَلَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ» .
وقد ابتدأ الكلام عن الرُّوَاة توثيقاً وتوهيناً منذ عصر صغار الصحابة كابن عباس (- 68 هـ) وعُبادة بن الصامت (- 34 هـ) وأنس بن مالك (- 93 هـ) ثم من التَّابِعِينَ: سعيد بن المسيّب (- 93 هـ) والشعبي (- 104 هـ) وابن سيرين (- 110 هـ) والأعمش (- 148 هـ) ثم تتالى الأمر، فنظر في الرجال شُعْبَةُ (- 160 هـ) وكان مُتَثَبِّتًا لا يروي إلا عن ثقة، والإمام مالك (-179 هـ). ومن أشهر علماء الجرح والتعديل في هذا القرن الثاني مَعْمَرُ (- 154 هـ) وهشام الدستوائي (- 154 هـ) والأوزاعي (- 157 هـ) والثوري (- 161 هـ) وحماد بن سلمة (- 167 هـ) والليث بن سعد (- 175 هـ) ونشأ بعد هؤلاء طبقة أخرى كعبد الله بن المبارك (- 181 هـ) والفَزَاري (- 185 هـ) وابن عُيينة (- 198 هـ) وَوَكِيعٌ بْنُ الجَرَّاحِ (- 197 هـ) ومن أشهر علماء هذه الطبقة يحيى بن سعيد القطان (- 198 هـ) وعبد الرحمن بن مهدي (- 198 هـ) وكانا حُجَّتَيْنِ مَوْثُوقَيْنِ لدى الجمهور فمن وَثَّقَاهُ قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ، ومن جَرَّحَاهُ رُدَّتْ، وإن اختلف فيه رجع الناس إلى ما تَرَجَّحَ عندهم (1).
ثم تلاهم طبقة أخرى من أئمة هذا الشأن منهم يزيد بن هارون (- 206 هـ) وأبو داود الطيالسي (- 204 هـ) وعبد الرزاق بن هَمَّاٍم (211 هـ) وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ الضَحَّاكُ بْنُ مَخْلَدْ (- 212 هـ).
ثم ابتدأ تصنيف الكُتُبِ في الجرح والتعديل، ومن أوائل الذين ألَّفُوا وتكلموا في هذه الطبقة يحيى بن معين (- 233 هـ) وأحمد بن حنبل (- 241 هـ) ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب " الطبقات "(- 230 هـ) وعلي بن المديني (- 234 هـ) ثم تلاهم بعد ذلك البخاري، ومسلم، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرَّازِيَانِ، وأبو داود
(1)" توجيه النظر ": ص 114.
السجستاني. وتتابع العلماء بعد ذلك حتى أواخر القرن التاسع الهجري، طبقة بعد طبقة، تؤلف وتبحث في الرجال، وتتحرى أمر الرُّوَاة حتى لا يعسر عليك أن تجد في مؤلفاتهم تاريخ أي رجل يمر بك اسمه في كتب الحديث.
وكتب الجرح والتعديل، منها ما أفرد لذكر الثقات فقط، ككتاب " الثقات " لابن حبان البُستي، و" الثقات " لابن قطلوبغا (- 881 هـ) في أربع مجلدات، و" الثقات " لخليل بن شاهين (- 873 هـ).
ومنها ما أفرد للضعفاء فقط، وَمِمَّنْ ألّف فيهم البخاري وَالنَسَائي وابن حبان والدراقطني والعقيلي وابن الجوزي وَابْنُ عَدِيٍّ، وكتابه " الكامل في الضعفاء " أوفى الكتب في ذلك وقد ذكر فيه كل من تكلم فيه وإن كان من رجال " الصَحِيحَيْنِ "، كما ذكر فيه بعض الأئمة المتبوعين، لأن بعض خصومهم في حياتهم تكلموا عنهم. وقد أََلَّفَ الذهبي كتابه " ميزان الاعتدال " من كتاب ابن عدي هذا.
