الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
-:
ننتقل بعد ذلك إلى القسم الأخير من نقدنا لفصل الحديث في " فجر الإسلام ". وهو متعلق بأبي هريرة، رضي الله عنه، وأشهد أن المؤلف كان لَبِقاً جِدًّا في توجبه المطاعن نحو أبي هريرة، ومجاراة المُسْتَشْرِقِينَ وَالنَظَّامِ، في التحامل على هذا الصحابي الجليل. فقد وزع طعونه في مواضع متفرقة من بحثه، وكان حديثه عنه حديث محترس متلطف، محاذر أن يجهر بما بعتقده في حقه من سوء، ولكن أسلوب المؤلف، وتحريفه لبعض الحقائق في تاريخ أبي هريرة، وحرصه على الشكيك في صدقه، ونقل شك الصحابة في هذا الصحابي الجليل، كل ذلك قد نَمَّ عن سريرة مؤلف " فجر الإسلام "، وأزاح عن خبيئة نفسه.
وقد رأيت من المناسب أن أذكر ترجمة مختصرة لأبي هريرة - قبل التعرض لمناقشة المؤلف فيما كتبه عنه - لتعرف رأي التاريخ الصادق، ورأي صحابة الرسول، وعلماء التَّابِعِينَ، وأئمة المُسْلِمِينَ في هذا الشيخ الصحابي الجليل، ثم لتقارن بعد ذلك بين هذه الصورة الرائعة المشرقة، وبين الصورة التي أظهره بها مؤلف " فجر الإسلام " تبعاً لشيوخه من المُسْتَشْرِقِينَ.
اسْمُهُ وَكُنْيَِتُهُ (1):
--------------------
اختلف في اسمه، واسم أبيه على أقوال كثيرة أبلغها القطب الحلبي إلى أربعة وأربعين قولاً أرجعها الحافظ ابن حجر إلى ثلاثة أقوال. ومن أشهرها أنه كان في الجاهلية يُسَمَّى عبد شمس بن صخر، فلما أسلم سَمَّاهُ الرسول صلى الله عليه وسلم، عبد الرحمن، وهو من قبيلة دَوْسٍ إحدى قبائل اليمن، وأمه أميمة بنت صفيح بن الحارث دوسية أيضاًً.
(1) أخذنا هذه االترجمة من مصادر متعددة كـ " الاستيعاب " لابن عبد البر و" الإصابة " لابن حجر و" تهذيب الأسماء واللغات " للنووي، وغيرها.
وسبب تكنيته بأبي هريرة ما حكاه " الترمذي " عنه قَالَ: «كُنْتُ أَرْعَى غَنَمَ أَهْلِي وَكَانَتْ لِي هُرَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ فَكُنْتُ أَضَعُهَا بِاللَّيْلِ فِي شَجَرَةٍ فَإِذَا كَانَ النَّهَارُ ذَهَبْتُ بِهَا مَعِي فَلَعِبْتُ بِهَا فَكَنَّوْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ» .
إِسْلَامُهُ وَصُحْبَتُهُ:
-----------------
المشهور أنه أسلم سَنَةَ سبع من الهجرة بين الحديبية وخيبر، وكان عمره حينذاك نحواً من ثلاثين سَنَةٍ (1)، ثم قدم المدينة مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حين رجوعه من خيبر، وسكن «الصُفَّةَ» (2) ولازم الرسول ملازمة تَامَّةً، يدور معه حيثما دار، ويأكل عنده في غالب الأحيان، إلى أن تُوُفِّيَ عليه الصلاة والسلام.
أَوْصَافُهُ وَشَمَائِلُهُ:
------------------
كان رضي الله عنه، آدم بعيد ما بين المنكبين، ذا ضفيرتين أفرق الثنيتين يُصَفِّرُ لحيته ويعفيها، ويحفي شاربه، وكان صادق اللهجة خفيف الروح، مُحَبَّباً إلى الصحابة، مُحِباً للمزاح.
أخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب المزاح " عن الزبير بن بكار أن رجلا قال لأبي هريرة: إني أصبحت صائماً، فجئت أبي فوجدت عنده خبزاً ولحماً فأكلت حتى شبعت، ونسيت أني صائم، فقال أبو هريرة: الله أطعمك، فخرجت حتى أتيت فلاناً، فوجدت عنده نعجة تحلب، فشربت من لبنها حتى رويت، قال: الله أسقاك، قال: فرجعت إلى أهلي فَقِلْتُ (من القيلولة)، فلما استيقظت دعوت بماء فشربته، فقال: يا ابن أخي، أنت لم تَعَوَّدْ على الصيام!.
