الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفقه، وَيُصَحِّحُونَ ما ينقله «الدميري» في كتاب " الحيوان "(*) وَيُكَذِّبُونَ ما يرويه «مالك» في " الموطأ " كل ذلك انسياقاً مع الهوى، وانحرافاً عن الحق.
بهذه الروح التي أوضحنا خصائصها بحثوا في كل ما يتصل بالإسلام وَالمُسْلِمِينَ من تاريخ وفقه وتفسير وحديث وأدب وحضارة، وقد أتاح لهم تشجيع حكوماتهم، ووفرة المصادر بين أيديهم، وتفرغهم للدراسة، واختصاص كل واحد منهم بفن أو ناحية من نواحي ذلك الفن، يفرغ له جهده في حياتها كلها، ساعدهم ذلك كله على أن يصبغوا بحوثهم بصبغة علمية، وأن يحيطوا بثروة من الكتب والنصوص ما لم يحط به كثير من علمائنا اليوم الذين يعيشون في مجتمع مضطرب في سياسته وثروته وأوضاعه، فلا يجدون مُتَّسَعًا للتفرغ لما يتفرغ له أولئك المُسْتَشْرِقُونَ، وكان من أثر ذلك أن أصبحت كتبهم وبحوثهم مرجعا للمتثقفين منا ثقافة غربية وَالمُلِمِّينَ بلغات أجنبية، وقد خدع أكثر هؤلاء المُثَقَّفِينَ ببحوثهم، واعتقدوا بمقدرتهم العلمية وإخلاصهم للحق .. وجروا وراء آرائهم ينقلونها كما هي، ومنهم من يفاخر بأخذها عنهم، ومنهم من يلبسها ثَوْبًا إِسْلَامِيًّا جَدِيدًا. ولا أريد أن أضرب لك الأمثال، فقد رأيت من صنيع الأستاذ «أحمد أمين» في " فجر الإسلام "(1) مَثَلاً لتلامذة مدرسة المُسْتَشْرِقِينَ من المُسْلِمِينَ.
خُلَاصَةُ قَوْلِ جُولْدْتْسِيهِرْ فِي السُنَّةِ وَتَشْكِيكِهِ بِهَا:
ننتقل من هذه المقدمة الضرورية، إلى بيان موقف المُسْتَشْرِقِينَ مِنَ السُنَّةِ، وَشُبَهِهِمْ التي أثاروها حولها، والتي تأثر بها كثير من الكُتَّابِ المُسْلِمِينَ كما رأيت، ولعل أشد المُسْتَشْرِقِينَ خطراً، وأوسعهم باعاً، وأكثرهم خبثاً وإفساداً في هذا الميدان، هو المستشرق اليهودي المجري «جولدتسيهر» فقد كان واسع الاطِّلَاعِ على المراجع العربية - على ما يظهر- حَتَّى عُدَّ شيخ المُسْتَشْرِقِينَ في الجيل الماضي، ولا تزال كتبه وبحوثه مرجعا خصباً وهاماً للمستشرقين في هذا العصر، وقد نقل لنا الأستاذ «أحمد أمين» بصورة غير رسمية كثيراً من آرائه عن تاريخ الحديث في " فجر الإسلام " و" ضُحَاهُ "، كما نقل لنا بصورة رسمية سافرة بعض اَرائه التي صرح
(*)[للدميري كتاب " حياة الحيوان " وإنما ذكرت هذا التعليق للتمييز بين هذا الكتاب وكتاب " الحيوان " للجاحظ].
(1)
ومن صنيع أَبِي رَيَّةَ في كتابه " أَضْوَاءٌ عَلَى السُنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ ".
بعزوها إليه، كما نقل لنا الدكتور علي حسن عبد القادر في كتابه " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي " مُلَخَّصَ شُبَهِ هذا المستشرق في تاريخ الحديث، كما نجد بحث هذا الموضوع وخلاصة رأيه واضحاً في كتابه " العقيدة واالشريعة في الإسلام "، الذي ترجمه الأساتذة «محمد يوسف موسى» و «عبد العزيز عبد الحق» و «علي حسن عبد القادر» .