ومنها ما جمع فيها بين الثقات والضعفاء وهي كثيرة جِدًّا من أشهرها تواريخ البخاري: "الكبير "، وهو مرتب على حروف المعجم، و"الأوسط "، و"الصغير " وهما مرتبان على السنين، وكتاب "الجرح والتعديل " لابن حبان، و" الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم الرازي، و"الطبقات الكبرى " لابن سعد، ومن أجود الكتب في ذلك، " التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل " للحافظ ابن كثير، جمع فيه بين "تهذيب " المِزِّي، و" ميزان " الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات وهو أنفع شيء لِلْمُحَدِّثِ وَالفَقِيهِ التالي لأثره (1).
ولم يكن الأئمة الذين عنوا بهذا الفن على استواء واحد في مقاييس النقد الذي يوجهونه لِلْرُّوَاةِ، بل كان منهم المُتَشَدِّدُ ومنهم المتساهل ومنهم المتوسط المعتدل، فمن المُتَشَدِّدِينَ، ابن معين ويحيى بن سعيد القطان وابن حبان (2) وأبو حاتم
(1)" توجيه النظر ": ص 118.
(2)
بعضهم يذكره في المتساهلين وهو الأظهر.
الرازي، ومن المتساهلين، الترمذي والحاكم وابن مهدي، ومن المعتدلين أحمد، والبخاري ومُسلم وبذلك تباينت الآراء في بعض الرُّوَاةِ، فمنهم من يوثقه ومنهم من يضعفه، وما ذلك إلا لاختلاف الأنظار والمقاييس التي وضعها كل إمام في نقده، بل قد يُنْقَلُ عن العالم الواحد رأيان مختلفان في رَاوٍ واحد، فقد يراه اليوم ثقة، ثم يرى منه بعد ذلك ما يضطره للعدول عن حكمه، وقد يكون الأمر عكس ذلك.
ومن الأسباب الاختلاف في التجريح والتعديل اختلاف منازع الفقهاء في الاجتهاد، فالنزاع بين أهل الحديث وأهل الرأي مشهور معروف أَدَّى إلى أن يطعن بعض أهل الحديث في بعض أئمة أهل الرأي وأن يَعُدَّهُمْ من الضعفاء لا لشيء إلا لنزعتهم الاجتهادية التي لا تتفق مع نزعة أهل الحديث، وحسبك دَلِيلاً على هذا أن إماماً جليلاً من كبار أئمة التشريع في تاريخ الإسلام وهو أبو حنيفة رحمه الله تحامل عليه كثير من المُحَدِّثِينَ وَجَرَّحَهُ بعض علماء الجرح والتعديل مع زهده وورعه وتقواه وجلالة قدره، ونجد ذلك واضحاً مِمَّا نقله أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد " في ترجمة أبي حنيفة (13/ 323 - 423) وما ذلك إلا لِدِقَّةِ مسلكه الفقهي الذي خفي على كثير من المُحَدِّثِينَ بل على كثير من أئمتهم. وقد أدى تعصب العامة من أهل الحديث إلى أن يَتَّهِمُوا أبا حنيفة بما يقطع التاريخ بكذبه.
ولعل هذا الاختلاف في ميول الناقدين وأنظارهم وتفاوتهم بين الشدة والتساهل في النقد، هو الذي أكثر العلماء أخيراً إلى أن لا يقبلوا جرحاً إلا مفسراً خشية أن يكون منشأ الجرح خطأ في تقدير الناقد أو عصبية لا حقيقة لها وواقعاً، قال الحافظ ابن كثير:«بِخِلَافِ الجَرْحِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلَاّ مُفَسَّرًا لاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الأَسْبَابِ المُفَسِّقَةِ فَقَدْ يَعْتَمِدُ الجَارِحُ شَيْئًا مَفَسِّقًا فَيُضَعِّفَهُ، وَلَا يِكُوُنَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا اشْتُرِطَ بَيَانُ السَّبَبِ فِي الجَرْحِ» (1).
ومن طريف ما يذكر في هذا الموضوع ما نقل عن بعضهم أنه قيل له: «لِمَ تَرَكْتَ حَدِيثَ فُلَانٍ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَىَ بِرْذَوْنٍ فَتَرَكْتُ حَدِيثَهُ! .. وسئل
(1)" اختصار علوم الحديث ": ص 101.