الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(بعض الآفات التي تُصيب بعض الدعاة)
العجلة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
إن حديثنا عن بعض الآفات التي تُصيب بعض الدعاة، فيرجعون عن الطريق ويقعدون عن الدعوة، ويتخلفون عن المسير، ومن هذه الآفات العجلة وضعف اليقين والتقصير في عمل اليوم والليلة.
أما العجلة: فهي آفة خطيرة تُصيب الداعية؛ فتَحرمه الوصول إلى غايته وإصابة هدفه، رُوي:"أن نستور بعث صاحبَيْه إلى الملك يدعوانه إلى دين عيسى عليه السلام وأمرهما أن يرفِقا به، وأن يدعواه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فخالف الصاحبان وصيّة مرسلهما؛ فدخلا على الملك فأغلظا له القول وعنّفاه، فأخذهما وحبساهما وآذاهما، فقال لهما نستور: ما مَثَلكما إلا كمثل امرأة لم تلد حتى كبرت سنها فولدت، فاستعجلت شباب ولدها؛ لتنتفع به، فأطعمته أكثر مما يطيق فقتلته، فلم تحقق هدفها".
ومن هنا قيل: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه" وأصل هذا المثل في السنة النبوية المطهرة قول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث القاتل)) فمن قتل مورثه استعجالًا للميراث؛ يُعاقب بنقيض قصده، فيحرم من الميراث؛ فالعجلة آفة مذمومة نهى الله تعالى عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((التأنّي من الله، والعجلة من الشيطان)).
قال ابن القيم: إنما كانت العجلة من الشيطان؛ لأنها خفَّة وطيش وحدّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار، والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور، وهي متوّلدة بين خلقين مذمومين هما: التفريط والاستعجال قبل الوقت.
والذي يتتبع نصوص الوحيين يرى فيها الكثير والكثير من النهي عن العجلة فمنها النهي عن العجلة في طلب العلم قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16 - 19) قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآيات: هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقي الوحي من الملك؛ فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته؛ فأمره الله عز وجل إذا جاء الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفّل الله تعالى له أن يجمعه -يعني: ما أوحيه ما في صدره- وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه.
فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه، ولهذا قال تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي: بالقرآن كما قال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114)، ثم قال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك {وَقُرْآنَهُ} أي: أن تقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونفهمك معناه كما أردنا وشرعنا.
وقال السعدي رحمه الله: وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم ألا يبادر المُتعلم للعلم قبل أن يفرغ المعلم من المسألة التي شرع فيها؛ فإذا فرغ منها سأله عما
أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرّدّ أو الاستحسان ألا يبادر برده أو قبوله قبل الفراغ من ذلك الكلام؛ ليتبيّن ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهمًا يتمكّن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب.
ومن الاستعجال في العلم التصدّر للتعليم قبل التأهُّل له، والتصدّر للفتيا قبل التأهّل لها، والتسرع بالجواب قبل إدراك السؤال. ومنها: النهي عن العجلة في نقل الأخبار قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) أي: فاستظهروا صدقه من كذبه بطريق آخر؛ كراهة أن تصيبوا قومًا بجهالة -أي: قومًا بُرآء مما قذفوا به- بغية أذيّتهم بجهالة لاستحقاقهم إياه، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم؛ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، أي: فتندموا على إصابتكم إياهم بالخيانة التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخافه الندم في العواقب.
ولقد كان للعجلة في نقل الأخبار بلا تثبت أثرها السيئ في انتشار حديث الإفك الذي روّجه المنافقون ضدّ الطاهرة المبرأة النزيهة العفيفة أمنا عائشة رضي الله عنها حتى قال الله في هذه العجلة: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: 15) وهي سورة فيها الخفّة والاستهتار، وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة، ولا اهتمام؛ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبّر ولا تروٍّ، ولا فحص ولا إمعان نظر؛ حتى لكأن القول لا يمرّ على الآذان، ولا تتملاه الرءوس، ولا تتدبره القلوب {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ} بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم؛ إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقّاها العقول، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} .