- وسأحاول هنا نقد خلاصة آرائه في هذا الصدد - غير متتبع لكل فقرة من فقراته، فذلك يقتضي كتاباً مستقلاً على حِدَةٍ، فإن بحوثه في هذا الشأن يضيق نطاق هذه الرسالة عن إثبات الرد عليها جملة جملة، وحسبي أن أشير إلى الاتجاهات العامة والخطوط الرئيسية في بحوثه، وأترك بقية الرد التفصيلي لفرصة أخرى، وأرجو اللهَ أن يفسح في الأجل للقيام بهذا الواجب.
قال الدكتور «علي حسن عبد القادر» في " نظرة عامة في تاريخ الفقه " ص 126: وهناك مسألة جد خطيرة، نجد من الخير أنْ نعرض لها ببعض التفصيل وهي «وضع الحديث» في هذا العصر، ولقد ساد إلى وقت قريب في أوساط المُسْتَشْرِقِينَ الرأي القائل «بأن القسم الأكبر من الحديث ليس صحيحاً ما يقال من أنه وثيقة للإسلام في عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود المُسْلِمِينَ في عصر النضوج» وأشار الدكتور عبد القادر إلى أنَّ هذا الرأي هو لجولدتسيهر في كتاب " دراسات إسلامية " وقد شرحوا هذا الرأي «بأنه في هذا العصر الأول الذي اشتدت فيه الخصومة بين الأُمَوِيِّينَ والعلماء الأتقياء، أخذ هؤلاء يشتغلون بجمع الحديث وَالسُنَّةِ، ونظراً لأن ما وقع في أيديهم من ذلك لم يكن ليسعفهم في تحقيق أغراضهم، أخذوا يخترعون من عندهم أحاديث رأوها مرغوباً فيها ولا تتنافى والروح الإسلامية، وَبَرَّرُوا ذلك أمام ضمائرهم بأنهم انما يفعلون هذا في سبيل محاربة الطغيان والإلحاد وَالبُعْدِ عن سنن الدين، ونظرا لأنهم كانوا يؤملون في أعداء البيت الأموي وهم العَلَوِيُّونَ، فقد كان محيط اختراعهم من أول الأمر مُوَجَّهًا إلى مدح أهل البيت، فيكون هذا سبيلاً غير مباشر إلى ثَلْبِ الأُمَوِيِّينَ ومهاجمتهم، وهكذا سار الحديث في القرن الأول سيرة المعارضة الساكنة بشكل مؤلم ضد هؤلاء المخالفين لِلْسُنَنِ الفقهية والقانونية.
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، فإن الحكومة نفسها لم تقف ساكتة إزاء ذلك، فإذا ما أرادت أَنْ تُعَمِّمَ رَأْيًا أو تسكت هؤلاء الأتقياء، تذرعت أيضاًً بالحديث الموافق لوجهات نظرها، فكانت تعمل ما يعمله خصومها، فتضع الحديث، أو تدعو إلى وضعه، وإذا ما أردنا أن نتعرف إلى ذلك كله، فإنه لا توجد مسألة خلافية سياسية أو اعتقادية إلا ولها اعتماد على جملة من الأحاديث ذات الإسناد القوي، فالوضع في الحديث ونشر بعضه أو اضطهاد بعضه بدأ في وقت مبكر، فالأُمَوِيُّونَ كانت طريقتهم كما قال معاوية للمغيرة بن شعبة (1):«لَا تُهْمِلْ فِي أَنْ تَسُبَّ عَلِيًّا وأنْ تطلب الرحمة لعثمان، وأنْ تَسُبَّ أصحاب عَلِيٍّ وتضطهد من أحاديثهم وعلى الضد من هذا، أنْ تمدح عثمان وأهله وأنْ تقربهم وتسمع إليهم» على هذا الأساس قامت أحاديث الأُمَوِيِّينَ ضد عَلِيٍّ، ولم يكن الأُمَوِيُّونَ وأتباعهم لِيَهُمَّهُمْ الكَذِبَ في الحديث الموافق لوجهات نظرهم، فالمسألة كانت في إيجاد هؤلاء الذين تنسب إليهم.
