المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المُكث لا على الاستعجال، وبذلك يكون قد وافق الأسلوب القرآني - أصول الدعوة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة

- ‌العجلة

- ‌ضعف اليقين

- ‌التقصير في عمل اليوم والليلة

- ‌الدرس: 2 أصول العقيدة (1)

- ‌علاقة الدعوة بأصول الإسلام

- ‌تعريف العقيدة وأصولها الستة

- ‌الركن الأول: الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني: الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين

- ‌الدرس: 3 أصول العقيدة (2)

- ‌الركن الرابع: الإيمان بالكتب

- ‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس: الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 العبادة

- ‌الركن الأعظم بعد الشهادتين: الصلاة

- ‌الركن الثاني بعد الصلاة: الزكاة

- ‌الركن الثالث بعد الصلاة: الصيام

- ‌الركن الرابع بعد الصلاة: الحج

- ‌الدرس: 5 الأخلاق

- ‌علاقة الأخلاق بالعقيدة

- ‌علاقة الأخلاق بالعبادة

- ‌تعريف الأخلاق وأهميتها

- ‌مكانة الأخلاق في الإسلام

- ‌خصائص الأخلاق في الإسلام

- ‌الدرس: 6 خصائص الإسلام

- ‌خاصية العالمية

- ‌خاصية الإنسانية

- ‌الدرس: 7 المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة

- ‌معنى أصول الدعوة، وموضوعه، وحكم تعلمه

- ‌موضوع علم أصول الدعوة

- ‌فضائل علم أصول الدعوة

- ‌نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها

- ‌روافد علم أصول الدعوة، ونسبته، وثمرته، ومسائله، ومصادره

- ‌الدرس: 8 التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة

- ‌الفرق بين العلم والمعرفة

- ‌الحس في الفكر الإسلامي

- ‌العلاقة بين العقل والنقل

- ‌الدرس: 9 دعوة المسلمين

- ‌أصناف المدعوِّين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة الكفار والمنافقين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين

- ‌الدرس: 10 أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها

- ‌الإيمان

- ‌الاجتهاد في الطاعات والتقرب بها إلى الله

- ‌التجرد والزهد

- ‌أن يكون في نفسه قدوة حسنة

- ‌أن يكون قوي الحجة مستظهرًا للأدلة

- ‌العلم

- ‌الدرس: 11 المدعوون

- ‌من هو المدعو

- ‌دعوة القرآن المشركين للإيمان

- ‌دعوة القرآن اليهودَ للإيمان

- ‌دعوة القرآن النصارى للإيمان

- ‌دعوة القرآن المنافقين للإيمان

- ‌الدرس: 12 المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌بيان القرآن الكريم للأحكام الشرعية

- ‌أهمية القرآن الكريم في حياة الداعية والمجتمع

- ‌الدرس: 13 المصدر الثاني: السنة

- ‌التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

- ‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا

- ‌الدرس: 14 الثقافة التي يحتاج إليها الداعية

- ‌الثقافة الدينية

- ‌معرفة علوم القرآن

- ‌الثقافة التاريخية

- ‌الثقافة الأدبية والواقعية

- ‌الدرس: 15 ركائز الدعوة في الإسلام

- ‌التصور الإسلامي للكون والحياة

- ‌التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع

- ‌الدرس: 16 علاقة الإسلام بالدعوات السابقة

- ‌الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه

- ‌حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة

- ‌الدرس: 17 الأخلاق ومكانتها في الإسلام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1)

- ‌الأخلاق ومكانتها في الإسلام

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الإخلاص

- ‌من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة

- ‌الدرس: 18 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2)

- ‌من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها: الإيجابية

- ‌من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية

- ‌الدرس: 19 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الصبر

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الرفق

- ‌الدرس: 20 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العدل

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو

- ‌الدرس: 21 من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح

- ‌(من خصائص الإسلام: الربانية

- ‌من خصائص الإسلام: الوسطية

- ‌من خصائص الإسلام: الوضوح

الفصل: المُكث لا على الاستعجال، وبذلك يكون قد وافق الأسلوب القرآني

المُكث لا على الاستعجال، وبذلك يكون قد وافق الأسلوب القرآني في التربية، فإن مما ذكره الله تعالى في القرآن قوله عز وجل:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الفرقان: 32) قال تعالى: {كَذَلِكَ} أي: نزلناه مفرقًا {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (الفرقان: 32)، وقال:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (الإسراء: 106)، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدّث ومعلم وواعظ أن يتأمّل في توجيه ربه سبحانه، في تدبيره أمر الخلق وبعث الرسل إليهم، فكلما حدث موجب أو حصل موسم أتى بما يُناسب ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والمواعظ الموافقة لذلك.

فعلى الدُّعاة إلى الله عز وجل أن يبذلوا جهدهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعليهم ألا يستعجلوا جني ثمار ما بذلوه من الجهد في الدعوة إلى الله عز وجل، فإن الله تبارك وتعالى أكثر على نبيه صلى الله عليه وسلم من الأمر بالصبر، والنهي عن الاستعجال قال الله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: 35)، فعليك أيها الداعية أن تغرس وتحرث، وأن تترك الإنبات لله عز وجل:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56).

