الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الكَذِبَ فِي أَحَادِيثِ الفَضَائِلِ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الشِّيعَةِ
…
الخ (1) وَقَدْ قَابَلَهُمْ جَهَلَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالوَضْعِ أَيْضًا».
فِي أَيِّ جِيلٍ نَشَأَ الوَضْعُ
؟:
ليس من السهل علينا أن نتصور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فَدَوْا الرسول بأرواحهم وأموالهم وهجروا في سبيل الإسلام أوطانهم وأقرباءهم، وامتزج حب الله وخوفه بدمائهم ولحومهم: أن نتصور هؤلاء الأصحاب يقدمون على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الدواعي إلى ذلك بعد أن استفاض عندهم قول حبيبهم ومنقذهم صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (2) ولقد دلَّنَا تاريخ الصحابة في حياة الرسول وبعده أنهم كانوا على خشية من الله وَتُقًى يمنعهم من الافتراء على الله ورسوله أنهم كانوا على حرص شديد على الشريعة وأحكامها وَالذَبِّ عنها وإبلاغها إلى الناس، كما تَلَقَّوْهَا عن رسوله، يتحملون في سبيل ذلك كل تضحية، ويخاصمون كل أمير أو خليفة أو أَيَّ رجل يرون فيه انحرافاً عن دين الله، لا يخشون لوماً، ولا موتاً، ولا أذى، ولا اضطهاداً.
هَذّا عُمَرُ يَخْطُبُ النَّاسَ فَيَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُمَةً عِنْدَ اللهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم»
…
الخ، فَتَقُومُ إِِلَيْهِ امْرَأَةٌ فَتَقُولُ لَهُ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمِيعًا: مَهْلاً يَا عُمَرُ! يُعْطِينَا اللهُ وَتَحْرِمُنَا أَنْتَ؟ أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ عز وجل {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا
…
} (3) فَيَقُولُ عُمَرُ: (امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ)(4). وها هو يجادل أبا بكر
(1)" شرح نهج البلاغة ": 2/ 134. [انظر في قول ابن أبي الحديد، صفحتي 203 و254].
(2)
حديث مشهور ادعى بعض العلماء أنه متواتر رواه سبعون صحابياً، وادَّعى غيرهم أكثر وقد خَرَّجَتْهُ كتبُ السُنّة كلها.
(3)
[سورة النساء، الآية: 20].
(4)
أخرج خبر خطبة عمر الإمام أحمد في " مسنده "، وأصحاب السنن من طريق محمد بن سيرين عن أبي العجفاء السلمي. أما خبر رد المرأة عليه فقد أخرجه أبو يعلى الموصلي في " مسنده "، وفيه راو ضعيف، وله طرق أخرى منقطعة.
حين صمم على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فلا يرى عمر قتالهم أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَاّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» (1)، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٌ:" أَلَيْسَ يَقُولُ الرَّسُولُ: «إِلَاّ بِحَقِّهَا»؟ وَمِنْ حَقِّهَا الزَّكَاةُ "، هذا مع أن عمر كان أول من بادر إلى مبايعة أبي بكر يوم السقيفة معترفاً له بالفضل والأولوية، ومع ذلك فلم يمنعه حبه وتقديره له من أن يجادله في أمر يرى أنه الحق ويرى أبو بكر خلافة.
وهذا عَلِيٌّ يخالف عمر في أمره برجم الزانية الحُبْلَى وينكر عليه بقوله: «لَئِنْ جَعَلَ اللهُ لَكَ عَلَيْهَا سَبِيلاً فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلاً» فيرجع عمر ويقول: «لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ» .
وهذا أبو سعيد ينكر على مروان والي المدينة تقديم الخطبة على صلاة العيد، مُبَيِّنًا أنه خالف السُنَّةَ، وعمل غير ما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها هو ابن عمر - كما يروي لنا الذهبي في " تذكرة الحفاظ ": يَقُومُ - وَالحَجَّاجُ يَخْطُبُ - فَيَقُولُ (أَيْ ابْنُ عُمَرَ مُتَكَلِّمًا عَنْ الحَجَّاجِ): «عَدُوُّ اللهِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ وَخَرَّبَ بَيْتَ اللهَ وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَ اللهِ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الحَجَّاجَ خَطَبَ فَقَالَ:«إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَدَّلَ كَلَامَ اللهِ» ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:«كَذَبْتَ لَمْ يَكُنِ ابْنُ الزُّبَيْر يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَدِّلَ كَلَامَ اللهِ وَلَا أَنْتَ» . قَالَ الحَجَّاجُ: «أَنْتَ شَيْخٌ خَرِفٌ» ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:«أَمَا إِنَّكَ لَوْ عُدْتَ لَعُدْتُ» .
مثل هذه الأخبار ومئات أمثالها قد استفاضت بها كتب التاريخ، وهي تدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء الصحابة كانوا من الجُرْأَةِ في الحق والتفاني في الدفاع عما يعتقدون أنه حق، ومن تغليبهم الحق على كل صديق وصاحب وقريب، بحيث يستحيل عليهم أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتباعاً لهوى أو رغبة في دنيا، إذ لا يكذب إلا الجبان، كما يستحيل عليهم أن يسكتوا عمن يكذب
(1) أخرجه " البخاري " و" مسلم " عن أبي هريرة.