وروى ابن قتيبة في " المعارف " أن مروان بن الحكم استخلف أبا هريرة على المدينة، فركب حماراً قد شد عليه بردعة، وفي رأس الحمار خلية من ليف، فيسير
(1) سيأتي معنا ترجيح إسلامه قبل أن يعلن إسلامه قادماً من بلاده بعد الانتهاء من غزوة خيبر.
(2)
مكان في المسجد النبوي خصصه الرسول عليه الصلاة والسلام لفقراء المهاجرين الذين لم يجدوا بيوتاً يَأْوُونَ إليها في المدينة. ولا يزال مكان الصُفَّةِ معروفاً في المسجد النبوي حتى الآن.
فيلقى الرجل فيقول: «الطَّرِيقَ
…
قَدْ جَاءَ الأَمِيرُ»، وقد استغل الطاعنون في أبي هريرة (أمثال جولدتسيهر)(1) هذه الدعابة التي كانت فيه فبنوا عليها أنه كان ضعيف العقل. ويظهر أن مؤلف " فجر الإسلام " يستحسن هذا الرأي، ولذلك أشار فيما كتبه عن أبي هريرة إلى ما ذكره ابن قتيبة من نوادره، ولم ير في جميع خلاله وأخلاقه ما يستحق منه مثل هذا التنبيه، ولا ريب أن هذا تحامل على أبي هريرة وتشويه لحقيقته على غير أساس، فظهور الرجل بمظهر المتلطف المداعب المحب للمزاح لا يحط من قدره، ولا يكون مظهراً من مظاهر اضطراب عقله وخفته، وإلا لزم أن يكون كل لطيف مزوح، خفيف العقل، وكل ثقيل الظل جافي الطبع، كبير العقل وافر التفكير.
زُهْدُهُ وَعِبَادَتُهُ وَوَرَعُهُ:
----------------------
تقدم أنه كان من أهل الصُفَّةِ، وأنه كان يصحب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في أكثر الأوقات، ويأكل عنده، وكثيراً ما تحمل آلام الجوع حرصا منه على أن لايفوته شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري عن أبي هريرة: «وَاللهِ اَلَّذِي لَا إِلَه إِلَاّ هُوَ إِنْ كُنْت لأَعْتَمِد عَلَى الأَرْض بِكَبِدِي مِنَ الجُوعِ، وَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي» ، ويقول:«لَقَدْ رَأَيْتُنِي أُصْرَعُ بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَيُقَال: مَجْنُونٌ، وَمَا بِي جُنُونٌ، وَمَا بِي إِلَاّ الجُوعُ» .
ولقد افترى على الحق من زعم أن أبا هريرة كان مُصَاباً بالصرع استناداً إلى كلمته «أُصْرَعُ» الواردة في هذا الأثر، فقد فسر أبو هريرة هذا الصرع بأنه صرع جوع وَفَاقَةٍ، لا صرع جنون ومرض. وأيضاًً فالذين تكلموا في حياة أبي هريرة من المُؤَرِّخِينَ المُسْلِمِينَ لم يذكروا لنا أي شيء عن إصابته بهذا المرض، فمن أين جاء بعض المُسْتَشْرِقِينَ بهذه الفرية، وليس لهم ما يرجعون إليه في تاريخ حياته إلا ما كتبه المُؤَرِّخُونَ المُسْلِمُونَ؟!.
(1) انظر ما كتبه عنه هذا المستشرق في " دائرة المعارف الإسلامية ": 1/ 408 مادة (أبي هريرة) من النسخة العربية.
أما عبادته وورعه فقد نقل ابن حجر عَنْ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الطُّفَاوَةِ، قَالَ:«نَزَلْتُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ أُدْرِكْ مِنْ الصَحَابَةِ رَجُلاً أَشَدَّ تَشْمِيرًا، وَلَا أَقْوَمَ عَلَى ضَيْفٍ مِنْهُ» .
