الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصحابه وتلاميذه: بلغت بضعة عشر مسنداً، مِمَّا يدل على أن قدراً كبيراً من فقهه مأخوذ مِنَ السُنَّةِ، ولا يصح، أن يقال: إن ما صح عنده منها بضعة عشر حَدِيثًا فقط، إذ كيف لم تصح عنده وهو يحتج بها ويفرع عليها؟
أما قول ابن خلدون، فقد ذكره بصيغة التمريض إشارة إلى أنه غير جازم بذاك: وأيضاًً فلا نعلم لابن خلدون سَلَفاً في هذه المقالة، بل نصوص العلماء متضافرة على أنه صح عند أبي حنيفة قدر من الأحاديث كبير، وسنرى ذلك عند البحث عن أبي حنيفة رحمه الله في آخر الرسالة بحثاً علمياً دقيقاً في هذا الموضوع.
تَغَالِي النَّاسِ فِي الاعْتِمَاد عَلَى السُنَّةِ:
أتفق المُسْلِمُونَ سلفاً وخلفاً - إلا من لا يعتد بهم من أصحاب البدع والأهواء - على أن الكتاب وَالسُنَّةُ أصلان من أصول التشريع الإسلامي، لا يجوز لأحد أن يحكم في القضاء الإسلامي بخلاف ما جاء فيهما، ولا لمجتهد أن يجتهد في مسالة بغير الرجوع إليهما، ثم انقسموا قسمين: قسم يرى الأخذ بظواهر النصوص من غير تعليل ولا توسع في القياس وَهُمْ الظاهرية وأكثر أهل الحديث.
وقسم يرى إعمال الفكر في استنباط الأحكام من النصوص فعملوا بالقياس مع الكتاب وَالسُنَّةُ، وبحثوا عن العلة وَخَصَّصُوا العَامَّ، وَقَيَّدُوا المُطْلَقَ، وَبَيَّنُوا الناسخ من المنسوخ حين تقوم القرينة على ذلك كله، وهؤلاء هم جمهور المُجْتَهِدِينَ وَحَمَلَةِ العلم منذ عصر الصحابة حتى يومنا هذا.
نعم كان هناك تفاوت بينهم في الأخذ بالقياس والتعليل، وفي الأحاطة بِالسُنَّةِ وشروط صحتها والعمل بها، ومن هنا كان الخلاف بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، ولكنهم متفقون جميعاً على أنه لا يصح الاجتهاد في الفقه مُجَرَّدًا غير منظور به إلى الحديث، بل أوجبوا على المجتهد أن يحيط بأحاديث الأحكام كلها لا يألو في ذلك جهداً.
عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ إِلَاّ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وِجْهَةُ الْعِلْمِ مَا نُصَّ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ، أَوْ فِي الإِجْمَاعِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ فَالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الأُصُولِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا»
أخرج الحافظ ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم " عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ إِلَاّ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وِجْهَةُ الْعِلْمِ مَا نُصَّ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ، أَوْ فِي الإِجْمَاعِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ فَالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الأُصُولِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا» (1).
والمجمع عليه لدى الأئمة المُجْتَهِدِينَ، أن المجتهد ينظر أَوَلاً في كتاب الله، ثم في سُّنَّةِ رسوله، وفي أقوال الصحابة، ثم ينقلب إلى الاستنباط والقياس إن لم يكن هناك إجماع، وسترى عند الكلام على الأئمة الأربعة من أصول مذاهبهم في الاجتهاد ما يؤكد لك ذلك.
فما ادعاه المؤلف من أن أحكام الحلال والحرام، إذا كانت مؤسسة على الاجتهاد لم يكن لها قيمة ما أسس على الحديث، يفيد أن هناك اجْتِهَادًا غير مؤسس على الحديث مع وجوده في يد المجتهد، وهذا لم يقع لإمام من الأئمة المُجْتَهِدِينَ قط، ومن قواعدهم المُسِلَّمَةِ لهم جميعاً أن الاجتهاد في مقابلة النص لا يجوز.
أما الحكمة والموعظة الحسنة، فلا نعلم إماماً من الأئمة رفض الأخذ بها لمجرد أنها لم ترد في القرآن وَالسُنَّةُ، ما دامت لا تصادم نصوص الشريعة، ولا روحها، ولا
(1) 2/ 26.
غايتها السامية ولا آدابها المطلوبة. ومن المأثور عندهم أن الحكمة ضالة المؤمن (1) يلتقطها أنى وجدها. وقد ذكرِ الله في وصف عباده المؤمنين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وقص علينا كثيراً من قصص الماضين، وحكمهم ومواعظهم، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أنه لا مانع من الأخذ عن الماضين بما لا يختلف عن مقاصد الشريعة، ومن هنا جاءت القاعدة الأصولية:«شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله أو رسوله علينا من غير نكير» .
وقد أخرِج البخاري في " صحيحه " عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» . قال الحافظ ابن حجر: «أَيْ لَا ضِيقَ عَلَيْكُمْ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ لأَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم الزَّجْرُ عَنِ الْأَخْذِ عَنْهُمْ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ ثُمَّ حَصَلَ التَّوَسُّعُ فِي ذَلِكَ وَكَأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الأَحْكَامِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الدِّينِيَّةِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ ثُمَّ لَمَّا زَالَ الْمَحْذُورُ وَقَعَ الإِذْنُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي سَمَاعِ الأَخْبَارِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَانِهِمْ مِنْ الاعْتِبَارِ» ، ثم قال ابن حجر:«وَقَالَ مَالِكٌ: المُرَادُ جَوَازُ التَحَدُّثِ عَنْهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ حَسَنٍ أَمَّا مَا عُلِمَ كَذِبُهُ، فَلَا» . اهـ. باختصار (2)، وقد أكثر بعض الصحابة من الأخذ عن كعب الأحبار، ووهب بن منبه حتى فاضت كتب التفسير بالإسرائيليات، كما فاضت كتب الصوفية والأخلاق بالحكم المنقولة عن الأمم الأخرى، فكيف يصح الزعم بعد ما ذكرناه كله بأن المُسْلِمِينَ رفضوا الحكمة والموعظة الحسنة، إذا كانت من أصل غير إسلامي؟
وصفوة القول أن هذا السبب الذي استظهره المؤلف وتخيله لا أساس له من الواقع، ولا دليل يسنده، وكُتُبُنَا الإسلامية حافلة بما ينقضه، ولا أدري ما الذي دعاه إلى هذا التخيل إلا أن يكون مراده الزعم بأن التَشَدُّدَ في التمسك بالكتاب وَالسُنَّةُ كان له من الضرر على الدين ما حمل الناس على الوضع والكذب.
(1) هذا نص حديث أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن.
(2)
" فتح الباري ": 6/ 361.