المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو - أصول الدعوة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة

- ‌العجلة

- ‌ضعف اليقين

- ‌التقصير في عمل اليوم والليلة

- ‌الدرس: 2 أصول العقيدة (1)

- ‌علاقة الدعوة بأصول الإسلام

- ‌تعريف العقيدة وأصولها الستة

- ‌الركن الأول: الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني: الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين

- ‌الدرس: 3 أصول العقيدة (2)

- ‌الركن الرابع: الإيمان بالكتب

- ‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس: الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 العبادة

- ‌الركن الأعظم بعد الشهادتين: الصلاة

- ‌الركن الثاني بعد الصلاة: الزكاة

- ‌الركن الثالث بعد الصلاة: الصيام

- ‌الركن الرابع بعد الصلاة: الحج

- ‌الدرس: 5 الأخلاق

- ‌علاقة الأخلاق بالعقيدة

- ‌علاقة الأخلاق بالعبادة

- ‌تعريف الأخلاق وأهميتها

- ‌مكانة الأخلاق في الإسلام

- ‌خصائص الأخلاق في الإسلام

- ‌الدرس: 6 خصائص الإسلام

- ‌خاصية العالمية

- ‌خاصية الإنسانية

- ‌الدرس: 7 المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة

- ‌معنى أصول الدعوة، وموضوعه، وحكم تعلمه

- ‌موضوع علم أصول الدعوة

- ‌فضائل علم أصول الدعوة

- ‌نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها

- ‌روافد علم أصول الدعوة، ونسبته، وثمرته، ومسائله، ومصادره

- ‌الدرس: 8 التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة

- ‌الفرق بين العلم والمعرفة

- ‌الحس في الفكر الإسلامي

- ‌العلاقة بين العقل والنقل

- ‌الدرس: 9 دعوة المسلمين

- ‌أصناف المدعوِّين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة الكفار والمنافقين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين

- ‌الدرس: 10 أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها

- ‌الإيمان

- ‌الاجتهاد في الطاعات والتقرب بها إلى الله

- ‌التجرد والزهد

- ‌أن يكون في نفسه قدوة حسنة

- ‌أن يكون قوي الحجة مستظهرًا للأدلة

- ‌العلم

- ‌الدرس: 11 المدعوون

- ‌من هو المدعو

- ‌دعوة القرآن المشركين للإيمان

- ‌دعوة القرآن اليهودَ للإيمان

- ‌دعوة القرآن النصارى للإيمان

- ‌دعوة القرآن المنافقين للإيمان

- ‌الدرس: 12 المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌بيان القرآن الكريم للأحكام الشرعية

- ‌أهمية القرآن الكريم في حياة الداعية والمجتمع

- ‌الدرس: 13 المصدر الثاني: السنة

- ‌التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

- ‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا

- ‌الدرس: 14 الثقافة التي يحتاج إليها الداعية

- ‌الثقافة الدينية

- ‌معرفة علوم القرآن

- ‌الثقافة التاريخية

- ‌الثقافة الأدبية والواقعية

- ‌الدرس: 15 ركائز الدعوة في الإسلام

- ‌التصور الإسلامي للكون والحياة

- ‌التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع

- ‌الدرس: 16 علاقة الإسلام بالدعوات السابقة

- ‌الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه

- ‌حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة

- ‌الدرس: 17 الأخلاق ومكانتها في الإسلام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1)

- ‌الأخلاق ومكانتها في الإسلام

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الإخلاص

- ‌من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة

- ‌الدرس: 18 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2)

- ‌من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها: الإيجابية

- ‌من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية

- ‌الدرس: 19 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الصبر

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الرفق

- ‌الدرس: 20 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العدل

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو

- ‌الدرس: 21 من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح

- ‌(من خصائص الإسلام: الربانية

- ‌من خصائص الإسلام: الوسطية

- ‌من خصائص الإسلام: الوضوح

الفصل: ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو

وأن يقضوا به، وأن يحكموا به بين كل من يتحاكم إليهم، ولو كان غير مسلم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى بالعدل بين اليهود لو تحاكموا إليه فقال عنهم:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42).

وعلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يتحلوا بالعدل بين الناس، وأن يحرصوا على إظهار هذا الخلق في تصرفاتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، وحكمهم، وقضائهم، وأن يظهروه للناس حتى يعلم الجميع سماحة الدين، وإنصاف الإسلام، وعدالة الإسلام فيدخلوا فيه بإذن الله عز وجل، فالحذر كل الحذر من الجور، والظلم فإن الجور، والظلم سبب فناء الأمم بينما العدل من أعظم أسباب بقاء الأمم، وانتشار المحبة، والوئام فيها إن الدولة إنما تبقى بالعدل فإذا ظلمت أهلكها الله سبحانه وتعالى كما قال:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (يونس: 13)، ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته قال:((بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أذل أو أذل، أو أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)).

‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو

العفو لغة: مصدر من قولهم: عفا يعفو عفوًا، ومعناه: الترك، والطلب.

واصطلاحًا: قال المناوي: العفو القصد لتناول الشيء، والتجاوز عن الذنب، وقال الكفوي: العفو كف الضرر مع القدرة عليه، وكل من استحق عقوبة فتركها فهذا الترك عفو، وقال أيضًا: العفو عن الذنب يصح رجوعه إلى ترك ما يستحقه المذنب من العقوبة، وإلى محو الذنب، وإلى الإعراض عن المؤاخذة كما يُعرض المرء عما يسهل على النفس بذله.

ص: 399

والله سبحانه وتعالى هو العفو أي: كثير العفو سمى نفسه عفوًّا في أكثر من آية منها قوله سبحانه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (النساء: 98، 99)، وقال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أو تُخْفُوهُ أو تَعْفُو عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (النساء: 149)، وقال تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي ولَدْنَهُمْ وإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وزُورًا وإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2).

قال الغزالي رحمه الله: والعفو صفة من صفات الله تعالى، وهو الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهذا الاسم العفو قريب من اسم الغفور لكنه أبلغ منه؛ العفو أبلغ من الغفور؛ فإن الغفران ينبئ عن الستر غفر: ستر، والعفو: ينبئ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر أن تستر الشيء غطيته، وهو باق أما محوته فقد أزلته فلم يبق فاسم العفو أبلغ من اسم الغفور، ولقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن زلات المؤمنين فقال سبحانه:{فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران: 159)، وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يعفو بعضهم عن زلات بعض فقال سبحانه:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى: 40)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وإِنْ تَعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن: 14).

فالعفو صفة من صفات الله عز وجل وصفة من صفات الأنبياء والمرسلين، هو أيضًا صفة من صفات عباد الله المتقين قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاء والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 133، 134)، وبين سبحانه وتعالى أن العفو أقرب للتقوى فقال: {وَأَنْ تَعْفُوا

ص: 400

أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (البقرة: 237)، وبين أن أجر وثواب العفو عليه سبحانه فقال:{فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40)، وبين سبحانه وتعالى هذا الأجر الذي وعد به العافين عن الناس فقال:{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ونِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران: 136).

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عفوًا غفورًا يعفو عن المسيئين، ويتجاوز عن الظالمين، عن عبد الله قال:"كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة -قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته- ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه وضحك، ثم أمر له بعطاء)).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ((أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد؛ فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لما رجع- من غزوته قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، قال جابر: ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقد جاءوه، وعنده الأعرابي: إن هذا الأعرابي اخترط علي سيفي، وأنا نائم فاستيقظت، وهو في يده سلطًا فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله ثلاث مرات، ولم يعاقبه، وجلس)).

فهذا أعرابي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فأخذ السيف، وأيقظه، وقال: من يمنعك مني؟ يعني: من يمنعك مني يا محمد؟ أنا، وأنت، والسيف، ولا أحد عندنا،