وقد استغل هؤلاء الأُمَوِيُّونَ أمثال الإمام الزُّهْرِي بدهائهم في سبيل وضع الحديث - وهنا اختصر الدكتور اتهام المستشرق جولدتسيهر للامام الزُّهْرِي - ومن الواجب أنْ أثبته هنا كما نقلناه عنه في الدرس، ولا تزال مسودته بخط يده عندي حيث قال: إن عبد الملك بن مروان منع الناس من الحج أيام فتنة ابن الزبير. وبنى قبة الصخرة في المسجد الأقصى ليحج الناس إليها ويطوفوا حولها بدلاً من الكعبة، ثم أراد أن يحمل الناس على الحج إليها بعقيدة دينية، فوجد الزُّهْرِي وهو ذائع الصيت في الأُمَّة الاسلامية مستعداً لأن يضع له أحاديث في ذلك، فوضع أحاديث، منما حديث:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَاّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى»
ومنها حديث: «الصَلَاةُ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» وأمثال هذين الحديثين، والدليل على أن الزُّهْرِي هو واضع هذه الأحاديث، أنه كان صديقاً لعبد الملك وكان يتردد عليه، وأنَّ الأحاديث التي وردت في فضائل بيت المقدس مروية من طريق الزُّهْرِي فقط.
أما كيف وجه الأُمَوِيُّونَ هِمَّتَهُمْ إلى أنْ يَنْشُرُوا أحاديث توافق رغبتهم وكيف استغلُّوا لذلك أناساً من نوع (الزُّهْرِي) الرجل الصالح، استغلالاً ليس من نوع
(1)[قارن بالصفحة 205 من هذا الكتاب].
الاستغلال المادي، بل من نوع الدهاء، فإنَّ ذلك يظهر لنا من بعض الأخبار التي لا تزال محفوظة عند الخطيب البغدادي، ويمكن استخدامها هنا فنجد فيه أخباراً من طرق مختلفة عن عبد الرزاق بن هَمَّامٍ (- 211 هـ) عن معمر بن راشد (- 154 هـ) الذي كان مِمَّنْ يسمع من الزُّهْرِي، وهو أنَّ الوليد بن إبراهيم الأموي جاء إلى الزُّهْرِي بصحيفة وضعها أمامه وطلب إليه أنْ يأذن له بنشر أحاديث فيها على أنه سمعها منه، فأجازه الزُّهْرِي على ذلك من غير تَرَدُّدٍ كثير وقال له: من يستطيع أن يخبرك بها غيري؟ وهكذا استطاع الأموي أنْ يروي ما كتب في الصحيفة على أنها مروية عن الزُّهْرِي، وهذا يتفق مع ما ذكر سابقاً من أمثلة عن استعداد الزُّهْرِي لإجابة رغبة البيت المالك بالوسائل الدينية، وقد كانت تقواه تجعله يشك أحياناً لكنه لا يتسطيع دائماً أنْ يتحاشى الدوائر الحكومية، وقد حدثنا معمر عن الزُّهْرِي بكلمة مُهِمَّةٍ وهي قوله:«أَكْرَهَنَا هَؤُلَاءِ الأَمَرَاءِ عَلَى أَنْ نَكْتُبَ " أَحَادِيثَ "» . فهذا الخبر يفهم استعداد الزُّهْرِي لأنْ يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند الأمَّة الإسلامية، ولم يكن الزُّهْرِي من أولئك الذين لا يمكن الاتفاق معهم، ولكنه كان مِمَّنْ يرى العمل مع الحكومة، فلم يكن يتجنب الذهاب إلى القصر، بل كان كثيراً مِمَّا يتحرك في حاشية السلطان، بل إننا نجده في حاشية الحَجَّاجِ في حَجِّهِ، وهو ذلك الرجل المبغَض، وقد جعله هشام مُرَبِّياًً لولي عهده، وفي عهد يزيد الثاني قبل منصب القضاء، وتحت تأثير هذه الحالات كان يغمض عينيه، ولم يكن من أولئك الذين وقفوا أزاء خلفاء الجور والظلم، كما يسمي الأتقياء هذا البيت، ثم ذكر المستشرق ما في زيارة أهل الظلم وأتباع السلطان من فتنه، وأنهم كانوا يعدون من قََبِِل منصب القضاء غير ثقة، وأنَّ الشعبي كان يلبس الألوان ويلعب مع الشباب حتى لا يتخذ للقضاء، وأنه حارب الحَجَّاجَ مع ابن الأشعث، وأنَّ من المُقَرَّرِ عند العلماء أنَّ من تولى القضاء فقد ذُبح بغير سِكِّينٍ.
