الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخالفونه في بعضها، ولسنا هنا بصدد الدفاع عن رأيه، أو الانتصار له، إنما الذي يهمنا أن نعرف عذر أبي حنيفة فيما تركه من أخبار الآحاد.
إذا تبين لك هذا، عرفت أن ما يتهم به أبو حنيفة من تركه السُنَّةََ وأخذه بالرأي، إن كان ذلك عن اجتهاد، فلا حرج عليه، وقد فعله أئمة قبله وأئمة بعده، وإن كان عن هوى وعناد، فحاشا لله أن يفعل ذلك أبو حنيفة، وهو الذي ثبتت إمامته وورعه ووقوفه عند حدود الله ورسوله.
أَمْثِلَةٌ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ:
وإليك بعد هذا، أمثلة من اجتهاده الذي خالف فيه بعض الأحاديث، وبيان وجهة نظره.
1 -
اجتمع أبو حنيفة بالأوزاعي في دار الخياطين وتباحثا في العلم، قَالَ الأَوْزَاعِيُّ:«لِمَاذَا لَا تَرْفَعُونَ أَيْدِيكُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ؟» ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:«لأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، قَالَ الأَوْزَاعِيُّ:«كَيْفَ وَقَدْ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم " كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةََ وَعِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ "؟» ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:«حَدَّثَنِي حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم " كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَاّ عِنْدَ اقْتِتَاحِ الصَلَاةِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ "» ، فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ:«أُحَدِّثُكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَتَقُولُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ» ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:«كَانَ حَمَّادٌ أَفْقَهَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَفْقَهَ مِنْ سَالِمٍ، وَعَلْقَمَةُ لَيْسَ بِدُونِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنْ كَانَ لابْنِ عُمَرَ صُحْبَةٌ، فَالأَسْوَدُ لَهُ فَضْلٌ كَبِيرٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:«إِبْرَاهِيمُ أَفْقَهُ مِنْ سَالِمٍ، وَلَوْلَا فَضْلُ الصُحْبَةِ لَقُلْتُ: إِنَّ عَلْقَمَةَ أَفْقَهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللهِ هُوَ عَبْدُ اللهِ» ، فَسَكَتَ الأَوْزَاعِيُّ (1).
2 -
واجتمع سفيان بن عيينة بأبي حنيفة فسأله: «هَلْ صَحِيحٌ أَنَّكَ تُفْتِي بِأَنَّ المُتَبَايِعَيْنِ لَيْسَ لَهُمَا الخِيَارُ إِذَا انْتَقَلَا مِنْ حَدِيثِ البَيْعِ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَهُ وَلَوْ ظَلَاّ
(1)" حُجَّةُ اللهِ البَالِغَةُ ": 1/ 331 و" محاسن المساعي في سيرة الأوزاعي ": ص 67، و" فتح القدير " لابن الهُمام: 1/ 219، و" عقود الجواهر المنيفة ": 1/ 61.
مُجْتَمِعَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ؟» قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ سُفْيَانُ:«كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " «البَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» "؟» قَالَ أَبُوْ حَنِيفَةَ: «أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَا فِي سِجْنٍ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَا فِي سَفَرٍ؟ كَيْفَ يَفْتَرِقَانِ؟» . اهـ.
فأنت ترى أن أبا حنيفة لَمْ يَرُدَّ الحديث، ولكنه فهم من التفرق، تفرق الأقوال لا الأجسام، مُرَاعَاةً للمقصود من العقود، وللحكمة من هذه الرخصة تشمل كثيرين، كالمسافرين في سفينة واحدة أو في سفر واحد، أو الموجودين في سجن واحد، فهؤلاء قد يظلون معاً أياماً وشهوراً، فهل نقول: إنهما ما داما مجتمعين في مكان واحد فالبيع لم يتم، ولكل واحد منهما الخيار في فسخه متى شاء؟ وحمل التفرق الوارد على الأقوال جائز ووارد في القرآن وَالسُنَّةُِ، مثل قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ومثل قوله عليه الصلاة والسلام «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ
…
» إلخ. فالذي لا يلاحظ دقة نظر الإمام في هذا الاستنباط ويسمع بأن أْبا حنيفة يُفْتِي بأن المتبايعين متى أوجبا العقد لا خيار لهما ولو كانا في مجلس واحد، يحكم لأول وهلة بأن أبا حنيفة خالف الحديث، وليس الأمر كذلك.
3 -
وإليك مثلاً مِمَّا أورده ابن أبي شيبة على أبي حنيفة «أخرج ابن أبي شيبة بسنده إلى محمد بن النعمان بن بشير، أن أباه النعمان نَحَلَهُ غُلَاماً، وَأَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ليشهده، فقال: " أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟ " قَالَ:" لَا "، قَالَ: " فَارْدُدْهُ ". ثم أورد لهذا الحديث طريقين آخرين بألفاظ مختلفة، وَقَالَ في آخرها: وذكر أن أبا حنيفة قَالَ: " لَا بَأْسَ بِهِ "» .