ص: 401

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله))، الله يمنعني منك. كما وعده ربه:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) فقال: الله يمنعني ويعصمني؛ (فسقط السيف من يد الأعرابي فأخذه وقال للأعرابي: من يمنعك مني؟ فقال الأعرابي: يا محمد، كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله قال: لا، ولكن أعاهدك ألا أحاربك، وألا أكون مع قوم يحاربونك فعفا عنه صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه)).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد)) نحن نعلم من سيرته صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد أنه وقع في حفرة فشج وجهه، وكسرت رباعيته، وسال الدم على وجهه عليه الصلاة والسلام فكأن عائشة ترى أن هذا أمرًا عظيمًا، وأذًى كبيرًا، فتسأله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ هل أوذيت أكثر من ذلك؟ هل ابتليت أكثر من ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام:((لقد لقيت من قومك -يعني: لقد لقيت منهم كثيرًا، آذوني كثيرًا- وكان أشد ما لقيت يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب)) مكان بين الطائف ومكة لما ذهب إلى الطائف، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا عليه، ثم لم يسكتوا عنه بل سلطوا صبيانهم، ونساءهم فرموه بالحجارة من الشوارع فوق الأسطح.

قال: ((فرفعت رأسي فإذا ظلة من السحاب قد أظلتني، وإذا جبريل يقول: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، وقد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما تشاء فتكلم ملك الجبال فقال: يا محمد، إن ربك قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وأنا ملك الجبال أمرني أن أفعل ما تشاء فما شئت إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، وقال: لا إنما بعثت

ص: 402

رحمة، ولم أبعث عذابًا، إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، أو قال: أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)).

وهكذا رأى الصحابة رضي الله عنهم العفو، واقعًا عمليًّا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعية الأول إلى الله عز وجل فأحبوا العفو، وتخلقوا به، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم رغبهم في العفو، وحثهم عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا)). كثيرًا ما يؤذى الإنسان، ويضطهد، وتحدثه نفسه بالعفو فيأتيه الشيطان، ويزين له أن هذا العفو ضعف، وأن الخصم لن يكف عن أذاك، ولن يكف عن الاعتداء عليك، والأولى لك أن تنتقم، والأولى لك أن تثأر، وهكذا، لا هذه ذلة، ومهانة أن تعفو لا ليست ذلة، ولا مهانة ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا هكذا يقول صلى الله عليه وسلم.

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ((لقيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال فقال: يا عقبة، صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك)).

وعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاثة أقسم عليهن ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)). هكذا ربى النبي -صلى الله عليه، وسلم- أصحابه على العفو تربية عملية نظرية تربية نظرية بين لهم فضائل العفو، وحثهم عليه، ورغبهم فيه. تربية عملية أراهم العفو متمثلًا في شخصه صلى الله عليه وسلم عن كل من آذاه، وأساء إليه كما سمعنا بعض هذه الأمثلة، والنماذج في عفوه صلى الله عليه وسلم. ولقد

ص: 403

آتت هذه التربية العملية، والدعوة القولية من رسول الله صلى الله عليه وسلم آتت ثمارها في نفوس أصحابه فكان العفو سجيتهم.

ومن أمثلة عفو الصحابة -رضوان الله عليهم- عمن آذاهم ما جاء في الصحيح في حديث الإفك لما خاض أهل الإفك في عرض أمنا رضي الله عنها عائشة- وزوج نبينا صلى الله عليه وسلم الطيبة بنت الطيب، وزوج الطيب الصديقة بنت الصديق، وزوج أصدق الخلق أجمعين رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خاضوا في عرضها، ونزلت البراءة:{أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (النور: 26) كان من الذين خاضوا في هذا الإفك مسطح بن أثاثة، وكان مسطح قريبًا لأبي بكر رضي الله عنه وكان فقيرًا، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لفقره، وقرابته فلما نزلت آية البراءة، وخاض مسطح في عرض عائشة غضب أبو بكر على مسطح؛ لأنه لم يراع حرمة القرابة، ولم يراع فضل الصدقة؛ أولًا: هو قريب أبو بكر فيؤذيه ما يؤذي أبا بكر، وثانيًا: لأبي بكر فضل عليه فهو ينفق عليه.

فكان الواجب إن لم يراع حرمة القرابة أن يراعي الفضل، والإحسان فإن الله تعالى قال:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60) لكن مسطح خاض مع الخائضين في حديث الإفك، فلما نزلت البراءة غضب أبو بكر فقال: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله تعالى قوله في حق أبي بكر:{وَلَا يَأْتَلِ أولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} (النور: 22) فسمى أبا بكر أولي الفضل فجعله جماعة جعل أبا بكر وحده هو أولي الفضل {وَلَا يَأْتَلِ ولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا ولِي الْقُرْبَى والْمَسَاكِينَ والْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22) فقال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.