ثم قال المستشرق بعد أنْ فرغ من اتِّهَامِ الزُّهْرِي: «ولم يقتصر الأمر على وضع أحاديث سياسية أو لصالح البيت الأموي بل تَعَدَّى ذلك إلى الناحية الدينية في أمور العبادات التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، مثل ما هو معروف من أنَّ خطبة الجمعة كانت خطبتين، وكان يخطب الخلفاء وُقُوفًا وأنَّ خطبة العيد كانت تتبع الصلاة فغيَّرَ الأُمَوِيُّونَ ذلك، فكان يخطُب الخليفة خُطْبَةَ الصلاة، وَاسْتَدَلُّوا
بذلك بما رواه رجاء بن حيوه من أنَّ الرسول والخلفاء كانوا يخطُبون جلوساً، في حين قال جابر بن سَمُرَة:«مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ خَطَبَ جَالِساً فَقَدْ كَذَبَ» (*).
ومثل ذلك ما حصل من زيادة معاوية في درجات المنبر وما كان من جعله المقصورة التي أزالها العباسيون بعد ذلك. كما لم يقتصر الأمر على نشر أحاديث ذات ميول، بل تعداه إلى اضطهاده أحاديث لا تمثل وجهات النظر، والعمل على إخفائها وتوهينها، فَمِمَّا لا شك فيه أنه كانت هناك أحاديث في مصلحة الأُمَوِيِّينَ اختفت عند مجيء العباسيين: وقد استدل في سبيل تأييد قوله بأدلة من قدح بعض العلماء في بعض مِمَّا يخرجونه مخرج الجرح والتعديل، ما ورد كثير منه عن السلف القدماء يقول: فمن ذلك قول المُحَدِّثِ عاصم بن نبيل (هو الحافظ الثقة الضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل من أصحاب زفر وليس عاصم بن النبيل) - توفي سَنَةَ 212 وعمره 90 سَنَةً» (1) - «مَا رَأَيْتُ الصَّالِحَ يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ» . ويقول مثل ذلك يحيى بن سعيد القطان (192 هـ) ويقول وكيع عن زياد بن عبد الله البكَّائي: «إِنَّهُ مَعَ شَرَفِهِ فِي الحَدِيثِ كَانِ كَذُوباً» ولكن ابن حجر يقول في " التقريب "«ولم يثبت بأنَّ وكيعاً كذَّبهُ» ، ويقول يزيد بن هارون: إنَّ أهل الكوفة في عصره ما عدا واحداً كانوا مُدَلّسِينَ، حتى السفيانان ذُكِرَا بين المُدَلِّسِينَ. وقد شعر المُسْلِمُونَ في القرن الثاني بأنَّ الاعتراف بِصِحَّةِ الأحاديث يجب أنْ يرجع إلى الشكل فقط، وأنه يوجد بين الأحاديث الجَيِّدَةِ الإسناد كثير من الأحاديث الموضوعة»، وساعدهم على هذا ما ورد من الحديث:«سَيَكْثُرُ التَحْدِيثُ عَنِّي فَمَنْ حَدَّثَكُمْ بِحَدِيثٍ فَطَبِّقُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ ِمنِّي، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ» .
هذا هو المبدأ الذي حدث بعد قليل عند انتشار الوضع، ويمكن أن نتبين شيئا من ذلك في الأحاديث الموثوق بها، فمن ذلك ما رواه مسلم من " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الكِلَابِ إِلَاّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ " فأخبر ابن عمر أنَّ أبا هريرة يزيد «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ» فقال ابن عمر:«إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ لَهُ أَرْضٌ يَزْرَعُهَا» . فملاحظة ابن عمر تشير إلى ما يفعله المُحَدِّثُ لغرض في نفسه.
