الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما قيام المذاهب بعد القرن الأول وَتَعَدُّدِهَا، فذلك بلا شك أثر للكتاب وَالسُنَّةِ، ولمدارس الصحابة في فهم كتاب اللهِ وَالسُنَّةِ، أما الكتاب فقد كان محفوظاً متواتراً بينهم، وأما السُنَّةُ فلا ترى قولاً لإمام من أئمة المذاهب في القرنين الثاني والثالث، إلَاّ وقد سبقه إليه صحابي أو تابعي، وذلك قبل أنْ يَتَطَوَّرَ الدِّينُ - كما زعم هذا المستشرق - تَطَوُّرًا بالغ الأثر، وفي هذا ما يقضي على الشُبْهَةِ من أساسها.
أما ما استند إليه بعد ذلك على وجهة نظره فسنرى أنها كبناء قام على أساس من جُرْفٍ هَارٍ، وستنهار أمام نظرك واحدة بعد أخرى بفضل الله.
1 - مَوْقِفُ الأُمَوِيِّينَ مِنَ الدِّينِ:
يقيم المستشرق جولدتسيهر أساس نظريته على مدى الخلاف الذي زعم أنه كان قائماً بين الأُمَوِيِّينَ (والعلماء الأتقياء)، وقد حرص على أنْ يُصَوِّرَ لنا الأُمَوِيِّينَ جماعة دُنْيَوِيِّينَ ليس لهم هَمٌّ إِلَاّ الفتح والاستعمار، وأنهم كانوا في حياتهم العادية جاهلين لا يمتون إلى تعاليم الإسلام وآدابه بِِصِِلَةٍ، وهذا افتراء على الواقع والتاريخ، ومن المُسَلَّمِ به أنَّ ما بين أيدينا من نصوص التاريخ التي تمثل لنا العصر الأموي، إنما وضعت في العصر العباسي وقد كان عصراً مُشْبَعاً بالعداوة لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَتَزَيَّدَ فيه الرُّوَاةُ الإخباريون ما شاؤوا، ولعبت الشائعات التي أثارها صنائع العباسيِّين عن الأُمَوِيِّينَ وخلفائهم دوراً خطيراً في التاريخ، إذ احتلت مكانتها في الكتب، وغدت حقائق في نظر كثير من الناس، وهي لا تعدو أنْ تكون أخباراً تناقلتها الأَلْسِنَّة دُونَ تحقيق، وهي من وضع صنائع العباسيِّين وغُلَاةُ الشِّيعَةِ والروافض، فلا يصح الاعتماد بدون تمحيص على كتب الأخبار والتاريخ فيما يتعلق بِالأُمَوِيِّينَ.
هذا شيء، وشيء آخر أنه حتى في هذه الحالة فإنا نجد نصوصاً كثيرة تُكذِّبُ ما رَمَى به هذا المستشرق خلفاء بني أميَّة من انحراف عن الإسلام وَتَحَدٍّ لأحكامه، فابن سعد يروي لنا في " طبقاته " عن نُسُكِ عبد الملك وتقواه قبل الخلافة ما جعل الناس يُلَقِّبُونَهُ بحمامة المسجد، حتى لقد سئل ابن عمر: أرأيت إذا تفانى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسأل؟ فأجابهم: «سَلُوا هَذَا الفَتَى» .
وأشار إلى عبد الملك، وسترى في بحث الزُّهْرِي أنَّ عبد الملك كان حريصاً على إرشاد العلماء وطلب العلم إلى تَتَبُّعِ السُنَنِ والآثار، حتى لقد كان للزُهري وهو يومئذ حَدَثٌ شَابٌّ:«اِئْتِ الأَنْصَارَ فَإِنَّكَ تَجِدُ عِنْدَهُمْ عِلْمًا كَثِيرًا» ، ولما جاء الناس لمبايعته بالخلافة كان يتلو كتاب الله على مصباح ضئيل، وَقَلَّ مثل ذلك في الوليد بن عبد الملك، فلقد أنشأت في عهده أكثر المساجد المعروفة اليوم، حتى كان عصره للمسلمين عصراً عمرانياً، وَقُلْ مثل ذلك في بقية الخلفاء ما عدا يزيد بن معاوية، فلقد كان على ما يظهر مُنْحَرِفاً بعض الانحراف عن خُلُقِ الشريعة في مسلكه الشخصي، ومع ذلك فقد نحله صنائع العباسيِّين وَرُوَاةُ الشِّيعَة كثير من الحوادث التي لم تثبت لدى النقد، ومثل ذلك يقال في الوليد الذي افْتَرَوْا عليه أنه رمى كتاب الله وَمَزَّقَهُ، فَإِنَّ مثل هذه الأخبار لا يشك من يطالعها بروح الإنصاف أنها مدسوسة مكذوبة.
والتاريخ ليذكر بكثير من الإعجاب فتوحات الأُمَوِيِّينَ، حتى إنَّ رُقْعَةَ الإسلام في العصر العباسي لم تزد كثيراً عما كانت عليه في العصر الأموي، والفضل في ذلك للأمويِّين حيث كان أبناء خلفائهم على رأس الجيوش الفاتحة الغازية في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر شريعته، فلماذا يعاديهم العلماء؟ ولماذا يَتَّهِمُونَ هؤلاء بأنهم لم يكونوا يفهمون الإسلام؟ ولم يكونوا على شيء من حبه والتفاني فيه؟
فما أقامه المستشرق من نظرية الوضع في الحديث، بناء على اشتداد العداء بين الأُمَوِيِّينَ والعلماء الأتقياء لا أساس له من الصِحَّةِ، نعم! لقد كان العِدَاءُ بينهم وبين زعماء الخوراج والعَلَوِيِّينَ قوياً مُسْتَحُكْمًا، ولكن هؤلاء هُمْ غير العلماء الذين نهضوا لجمع الحديث وتدوينه وروايته ونقده، كسعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وَعُبَيْدَ اللهِ بن عبد الله بن عُتبة، وسالم مولى عبد الله بن عمر، ونافع مولى ابن عمر، وسُليمان بن يَسَار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، والإمام الزُّهْرِي، وعطاء، والشعبي، وعلقمة، والحسن البصري،، وأضرابهم من أئمة الحديث، فهؤلاء لم يصطدموا مع الأُمَوِيِّينَ في معارك، ولا أُثِرَ عنهم أنهم تَصَدَّوْا لخصومة الأُمَوِيِّينَ، اللهم إلَاّ ما كان من سعيد بن المسيب