وجوابه كما في " النكت الطريفة " لِلْعَلَاّمَةِ الكَوْثَرِي: «اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثٍ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي النُّحْلِ بِحَيْثُ وَسَّعَتْ عَلَى أَئِمَّةِ الفِقْهِ نِطَاقَ الاجْتِهَادِ، فَرَأَىَ جُمْهُورُهُمْ أَنَّ الأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ لِلْنَّدْبِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَأَجَازُوا أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ بَنِيهِ دُونَ بَعْضٍ بِالنُّحْلَةِ وَالعَطِيَّةِ عَلَىَ كَرَاهِيَةٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَالتَّسْوِيَةُ أَحَبُّ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ وُجُوبَ
(1)[سورة آل عمران، الآية: 103].
التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي العَطِيَّةِ لِظَاهِرِ بَعْضِ أَلْفَاظِ الرِّوَايَةِ، مِنْهُمْ ابْنُ الْمُبَارَكَ وَأَحْمَدُ وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَكَانَ إِسْحَاقُ مَعَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ.
وَالإِجْمَاعُ عَلَىَ جَوَازِ هِبَةِ المَرْءِ لِمَالِهِ لِلْغَرِيبِ مِمَّا يُؤَيِّدُ رَأْيَ الجُمْهُوْرِ، وَلَا نَصَّ حَيْثُ يَكُونُ احْتِمَالٌ، فَلَا يَكُونُ مَعْنَى لِمَا يُقَالُ: لَا قِيَاسَ فِي مَوْرِدِ الاجْتِهَادِ هُنَا. وَقَدْ أَوْرَدَ البَيْهَقِيُّ نَحْوَ عَشَرَةِ وُجُوهٍ فِي تَأْيِيدِ أَنَّ الأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ هُنَا لِلْنَّدْبِ وَإِنْ نَاقَشَهُ فِيهَا بَعْضُهُمْ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الفُقَهَاءِ فِي حَمْلِ تِلْكَ الأَحَادِيثَ عَلَىَ الوُجُوبِ أَوْ عَلَىَ النَّدْبِ هُوَ اخْتِلَافُ أَلْفَاظِهَا، فَقَوْلُهُ فِي هَذَا «فَأَرْجِعْهُ» ، وَقَوْلُهُ فِي الآخَرِ «أُشْهِدُ عَلَى هَذَا غَيْرِي» وَفِي آخَرَ «أَيَسُرُّكِ أَنْ يَكُونُوا فِي البِرِّ سَوَاءٌ» تَدُلُّ عَلَىَ النَّدْبِ، وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ تُؤْذِنُ بِالوُجُوبِ مِثْلَ «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ، إِلَاّ إِذَا حُمِلَ الجَوْرُ عَلَىَ مُجَرَّدِ المَيْلِ لِقَرَائِنَ قَائِمَةً، حَتَّى قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ:«وَالجَمْعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ البَابِ أَوْلَى مِنْ طَرْحِ بَعْضِهَا، وَمِنْ تَوْهِينِ الحَدِيثِ بِالاضْطِرَابِ فِي أَلْفَاظِهِ، وَوَجْهُ الجَمْعِ أَنْ تُحْمَلَ كُلُّهَا عَلَىَ النَّدْبِ» ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ حَمْلِهَا كُلِّهَا عَلَىَ النَّدْبِ فِي " شَرْحِهِ عَلَىَ صَحِيحِ مُسْلِمٍ ".
وَنَحْنُ نَرَى أَنْفُسَنَا فِيْ غُنْيَةِ عَنْ التَّوَسُّعِ هُنَا بِأَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا، لأَنَّ المَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ أَبُو حَنِيْفَةَ، بَلْ مَعَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الفِقْهِ. وَتَفْضِيلُ أَبِيْ بَكْرٍ لِعَائِشَةَ وَعُمَرَ لِعَاصِمٍ فِي العَطِيَّةِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَا فَعَلَ غَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَىَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلَى الأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ لِلْنَّدْبِ» (1).
هذا مثل مِمَّا أورده ابن أبي شيبة على أبي حنيفة من تركه العمل بالأحاديث في مائة وخمس وعشرين مسألة، ومن الجواب تعلم أن الإمام لم يترك العمل بها تقديماً للرأي عليها، وإنما فعل ذلك عن اجتهاد منه، ومثله يعذر، كما يعذر كل إمام فيما يؤدي إليه رأيه من اجتهاد.
كما ينبغي أن نعلم أن ما ذكره ابن أبي شيبة من المسائل التي خالف فيها
(1)" النكت الطريفة ": ص 21 - 22.