الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه بعض التَّابِعِينَ كما نقله الترمذي ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي (1). اهـ.
هذا وجه الحق في هذه المسألة لمن أراد الحق مجرَّداً عن كل هوى وغرض.
4 - إِنْكَارُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ الحَدِيثَ:
قال: «وقد أكثر بعض الصحابة من نقده على الإكثار من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشَكُّوا فيه، كما يدل على ذلك ما روى مسلم في " صحيحه " أن أبا هريرة قال: «إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّي كُنْتُ رَجُلاً مِسْكِينًا، أخدُم رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ» . وفي حديث آخر في "مسلم " أيضاًً أن أبا هريرة قال: «يَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَكْثَرَ - وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ - وَيَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لَا يَتَحَدَّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ؟ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّ إِخْوَانِي مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَرَضِيهِمْ، وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا» (2) اهـ.
هذه العبارة تكاد تكون عين عبارة «جولدتسيهر» إلا أن هذا كان أكثر أدباً واحتراساً من اتهام أبي هريرة بتكذيب الصحابة له حيث يقول «جولدتسيهر» : «ويظهر أن علمه الواسع بالأحاديث التي كانت تحضره دائماً قد أثار الشك في نفوس الذين أخذوا عنه مباشرة والذين لم يترددوا في التعبير عن شكوكهم بأسلوب ساخر» (يشير بذلك إلى الحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ نقلَهُما المؤلف عن "مسلم ")(3).
فأساس الطعن مأخوذ من هنا، كما رأيت مع فارق بسيط وهو أن المستشرق
(1)" فتح الباري ": 4/ 118.
(2)
ص 269.
(3)
" دائرة المعارف الإسلامية ": 1/ 408 في ترجمة أبي هريرة.
نسب الشك إلى نفوس الذين أخذوا عنه مباشرة - أي التَّابِعِينَ - أما المؤلف فقد نسب الشك إلى بعض أصحابه
…
وهكذا كان في طعنه الخفي أشد وأنكى من طعن جولدتسيهر - الظاهر - وهي براعة لا يحمد المؤلف عليها.
ومهما يكن من أمر فليس فيما نقله المؤلف عن أبي هريرة وما دافع به أبو هريرة عن نفسه ما يؤدي إلى الطعن فيه أو التشكيك بصدقه، إذ من المعلوم أن أبا هريرة كان من المكثرين في التحديث عن رسول الله، رغم تأخُّر إسلامه لكثرة ملازمته للرسول حتى كان يدور معه حيثما دار، فلما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل كبار الصحابة عن حديث الرسول، كما كان يفعل صغار الصحابة، كعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأنس وغيرهم، وبذلك وبحرصه على استيعاب كل أخبار رسول الله - بأنه أكثر الصحابة حرصاً على الحديث - كان من أشد الناس حفظاً للحديث واحتفاءً به. فلما كان عهد الخلفاء الراشدين وتفرق الصحابة في الأمصار، رأى من واجب الأمانة عليه أن يُبَلِّغَ ما حفظه عَنْ النَّبِيِّ إلى أُمَّتِهِ، وخاف عاقبة الكتمان إن هو امتنع عن التحديث، بهذا صرَّحَ أبو هريرة نفسه إذ يقول في حديث أخرجه " البخاري " و" مسلم ":«لَوْلَا آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ تَلَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}» (1).
كان من الطبيعي أن يثير تدفق أبي هريرة في الحديث عن رسول الله هذا التدفق العجيب - مع ما عُلِمَ من تأخر إسلامه - الغرابة في نفوس بعض التَّابِعِينَ أو من كان بعيداً عن محيط المدينة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يقولوا: ما بال أبي هريرة يكثر الحديث، وأصحاب رسول الله لا يكثرون
(1)[سورة البقرة، الآيتان: 159، 160].
