الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب ": «هُوَ الفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الحَافِظُ المَدَنِيُّ أَحَدُ الأَئِمَّةِ وَالأَعْلَامِ، وَعَالِمُ الحِجَازِ وَالشَّامِ» . وقال ابن حجر أيضاًً في " التقريب ": «الفَقِيهُ الحَافِظُ مُتَّفَقٌ عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِتْقَانِهِ» . وهكذا تضافرت روايات الأئمة وَالحُفَّاظِ وعلماء الجرح والتعديل على توثيقه وأمانته وجلالة قدره ونبله في أعين المُحَدِّثِينَ.
مَنْ رَوَى عَنْهُ وَخَرَّجَ لَهُ:
روى عنه خلق كثير من أشهرهم: مالك وأبو حنيفة (1) وعطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز وابن عُيينة والليث بن سعد والأوزاعي وَابْنُ جُرَيْجٍ، وخَرَّجَ له الشيخان البخاري ومسلم، وكُتُبُ " السنن الأربعة "، ومالك في " مُوَطَّئِهِ " والشافعي وأحمد في "مُسْنَدَيْهِمَا "، ولا يخلو مُسْنِدَ مُحَدِّثٍ ولا حافظ من تخريج أحاديث له، بل لا يكاد يخلو باب من أبواب الحديث إلا للزهري فيه حديث أو أثر أو رأي.
رَدُّ الشُبَهِ الوَارِدَةِ عَلَى الزُّهْرِيِّ:
تلك هي مكانة الزُّهْرِي في العلم، وآراء علماء المُسْلِمِينَ فيه، لَمْ يَتَّهِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ الزُّهْرِيَّ بما لم يقع منه، ولا أُثِرَ عن أحد منهم أي تشكيك في أمانته وثقته ودينه، ولا نعلم في الدنيا أحداً اتَّهَمَ الزُّهْرِيَّ بأمانته وصدقه في الحديث قبل هذا المستشرق اليهودي المتعصب جولدتسيهر، وقد رأيت ما أورده مِنْ شُبَهٍ عليه وها نحن أُولَاءِ نبطلها بفضل الله واحدة بعد أخرى.
صِلَةُ الزُّهْرِيِّ بِالأُمَوِيِّينَ:
يزعم جولدتسيهر أَنَّ صِلَةَ الزُّهْرِيِّ بالأُمَوِيِّينَ هي التي مكنت لهم أن يستغلوه في وضع الأحاديث الموافقه لأهوائهم. ولا ندري كيف تكون الصلة بين رجل كالزُّهْرِيِّ صادق ثبت حُجَّةٌ، وبين خلفاء بني أمية علامة على استغلالهم له، وقديماً كان العلماء يتصلون بالخلفاء والملوك، دُونَ أن يمس هذا أمانتهم في شيء، وعالم مثل الزُّهْرِي، إذا اتصل بهؤلاء الخلفاء أو اتصلوا به، لا سبيل إلى أن يؤثر ذلك
(1) كما في " طبقات المُحَدِّثِين " للسيوطي (مخطوط).
في دينه وأمانته وَوَرَعِهِ، والمستفيد منه على كل حال هم المُسْلِمُونَ الذين يغدو شيخهم ويروح من حلقات العلم إلى مجالس الخلفاء يروي حَدِيثًا، أو يبث فكرة، أو يُبَيِّنُ حُكْمًا، أو يؤدب لهم وَلَدًا أَوْ يُذَكِّرَهُمْ بما لِلأُمَّةِ عليهم من حقوق وما للهِ عليهم من واجبات.
فانظر إلى مدى ما تنتجه هذه الصلة من فائدة لِلأُمَّةِ بين رجل كالزُّهْرِي وبين خليفة كالوليد؟ ثم انظر ترى موقف الزُّهْرِي موقف عالم يخضع لتأثير البيت المالك ولا يخرج عن هواهم، ويستجيب إلى رغباتهم في وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم هو موقف العالم الناصح ينصح لدين اللهِ والمُسْلِمِينَ وَيَذُبُّ عن سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكاذيب الوَضَّاعِينَ؟ ويدفع عن خليفة المُسْلِمِينَ وقوعه تحت تأثير الرُّوَاةِ الكَذَّابِينَ، فلا يستمر في ظلم ولا يتمادى في باطل!
