الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الأثر «ذُو الوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا» (1) ولن يكون عند الذين يحترمون أنفسهم وَجِيهًا ..
والقعيدة التي ندين الله بها أن أبا هريرة كان مُحبًّا لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم روى في فضائل الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ أكثر من حديث، واصطدم مع مروان بن الحكم في المدينة يوم أراد المُسْلِمُونَ دفن الحسن مع جده رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك كانت بينهما وحشة استمرت إلى قرب وفاة أبي هريرة كما يعلم مِمَّا ذكرناه في هذا الكتاب وكان أبو هريرة مِمَّنْ نصر عثمان يوم الدار كما نصره عَلِيٌّ وابنه الحَسَنَ وَالحُسَيْنُ، ولكنه مع هذا كان منصرفاً إلى بث السُنَّةِ وخدمة العلم، أبى أن يخوض الفتنة التي وقعت بين عَلِيٌّ ومعاوية كما أبى أن يخوضها عدد من كبار الصحابة، ضناً منهم بأن يشاركوا في سفك دماء المُسْلِمِينَ واجْتِهَادًا منهم بأن الحياد بين الفريقين أرضى لله وأبرأ للذمة. هذا هو موقف أبي هريرة وما عدا ذلك فَدَسٌّ وَافْتِرَاءٌ وَتَعَصُّبٌ كان يمليه الهوى والشعوبية فيما مضى، فأصبح يمليه النفاق والجهل وسوء العقيدة الآن.
كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
-:
يتضح لنا مِمَّا ذكرناه في هذا الفصل عن أبي هريرة رضي الله عنه من النصوص الثابتة عند أئمة الحديث وثقات المُؤَرِّخِينَ الحقائق التالية:
أولاً - أنه كان أكثر صحابي روى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه منذ أسلم وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِيَ بحفظ حديثه وتتبع أخباره التي كانت قبل هجرته إليه، وما زال يتتبع حديثه من أقرانه من الصحابة حتى أحاط بثروة من الحديت لم تجتمع لصحابي قط.
ومع ما أثارت بعض أحاديثه من «استغراب» بعض الصحابة الذين لم يطلعوا
(1) هكذا يشتهر على الألسنة، وقد ذكره السيوطي في " الجامع الصغير " بلفظ:(ذُو الوَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَهُ وَجْهَانِ مِنْ نَارٍ) ثم رمز له السيوطي بعلامة الحَسَنِ وَتَعَقَّبَهُ المناوي بأنه ضعيف.
على تلك الأحاديث، ومن استغراب بعض الناس! «كثرة» ، أحاديثه أول الأمر، فقد اعترفوا له أخيراً أنه أحفظهم للحديث وَأَرْوَاهُمْ لَهُ، ولم يَشُكُّوا أبداً في صدقه وفي أحاديثه.
ونذكر هنا على سبيل المثال حادثتين وقعتا له مع من استغرب بعض أحاديثه من الصحابة، وقد ذكرنا من قبل جوابه لعائشة أم المؤمنين جواباً أقنعها وأرضاها.
1 -
أخرج ابن سعد في " طبقاته "(1) عن الوليد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه حَدَّثَ عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم بالحديث: «مَنْ شَهِدَ جَنَازَةً
…
فَلَهُ قِيرَاطٌ» فقال ابن عمر: «انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ بِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! فَإِنَّكَ تُكْثِرُ الحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَىَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ:«أَخْبِرِيهِ كَيْفَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ» . فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:«يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! وَالْلَّهِ مَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَرْسُ الْوَدِيِّ وَلَا الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ» ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَنْتَ أَعْلَمُنَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ بِرَسُولِ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَحْفَظُنَا لِحَدِيثِهِ.
2 -
وأخرج ابن كثير في " تاريخه "(2) عَنْ أَبِي اليسر بْنِ أَبِي عَامِرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! وَاللَّهِ مَا نَدْرِي هَذَا الْيَمَانِيُّ (أَبَا هُرَيْرَةَ) أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكُمْ؟ أَمْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا لَمْ يَسْمَعْ أَوْ مَا لَمْ يَقُلْ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: «وَاللَّهِ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَعَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، إِنَّا كُنَّا قَوْمًا أَغْنِيَاءَ، لَنَا [بُيُوتَاتٌ] وَأَهْلُونَ، وَكُنَّا نَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ ثُمَّ نَرْجِعُ، وَكَانَ هُوَ (أَبُو هُرَيْرَةَ) مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا أَهْلَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ يَدُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، فَمَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، وَسَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ» ، قال ابن كثير:«وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بْنحْوِهِ» . اهـ.
