الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعقائد لم يعتقدها، فهو مرجىء عند بعض الناس، وقَدَرِيٌّ عند بعضهم الآخر، وقائل بالتناسخ عند فريق، وَمُنْكِرٌ للحديث عند جماعة اَخرين، وقائل في دين الله بالرأي والهوى عند كثير من الناس.
ولقد ذهبت كل هذه الاتهامات بعد وفاة أبي حنيفة وانتشار فقهه وتلامذته في الأقطار مع الريح، فلم يبق منها شيء. ولكن الذي بقي ولا يزال حتى اليوم باقياً مِمَّا ألصقه خصوم أبي حنيفة أمران كان للعصبية المذهبية من جهة، والجهل بطرق الأئمة في الاجتهاد من جهة أخرى، أَثَّرَ في اتهام أبي حنيفة بهما، وبقاء هذا الاتهام حتى اليوم، حتى اتخذ أعداء السُنَّةِ من أحدهما وسيلة للتشكيك بها كما رَأَيْتَ من صنيع صاحب " فجر الإسلام ".
أما التهمتان فهما: قلة بضاعة أبي حنيفة من الحديث، وتقديمه الرأي والقياس على الحديث الصحيح، وسنبحث في أمر هاتين التُّهْمَتَيْنِ ومستندهما من التاريخ ونعرضهما على الحقائق الثابتة في تاريخ أبي حنيفة، والمأثور من فقهه واجتهاده.
هَلْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ قَلِيلَ البِضَاعَةِ فِي الحَدِيثِ
؟:
يروي لنا الخطيب البغدادي نقولاً متعددة يرمي فيها أصحابُها أبا حنيفة بقلة البضاعة في الحديث وضعفه فيه، من ذلك ما نقله عن ابن المبارك:«كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَتِيمًا فِي الحَدِيثِ» ، وعن [أَبِي] (*) قطن:«كَانَ زَمَنًا فِي الحَدِيثِ» ، وعن يحيى بن سعيد القطان:«لَمْ يَكُنْ بِصَاحِبِ حَدِيثٍ» ، وعن ابن معين:«اِيشْ كَانْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الحَدِيثِ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْهُ؟» ، وعن أحمد بن حنبل:«أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَأْيٌ وَلَا حَدِيثٌ» ، وعن أبي بكر بن أبي داود:«جَمِيعُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الحَدِيثِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ حَدِثًا أَخْطَأَ فِي نِصْفِهَا» ، وعن عبد الرزاق:«مَا كَتَبْتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَاّ لأُكْثِرَ بِهِ رِجَالِي، وَكَانَ يَرْوِي عَنْهُ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ حَدِيثًا» وعن ابن المديني «أَنَّهُ رَوَى خَمْسِينَ حَدِيثًا أَخْطَأَ فِيهَا» (1).
(1) هذه الأقوال مبثوثة في الجزء الثالث عشر من " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي: ص 444، فما بعدها.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[عمرو بن الهيثم بن قطن بن كعب الزبيدي القطعي، أبو قطن، البَصْرِيِّ].
• قال السُّلَمِيُّ: سئل الدَّارَقُطْنِيّ عن أبي قطن الذى روى عن شعبة ومالك، فقال: هو عمرو بن الهيثم بن قطن بن كعب القطعي، روى عن مالك وشعبة، وحدث شعبة، عن جده قطن بن كعب بحديث واحد، وكنية قطن، أبو الهيثم، وأكثر عنه النضر بن شميل. نقلاً عن " موسوعة أقوال أبي الحسن الدارقطني في رجال الحديث وعلله "، تأليف: مجموعة من المؤلفين (الدكتور محمد مهدي المسلمي - أشرف منصور عبد الرحمن - عصام عبد الهادي محمود - أحمد عبد الرزاق عيد - أيمن إبراهيم الزاملي - محمود محمد خليل)، 2/ 498، ترجمة رقم 2641. الطبعة الأولى، 2001 م، نشر عالم الكتب للنشر والتوزيع - بيروت، لبنان].