وانظر بعد ذلك فيما رواه ابن عساكر بسنده إلى الشافعي رحمه الله أن هشام بن عبد الملك سأل سليمان بن يسار عن تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) فقال هشام: «مَنْ الذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ فِيهِ؟» قال سليمان: «هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَِيٍّ بْنِ سَلُولٍ» . فقال هشام: «كَذَبْتَ: إِنَّمَا هُوَ عَلِيٌّ بْنُ
(1) الجزء الأول: ص 60 (الطبعة الجديدة).
(2)
[سورة ص، الآية: 26].
(3)
[سورة النور، الآية: 11].
طَالِبٍ» - ويظهر أن هشاماً لم يكن جَادًّا فيما يقول، ولكنه يريد أن يَخْتَبِرَ شِدَّتَهُمْ فِي الحَقِّ - فقال سليمان بن يسار:«أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ» ، ثم وصل ابن شهاب، فقال له هشام:«مَنْ الذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ؟» ، فقال الزُّهْرِيُّ:«هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولٍ» ، فقال له هشام:«كَذَبْتَ إِنَّمَا هُوَ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» . قال الزُّهْرِيُ وقد امتلأ غضباً: «أَنَا أَكْذِبُ؟ لَا أَبًا لَكَ! فَوَاللهِ لَوْ نَادَانِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الكَذِبَ مَا كَذَبْتُ
…
حَدَّثَنِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ أَنَّ الذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولٍ»، قال الشافعي: فما زالوا يغرون به هشاماً حتى قال له: «ارْحَلْ فَوَاللهِ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَحْمِلَ عَنْ مِثْلِكَ» ، قال ابن شهاب: «وَلِمَ ذَاكَ؟ أَنَا اغْتَصَبْتُكَ عَلَى نَفْسِي أَوْ أَنْتَ اغْتَصَبْتَنِي عَلَى نفسي؟ فَخَلِّ عَنِّي
». قَالَ لَهُ: «لَا، وَلَكِنَّكَ اسْتَدَنْتَ أَلْفَيْ أَلْفٍ» ، فَقَالَ الزُّهْرِيُّ:«قَدْ عَلِمتَ وَأَبُوكَ قَبْلَكَ أَنِّي مَا اسْتَدَنْتُ هَذَا المَالَ عَلَيْكَ وَلَا عَلَى أَبِيكَ» ثُمَّ خَرَجَ مُغْضَبًا. فقال هشام: «إِنَّا نُهِيِّجَ الشَّيْخَ» ، ثُمَّ أَمَرَ فَقَضَى عَنْهُ مِنْ دَيْنِهِ أَلْفَ أَلْفٍ. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ:«الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَذَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ» .
ذلك ما أثبته ابن عساكر في " تاريخه " منذ ثمانية قرون نقلاً عن الشافعي وهو إمام من أئمة الصدق والحق من قبل أن يظهر إلى عالم الوجود رجل يرمي الزُّهْرِي بالكذب وَيَتَّهِمَهُ في دينه لاتصاله بالخلفاء!. ألَا ترى في هذه الحادثة ما يَدُلُّكَ على مبلغ أمانة الزُّهْرِي، وعلى أَنَّ الصلة بينه وبين الخلفاء كانت أدنى وأضعف من أن تصل إلى دينه وأمانته؟ رجل يقول لخليفة المُسْلِمِينَ: لا أبا لك!. وهي كلمة لا يقولها رجل عادي لآخر مثله يحترمه، دليل على أن صلته بالخليفة ليست صلة ضعيف بقوي، ولا مخدوع بخادع، بل صلة واثق بدينه، معتز بعلمه يغضب إِنْ كُذِبَ، وَيَثُورُ إِذَا حُرِّفَتْ حقيقة من حقائق التاريخ المتصل بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يَزْأَرُ في وجه الخليفة زئير الآساد لأنه كَذَّبَهُ في تفسير آية من كتاب الله خلاف ما يعلم أهل العلم من قبله، هل من المعقول أن يستخذي لأهواء الخليفة، فيضع له أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أصل لها! ألَا ترى إلى قول الزُّهْرِي:«أَنَا أَكْذِبُ؟ لَا أَبًا لَكَ! فَوَاللهِ لَوْ نَادَانِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الكَذِبَ مَا كَذَبْتُ» إِنَّ الزُّهْرِي كان من ذلك الطراز الممتاز في تاريخ
الإنسانية الذين رَبَّاهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وأخرجهم للدنيا آيات باهرات في صدق اللهجة، وسمو النفس، والترفع عن الكذب حتى ولو كان مباحاً.