(1) 7/ 363، طبع بيروت.
(2)
8/ 109.
فهاتان الحادثتان المنقولتان نقلاً موثوقاً عند أهل العلم تقطع أَلْسِنَةَ الذين يلوكون ألسنتهم بِاتِّهَامِ أبي هريرة منذ عهد النَظَّامِ حتى أَبِي رَيَّةَ
…
ثانياً - أنه استمر في تحديثه حتى تُوُفِّيَ سَنَةَ 58 أو 59 أو 60 على اختلاف الروايات والصحابة متوافرون، والمُسْلِمُونَ أيقاظ، والدولة الإسلامية في قُوَّتِهَا وعظمتها، وعلماء المُسْلِمِينَ يَلْتَفُّونَ حول هذا الصحابي الجليل، يحسب كل واحد منهم من الشرق أَنْ يَلْقَى أبا هريرة ويأخذ عنه، حتى من الشرف الذي نال سيد التَّابِعِينَ وعالمهم بلا منازع سعيد بن المسيب أن تزوج بنت أبي هريرة ولازمه حتى تُوُفِّيَ، وبذلك بلغ الآخذون عنه من الصحابة والتَّابِعِينَ ثمانمائة من أهل العلم كما قدمناه عن " البخاري "، وهو عدد لم يبلغ عُشْرَهُ الآخذون عن أي صحابي آخر، وفي هذا ما يقنع الذين يريدون الحق ويستجيبون لوحي ضمائرهم بأن أبا هريرة كان في المحيط الذي يعيش فيه، وبين من يعرفونه من الصحابة والتَّابِعِينَ في الذروة العليا من الصدق يعلو عن الشك والريبة ووساوس المُرْجِفِينَ.
والذي يعرف ما كان عليه ذلك الجيل الممتاز من صحابة رسول الله والتَّابِعِينَ من صدق اللهجة، ونصرة الحق، وخذلان الباطل، وإنكار المنكر، والوقوف في وجه المبتدعين والمحاولين لتحريف الدين، والشدة على من انحرف، عن سُنَّةِ الرسول صلى الله عليه وسلم في قول أو عمل، يجزم بأنهم لم يكونوا ليسكتوا عن أبي هريرة لو كان عندهم أدنى شك في صدقه، كيف وهو ليس ذا سلطان، وليس ذا جاه ونفوذ، فما الذي كان يمنعهم من الإنكار عليه ومنعه من التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانوا شَاكِّينَ في صدقه، وَهُمْ الذين كانوا يصدعون بالحق في وجوه الخلفاء والأمراء؟
ثالثاً - ورأيت كيف جابه مروان بن الحكم في قضية دفن الحسن مع جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومروان والي المدينة، وهو أُمَوِيٌّ والدولة يومئذ للأمويين، ومع ذلك فقد غضب أبو هريرة لتدخل مروان في منع دفن الحَسَنِ عند الرسول عليه السلام، وقال:«تَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ» ! .. ولما أراد أن يتخذ مروان من إكثار أبي هريرة للحديث سبيلاً إلى إسكاته، أجابه ذلك الجواب الصريح
العنيف، فهل ترى ذلك جواب رجل يَكْذِبُ على رسول الله، مُتَّهَمٌ في دينه وإسلامه، متشيع لبني أمية كما حاول أَبُو رَيَّةَ أن يصوره؟ أم هو الرجل الواثق من دينه وإسلامه وهجرته إلى رسول الله وحديثه عن رسول الله، حتى تمنى مروان أن لم يكن قد تحرش بأبي هريرة!