وأخرج أحمد (*) عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ، قَالَ:«تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ [يَعْتَقِبُونَ] اللَّيْلَ أَثْلَاثًا: يُصَلِّي هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا» .
وأخرج ابن سعد عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةً يَقُولُ: «أُسَبِّحُ بِقَدْرِ ذَنْبِي» . وروى [معمر بن راشد](* *) عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ بَعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: " اسْتَأْثَرْتَ بِهَذِهِ الأَمْوَالِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَعَدُوَّ كِتَابِهِ "، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " لَسْتُ عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَا عَدُوَّ كِتَابِهِ، وَلَكِنِّي عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا "، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟ قَالَ: " خَيْلٌ لِي تَنَاتَجَتْ، وَغُلَّةُ رَقِيقٍ لِي، وَأُعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ " فَنَظَرُوهُ، فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، دَعَاهُ عُمَرُ لِيَسْتَعْمِلَهُ، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ، فَقَالَ: " أتَكْرَهُ الْعَمَلَ وَقَدْ طَلَبَ الْعَمَلَ مَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْكَ يُوسُفُ؟ قَالَ: " إِنَّ يُوسُفَ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ، وَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ابْنُ أُمَيْمَةَ أَخْشَى ثَلَاثًا وَاثْنَيْنِ "، قَالَ لَهُ عُمَرُ: " أَفَلَا قُلْتَ: خَمْسًا؟ " قَالَ: " لَا، أَخْشَى أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَقْضِيَ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَيُضْرَبَ ظَهْرِي، وَيُنْتَزَعَ مَالِي، [وَيُشْتَمَ عِرْضِي] "» .
حِفْظُهُ وَقُوَّةُ ذَاكِرَتِهِ:
-------------------
كان من أثر ملازمة أبي هريرة للرسول صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، أن اطلع على ما لم يطلع عليه غيره من أقوال الرسول وأعماله، ولقد كان سيء الحفظ حين أسلم، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:«افْتَحْ كِسَاءَكَ» ، فَبَسَطَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ:«ضُمَّهُ إِلَى صَدْرِكَ» فَضَمَّهُ، فَمَا نَسِيَ حَدِيثًا بَعْدَهُ قَطُّ.
وهذه القصة - قِصَّةُ بَسْطِ الثَّوْبِ - أخرجها أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد والنسائي، وأبي يعلى، وأبي نعيم.
فما زعمه (جولدتسيهر) من أن هذه القصة موضوعة وضعها العامة تبريراً لكثرة حديثه، إنما هو افتراء محض، وتخيل لا يبرره العلم، وتعصب أوحى به التحامل اليهودي على أكبر صحابي روى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدري ما هي أدلته العلمية في أن هذه القصة مختلقة؟ هل عثر فيما بين يديه من نصوص التاريخ على مَا يُؤَيِّدُ هذه الدعوة، حتى يكذب أئمة الحديث الذين نقلوا هذه القصة وَوَثَّقُوا رُوَاتِهَا؟!.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)" المسند "، أحمد بن حنبل، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط - عادل مرشد، وآخرون، الطبعة الأولى: 1421 هـ - 2001 م، حديث رقم 8633، 14/ 280، نشر مؤسسة الرسالة.
(* *) ليس في " مصنف عبد الرزاق " وإنما ورد في " جامع معمر بن راشد " الذي طبع كملحق لـ " مصنف عبد الرزاق "، تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي: 11/ 323 حديث رقم 20659 نشر المجلس العلمي بباكستان، وتوزيع المكتب الإسلامي ببيروت. طبعة المكتب الإسلامي.
والمُسْتَشْرِقُونَ، ومن لَفَّ لَفَّهُمْ يتظاهرون باستغراب قوة الحفظ عند أبي هريرة إلى هذا الحد، ولو نظروا إلى الأمر بعين الإنصاف، وعلى ضوء علم النفس وعلم الاجتماع، لما وجدوا فيه غرابة ولا بُعْدًا، فلكل أُمَّةٍ ميزة تمتاز بها على غيرها.