ونحن لا نريد أن ننقد هذه الروايات من جهة سندها، فقد فَنَّدَهَا المُحَقِّقُون َوَبَيَّنُوا تحامل الخطيب في سردها وإيرادها (1)، ولكنا نريد أن ننقد الفكرة التي ما زال يُرَدِّدُهَا خُصُومُ أَبِي حَنِيفَةَ وَخُصُومُ السُنَّةِ معاً، والتي رَدَّدَهَا بعض المُؤَرِّخِينَ عن طيب قلب، كما فعل ابن خلدون في " مقدمته " إذ ذكر - بصيغة التمريض والضعف - أن مروياته بلغت - على ما يقال - سبعة عشر حَدِيثًا.
ولا شك أن من الخطورة بمكان، أن نرى إماماً من كبار أئمة المُسْلِمِينَ، صاحب مذهب من أوسع المذاهب الفقهية فروعاً واستنباطاً، يدين بمذهبه عشرات الملايين من المُسْلِمِينَ في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا تزيد ثروته في الحديث عن بضعة عشر حَدِيثًا أو مائة وخمسين .. فهل هذا صحيح؟ ..
1 -
إن أبا حنيفة رحمه الله إمام مجتهد بإجماع الموافقين والمخالفين، ومن شرائط الاجتهاد أن يحيط المجتهد بأحاديث الأحكام، وهي آلاف، وعلى أقل تقدير بضع مئات كما ذهب إليه بعض الحنابلة، فكيف جاز لأبي حنيفة أن يجتهد وهو لم يستكمل أهم شرط من شروط الاجتهاد؟ .. وكيف اعتبر الأئمة اجتهاده وعنوا بفقهه، ونقلوه في الآفاق واشتغلوا به تقريراً أو نقداً، وهو قائم على غير أساس؟.
2 -
إن من يطالع مذهب الإمام يجده قد وافق الأحاديث الصحيحة في مئات من المسائل، وقد جمع شارح " القاموس " السَيِّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِي رحمه الله كتاباً جمع فيه الأحاديث من مسانيد الإمام أبي حنيفة والتي وافقه في روايتها أصحاب الكتب الستة سماه:" عقد الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة ". فكيف وافق اجتهاد الإمام مئات الأحاديث الصحيحة، وليس عنده إلا بضعة عشر حَدِيثًا، أو خمسون، أو مائة وخمسون أخطأ في نصفها؟.
3 -
لقد أفرد ابن أبي شيبة في " مصنفه الكبير " باباً لما خالف فيه أبو حنيفة ما صح
(1) انظر " تأنيب الخطيب على ما ساق في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب " للشيخ محمد زاهد الكوثري، فقد ناقش هذه الروايات بتكذيب نسبة هذه الأقوال إلى أصحابها.
من الأحاديث فبلغت مائة وخمسة وعشرين مسألة، فلو سلم لابن أبي شيبة جميع ما أخذه على أبي حنيفة كانت بقية المسائل التي أثرت عنه موافقة للحديث في كل مسألة ورد فيها حديث، وإذا كانت مسائل أبي حنيفة على أقل تقدير ثلاثاً وثمانين ألف مسألة - وهنالك روايات تبلغ العدد إلى ألف ألف ومائتي ألف - فهل هذا العدد الضخم الباقي من المسائل التي يعترف ابن أبي شيبة أن أبا حنيفة لم يخالف فيها السُنَّةَ، جاءت فيها سُنَّةٌ أم لا؟ فإن جاءت فيها أو في بعضها سُنَّةٌ لزم ذلك أن يكون ما عند أبي حنيفة من الحديث مئات وآلاف، وإن لم يجيء في شيء منها سُنَّةٌ، لزم أن يكون ما ورد مِنَ السُنَّةِ لا يزيد على مائة وخمسة وعشرين حَدِيثًا فقط ولا يقول هذا أحد من أئمة المُسْلِمِينَ وأهل العلم بالحديث.