رابعاً - أَنَّهُ كَانَ مَعَ عِلْمِهِ وَبَثِّهِ لِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عابداً زاهداً، كثير الذكر والصلاة الاستغفار، فقد أخرج ابن كثير في " تاريخه "(1) عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، وَامْرَأَتُهُ ثُلُثَهُ، وَابْنُهُ ثُلُثَهُ يَقُومُ هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا هَذَا» . وأخرج أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ: «إِنِّي أُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: فَجُزْءٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَجُزْءٌ أَنَامُ فِيهِ، وَجُزْءٌ أَتَذَكَّرُ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: «كَانَ لأَبِي هُرَيْرَةَ مَسْجِدٌ فِي مُخْدَعِهِ، وَمَسْجِدٌ فِي بَيْتِهِ، وَمَسْجِدٌ فِي حُجْرَتِهِ، وَمَسْجِدٌ عَلَى بَابِ دَارِهِ، إِذَا خَرَجَ صَلَّى فِيهَا
[جَمِيعِهَا]، وَإِذَا دَخَلَ صَلَّى فِيهَا [جَمِيعِهَا]».
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ، وَيَقُولُ:" أُسَبِّحُ عَلَى قَدْرِ [دِيَتِي] " وهذا لعمري منتهى العبادة والمراقبة لله عز وجل.
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: «كَانَتْ لأَبِي هُرَيْرَةَ صَيْحَتَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوَّلَ النَّهَارِ يَقُولُ: " ذَهَبَ اللَّيْلُ وَجَاءَ النَّهَارُ، وَعُرِضَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ ". وَإِذَا كَانَ الْعَشِيُّ يَقُولُ: " ذَهَبَ النَّهَارُ وَجَاءَ اللَّيْلُ، وَعُرِضَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ ". فَلَا يَسْمَعُ أَحَدٌ صَوْتَهُ إِلَاّ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» .
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي سُجُودِهِ أَنْ يَزْنِيَ أَوْ يَسْرِقَ أَوْ يَكْفُرَ أَوْ يَعْمَلَ بِكَبِيرَةٍ. فَقِيلَ لَهُ: أَتَخَافُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «مَا يُؤَمِّنُنِي وَإِبْلِيسُ حَيٌّ، وَمُصَرِّفُ الْقُلُوبِ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ؟» .
(1)" البداية والنهاية ": 8/ 110 - 114.
(2)
[سورة الإسراء، الآية: 97].
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: «قُلْتُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: كَيْفَ تَصُومُ؟» قَالَ: «أَصُومُ أَوَّلَ الشَّهْرِ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ كَانَ لِي أَجْرُ شَهْرِي» .
وَكَانَتْ لأَبِي هُرَيْرَةَ زِنْجِيَّةٌ قَدْ غَمَّتْهُمْ بِعَمَلِهَا، فَرَفَعَ عَلَيْهَا يَوْمًا [السَّوْطَ]، ثُمَّ قَالَ
وحسبك دليلاً على ما كان يتمتع به من صلاح وتقوى في نظر القوم أنه كان وابن عمر هما اللذان يُكبِّرَانِ في مِنَى أيام العيد فَيُكَبِّرُ الناس بتكبيرهما، وأنه كان هو الذي صلى على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما، وفي رواية أنه صلى أيضاًً على أم سلمة أم المومنين رضي الله عنها.
وَلِمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: «مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي، وَإِنِّي أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطٍ عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، لَا أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا يُؤْخَذُ بِي!» .
أفترى هذه العبادة والصلاة والتسبيح والوعظ والبكاء وعتق الرقاب والخوف من الله وشدة مراقبته يتأتى ذلك كله من نفس تستبيح كبرى الكبائر في الإسلام وهي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
خامساً - وكان مع هذا كله مُقِلاًّ من الدنيا يتصدق بما يصل إلى يده من مال.
قَالَ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ كَاتِبُ مَرْوَانَ: بَعَثَ مَرْوَانُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا كَانَ الغَدُ بَعَثَ إِلَيْهِ: إِنِّي غَلِطْتُ وَلَمْ أُرِدْكَ بِهَا، وَإِنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ غَيْرَكَ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:«قَدْ أَخْرَجْتُهَا، فَإِذَا خَرَجَ عَطَائِي فَخُذْهَا مِنْهُ» . وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ مَرْوَانُ اخْتِبَارَهُ (1).