والحفظ من الميزات التي امتاز بها العرب، وفي الصحابة وكبار التَّابِعِينَ ومن بعدهم، من كان آية في سرعة الحفظ وقوة الذاكرة، ومن علم أن البخاري كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث بأسانيدها، وأن أحمد بن حنبل كان يحفظ ستمائة ألف حديث، وأن أبا زرعة كان يحفظ سبعمائة ألف حديث، لا يستغرب على أبي هريرة أن يحفظ ما حفظ، وكل أحاديثه التي أثرت عنه كما جاء في "مسند بقي بن مخلد "، خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حَدِيثًا، وما زال علماء العربية وكبار الشعراء قَدِيمًا وَحَدِيثًا يحفظون من الشعر والنثر ما لا يُعَدُّ شَيْئًا بجانبه حفظ أبي هريرة لأحاديثه التي حَدَّثَ بها، فها هو الأصمعي كان يحفظ خمسة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب كما يذكر الرُوَاةُ.
ولقد ذكر الكاتب المُحَقِّقُ الأستاذ محب الدين الخطيب ما شاهده من حفظ الشيخ الشنقيطي رحمه الله ما يدعو إلى الدهشة، وإليك ما قاله في ذلك:«نحن نعرف معرفة شخصية الأستاذ العَلَاّمَة الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي رحمه الله وكان يحفظ الشعر الجاهلي كله، ويحفظ شعر أبي العلاء المعري كله، ولو رحنا نَعُدُّ ما يحفظه لكان شيئاً عظيماً وكتابه " الوسيط في تراجم علماء وأدباء شنقيط " كتبه من أوله إلى آخره من حفظه إجابة لاقتراح شيخنا الشيخ طاهر الجزائري، وفي هذا الكتاب أنساب أهل شنقيط رجالاً ونساءً، وذكر قبائلهم وما نظموه وما يؤثر عنهم من مؤلفات وأخبار، ولم يكن لذلك مرجع يرجع إليه قبل كتاب " الوسيط " الذي ألفه الشيخ أحمد بن الأمين على ما نعرفه نحن شخصياً، فما حفظه أبو هريرة رضي الله عنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول صحبته لا يجيء في كميته شيئاً بجانب ما شاهدناه من محفوظ الشيخ الشنقيطي فضلاً عن غيره من رجال أُمَّتِنَا الممتازين بجودة الحفظ وقوة الذاكرة» . اهـ. (1).
(1)" مجلة الفتح ": العدد 725.
على أن الصحابة في عصره اعترفوا له بكثرة الحفظ كما ستسمع، وامتحنه مروان في دقة حفظه، فخرج من الامتحان فائزاً، وذلك كما نقله ابن حجر في " الإصابة " عن أبي الزُعَيْزِعَةِ كاتب مروان: من أن مروان أرسل إلى أبي هريرة فجعل يُحَدِّثُهُ، وأجلس أَبَا الزُعَيْزِعَةِ خلف السرير يكتب ما يُحَدِّث به حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إلى أبي هريرة فسأله في تلك الأحاديث، فأعادها عليه، فنظر مروان في المكتوب عنده فما غَيَّرَ حرفاً، ولعل في هذا ما يرد إفك المُسْتَشْرِقِينَ المُتَعَصِّبِينَ وأذنابهم من المُسْلِمِينَ الذين يشككون في حفظ أبي هريرة وصدقه لا لغرض منهم عند أبي هريرة نفسه، ولكنها إحدى محاولاتهم للنيل من الإسلام والتشكيك في سلامة بنيانه.
ثَنَاءُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ العِلْمِ:
----------------------------------------
قال طلحة بن عبيد الله: «لَا أَشُكُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ نَسْمَعْ» .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَبُو هُرَيْرَةَ خَيْرٌ مِنِّي وَأَعْلَمُ بِمَا يُحَدِّثُ» .
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلَهُ [عَنْ شَيْءٍ]، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: عَلَيْكَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَإِنِّي بَيْنَمَا أنا وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَفُلَانٌ فِي الْمَسْجِدِ، ذَاتَ يَوْمٍ نَدْعُو اللهَ، وَنَذْكُرُ رَبَّنَا خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا فَسَكَتْنَا فَقَالَ:«عُودُوا لِلَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ» قَالَ زَيْدٌ: فَدَعَوْتُ أَنَا وَصَاحِبَيَّ [قَبْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ]، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِنَا، ثُمَّ دَعَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ:" اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِثْلَ مَا سَأَلَكَ صَاحِبَايَ هَذَانِ، وَأَسْأَلُكَ عِلْمًا لَا يُنْسَى "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«آمِينَ» ، [فَقُلْنَا]:" يَا رَسُولَ اللهِ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا لَا يُنْسَى "، فَقَالَ:«سَبَقَكُمْ بِهَا الْغُلَامُ الدَّوْسِيُّ» .