ص: 404

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، ويقربهم، وكان القراء أصحاب مجلس عمر، ومشاورته كهولًا كانوا أو شبانًا فقال عيينة لابن أخيه الحر: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه؛ يا ابن أخي أنت من المقربين إلى أمير المؤمنين، وأنا أريد أن أدخل عليه فاستأذن لي حستى أدخل، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن، فأذن عمر فما هو أن دخل عيينة على أمير المؤمنين عمر حتى قال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فبادره الحر فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وإن هذا من الجاهلين قال: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله عز وجل.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما كان يوم أحد هزم المشركون فصرخ إبليس -لعنة الله عليه-: أي عباد الله أخراكم، أي: جاءكم العدو من ورائكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم. المسلمون أنفسهم بعدما تولوا الأدبار هاربين من العدو نادى عدو الله إبليس عباد الله أخراكم ارجعوا العدو جاءكم من ورائكم، فرجع المدبرون فالتقوا مع الثابتين هؤلاء هكذا، وهؤلاء هكذا، فاجتلدت هي وأخراهم، يعني ضرب المسلمون بعضهم بعضًا، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان، نظر حذيفة بن اليمان فإذا هو بأبيه اليمان يكاد يقتل قال: أي عباد الله أبي أبي، قالت: فوالله ما احتجزوه حتى قتلوه، المسلمين قتلوا أخاهم اليمان والد حذيفة بن اليمان؛ فقال حذيفة: يغفر الله لكم، يغفر الله لكم قتلكم لأبي، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله عز وجل.

ص: 405

وفي رواية ابن إسحاق فقال حذيفة: "قتلتم أبي" قالوا: والله ما عرفناه وصدقوا فقال حذيفة: يغفر الله لكم فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع لحذيفة دية أبيه؛ لأن المسلمين قتلوه خطأ، فتصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا زاد من شأنه، ورفع من قدره عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك منه رضي الله عنه عملًا بقوله تعالى في الدية:{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (النساء: 92) فالله تعالى فرض في القتل الخطأ دية تسلم إلى أهل المقتول، وندبهم إلى العفو، والصدقة فقال:{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} ، وقد أخرج هذا الحديث الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، وترجم عليه بقوله: باب العفو في الخطأ بعد الموت.

والله تبارك وتعالى قد ندب إلى العفو في الدية حتى في دية القتل العمد فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 178) فعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن يتحلوا بخلق العفو عن المسيء كما أمر الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:{فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159)، وقال سبحانه وتعالى:{وَلْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22).

إن الداعية لا يسلم من أذى المدعوين سواءً كان أذى قوليًّا أو فعليًّا؛ لأن الأصل في الداعية أنه يأمر الناس بما يكرهون، وينهاهم عما يحبون، حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، وهذه هي دعوتنا ندعو الناس إلى الجنة، ونحذرهم من النار فأنت تأمرهم بما يكرهون، وتنهاهم عما يحبون فلا تسلم أيها الداعية من أذى الناس، ولو بالقول فلابد أن تصبر على الأذى كما وصى لقمان ابنه حيث قال:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ الْمُنْكَرْ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان: 17)، ولكن لا يكفي الصبر بل لا بد عليك أيها الداعية أن

ص: 406

تصبر، وأن تعفو، ولا تلجئ من أخطأ في حقك إلى أن يعتذر لك بل بادره أنت بإظهار العفو عنه، والصفح إيمانًا، واحتسابًا فإن العفو عن الناس من أسباب عفو رب الناس، ولذلك قال تعالى:{وَلْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور: 22).

ولقد كان من الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة تدعو به ليلة القدر: ((وقد قالت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)). فالعفو عن الناس من أسباب عفو رب الناس، ومن أسباب أيضًا الدعاء، والرجاء، وبذلك أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله تبارك وتعالى أن يعفو عنا قال الله تعالى معلمًا عباده المؤمنين:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا ولَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا ولَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي، وحين يصبح يقول: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا، والآخرة، اللهم إني أسألك العفو، والعافية في ديني، ودنياي، وأهلي، ومالي اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدمه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)).

وصلى الله وسلم، وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 407