الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُجَابُ بأن عمل أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من أكابر الصحابة بالنقول الثابتة عنهم، وعمل من بعدهم من علماء السلف كاف عندنا للدلالة على ما نقول.
ولا شك في أنَّ أحاديث الآحاد بما حَفَّ بها من ظنون في طريق ثبوتها يجعلها في المرتبة الثانية بعد القرآن من حيث الثبوت، وأما من حيث الاجتهاد وفهم النصوص فلا بد من الرجوع إلى السُنَّةِ قبل تنفيذ نصوص القرآن، لاحتمال تخصيص السُنَّةِ لها أو تقييدها، أو غير ذلك من وجوه الشرح والبيان التي ثبتت لِلْسُنَّةِ، فهي من هذه الناحية متساوية مع القرآن من حيث مقابلة نصوصها بنصوصه والتوفيق بينهما، والجمع حين يظهر شيء من التعارض، وهذا لا ينازع فيه أحد مِمَّنْ يقول بِحُجِيَّةِ السُنَّةِ.
هَلْ تَسْتَقِلُّ السُنَّةُ بِالتَشْرِيعِ
؟:
لا نزاع بين العلماء في أنَّ نصوص السُنَّةِ على ثلاثة أقسام:
أولاً: ما كان مُؤَيِّدًا لأحكام القرآن، موافقاً له من حيث الإجمال والتفصيل وذلك مثل الأحاديث التي تفيد وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم من غير تعرض لشرائطها وأركانها، فإنها موافقة للآيات التي وردت في ذلك، كحديث:«بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» .
فإنه موافق لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) ولقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (2) ولقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3)
(1)[سورة البقرة، الآية: 83].
(2)
[سورة البقرة، الآية: 183].
(3)
[سورة آل عمران، الآية: 97].
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِلَاّ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسٍهِ» ، فإنه موافق لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1)
ثانياً - ما كان مُبَيِّناً لأحكام القرآن من تقييد مُطْلَقٍ، أو تفصيل مُجْمَلٍ، أو تخصيص عام، كالأحاديث التي فَصَّلَتْ أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج والبيوع والمعملات التي وردت مجملة في القرآن، وهذا القسم هو أغلب ما في السُنَّةِ، وأكثرها وُرُودًا.
ثالثاً - ما دَلَّ على حكم سكت عنه القراَن، فلم يوجبه ولم ينفه، كالأحاديث التي أثبتت حرمة الجَمْعَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وأحكام الشفعة، ورجم الزاني البكر المحصن وتغريب الزاني البكر، وإرث الجدة وغير ذلك.
ولا نزاع بين العلماء في القسمين الأولين، أي في وُرُودِهِمَا وثبوت أحكامهما وكونهما الغالب على أحاديث السُنَّةِ، إنما اختلفوا في الثالث - أي الذي أثبت أحكاماً لم يثبتها القرآن ولم ينفها - بأي طريق كان ذلك؟ أعن طريق الاستقلال بإثبات أحكام جديدة؟ أم عن طريق دخولها تحت نصوص القرآن ولو بتاويل؟ ذهب صاحب " الموافقات " وآخرون إلى الثاني، وذهب الجمهور إلى الأول، وسننقل لك عبارة الشافعي أولاً، ثم ننتقل بك إلى شرح هذا الخلاف.
قال الشافعي رحمه الله (2): «فَلَمْ أَعْلَمْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ مُخَالِفًا فِي أَنَّ سُنَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ، فَاجْتَمَعُوا مِنْهَا عَلَىَ وَجْهَيْنِ، وَالوَجْهَانِ يَجْتَمِعَانِ وَيَتَفَرَّعَانَ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ نَصَّ كِتَابٍ، فَبَيَّنَ رَسُولُ الْلَّهِ مَثَلُ مَا نَصَّ الكِتَابُ.
وَالآخَرُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ جُمْلَةَ كِتَابٍ، فَبَيَّنَ عَنْ اللَّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ.
(1)[سورة النساء، الآية: 29].
(2)
" الرسالة ": ص 91.