الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - مَتَى نَسُدُّ هَذِهِ الثَّغْرَةَ
؟:
من طالع تاريخ الإسلام منذ بعث اللهُ به محمداً صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، يرى ظاهرة واضحة كل الوضوح، وهي أَنَّ الإسلام ما برح يخوض معارك متعددة النواحي، تستهدف القضاء عليه أو تشويهه أو صرف المُسْلِمِينَ عنه، وهذه المعارك تَتَّسِمُ من جهة أعدائه بالدقة والتنظيم والكيد المُحْكَمِ كما تَتَّسِمُ من جهة المُسْلِمِينَ بالبراءة والغفلة عن هذه المؤامرات، والدفاع العفوي دُونَ إعداد سابق أو هجوم مضاد، ولولا أَنَّ الإسلام دين اللهِ الذي تَكَفَّلَ بحفظه لكانت بعض مؤامرات أعدائه كافية للقضاء عليه وانمحاء أثره.
ومن الواضح أَنَّ المؤامرات العدائية للإسلام تلبس في كل عصر لبوسها، فهي حين يكون المُسْلِمِينَ أقوياء تأخذ طريق التهديم الفكري والخلقي والاجتماعي، وحين يكونون ضعفاء تتخذ طريق الحرب والتجمع وتستهدف الإبادة والإفناء، فإذا عجزت طريق الحرب عن تحقيق أهدافها انقلبت إلى طريق فكري خداع، تستهوي عقول الغافلين أو المغفلين، فيثبت للإسلام في داخل أسواره نابتة تنحرف شيئاً فشيئاً عن عقيدة الإسلام السمحة، المشرقة، المحررة حتى تنتهي إلى عقائد، وأفكار تخالف المبادىء الأساسية للإسلام، وتحقق الأهداف الرئيسية التي يسعى إليها أعداؤه من حيث يبدو أنهم لا علاقة لهم بهذا التخريب والتهديم.
إِنَّ التشكيك في السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيحَةِ التي تُذْعِنُ لها جماهير المُسْلِمِينَ، والتي أقامت صرح الفقه الإسلامي العظيم الذي لا تملك أُمَّةٌ من أمم الأرض عشر معشاره، هو مثل بارز لمحاولات أعداء الإسلام في القديم والحديث، فقد أخذت هذه المؤامرة طريقها إلى عقول بعض الفرق الإسلامية في الماضي، كما أخذت طريقها إلى عقول بعض الكُتَّابِ الإِسْلَامِيِّينَ أمثال أحمد أمين في الحاضر، إنها مؤامرة لا ريب فيها، فالمُسْتَشْرِقُونَ اليهود واللاهوتيون المُتَعَصِّبُونَ يُلِحُّونَ عليها
إلحاحاً شَدِيدًا في كل ما يكتبون، وأقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية توجه أنظار طلابها المُسْلِمِينَ إلى هذا الموضوع توجيهاً دقيقاً، وتأبى لأي طالب منهم أن يكون موضوع رسالته الجامعية دحض الافتراءات التي يملؤون بها كتبهم عَلَى السُنَّةِ وَرُوَّاتِهَا، وقد حدث في الصيف الماضي حين كنت في ألمانيا للاستشفاء أن أتصلت بي فتاة ألمانية مسلمة (*) منتسبة إلى قسم الدراسات الإسلامة في جامعة فرانكفورت تطلب إِلَيَّ دلالتها على بعض المراجع التي تساعدها في كتابة رسالتها الجامعية التي أَصَرَّ رئيس ذلك القسم أن يكون موضوعها «أبو هريرة» وقد طلب إليها بحث عدة نواح في هذا الموضوع، منها: ما قيل عن أبي هريرة وما نسب إليه من الكذب، وما قالته فيه بعض الفرق الإسلامية غير أَهْلِ السُنَّةِ، وهكذا
…
ومنذ بضع سنوات عقد مؤتمر للدرسات الإسلامية في «لاهور» بباكستان حضره علماء مسلمون من مختلف البلاد الإسلامية ومن بينهم علماء من سورية ومصر، كما حضره عدد من المُسْتَشْرِقِينَ، وقد ظهر للعلماء المُسْلِمِينَ أن هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ هم الذين أوصوا بفكرة عقد هذا المؤتمر، ودعوا إليه عدداً من تلاميذهم الفكريين في الهند وباكستان، وكان أشدهم تعصباً وأكثرهم جهلاً - باعترافه هو بعد أن ألقى بحثه - المستشرق الكندي «سْمِيثْ» ولعله يهودي، وكان مِمَّا أَلَحَّ عليه المُسْتَشْرِقُونَ يومئذ بحث السُنّةِ والوحي النبوي ومحاولة اخضاعهما لقواعد العلم كما يزعمون، وقد انتهى بعض تلامذتهم إلى انكار الوحي كمصدر للإسلام واعتبار الإسلام أفكاراً إصلاحية من مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم! ..