وبعد إنكار العجلة عليهم في نقل الأخبار يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الاستعجال؛ فيقول تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (النور: 17) فلا بد من التروّي ولا بد التأني، ولا بد من التثبت والتبين، ومنها النهي عن العجلة في الحكم على الناس قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: 94) أي: إذا سافرتم في الغزو فتبينوا؛ أي: فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجلوا فيه بغير تدبر ورويّة، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء: 94) أي: لا تقولوا بغير تدبر لمن حياكم بتحية الإسلام أو من ألقى إليكم مقاليد الاستسلام والانقياد لست مؤمنًا، وإنما أظهر ما أظهر متعوذًا؛ بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رجل في غُنيمة له؛ فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا بتلك الغنيمة؛ فأنزل الله في ذلك قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء: 94) "، فلا يجوز التعجّل في الحكم على الناس بالكفر قبل البيان، بل لا يجوز للعامة أن يشغلوا أنفسهم بمسألة التكفير، فإن باب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئًا.
ومنها النهي عن العجلة في القضاء: عن علي رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيًا فقلت: يا رسول الله، تُرسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبيّن لك القضاء)) قال علي: فما زلت قاضيًا، أو ما شككت في قضاء بعد".
ومنها النهي عن العجلة في الدعاء: قال الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} (الإسراء: 11) قال ابن كثير رحمه الله: يخبر الله تعالى عن عجلة الإنسان في دعائه في بعض الأحيان على نفسه، أو ولده، أو ماله بالشر، أي: بالموت أو الهلاك، أو الدمار، واللعنة، ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال الله تعالى:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (يونس: 11)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خَدَمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
ومن العجلة في الدعاء: أن يستعجل الإنسان عقوبة ذنبه في الدنيا قبل الآخرة. عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من المسلمين قد خَفَت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هل كنت تدعوا بشيء أو تسأله إيَّاه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة؛ فعجّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله لا تطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)). قال: فدعا الله له فشفاه.
ومن العجلة في الدعاء: أن يدعو الداعي قبل أن يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم. عن فضالة بن عُبيد قال:"سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو في صلاته لم يُمجّد الله ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجلت أيها المصلي)) ثم علَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يُصلي؛ فمجد الله وحمده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعُ تُجب، وسَلْ تُعْطَ)) ".
ومن العجلة في الدعاء: استعجال الإجابة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)).
ومن الاستعجال المذموم: الحرص على تجميع الناس، وتكثير عددهم حول الداعية دون تمحيص ولا تربية، وإنما فقط لمجرَّد تكثير العدد، وهذا الاستعجال فيه من المضارّ والمخاطر ما فيه، ففي الاستعجال خطورة كبيرة تتمثَّل في عدة نقاط؛ منها: أن الاستعجال يجمع أعضاء بُسطاء الفكرة، ضعفاء التربية، تجربة قليلة، وطريق هذه الدعوة شاقّ يُشترط على السير فيه التزام التقوى، ولذلك يحصل التساقط في الطريق، وهذا خطر كبير.
ومنها: أن الدعوة في نشأتها وبدايتها تقوم على أكتاف الأقوياء؛ لتكوين القاعدة الصلبة، والاستعجال يُخالف ذلك.
ومنها: أن كثرة الضعفاء في هذه المرحلة داخلَ الصف الإسلامي تُؤدّي إلى تأخير ساعات النصر وإشغال المربِّين، وإضاعة طاقتهم في نوعية ساذجة تأخذ منهم أوقاتهم وجهودهم التي ينبغي عليهم أن يصرفوها في أعمال أخرى يرفعون فيها من مستوى الشباب في المجالات المختلفة، وينتج عن ذلك خطورة واضحة لا شكّ فيها.
ومنها: أن عملية الاستعجال سيكون من نتاجها بعد فترة تجميع فئة من الضعفاء تشغل المربّين في تصريفها في مجال يتناسوا معها، وبالتالي تنشأ قضية جديدة تأخذ منهم جهدًا فكريًّا وتنظيمًا هي في غنًى عنه الآن، وفي هذه المرحلة من العمل؛ لذلك ينبغي على الداعية المربي أن يتريَّث على إخوانه في المحاضر التربوية وغيرهم من الدعاة الجُدد في انتهاز الفرص في تربيتهم جميعًا، تربية مركزة قائمة على