4 -
إن أبا حنيفة مِمَّنْ تُذْكَرُ آراؤهم في مصطلح الحديث، فكيف يكون قليل البضاعة فيه، ثم يعتبر عند علماء ذلك الفن من الأئمة الذين تُدَوَّنُ آراؤهم في قواعد الحديث ورجاله، ويعتمد مذهبه بينهم وَيُعَوَّلُ عليه رَدًّا أو قبولا؟.
5 -
لقد كتب أبو حنيفة عن أربعة آلاف شيخ، حتى عَدَّهُ الذهبي في " تذكرته " التي هي ثبت الحفاظ، وَحَدَّثَ عَنْهُ يحيى بن نصر فقال:«دَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي بَيْتٍ مَمْلُوءٍ كُتُبًا، فَقُلْتُ لَهُ: " مَا هَذَا؟ "، فَقَالَ: " هَذِهِ الأَحَادِيثُ مَا حَدَّثَ مِنْهَا إِلَاّ اليَسِيرَ الذِي يُنْتَفَعُ بِهِ "» .
6 -
إن أبا حنيفة وإن لم يجلس للتحديث كعادة المُحَدِّثِينَ، وإن لم يُصَنِّفْ في الأخبار والآثار كما ألف مالك، إلا أن تلاميذه جمعوا أحاديثه في كتب ومسانيد بلغت بضعة عشر مسنداً.
وأشهر هذه المصنفات والمسانيد كتاب " الآثار " لأبي يوسف وكتاب " الآثار المرفوعة " لمحمد، وكتاب " الآثار المرفوعة والموقوفة " له، و" مسند الحسن بن زياد اللُؤْلُؤِي "، و" مسند حمَّاد بن الإمام أبي حنيفة " ومِمَّنْ صنَّف في مسانيده: الوهبي، والحارثي البخاري، وابن المظفر، ومحمد بن جعفر العَدْل، وأبو نعيم الأصبهاني، والقاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، وابن أبي العوام السعدي، وابن خسرو البلخي.
ثم جمع أكثر هذه المسانيد قاضي القضاة أبو المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي، المُتَوَفَّى سَنَةَ (665 هـ) في كتاب ضخم سماه "جامع المسانيد "، رتبه على أبواب الفقه، مع حذف المُعَادِ وعدم تكرير الإسناد، قال في خطبته:«وَقَدْ سَمِعْتُ فِي الشَّامِ عَنْ بَعْضِ الجَاهِلِيَنَ بِمِقْدَارِهِ - أَيُّ بِمِقْدَارٍ أَبِي حَنِيفَةَ - مَا يُنْقِصُهُ وَيَسْتَصْغِرُهُ، وَيَنْسِبَهُ لِقِلَّةِ الحَدِيثِ، وَيْسْتَدِلُّ عَلَىَ ذَلِكَ بِـ " مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ "، وَ " مُوَطَّأِ مَالِكٍ " وَزَعَمَ أَنْ لَيْسَ لأَبِي حَنِيفَةَ مُسْنَدٌ، وَكَانَ لَا يَرْوِي إِلَاّ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، فَلَحِقَتْنِي حَمِيَّةٌ دِينِيَّةٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ مَسَانِيدِهِ التِي جَمَعَهَا لَهُ فُحُولِ عُلَمَاءِ الحَدِيثِ.» الخ وهو كتاب مطبوع يقع في 800 صفحة. وَمِمَّنْ روى هذه المسانيد قراءة وسماعاً وكتابةً، مُحَدِّثُ الديار الشامية الحافظ شمس الدين بن طولون في " الفهرست الأوسط " وَمُحَدِّثُ البلاد المصرية الحافظ محمد بن يوسف الصالحاني، وقد قال في كتابه:" عقود الجمان ": «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ كِبَارِ حُفَّاظِ الحَدِيثِ وَأَعْيَانِهِمْ، وَلَوْلَا كَثْرَةُ اعْتِنَائِهِ بِالحَدِيثِ مَا تَهَيَّأَ لَهُ اسْتِنْبَاطِ مَسَائِلِ الفِقْهِ. وَذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي " طَبَقَاتِ الحُفَّاظِ " وَلَقَدْ أَصَابَ وَأَجَادَ» ، ثم قال