وفي العام الماضي قامت ضَجَّةٌ في الباكستان حول جماعة من المُثَقَّفِينَ المُسْلِمِينَ بدؤوا يدعون إلى إلغاء اعتبار السُنّةِ مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، وتبين بعد ذلك أن هؤلاء من تلاميذ ذلك المستشرق الكندي «سْمِيثْ» ! ..
ولما وضع أيوب خان دستوره الذي فرضه على الباكستان جعل من مواده تأليف لجنة من علماء المُسْلِمِينَ لعرض القوانين التي يصدرها البرلمان الباكستاني على هذه اللجنة لتحكم إن كانت موافقة للاسلام أم لا - ومعلوم أن هذه المادة
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[هي الأخت المسلمة الألمانية آمنة همغسبرغ قد حصلت على الدكتوراه من جامعة فرانكفورت يبحث عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ذكرت ذلك مجلة " المسلمون " في عددها العاشر لِسَنَةِ 1965. نقلاً عن كتاب " دفاع عن أبي هريرة " لعبد المنعم صالح العلي العزّي، ص 11، دار القلم. بيروت - لبنان / مكتبة النهضة. بيروت - بغداد].
إنما وضعت لإرضاء الرأي العام الإسلامي في الباكستان - ولما وضع الدستور موضع التنفيذ تألفت اللجنة المذكورة آنِفاً وكان كل أعضائها من تلامذه المستشرق «سْمِيثْ» وليس من بينها عالم من علماء المُسْلِمِينَ في الباكستان.
وحين ألَّفَ بعض الجاهلين المغرورين كتاباً عَنْ السُنَّةِ ينتهي إلى التشكيك بِالسُنَّةِ كلها ويفيض بالحقد البذيء على أكبر رُوَّاتِهَا من الصحابة وهو أبو هريرة رضي الله عنه تلقفت الجهات الأجنبية الاستعمارية هذا الكتاب فبعثت به إلى جميع الجامعات الغربية كما حَدَّثَنِي بذلك عدد من مختلف طلابنا المُسْلِمِينَ في أوروبا في الصيف الماضي.
إِنَّ أَيَّ وَاعٍ مُنْصِفٍ يتتبع هذه الحوادث لا يشك في أنها حلقة مترابطة الأجزاء من سلسلة التآمر عَلَى السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وعلى أكبر رُوَّاتِهَا وَمُحَدِّثِيهَا، ومع ذلك يَلَذُّ لبعض أفراد الفرق الإسلامية التي لها رأي خاص في أبي هريرة أن يكتبوا عنه في هذه الأيام كُتُبًا خاصة تفيض، بالروايات الموضوعة التي تُجَرِّحُ هذا الصحابي الجليل، كما فعل «عَبْدُ الحُسَيْنُ» في كتابه " أَبُو هُرَيْرَةَ ".
وَنَسُوقُ مثلاً آخر على يقظة أعداء الإسلام وإحكام المؤامرات عليه، وهو استغلال الخلاف الذي وقع في صدر الإسلام بين الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - حول الخلافة، إِنَّ مثله يقع في كل أُمَّةٍ وفي كل عصر، ولكنا لَمْ نَرَ أُمَّةً من الأمم عنيت بمثل هذا الخلاف أربعة عشر قرناً! ..
إن المؤامرة تبدأ من اليهودي الماكر عبد الله بن سبأ ثم يتلقفها قادة الفُرْسِ الوَثَنِيُّونَ الذين خَلَّصَ الإسلام شعوبهم من حكمهم الظالم وعقيدتهم الوثنية، وفتح عقولها وعيونها لرؤية النور والتعرف إلى الحق، فهؤلاء حين انهزموا أمام كتائب الجيش الإسلامي المنقذ لم يجدوا وسيلة للانتقام من هؤلاء المُحَرِّرِينَ إلا أن يُشَوِّهُوا سُمْعَتَهُمْ وسيرتهم في بث الأخبار الكاذبة عنهم مِمَّا يُزْرِي بمكانتهم حقاً لو صحت هذه الأخبار، وَمِمَّا يَحُطُّ من شأن هذا الدين وحضارته إذ كان هؤلاء حَمَلَتُهُ وقادة جيوشه، وليس أدل على ذلك من أَنَّ نِقْمَةَ أولئك الحاقدين قد انْصَبَّتْ على مفاخر الحضارة الإسلامية عِلْمًا وَحُكْمًا وَقِيَادَةً، أي على جميع القادة العسكريين الذين
خَلَّصُوا العراق من حكم الفُرْسِ وعلى رؤسائهم الإداريين الذين كانوا يوجهون هذه الحملات التحريرية، وعلى علمائهم الذين نشروا علم الإسلام وشريعته وأدوا أمانة العلم إلى من بعدهم بتجرد لا يعرف أولئك الحاقدون له مثيلاً في تاريخهم أو تاريخ غيرهم.