ودَعْكَ من قول أَبِي رَيَّةَ أنه كان له «قصر» بالعقيق، وقصر بكذا. فهذا من تحريفه الذي لا يخاف الله منه، وإنما الرواية في " ابن الأثير ": «وكانت وفاته في
(1)" البداية والنهاية ": 8/ 110 - 114.
«داره» بالعقيق (1) و «الدار» ، لا تدل على ثراء ولا على سعة، فلقد كان لأكثر الصحابة، بل لكل صحابي دار، وما جرؤ أحد أن يقول: أنهم كانت لهم «قصور» ! .. نعوذ بالله من تحريف الكلم عن مواضعه.
سادساً - لم يكد يمضي عصر الصحابة وكبار التَّابِعِينَ حتى كانت أحاديث أبي هريرة محل عناية أئمة الحديث، ينقدونها، فَيُبَيِّنُونَ ما صَحَّ منها، وينفون ما لم يصح، ويذكرون ما فيه ضعف أو وَهَنٍ، واحتلت أحاديث أبي هريرة الصحيحة صدور مُدَوَّنَاتِ السُنَّةِ ومسانيدها، لم يشذ عن ذلك أحد قبل أن يأتي النَظَّامُ وَالإِسْكَافِي ومن معهما من شيوخ المعتزلة، وَالإِسْكَافِي ومن سبقه من شيوخ الشِيعَةِ.
سابعاً - وكانت أحاديث أبي هريرة التي صحت عنه محل عناية الفقهاء وأئمة الاجتهاد في مختلف أمصار الإسلام، إذا صح الحديث منها لم يكن لأحد كلام معه إلا ما روي عن إبراهيم النخعي وبعض علماء الكوفة من شيوخ مدرسة الرأي الذين لهم شروط معروفة في الأخذ بأحاديث الآحاد، ولم يوافقهم على ذلك جمهور فقهاء الأمصار، حتى أبو حنيفة الذي توجت به مدرسة العراق لم يصح عنه أنه وقف من أحاديث أبي هريرة موقف إبراهيم النخعي ومن سار على رأيه، بل يعمل بها متى صحت واستوفت شرائط الصحة عنده - وهي شروط مبعثها الاجتهاد والاحتياط في أمر الرُوَاةِ غير الصحابة لا في أمر واحد من الصحابة، ومن زعم غير ذلك فهو مفترٍ كَذَّابٌ، يُكَذِّبُهُ مذهب أبي حنيفة نفسه وهو مُدَوَّنٌ مشهور.
ثامناً - كان أول من أظهر الطعن بأبي هريرة بعض شيوخ المعتزلة كالنظَّام، ولهم موقف من أكثر صحابة الرسول، لا من أبي هريرة وحده، ولهم موقف مِنَ السُنَّةِ استباحوا به أن يُكَذِّبُوا بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة عند الجمهور، وإنما أتوا من سلطان الفلسفة اليونانية على عقولهم حيث قاسوا بها الدين، وكل ما ورد منه، ولولا الخوف من الجماهير لنقدوا القرآن نفسه. فإن فيه ما لا تستسيغه
(1)" البداية والنهاية ": 8/ 114.
عقولهم اليونانية مثل ما في الحديث، ومع هذا فقد تَأَوَّلُوا القرآن بما يتفق مع عقليتهم، لقد ظنوا أن فلسفة اليونان هي الحق الذي لا باطل معه، ويستطيع الآن أقل طالب في المدارس الثانوية أن يجيبهم على هذا التأليه المضحك للفلسفة اليونانية! .. وإن زعم أَبُو رَيَّةَ أنهم أصحاب العقول الراجحة! أي كعقله تماماً ..
وأما الشِيعَةُ فإنهم لم يقفوا من أبي هريرة وحده ذلك الموقف بل وقفوا من صحابة رسول الله جميعاً إلا نَفَرًا قليلاً يعد بالأصابع، موقف العداء والبغض والذم ووصل الأمر بأكثر فرقهم إلى تكفير جمهور الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر وسعد وخالد وغيرهم مِمَّنْ أسعد الله الإنسانية بنقل هداية الإسلام على أيديهم ..