في الباب الثالث والعشرين من "عقود الجمان ":«إِنَّمَا قَلَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُتَّسِعَ الحِفْظِ، لاشْتِغَالِهِ بِالاسْتِنْبَاطِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَرْوِ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِِّ إِلَاّ القَلِيْلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَىَ مَا سَمِعَاهُ لِلْسَّبَبِ نَفْسِهِ، كَمَا قَلَّتْ رِوَايَةِ أَمْثَالَ أَبِيْ بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ كِبَارِ الْصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بِالنِّسْبَةِ إِلَىَ كَثْرَةِ اطِّلَاعِهِمْ، وَقَدْ كَثُرَتْ رِوَايَةَ مَنْ دُونَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ» ثم ساق أخباراً تدل على كثرة ما عند أبي حنيفة من الحديث، ثم أطال النفس في سرد أسانيده في رواية مسانيد أبي حنيفة السبعة عشر لجامعيها - وذكر أسماءهم - تدليلاً على كثرة حديثه، وكذلك الشمس الحافظ ابن طولون إذ ساق أسانيد تلك المسانيد السبعة عشر أيضاًً في " الفهرست الأوسط "، بل كان الخطيب حينما رحل إلى دمشق استصحب معه " مسند أبي حنيفة للدارقطني "، و" مسنده لابن شاهين "، و" مسنده للخطيب " نفسه، وهذه غير تلك المسانيد السبعة عشر.
وذكر البدر العيني في " تاريخه الكبير ": أن " مسند أبي حنيفة لابن عقدة " يحتوي وحده على ما يزيد على ألف حديث، وهو أيضاًً غير تلك المسانيد.
وقد قال السيوطي في " التعقيبات ": «ابْنُ عُقْدَةَ مِنْ كِبَارِ الحُفَّاظِ، وَثِقَةُ النَّاسِ وَمَا ضَعَّفَهُ إِلَاّ مُتَعَصِّبٌ» .
وَلِزُفَرْ أيضاًً كتاب " الآثار " يكثر فيه عن أبي حنيفة، ونسختا زفر في الحديث مِمَّا ذكر الحاكم في كتابه "معرفة علوم الحديث "(1).
هذا هو القول في بضاعة أبي حنيفة في الحديث، وكما سقطت فرية قلة بضاعته كما رأيت، تسقط الفرية الأخرى التي تدعي أنه لم يصح عنده إلا بضعة عشر حَدِيثًا، فهذا القول عدا أنه لا وُرُودَ له في كتاب معتبر ولم نره إلا لابن خلدون (2) وعبارته مبهمة إذ يذكر أن ذلك عدد مروياته. وهذا المعنى غير صحيح وعدا هذا فإن ما صح عن أبي حنيفة من المسانيد التي ذكرت أحاديثه وما روي عنه في فقهه من الحديث الذي عمل به يبلغ المئات كما ذكرنا مِمَّا يكذب هذا القول ويجعله فرية مكشوفة.
ونحب أن ننوه هنا بخطأ وقع فيه بعض الكُتَّابِ (3)، وهو أنهم يعتذرون لأبي حنيفة عن قلة الحديث بأنه كان في الكوفة وأحاديثها قليلة، وهي ليست دار حديث، وهذا خطأ أوقعهم فيه عدم التَنَبُّهِ لمكانة الكوفة العلمية في عصر أبي حنيفة، وعدم التَنَبُّهِ لرحلات أبي حنيفة العلمية إلى أشهر المدن الإسلامية.
أما الكوفة فقد كانت منذ بنائها سَنَةَ 17 هـ مَحَطَّ [رِحَالِ](*) كبار الصحابة، وقد بعث عمر إلى أهل الكوفة عبد الله بن مسعود المعروف بِابْنِ أُمِّ عَبْدٍ رضي الله عنه وهو سادس سِتَّةٍ في الإسلام - ليعلمهم القرآن ويفقههم في الدين قائلاً لهم: «وَإِنِّي
(1)" تأنيب الخطيب ": ص 156.
