الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي مَرْتَبَةِ السُنَّةِ مَعَ الكِتَابِ:
أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم هُدًى للمتقين ودستوراً للمسلمين، وَشِفَاءً لصدور الذين أراد الله لهم الشفاء، ونبراساً لمن أراد الله لهم الفلاح والضياء، وهو مشتمل على أنواع من الأغراض التي بعث الله من أجلها الرسل، ففيه التشريع والآداب والترغيب والترهيب والقصص والتوحيد، وهو مقطوع بصحته إجمالاً وتفصيلاً، فمن شك في آية أو كلمة أو حرف من حروفه لم يكن مسلماً، وأهم ما يعنى به العالم المتفقه في دين الله أن يتعرف إلى أحكام الله في كتابه وما شَرَّعَهُ الله لعباده من نُظُمٍ وقوانين.
وقد تلقاه المُسْلِمُونَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة في عصر الصحابة نقلاً متواتراً في العصور التالية، وللرسول مُهِمَّةٌ أخرى غير تبليغ كتاب الله إلى الناس، وهي تبيين هذا الكتاب وشرح آياته، وتفصيل الجمل من أحكامه، وبيان ما أنزله الله في كتابه من قواعد عامة أو أحكام مجملة أو غير ذلك.
من هنا كان المُسْلِمُونَ في حاجة إلى معرفة بيان رسول الله، مع حاجتهم إلى معرفة كتاب الله، ولا يمكن أن يفهم القراَن على حقيقته وأن يعلم مُرَادَ الله من كثير من آيات الأحكام فيه إلا بالرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه الكتاب لِيُبَيِّنَ للناس ما نُزِّلَ إليهم من ربهم.
ومن هنا اتفق المُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، إلا من شَذَّ من بعض الطوائف المنحرفة، على أن سُنَّةََ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو تقرير هي من مصادر التشريع الإسلامي الذي لا غنى لكل مُتَشَرِّعٍ عن الرجوع إليها في معرفة الحلال والحرام، وقد ذكرنا في الفصول السابقة ما يدل على هذا في كتاب
الله وقول رسوله، غير أن الذي نريد بحثه الآن، هو مكانة السُنَّةِ بالنسبة للكتاب، هل هي معه على استواء واحد أم هي متأخرة عنه في المرتبة؟.
وَمِمَّا لا ريب فيه أن متن القرآن قطعي الثبوت، ثم منه ما هو قطعي الدلالة ومنه ما هو ظنيها، أما السُنَّةُ: فالمتواترة منها قطعية الثبوت، وغير المتواترة ظني الثبوت في تفصيله وإن كان قطعياً في جملته، ومرتبة ظنيِّ الثبوت في نوعيه قطعي الدلالة وظنيها، يأتي بعد مرتبة قطعي الثبوت بنوعيه، قطعي الدلالة وظنيها، ومن هنا كانت مرتبة السُنَّةِ بعد مرتبة الكتاب.
وأيضاًً فإِنَّ السُنَّةَ إما أن تكون بياناً للكتاب أو زيادة عليه، فإن كانت بياناً فهي في الاعتبار بالمرتبة الثانية عن المُبَيَّنِ فإن النص الأصلي أساس والتفسير بناء عليه، وإن كانت زيادة، فهي غير معتبرة إلا بعد أن لا توجد في الكتاب وذلك دليل على - تقدم اعتبار الكتاب.
هذا ما يدل عليه النظر العقلي، وقد تأيد ذلك بجملة من الأخبار والآثار، من ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود والترمذي:«كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟» قَالَ: بِكِتَابِ اللهِ، قَالَ:«فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قال: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِيِ» (1).
وَمِمَّا كتبه عمر إلى شُرَيْحٍ القاضي: «إِذَا أَتَاكَ أَمْرٌ فَاقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ فَإِنْ أَتَاكِ بِمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَاقْضِ بِمَا سَنَّ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ «إِذَا وَجَدَتْ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَىَ غَيْرِهِ» وَقَدْ بَيَّنَ المُرَادَ مِنْ هَذَا فِي رِوَايَةِ أُخْرَىَ «انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللهِ فَاتَّبِعْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: «ليس إسناده عندي بمتصل» ، وقد عَقَّبَ ابن العربى بقوله:«هو حديث مشهور» (" شرح ابن العربى للترمذي ": 6/ 69).
وَرُوِيَ عن ابن مسعود: «مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ [فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم]» (*). وقدمنا لك أن سُنَّةَ الشيخين إذا عرضت لهما حادثة أن ينظرا في كتاب الله فإن لم يَجِدَا حكمها فيه، نظرا إلى سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك كثير في كلام الصحابة والتا بعين والأئمة والمُجْتَهِدِينَ.
وقد يعارض ما ذكرناه بما رُوِيَ عن بعض العلماء من أن السُنَّةَ قاضية على الكتاب، إذ هي تبين مُجْمَلَهُ، وتُقيِّدُ مطلقَه وتخصص عامه، فيرجع إليها ويترك ظاهر الكتاب، وقد يحتمل نص الكتاب أمرين فأكثر، فتعين السُنَّة أحدهما، فيعمل بها ويترك مقتضى الكتاب، ألا ترى أن آية السرقة قاضية بقطع كل سارق، فَخَصَّتْهَا السُنَّةُ بمن سرق نصاباً محرزاً، وهي تفيد قطع اليد، واليد تصدق من الأصابع إلى المرفقين، فخصتها السُنَّةُ بِالكُوعَيْنِ، وكذلك اَيات الزكاة شاملة لكل مال فَخَصَّتْهَا السُنَّةُ بأموال مخصوصة، وقال الله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) فَخَصَّصَتْ السُنَّةُ هذا العموم بنكاح المرأة على عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا ومثل ذلك كثير.
وهذا من شأنه أن نقول بتقديم السُنَّةُ على الكتاب، وإلا فبمساواتها له. ويُجاب بأن عمل السُنَّةُ في مثل هذه الحالات تَبْيِينُ مُرَادِ الله في كتابه، فهي في آية السرقة تبين أن المراد بالقطع قطعهما إلى الكوعين لا المرفقين، وأن المراد بالسارق سارق نصاب مُحرز، فهي في هذه الحالة لم تثبت حُكْمًا جديدً وإنما أوضحت وفسرت ما كان مجملاً أو محتملاً، وهذا هو المراد بقول بعضهم أن السُنَّةَ قاضيةٌ على الكتاب، أي: مبيِّنَةٌ له، لا أنها مقدمة عليه.
وقد يعترض أيضاًً بأن الأثر عن معاذ فيه مقال كثير، فقد قال الترمذي عنه:«لَا نَعْرِفُهُ إِلَاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ» (2) وَعَدَّهُ الجوزجاني في " الموضوعات " وقال: «هَذَا حَدِيْثٌ بَاطِلٌ جَاءَ بِإِسْنَادٍ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيِعَةِ» .
(1)[سورة النساء، الآية: 24].
(2)
6/ 70: " بشرح ابن العربي ".
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[انظر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري: 2/ 848 حديث رقم 1599.الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م. نشر دار ابن الجوزي المملكة العربية السعودية].