(1) انظر: " تذكرة الحفاظ ": 1/ 333.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[قارن بما في صفحتي 226 و228 من هذا الكتاب].
وفي سبيل إثبات القواعد الفقهية طرقوا باباً آخر غير الروايات الشفوية وذلك بإظهار صحف مكتوبة تُبَيِّنُ إرادة الرسول، وقد وجد هذا النوع تصديقاً في هذا العصر. وإذا ما دار الأمر حول نسخة من هذه الصحف فإنهم لا يسألون عن أصلها المنسوخة عنه. ولا يبحثون عن صِحَّتِهَا، ونستطيع أنْ نَتَبَيَّنَ جُرْأَةَ الوَاضِعِينَ من هذا الخبر. ذلك أنهم في عصر الأُمَوِيِّينَ حاول بعض الناس التوفيق بين عرب الشمال وعرب الجنوب، فأظهروا حِلْفاً كان في عصر تُبَّع بن معد يكرب بين اليمنية وربيعة، وقد وجدوا هذا محفوظاً عند بعض أحفاد هذا الأمير الحِمْيَرِيِّ. فهؤلاء الذين يقبلون مثل هذا لا يكون من الصعب عليهم أنْ يعترفوا بمثله مِمَّا هو أقرب عهداً. ونعني بهذا مسألة «تعريف الصدقة» عن صغار البقر وكبارها، فقد وردت في ذلك أحاديث مختلفة، ولكن لم يصح منها شيء ليأخذ منه جامعو الحديث نصوصاً تحتوي على نظام للدفع مفصل، فرجع الناس إلى وصايا مكتوبة عن الزكاة ما وصى به الرَّسُولُ رُسُلَهُ إلى البلاد العربية، مثل وَصِيَّتِهِ إلى معاذ بن جبل، وكتابه إلى عمرو بن حزم وغيرهما، ما روي لنا محتوياتها رَاوُو الحديث، ولم يكتف الناس بهذه النسخ المنقولة عن أصول. بل أظهروا أيضاًَ بعض هذه الأصول القديمة فهناك وثيقة كانت عند ابن عمر، أمر عمر بن عبد العزيز بنقل نسخة منها، وقد روى أبو داود تصحيح الزُّهْرِيِّ لها.
وهناك وثيقة أخرى بختم الرسول، ذكرها أبو داود أيضاًً، وقد أظهرها حماد بن أسامة عن ثمامة بن عبد الله بن أنس. وكان أبو بكر قد وَجَّهَهَا لأنس بن مالك عندما ذهب لجمع الصدقات» اهـ.
قال الدكتور بعد ذلك «هذا هو الرأي الذي ساد أوساط المُسْتَشْرِقِينَ في القرن الماضي. ثم ذكر أنه سادت في أوساطهم في العصر الحديث نظرية تخالف هذه النظرية وتتفق في نتيجتها مع وجهات النظر الإسلامية، واكتفى المؤلف بذكرالنظرية الجديدة دُونَ أن يُعَقِّبَ على هذه أو تلك، وكفى الله المؤمنين القتال! ..
الجواب:
إذا أمعنت النظر فيما قدمته في هذه الرسالة من حرص الصحابة على حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقله وحرص التَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعِينَ فمن بعدهم، على نقل هذا الحديث وجمعه وتنقيته من شوائب التحريف والتزيد، وما قام به علماء السُنَّةِ من جهود جبارة في تتبع الكَذَّابِينَ والوَضَّاعِينَ، وفضح نواياهم ودخائلهم، وبيان ما زادوه في السُنَّةِ من أحاديث مكذوبة، حتى جمعت السُنَّة في كتب صحيحة، وأشبعها النُقَّاد بحثاً وتمحيصاً، ثم خرجوا من ذلك إلى الاعتراف بصحتها والتسليم بها، إذا أمعنت النظر في ذلك كله، أيقنت أنَّ هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ يخبطون في أودية الأوهام، ويتأثرون بأهوائهم وتعصبهم في الحُكْمِ على حقائق يعتبر العبث بها في نظر المُحَقِّقِ المنصف إسفافاً وتلاعباً بالعلم، وإخضاعاً لحقائق التاريخ إلى نظريات الهوى والعصبية.