(2)
لعل منشأ قول ابن خلدون من أن محمداً روى " المُوَطَّأ " عن مالك وزاد فيه ثلاثة عشر حَدِيثًا من روايته عن أبي حنيفة، وأربعة أحاديث من روايته عن أبي يوسف. فظن من لا علم له أن هذا كل م صح عن أبي حنيفة من أحاديث، ومع ذلك فلا بد من إدامة البحث حتى نتأكد من المصدر الذي استقى منه ابن خلدون عبارته.
(3)
ومنهم الدهلوي في كتابه "حُجَّة الله البالغة ".
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[محط (رِحَالِ) بينما كُتِبَتْ خطأ (رِجَالِ) في هذه الطبعة وكذلك طبعة دار الوراق: ص 452 السطر 15].
آثَرْتُكُمْ عَلَى نَفْسِي بِعَبْدِ اللهِ» وما ذاك إلا لكبر منزلة ابن مسعود في العلم بحيث لا يستغني عنه الخليفة في عاصمته، وقد قال عليه السلام:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» وقال عنه عمر رضي الله عنه: «كَنَيفٌ مَلِيءٌ عِلْمًا» والأخبار الواردة في سَعَةِ علمه، وجليل مناقبه في غاية الكثرة، ومثل هذا الصحابي الجليل تَوَلَّى تفقيه أهل الكوفة بجد وعناية منذ بعثه عمر إلى أواخر خلافة عثمان، وتخرج عليه عدد عظيم جِدًّا من القُرَّاءِ والفقهاء في الكوفة، حتى إن عَلِيَّ بن أبي طالب أعجب غاية الإعجاب بكثرة فقهائها، فقال لابن مسعود، «مَلأْتَ هَذِهِ القَرْيَةَ عِلْمًا وَفِقْهًا» بل بلغ تلاميذه وتلاميذ تلاميذه أربعة آلاف هم سُرُجُ تلك القرية.
وبعد انتقال عَلِيٍّ وَقُرَّاءَ الصحابة إلى الكوفة ازداد الاهتمام بتفقيه أهلها إلى أن أصبحت الكوفة لا مثيل لها في أمصار المُسْلِمِينَ في كثرة فقهائها وَمُحدِّثِيهَا والقائمين بعلوم القراَن وعلوم اللغة العربية فيها من حيث سكن أفصح القبائل العربية حولها، وكثرة من نزل بها من كبار الصحابة، فكبار أصحاب عَلِيٌّ وابن مسعود لو دُوِّنَتْ تراجمهم في كتاب خاص لأتى كتاباً ضخماً، وأبلغ العِجْلِي عدد الصحابة الذين سكنوا الكوفة فقط إلى ألف وخمسمائة صحابي فضلاً عن باقي بلدان العراق.
قال مسروق بن الأجدع التابعي الكبير: «وَجَدْتُ عِلْمَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَنْتَهِي إِلَى سِتَّةٍ: إِلَى عَلِيٍّ وَعَبْدَ اللهِ، وَعُمَرَ، و [زيد بن ثابت] (*)، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ، ثُمَّ وَجَدْتُ عِلْمَ هَؤُلَاءِ السِتَّةِ انْتَهَى إِلَى عَلِيٍّ، وَعَبْدَ اللهِ - أَيْ ابْنَ مَسْعُودٍ -» (1).
أما رحلات أبي حنيفة: فقد دخل البصرة عشرات المرات، وزار المدينة عشرات المرات، وأقام بمكة ست سنوات منذ 130 هـ إلى 136 كما قدمنا، وفي هذين البلدين المباركين اجتمع أبو حنيفة بأكثر علمائها وبعض مشاهير العلماء في غيرهما كالأوزاعي، وفيهما أخذ علم ابن عباس من تلاميذه في مكة، وَعِلْمَ عُمَرٍ من تلاميذه
(1)" حسن التقاضي ".
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[وردت في هذه الطبعة خطأ (يزيد) وإنما هو (زيد بن ثابت)، وكذلك ورد نفس الخطأ في طبعة الوراق: ص 453].