وَهُمْ في هذا الموقف متفقون مع أصولهم التي التزموها، وهي بغض كل من لم يُسَلِّمْ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه بإمارة المؤمنين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما أجمع الصحابة على تولية أبي بكر رضي الله عنه الخلافة مقتوهم جميعاً، واعتبروهم متآمرين على مخالفة وصية رسولهم صلى الله عليه وسلم حيث أوصى - في زعمهم - لِعَلِيٍّ بالخلافة من بعده، ولا نطيل في هذا القول وليس هو من بحثنا ولكنا نريد أن نقول لأَبِي رَيَّةَ: لئن اتفقت أهواؤه مع آرائهم في أبي هريرة، فإنهم لا يفردون أبا هريرة بهذه النقمة، ولكنهم يخصون أبا بكر وعمر بقسط أكبر منها ويحكون عنهما من الأقاصيص أبشع مِمَّا يحكونه عن أبي هريرة وهي التي اعتبرها أَبُو رَيَّةَ من المستندات العلمية التي يصح الاعتماد عليها، ويلزمه من ذلك أن يلتزم بكل ما جاء في كتبهم في حق الصحابة وهو معلوم معروف، وليس من المصلحة الإسلامية إثارة هذا الموضوع في هذه الظروف التي تقتضي وحدة كلمة المُسْلِمِينَ ونسيان الماضي الذي لا يَدَ لنا فيه، ولولا موقف أَبِي رَيَّةَ لما تعرضنا لهذا البحث الذي اضطررنا إليه رَدًّا لمفترياته وأضاليله التي زعم أنها هي لـ «التحقيق العلمي الذي لم يسبق إليه» !.
هذه كلمة مجملة فيها حقائق لا تنقض عن حياة أبي هريرة رضي الله عنه ومكانتة العلمية في نفوس الذين عاشروه من الصحابة والتَّابِعِينَ، وفي نفوس الجماهير من أئمة الحديث وعلماء الإسلام خلال أربعة عشر قرناً ..
ونرى أن نختم هذه الكلمة بكلمة للعلَاّمة المُحَقِّقُ المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر، قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في أوائل مسند أبي هريرة من " مسند الإمام أحمد " (1): وقد لهج أعداء السُنّةِ، أعداء الإسلام، في عصرنا، وشغفوا بالطعن في أبي هريرة، وتشكيك الناس في صدقه وفي روايته، وما إلى ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا- زعموا- إلى تشكيك الناس في الإسلام تبعاً لسادتهم المُبَشِّرِينَ، وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقراَن، أو الأخذ بما صح من الحديث في رأيهم وما صح من الحديث في رأيهم إلا ما وافق أهواءهم وما يتبعون من شعائر أوروبة وشرائعها، ولن يتورع أحدهم عن تأويل القرآن، إلى ما يخرج الكلام عن معنى اللفظ في اللغة التي نزل بها القراَن ليوافق تأويلهم هواهم وما إليه يقصدون؟!
وما كانوا بأول من حارب الإسلام في هذا الباب، ولهم في ذلك سلف من أهل الأهواء قَدِيمًا، والإسلام يسير في طريقه قدماً، وهم يصيحون ما شاؤوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم، بل هو إما يتخطاهم لايشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراً.
ومن عجب أن تجد ما يقول هؤلاء المعاصرون، يكاد يرجع في أصوله ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون، بفرق واحد فقط: أن أولئك الأقدمين، زائغين كانوا أم ملحدين، كانوا علماء مطلعين، أكثرهم مِمَّنْ أضله الله على علم! وأما هؤلاء المعاصرون، فليس إلا الجهل والجرأة وامتضاغ ألفاظ لا يحسنونها يقلدون في الكفر، ثم يتعالون على كل من حاول وضعهم على الطريق القويم.
ولقد رأيت الحاكم أبا عبد الله، المتوفي سنة 405 هـ، حكى في كتابه " المستدرك "(3/ 513) كلام شيخ شيوخه، إمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (المُتَوَفَّى سَنَةَ 311 هـ) في الرد على من تكلم في أبي هريرة، فكأنما هو يرد على أهل عصرنا هؤلاء، وهذا نص كلامه:
«وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِدَفْعِ أَخْبَارِهِ، مَنْ قَدْ أَعْمَى اللهُ قُلُوبَهُمْ، فَلَا يَفْهَمُونَ مَعَانَي الأَخْبَارِ
(1) 12/ 84، طبعة الشيخ أحمد محمد شاكر التي لم تتم.