الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجَلَّ» وكان يقول: «إِنَّ لِلْتَّعْلِيمِ غَوَائِلَ، فَمِنْ غَوَائِلِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ العَالِمُ حَتَّى يَذْهَبَ عِلْمُهُ، وَمِنْ غَوَائِلِهِ النِّسْيَانُ، أَمَّا وَمِنْ غَوَائِلِهِ الكَذِبُ فِيْهِ وَهُوَ أَشَدُّ غَوَائِلِهِ» إن إماماً كهذا الإمام العظيم، كان في حياته عَلَمًا من أعلام الهُدَى، وسيظل كذلك إلى ما شاء الله، رغم أنف الجاحدين والمتعصبين والمبطلين، والحمد لله رب العالمين.
عودة إلى مناقشة شُبَهِ المُسْتَشْرِقِينَ:
9 - تَغْيِيرُ الأُمَوِيِّينَ الحَيَاةَ الدِّينِيَّةَ:
ثم يقول المستشرق «جولدتسيهر» بعد أن فرغ من الكذب على الزُّهْرِي: «ولم يقتصر الأمر على وضع أحاديث سياسية أو لصالح البيت الأموي، بل تَعَدَّى ذلك إلى الناحية الدينية في أمور العبادات التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، مثل ما هو معروف من أنَّ خطبة الجمعة كانت خُطبتين، وكان يخطب الخلفاء وقوفاً، وأنَّ خطبة العيد كانت تَتْبَعُ الصلاة فَغَيَّرَ الأُمَوِيُّونَ من ذلك، فكان يخطب الخليفة خطبة الجمعة الثانية جالساً، وجعلوا خطبة العيد قبل الصلاة، واستدلوا لذلك بما رواه رجاء بن حَيْوَةَ من أنَّ الرسول والخلفاء كانوا يخطبون جلوساً في حين قال جابر بن سَمُرَةَ: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ خَطَبَ جَالِساً فَقَدْ كَذَبَ» . ومثل ذلك ما حصل من زيادة معاوية في درجات المنبر، وما كان من جعله المقصورة التي أزالها العباسيون بعد ذلك، كما لم يقتصر الأمر على نشر أحاديث ذَاتَ مُيُولٍ، بل تعداه إلى اضطهاد أحاديث لا تمثل وجهات النظر الرسمية والعمل على إخفائها وَتَوْهِينِهَا، فَمِمَّا لا شك فيه أنه كانت أحاديث في مصلحة الأُمَوِيِّينَ اختفت عند مجيء العباسيين».
إن هذا الرجل يتكلم بعقلية غريبة عنا - نَحْنُ المُسْلِمِينَ - بل بعقلية غريبة عن المحيط العلمي وذلك أن الناس ما زالوا منذ قديم الزمان حتى اليوم، يرون من بعض الملوك الحاكمين إجراءات تتعلق بالمحافظة على حياتهم أحياناً، أو تتعلق بزيادة مظاهر العظمة والنفوذ، أو يقومون بإصلاحات تتعلق ببلادهم وأماكن العبادة فيها، وقد يكون لهؤلاء الملوك مخالفون كما يكون لهم مؤيدون، ومع ذلك فلا يخطر في بال أحد أن مثل هذه المظاهر تدل على تلاعب بالدين، أو استخدام للعلماء
في سبيل هذا التلاعب بالدين، يقع هذا بين سمعنا وبصرنا، ووقع لمن قبلنا وما زال الخلفاء والملوك منذ عصر الصحابة حتى اليوم يفعلون مثل هذا، فها هو أبو بكر يجمع ألقرآن في مصحف، وعمر يجمع الناس على التراويح وعثمان يُحَدِّث الأذان الأول يوم الجمعة خارج المسجد وعمر بن عبد العزيز يزيد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها هُمْ الملوك والرؤساء يُجَدِّدُونَ المساجد ويزيدون فيها وينقصون، ويتخذون من الحيطة لأنفسهم عند الذهاب إلى الصلاة ما يدفع عنهم خطراً متوهماً أو متوقعاً، فلماذا لا يعتبر عمل هؤلاء تَزَيُّداً في الدين يدل على انحراف عنه؟ ونعتبر مثل زيادة معاوية في درجات المنبر، واتخاذه المقصورة دليلاً على تغيير الحُكَّامِ الأُمَوِيِّينَ للحياة الدينية؟ إن المنبر غُيِّرَ على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فبعد أن كان رسول الله يقف بجانب جذع النخل، اتَّخَذَ مِنْبَرًا مِنْ ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، حين تزايد الناس في المسجد، واحتاج الأمر إلى مكان عال ليسمع البعيد كما يسمع القريب، فما الذي يمنع من زيادة الدرجات على هذا إذا اتسع المسجد أكثر من ذلك؟ وزاد الناس فيه عما كانوا عليه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا شيء يمنع من هذا لا ديناً ولا شرعاً ولا تُقىً ولا وَرَعاً، وهذا هو ما فعله معاوية حين زاد درجات المنبر، أما اتخاذه المقصورة، فليس لتغيير الحياة الدينية، بل حيطة لنفسه من الاغتيال بعد أن تآمر الخوارج عليه وعلى عَلِيٍّ وعمرو بن العاص. فلما قُتِلَ عَلِيٌّ ونجا هو وعمرو، رأى من الحيطة أن لا يصلي مختلطاً بالناس بل في مقصورة تمنع عنه الأذى، وقد ذكر ذلك ابن خلدون في صريح العبارة (1).
أما الجلوس في الخطبة الثانية، فنحن نعترف بأنه تغيير من شكل العبادة بدأ به معاوية، ولكن لا تَعَمُّداً لهذا التغيير، بل اضطراراً حين كثر شحمه ولحمه، فلم يعد يستطيع الوقوف كثيراً، قال الشعبي:«أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ النَّاسَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ، وَذَلِكَ حِينَ كَثُرَ شَحْمُهُ وَعَظُمَ بَطْنُهُ» (2) ومع ذلك فقد لقي من إنكار العلماء يومئذ
(1)" المقدمة ": ص 299.
(2)
" تاريخ الخلفاء " للسيوطي: ص 143. نقلاً عن ابن قتيبة.
ما يعطيك الدليل القاطع على أن علماءنا لم يكونوا يجاملون في حقٍ أو يتساهلون في إنكار منكر يعتقدونه.
أخرج البيهقي عن كعب بن عجرة: أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن الحكم (1)، يخطب قاعداً فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً والله تعالى يقول لرسوله:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (2) ومع ذلك فلم يحتج ابن الحكم بحديث، ولم يَدَّعِ في ذلك سُنَّةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ما ادَّعَاهُ «جولدتسيهر» من أن رجاء بن حيوه روى لهم أن رسول الله والخلفاء كانوا يخطبون جلوساً، فهذا كذب على رجاء، وافتراء على إمام ثقة من أئمة المُسْلِمِينَ، ويستحيل أن يقول رجاء هذا في عصر لا يزال فيه كثير من الصحابة يدافعون عن سُنَّةِ رسول الله دفاع المُسْتَمِيتِ، ولم نجد لنسبة هذا الحديث إلى رجاء أثراً في أي كتاب من كُتُبِ السُنَّةِ المعتمدة، ولعله رآه في كتاب ككتاب " ألف ليلة وليلة "، الذي كثيراً ما اعتمد عليه في النقل أثناء بحوثه العلمية، أو في كتاب " حياة الحيوان " للدميري الذي ينقل عنه كثيراً، ورجاء بن حيوه عند أئمة الحديث ثقة حافظ قال الذهبي (3): قال ابن سعد: «كان رجاء فاضلاً ثقة كثير العلم، وقال ابن عون: لم أر مثل رجاء بالشام ولا مثل ابن سيرين بالعراق ولا مثل القاسم بالحجاز» ، قال الذهبي: قلت: هو الذي اشار على سليمان باستخلاف عمر بن عبد العزيز، فذنب هذا الإمام الثقة في نظر جولدتسيهر أنه كان بالشام وكان متصلاً بخلفاء الأُمَوِيِّينَ كذنب الزُّهْرِي تماماً.