هده كلمة مجملة لا نريد بها رداً على هؤلاء، ولكنا نريد أنْ نلفت نظر القارىء المنصف إلى ما بين يديه من حقائق، حتى لا تغيب عنه حين نريد أنْ نُنَاقِشَ دعوى هؤلاء المُتَعَصِّبِينَ، وسنحرص فيما يلي على مناقشة هذه الدعوى مناقشة موجزة في بعضها اكتفاء بما سبق لنا بيانه تحقيقاً لما لم نتعرض له من قبل ..
هل كان الحديت نتيجة لتطور المُسْلِمِينَ؟
يقول جولدتسيهر: «إنَّ القسم الأكبر من الحديث ليس إلَاّ نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للاسلام في القرنين الأول والثاني» . ولا ندري كيف يجرؤ على مثل هذه الدعوى، مع أنَّ النقول الثابتة تُكَذِّبُهُ ومع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلَاّ وقد وضع الأسس الكاملة لبنيان الإسلام الشامخ، بما أنزل الله عليه في كتابه، وبما سَنَّهُ عليه الصلاة والسلام من
سُنَنٍ وشرائع وقوانين شاملة وافية، حتى قال صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته:«تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ ، وَسُنَّتِي» وقال: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الحَنِيفِيَّةِ السَمْحَةِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا» .
ومن المعلوم أنَّ من أواخر ما نزل على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} (1) وذلك يعني: كمال الإسلام وتمامه.
فما توفي رسول الله إلَاّ وقد كان الإسلام ناضجاً تاماً لا طفلاً يافعاً كما يَدَّعِي هذا المستشرق، نعم لقد كان من آثار الفتوحات الإسلامية أنْ واجه المُتَشَرِّعِينَ المُسْلِمِينَ جزئيات وحوادث لم يَنُصُّ على بعضها في القرآن وَالسُنَّةِ، فأعملوا آراءهم فيها قياساً واستنباطاً حتى وضعوا لها الأحكام، وهم في ذلك لم يخرجوا عن دائرة الإسلام وتعاليمه، وحسبك أنْْ تعلم مدى نضوج الإسلام في عصره الأول، أنَّ عُمَرَ سيطر على مملكتي كسرى وقيصر وهما ما هما في الحضارة وَالمَدَنِيَّةِ، فاستطاع أنْ يسوس أمورهما، ويحكم شعوبهما، بأكمل وأعدل مِمَّا كان كسرى وقيصر يسوسان بها مملكتيهما، أترى لو كان الإسلام طفلاً، كيف كان يستطيع عُمَرُ أنْ ينهض بهذا العِبْءِ ويسوس ذلك الملك الواسع، ويجعل له من النظم ما جعله ينعم بالأمن والسعادة، ما لم ينعم بهما في عهد مَلِكَيْهِمَا السَّابِقَيْنِ؟
على أَنَّ الباحث المنصف يجد أنَّ المُسْلِمِينَ في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها كانوا يَتَعَبَّدُونَ عبادة واحدة، ويتعاملون بأحكام واحدة، ويقيمون أسس أسرهم وبيوتهم على أساس واحد. وهكذا كانوا مُتَّحِدِينَ في العبادات والمعاملات والعقيدة والعادات غالباً، ولا يمكن أنْ يكون ذلك لو لم يكن لهم قبل مغادرتهم جزيرة العرب نظام تام ناضج، وضع لهم أسس حياتهم في مختلف نواحيها، ولو كان الحديث أو القسم الأكبر منه نتيجةً للتطور الديني في القرنين الأولين للزم حتماً ألَاّ تَتَّحِدَ عبادة المسلم في شمال إفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، إذ أنَّ البِيئَةَ في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فيكف اتَّحَدَا في العبادة والتشريع والآداب، وَبَيْنَهُمَا مِنَ البُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا؟
(1)[سورة المائدة، الآية: 3].