ثم ماذا يبتغي الزُّهْرِي من مسايرته لأهواء الأُمَوِيِّينَ؟ أهو يبتغي المال؟ لقد اعترف معنا هذا المستشرق بأن الزُّهْرِي لم يكن من طراز أولئك الرجال الذين يستعبدهم المال، حيث نقل لنا عن عمرو بن دينار قوله في الزُّهْرِي:«مَا رَأَيْتُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ عِنْدَ أَحَدٍ أَهْوَنَ مِنْهُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ، كَأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ البَعْرِ» أم هو يبتغي الجاه؟ إن المستشرق يعترف معنا بأن الزُّهْرِي كان ذائع الصيت عند الأُمَّةِ الإسلامية، فأي جاه يطلب بعد هذا؟ وإذا لم يكن الزُّهْرِي طالب جاه ولا طالب مال، وهو في دينه وجرأته، كما رأيت، فهل يبلغ به الحمق والغباوة أن يبيع دينه للأمويين، ويخسر سمعته بين المُسْلِمِينَ وهو لا يطمع في جاه ولا مال ولا منصب؟.
ثم إن المستشرق يُصَوِّرُ لنا عصر بني أمية عصر ظُلْمٍ وَجَوْرٍ، وأن الأتقياء من علماء المدينة كانوا يحاربونهم وَيُزَوِّرُونَ عنهم، ونحن نعلم أن الزُّهْرِي نشأ بالمدينة وأخذ عن شيوخها، جلس إلى سعيد بن المسيب حتى مات سعيد، وأخذ عنه مالك في كل مَرَّةٍ يأتي بها إلى المدينة، وظل يتردد بين المدينة والشام - كما قال الزُّهْرِي - خمساً وثلاثين سَنَةٍ، فلماذا لم يبغضه علماؤها؟ لماذا لم يُكَذِّبُوهُ لو صح أنه كَذَبَ للأمويين؟ لماذا لم يتبرأ منه شيخه سعيد وهو الذي لم يبال بعبد الملك في سطوته وجبروته؟ ما الذي دعاهم إلى السكوت عنه؟ أهو الخوف؟ لم يكونوا يعرفون خوفاً في نقد الرجال، من الخليفة إلى أقل رجل في المجتمع، وَهَبْ أَنَّهُمْ خَافُوهُ، فلماذا لم ينقده العلماء في دولة بني العباس؟ لماذا لم يهاجمه أنصار بني العباس، كما هاجموا خلفاء بني أمية وأمراءهم وأعوانهم؟ لماذا سكت عنه علماء الجرح والتعديل: من أحمد بن حنبل ويحيى بين معين والبخاري ومسلم وابن أبي حاتم وأضرابهم مِمَّنْ كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فكيف إذا كان النقد لرجل من أكبر رجال الدولة الأموية وأعظمهم شهرة؟ أليس في سكوت علماء المدينة وشيوخها وفي مقدمتهم شيخه سعيد، ثم في أخذهم عنه وأخذ العلماء عنه من كل فج، وفي توثيق علماء الجرح والتعديل له في العصر العباسي - رغماً عن صلته بالخلفاء الأُمَوِيِّينَ. أكبر دليل على أَنَّ الرجل كان فوق متناول الشُبَهِ