وقال عمر لأبي هريرة: «إِنْ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَحْفَظُنَا لِحَدِيثِهِ» . وَقَالَ أُبَيٌّ بْنِ كَعْبٍ: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَرِيئًا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ» .
وقال الشافعي: «أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ» . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «رَوَىَ عَنْهُ نَحْوُ الْثََّمَانِمِائَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ أَحْفَظُ مِنَ رَوَىَ الْحَدِيثَ فِيْ عَصْرِهِ» . وَقَالَ أَبُو صَالِح (*): «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ أَصْحَابِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم» . وَقَالَ سَعِيْدٍ بْنِ أَبِي الحَسَنِ (أَخُو الحَسَنِ الْبَصْرِيِّ): «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْصََّحَابَةِ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» . وَقَالَ الْحَاكِمُ: «كَانَ مِنْ أَحْفَظِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ. ذَكْوَانُ [الوفاة: 101 - 110 هـ] مَوْلَى جُوَيْرِيَة الْغَطَفَانِيَّةِ.
مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَانَ يَجْلِبُ السَّمْنَ وَالزَّيْتَ إِلَى الْكُوفَةِ، قِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَ حِصَارَ يَوْمِ الدَّارِ، وَسَمِعَ: سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا سَعِيدٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَجَمَاعَةً،
وَعَنْهُ: ابْنُهُ سُهَيْلٌ، والأَعْمَش، وَسُمَيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَبُكَيْرُ بْنُ الأَشَجِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَخَلْقٌ.
ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ: ثقةٌ ثِقَةٌ، مِنْ أَجَلَّ النَّاسِ وَأَوْثَقَهُمْ
…
وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ مُؤَذِّنًا فَأَبْطَأَ الإِمَامُ، فَأَمَّنَا، فَكَانَ لا يَكَادُ يُجِيزُهَا مِنَ الرِّقَّةِ وَالْبُكَاءِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ثِقَةٌ، صَالِحُ الْحَدِيثِ، يُحتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ إِذَا رَآهُ قَالَ: مَا عَلَى هَذَا أَلا يَكُونُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ.
وَقَالَ أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مِنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ أَلْفَ حَدِيثٍ.
تُوُفِّيَ سنة إحدى ومائة،رحمه الله. انظر:" تاريخ الإسلام " للإمام الذهبي: 3/ 189، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، الطبعة الأولى: 2003 م، نشر دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان.
وَسَلَّمَ - وَأَلْزَمَهُمْ لَهُ، صَحِبَهُ عَلَىَ شِبَعِ بَطْنِهِ، فَكَانَتْ يَدُهُ مَعَ يَدِهِ، يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ إِلَى أَنْ مَاتَ عليه الصلاة والسلام، وَلِذَلِكَ كَثُرَ حَدِيثُهُ». وَقَالَ أَبُوْ نُعَيْمٍ:«وَكَانَ أَحْفَظَ الْصَّحَابَةِ لأَخْبَارِ رَسُولِ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا بِأَنْ يُحَبِِّبَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكُلُُّ مُؤْمِنٍ مُحِبُّ لأَبِي هُرَيْرَةَ» . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «أَجْمَعَ أَهْلُ الحَدِيثِ عَلَىَ أَنََّهُ أَكْثَرُ الْصَّحَابَةِ حَدِيثًا» ، وَقَالَ - بَعْدَ أَنْ سَاقَ قِصََّةً الثَّوْبِ -:«وَالحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ مِنْ عَلَامَاتِ الْنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ أَحْفَظُ الْنَّاسِ لِلأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِيْ عَصْرِهِ» .
مَنْ رَوَى عَنْهُمْ وَمَنْ رَوَوْا عَنْهُ:
------------------------------
روى عن كثير من الصحابة، منهم: أبو بكر، وعمر، والفضل بن العباس، وأُبَيَّ بن كعب، وأسامة بن زيد، وعائشة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - وروى عنه من الصحابة كثيرون، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وواثلة بن الأسقع.