لقد حصل هذا كله وأثَّرَ أثراً بالغاً في تشتيت كلمة المُسْلِمِينَ ووهن قوتهم فيما بعد، وكان الظن أن يعي المخلصون المثقفون من المُسْلِمِينَ في هذا العصر هذه الدروس المؤلمة، ولكن للأسف فإن كثيراً من هؤلاء لم يمسكوا القلم ليرفعوا، أُمَّتَنَا من حضيض الجهالة والتأخر، وليدفعوها إلى ميادين العلم والقوة والحضارة، بل أعادوها جذعةً من جديد، فاقتصرت على كتاباتهم وأقاصيصهم على تصوير الخلاف القديم بأسلوب يزيد في الفرقة، ويؤجج نار الضغائن، ويشمت أعداء الإسلام بنا، ويحقق لهم أهدافهم في منعنا من الالتقاء من جديد على الحب والخير والتعاون على البر والتقوى. ولو سألت هؤلاء الذين يزيدون النار اشتعالاً، فِيمَ هَذَا الجهد الضائع؟ وفيم هذه المساعي التي تلهي أُمَّتَنَا عن بناء المجد من جديد، وعن تحرير أوطانها من الاستعمار وآثاره، وتمكن للاستعمار الجديد أن يُتَمِّمَ رسالة الاستعمار القديم في إذلالها واستلاب خيراتها والحيلولة دُونَ تجمعها ووحدتها؟ لو سألتهم فيم هذا كله لما كان لهم إلا جواب واحد: إننا ندافع عن حق سلب من أصحابه! .. هل في تاريخ العالم كله أن أُمَّةً شغلت بنزاع بين أجدادها مضى منذ أربعة عشر قرناً وقد أنتهوا إلى ذمَّةِ الله وهو وحده الذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون؟ هل في العالم اليوم أُمَّةٌ تحترم نفسها وتغار على كرامتها تشغل بخلاف عفى عليه الزمان عن أخطار محدقة بها من كل مكان؟
هذه بعض الأمثلة على يقظة أعدائنا وسهرهم على إحكام المؤامرات على أُمَّتِنَا وشريعتنا وتاريخنا، وغفلتنا نحن عن ذلك كله، وانسياقنا مع الأهواء والعواطف التي يعرف أعداؤنا كيف يُثِيرُونها بيننا في كل عصر بما يلائم روح العصر ومقتضيات مصالح أولئك الأعداء
…
ترى، كم فاض تاريخ الإسلام بهذه الظاهرة المؤلمة: يقظة أعدائه ودأبهم على حَبْكِ المؤامرات لتهديمه، وغفلة أبنائه عن ذلك كله فلا يشعرون بالخطر إلا بعد أن
يقع بهم فعلاً، وبعد أن تنهكهم الجهود في دفعه وتقليل أخطاره؟ أهو أمر ناشئ من براءة الإسلام وخبث أعدائها أم هو ناشيء من طبيعة الخير وطبيعة الشر في كل زمان؟ أم هي طبيعة العصور الماضية التي لم تكن تتقن وسائل اكتشاف المؤامرات والجرائم والخيانات؟ قد يكون من هذه الأمور كلها، فهلا آن الأوان لأن تقوم فينا مجامع ومؤسسات لتتبع آثار المؤامرات وأهدافها ووسائل تنفيذها، كما تقوم في كل دولة من دولنا الآن دوائر لتتبع آثار المؤامرات السياسية والعسكرية على أوطانها وشعوبها؟
إن استمرارنا في هذه الغفلة جريمة لا يغفرها الله، ولا يعذرنا فيها التاريخ، ولا يحترمنا معها الأحفاد، ولو أن دولة إسلامية خصصت عشر ميزانيتها لفضح هذه المؤامرات لكان لها أعظم شرف في تاريخ الإنسانية: شرف القضاء على الشر المتربص بالخير تربصاً يؤدي إلى شقاء الإنسانية ودمارها.
وهل لنا أن ننادي جميع عقلاء المُسْلِمِينَ ومفكريهم وَكُتَّابِهِمْ - مِمَّنْ لا يُتاجرون بالخلافات المذهبية - بأن يلتقوا من جديد على كلمة سواء: أن يدفنوا آثار الماضي كله، وأن يعملوا على ما يدفع الأخطار المحدقة بهم من كل مكان، متعاونين بصدق وإخلاص، تعاون الذين لا تعرف الأهواء إلى قلوبهم سبيلاً، ولا الدسائس إلى عقولهم مَنْفَذًا، وأن يجعلوا قدوتهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وهدفهم تخليص المُسْلِمِينَ من أوزارهم وأغلالهم، وتبليغ رسالة الإسلام ونشر هدايته ونوره للعالمين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟ اللهم إننا بلَّغْنا فاشهد ..