وأما قول جابر بن سَمُرَة: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ خَطَبَ جَالِساً فَقَدْ كَذَبَ» ، فليس فيه رَدٌّ على حديث وضع بالفعل، بل يحتمل أن يكون رَداً لما يطرأ في أذهانهم من جواز ذلك، فقطع لهم بأنه مخالف لِسُنَّةِ رسول الله قطعاً.
(1) البيهقي: 3/ 166 ورواه مسلم في " صحيحه ": (حديث 864) إلا أنه قال فيه (عبد الرحمن بن أم الحكم).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
[انظر " صحيح مسلم " بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: 2/ 591، حديث 39 (864)].
(2)
[سورة الجمعة، الآية: 11].
(3)
" تذكرة الحفاظ ": 1/ 111.
وأما تقديم الخطبة على الصلاة في العيد، فقد اعتذر مروان عن ذلك بأنه فعله مضطراً لأن الناس لم يعودوا يستمعون إلى خطبهم بعد انتهاء الصلاة، ولم يرد عنه أنه احتج لذلك بحديث أو أنه دفع بعض أتباعه إلى وضع حديث يؤيد ذلك، ومع هذا فقد أنكر عليه الصحابة والتابعون.
أخرج البخاري في " صحيحه " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه أنكر على مروان والي المدينة من قِبَلِ معاوية تقديم الخطبة على صلاة العيد وجذبه من ثوبه. فجذبه مروان فارتفع فخطب، فقال أبو سعيد فقلت له: غيَّرْتُمْ والله، فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مِمَّا لا أعلم، فقال مروان: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة. وأخرج مسلم بهذا المعني ما يؤيده.
فأين ترى استدلال مروان بالحديث؟ وأين ترى استدلال معاوية على الخطبة جالساً وعلى اتخاذه المقصورة وزيادة درجات المنبر بالحديث؟ نحن لا ننازع في وقوع هذه الحوادث، ولكن الذي ننازع فيه اتخاذ هذه الحوادث التي وقعت من أصحابها اجْتِهَادًا ولظروف خاصة اقتضتها، دليلاً على أنهم أرادوا تغيير ألحياة الدينية ووضعوا أحاديث لذلك، وهذا ما لم يقع، بل الواقع أن هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ يخبطون فيه على غير هدى، ويتوهمون الأمر فيحكمون فيه بحكم قاطع، ثم لا يستطيعون أن يجدوا لما يتخيلوا دليلاً.
وأما زعم المستشرق بأنه مِمَّا لا شك فيه أنه كانت هناك أحاديث في مصلحة الأُمَوِيِّينَ قد اختفت عند مجيء العباسيين، فهذا الذي لا يشك فيه المستشرق هو عندنا كل الشك، إذ نحن نسأله: أين هي هذه الأحاديث؟ وكيف اختفت؟ وكيف عمل العباسيون على إخفائها نهائياً؟ هل منعوا علماء الحديث من ذكرها في أسانيدهم؟ نعم لئن كان اختفى بعض الحديث في عصر دُونَ عصر فذلك اختفاء الكذب حين يفتضح، والباطل حين ينهزم، وانما يختفي من ميادين الكتب الصحيحة والمسانيد الموثوقة، أما أن تختفي من الوجود هي وأصحابها وَرُوَّاتِهَا ومُدَوِّنُوها، فهذا ما لم نعلم له مثيلاً في تاريخنا، وَنَتَحَدَّاهُمْ أن يأتونا بمثال واحد عليه.