ومن التَّابِعِينَ: سعيد بن المسيب وكان زوج ابنته، وعبد الله بن ثعلبة، وعروة بن الزبير، وقُبيصة بن ذؤيب، وسلمان الأغر، وسليمان بن يسار، وعراك بن مالك، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو سلمة وَحُمَيْدٌ ابنا عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار وكثيرون جِدًّا بلغوا كما قال البخاري: ثمانمائة من أهل العلم والفقه. وإن في أخذ هؤلاء الثمانمائة من كبار الصحابة والتَّابِعِينَ عنه، ونقلهم لحديثه، وثقتهم به، لثمانمائة برهان على جلالة قدره وصدق لهجته، وثمانمائة تكذيب لمن أكل الحسد والعداوة والتعصب قلوبهم من المُسْتَشْرِقِينَ ومن تبعهم من المُسْلِمِينَ.
مَرَضُهُ وَوَفَاتُهُ:
---------------
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الْدُّنْيَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ شَدِيْدُ الْوَجَعِ فَاحْتَضَنْتَهُ، فَقُلْتُ:«الْلَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ» ، فَقَالَ:«الْلَّهُمَّ لَا تُرْجِعَهَا - قَالَهَا مَرَّتَيْنِ -» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَمُوتَ فَمُتْ، وَالْلَّهِ الَّذِيْ نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَىَ النَّاسِ زَمَانٌ يَمُرُّ الرَّجُلُ عَلَىَ قَبْرِ أَخِيهِ فَيَتَمَنَّى أَنَّهُ صَاحِبُهُ» .
وروى أحمد والنسائي بسند صحيح عن عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة أنه قال حين حضره الموت: «لَا تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطَا وَلَا تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرَةٍ وَأَسْرَعُوا بِيَ» .
وأخرج البغوي عن أبي هريرة أنه لما حضرته الوفاة بكى فسئل فقال: «مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَشِدَّةِ المَفَازَةِ» .
ودخل مروان عليه في مرضه الذي مات فيه قال: «شَفَاكَ اللهُ» ، فقال أبو هريرة:«اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَكَ فَأَحِبَّ لِقَائِيِ» . ثم خرج مروان فما بلغ وسط السوق حتى مات. وصلى عليه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان بعد العصر سَنَةِ سبع أو ثمان أو تسع وخمسين. وعمره ثمان وسبعون أو تسع وسبعون سَنَةً. ولما بلغ معاوية نعيه أمر عامله بالمدينة أن يدفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم ويحسن جوارهم، لأنه كان مِمَّنْ نصر عثمان يوم الدار رحمه الله ورضي عنه وأجزل مثوبته.
شُبَهُ مُؤَلِّفُ " فَجْرِ الإِسْلَامِ " عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ:
---------------------------------------------
هذه هي الصورة الصادقة لأبي هريرة كما جاءت في التاريخ، وكما عرفها علماؤنا، فكيف أبرز مؤلف " فجر الإسلام "، هذه الصورة؟
لقد ذكر في أوائل فصل الحديث رَدَّ ابن عباس وعائشة عليه، وتكذيبهما له فيما روى من بعض الأحاديث، ثم زعم أنه يترجم له فاقتصر على ذكر نسبه وأصله وتاريخ إسلامه، وأشار إلى ما رُوِيَ من دعابته ومزاحه - وعرفت غرضه من ذلك - وكان من حق الأمانة العلمية عليه أن يذكر لنا مكانته في الصحابة والتَّابِعِينَ وأئمة الحديث، وثناءهم عليه، وإقرارهم له بالحفظ والضبط والصدق لأن هذا الجانب من ترجمة أبي هريرة أدخل في موضوعنا وأمس به من كل شيء سواه، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا، بل تعرض لآمور يسيء ظاهرها إلى أبي هريرة جِدَّ الإساءة، فكانت محاولة مستورة للطعن فيه، تمشياً مع (جولدتسيهر) وأمثاله من المُسْتَشْرِقِينَ.
وتتلخص دسائسه عليه في الأمور التالية:
أولاً - إن بعض الصحابة - كابن عباس وعائشة - رَدُّوا عليه بعض حديثه وَكَذَّبُوهُ.
ثانياً - إنه لم يكن يكتب الحديث، بل كان يعتمد في روايته على ذَاكِرَتِهِ.