مثله؟ سؤال يَرِدُ على أذهانهم فيوجهونه إلى أبي هريرة، لا شَكًّا ولا تكذيبًا ولكن رغبة ً في إزالة هذا العجب من نفوسهم، فيكشف لهم أبو هريرة عن السبب، وهم ما حَدَّثْنَاكَ به، فإذا هم ساكتون راضون مطمئنون، فأين تجد الإكثار من نقدهم له، كما زعم صاحب " فجر الإسلام " ثم أين الشك في صدقه وحفظه؟؟ إِنَّ كل ما في الحديث سؤال يدل على الاستغراب من كثرة حديثه، ومتى كان الاستغراب تكذيباً؟ قد يحدثك صديقك الذي لا تشك في صدقه، بحديث فيه شيء من الغرابة، فتظهر له العجب والدهشة لا مُكَذِّباً ولا مُستنكراً، بل طالباً منه أن يزيل عجبك ويكشف لك عن سر حديثه، وهذا ما حدث مع أبي هريرة بدليل أنهم تلقوا منه بالرضى والقبول تلك المقالة التي بيَّنَ فيها سِرَّ إكثاره من الحديث دُونَ سائر صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أفرأيت لو أنهم كانوا مُكذِّبِينَ له، أو شَاكِّينَ في صدقه أو حفظه، أكان يكفي لحملهم على تصديقه أن يقول لهم: إني سمعت ما لم تسمعوا وحفظت وَنَسِيتُمْ؟ .. ثم أرأيت لو أنهم كانوا يشكون في حديثه، أكانوا يسمحون له بالاستمرار في التحديث عن هادي الأُمَّةِ ومُشَرِّعِهَا الأعظم؟ أم كان يكف عنه أمير المؤمنين عمر وهو من هو في شدة بأسه وصلابته في الحق؟ أم كانت تسكت عنه عائشة وهي التي أخرجها الانتصار للحق - في رأيها - من بيتها لقتال عَلِيٍّ؟ .. أم كان يسكت عنه كبار الصحابة وجمهورهم وقد كانت وفاته في عهد غير متأخر لا يزال فيه كثير من الصحابة على قيد الحياة؟. وهم الذين بلغ من حرصهم على الشريعة أن كانوا يَرُدُّونَ على من أخطأ في الحديث ولو كان عمر أمير المؤمنين، أو عائشة زوج الرسول، فكيف يسكتون على من يزيد في الحديث ويكذب؟.
بقي أن يقال: من هم هؤلاء الناس الذين عناهم أبو هريرة في حديثة؟ أنا لا أرى في عبارة الحديث ما يدل على أنهم كانوا من كبار الصحابة أو فقهائهم أو البارزين فيهم، أو الذين عُرِفُوا بالسبق إلى الإسلام وطول الصحبة للرسول، بل الذي يُرَجَّحُ عندي أنهم ليسوا من الصحابة مطلقاً، ألا تراه يقول: «
…
وَيَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لَا يَتَحَدَّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ؟» فلو كان القائلون هم صحابة الرسول من المهاجرين والأنصار لأسند الكلام إليهم، فقال: ما بالنا لا نتحدث بمثل حديثه؟
ثم ألا تراه يقول في الرد عليهم: إن إخواني من المهاجرين، وإن إخواني من الأنصار. ولو كانوا هم الناقدين لقال لهم:«يقولون: إنكم كنتم تشتغلون بالتجارة أو الزراعة» وألا تراه يقول في آخر الحديث، كما في رواية " البخاري ":«وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ» . وكان حقه لو كان الصحابة هم المعترضين أن يقول لهم: ما لا تحضرون. هذا ما تَرَجَّحَ عندي بالتأمل في الحديث، ثم لما أَمْعَنْتُ النظر في ترجمة أبي هريرة عساي أجد اسم واحد من الصحابة الذين اعترضوا على أبي هريرة بهذا الاعتراض، وجدتُ في " الإصابة " لابن حجر ما يأتي:«وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح سمعت أبا هريرة يقول لمروان: حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: «تَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ» - وكان الأمير يومئذ غيره - ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان وقال: «إِنَّ النَّاس يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، الحديث
…
إلخ» ومروان كما لا يخفى تابعي، وقد وقعت هذه القصة في عصر متأخر. ومروان يقول ذلك عند الغضب وينسبه إلى الناس، ولو كان الصحابة هم الذين شكوا لما تركوا إبلاغ شكهم إلى أبي هريرة حتى يأتي مروان فيبلغه هذا الشك في مناسبة من المناسبات.
وَأَيًّا ما كان فليس في الحديث الذي تحدث به أبو هريرة عن نفسه - ولم نجد رواية لغيره في هذا المعنى - ما يدل على أن الناقدين له كانوا من الصحابة أو من ذوي الشهرة فيهم، ولو حصل ذلك لرواة التاريخ كما روى غيره من رَدِّ بعض الصحابة على بعض، ونحن نَتَحَدَّى صاحب " فجر الإسلام " وَنَتَحَدَّى شيوخه من المُسْتَشْرِقِينَ وجميع أذنابهم في أقطار الأرض أن يأتونا بنص تاريخي صحيح يثبت أن أحداً من المعروفين في الصحابة قال هذا القول، أو أن الصحابة منعوه من التحديث أو صَرَّحُوا بكذبه، أو منعوا من الاستماع إليه، وهيهات أن يجدوا ذلك، بل نصوص التاريخ الثابتة قاطعة بإقرار الصحابة له بالحفظ واعترافهم بأنه أكثرهم اطلاعاً على الحديث، ولقد كانت عائشة وابن عمر وغيرهما أحياناً يستغربون بعض أحاديثه ثم لا يلبثون أن يَتَقَبَّلُوهَا منه مُعْتَرِفِينَ بإحاطته بما لم يحيطوا به.
حَدَّثَ أبو هريرة يوماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ تَبِعَ