‌ضعف اليقين

ومن الآفات التي تُصيب الداعية فتُقعده عن دعوته: ضعف اليقين واليأس من الناس، واليأس من النصر إذا تأخّر النصر؛ لذلك كثر في القرآن الكريم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، وبيان أن العاقبة له كما كانت لإخوانه المرسلين من قبله قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49)، وقال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35)، وقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا

ص: 15

وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (الأنعام: 34)، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110) وقال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود: 120) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (الأنبياء: 105، 106) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 171 - 173)، وقال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر: 51) وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 33).

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على الصبر ويبشّرهم بالنصر في أحلك الظروف وأصعبها حتى يستمروا في الثبات على الدين والانتشار به هاهنا وهاهنا، دون يأس يُقعدهم، ودون تشاؤم يصدهم عن تبليغ دعوة ربهم، عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال:((شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: قد كان من كان قبلكم يُؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، فيوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُفرق فرقتين ما يصده ذلك عن دينه، والله)) قسم يدل على الثقة المتناهية الثقة الكاملة في وعد الله عز وجل الذي أشارت إليه تلك الآيات التي صدّرنا بها الحديث: ((والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).

ويوم الخندق: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (الأحزاب: 10، 11) في هذا اليوم، وفي هذه الظروف، وفي هذه

ص: 16

الأثناء وهم يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة عجزوا عن كسرها، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((إني نازلٌ، أنا قادم لأكسر هذه الصخرة التي عجزت عنها معاولكم؛ فجاء عليه الصلاة والسلام وقد ربط على بطنه، ونزل فأتى هذه الصخرة ورفع المعول قائلًا: بسم الله فطار ثلثها، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأرى قصورها من مكاني هذا، ثم ضرب الضربة الثانية فطار الثلث الثاني من تلك الصخرة فقال: الله أكبر أعطيك مفاتيح فارس، والله إني لأرى قصورها من مكاني هذا، ثم ضرب الضربة الثالثة فصارت هباء منثورًا فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله لأني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)).

هكذا كان صلى الله عليه وسلم يبَشِّرُ أصحابه بأن النصر قريب، وبأن المستقبل لهذا الدين مهما اشتدّت الأزمات، وعظمت الخطوب، ومهما حاول أعداء الدين أن يُطفئوا نور الله عز وجل فإنهم لن يصلوا إلى تلك الغاية كما أخبر الله عز وجل:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة: 32)، ولقد ظلّ صلى الله عليه وسلم يُبشر أصحابه بالنصر والتمكين، وفتح بلاد المشركين، وأكثر عليهم في ذلك؛ تضمينًا لقلوبهم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((بَشّر هذه الأمة بالثناء والدين، والرفعة والنصر، والتمكين في الأرض)).

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها))، وقوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله استقبل بي الشام وولّى ظهري اليمن، وقال لي: يا محمد، إني جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقًا، وما خلف ظهرك مددًا، ولا يزال الإسلام يزيد وينقص الشرك وأهله؛ حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جورًا، والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم)). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل

ص: 17

والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يُعز الله به الإسلام، وذلًّا يزل الله به الكفر)). وهذه كلها بشارات عامة.

وقد بَشّر صلى الله عليه وسلم بفتح بعض البلاد وسماها، ففتحت كما بشر صلى الله عليه وسلم من هذه البلاد: أرض الكنانة، مصرنا الحبيبة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم:((إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يُسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإنّ لهم ذمة ورحمًا))، ومنها: اليمن والشام والعراق، كما قال صلى الله عليه وسلم:((تُفتح اليمن فيأتي قومٌ يبثّون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قومٌ يبثون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح العراق فيأتي قوم يبثون فيحلمون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون)). فبشر صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح مصر واليمن والشام والعراق، وقد فُتحت تلك البلاد كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

وهناك بلاد بشر صلى الله عليه وسلم بفتحها ولمَّا تفتح، من هذه البلاد: روما عاصمة إيطاليا، عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:((بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نكتب؛ إذ سُئل صلى الله عليه وسلم أي: المدينتين تُفتح أولًا القسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل تُفتح أولًا)) يعني: قسطنطينية، وقد فتحت قسطنطينية، ونحن في انتظار فتح رومية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى كما أخبر عن ربه سبحانه وتعالى.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((عُصيِّبة من المسلمين يفتحون البيت الأبيض بيت كسرى)). بل إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن رفع الخلافة، ثم أخبر عن عودتها، رفع الخلافة التي سقطت كما هو معلوم في العام الرابع والعشرين من الميلاد بعد التسعمائة والألف، سقطت الخلافة كما أخبر عليه الصلاة والسلام وإخباره هذا ليس من عنده إنما هو من الله عز وجل-

ص: 18

القائل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: 26، 27) أخبر صلى الله عليه وسلم عن سقوط الخلافة، ثم أخبر عن عودتها وارتفاع رايتها؛ حتى لا ييأس الدعاة بعد سقوط الخلافة من عودتها، قال صلى الله عليه وسلم:((تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًّا، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًّا فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت صلى الله عليه وسلم).

فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه بعد النبوّة خلافة، وبعد الخلافة ملك عاضّ وملك جبري، وبعد الملك العاض والملك الجبري خلافة على منهاج النبوة تنتهي بها الدنيا كما بدأت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فيا أيّها الداعية هذه النصوص التي ذكّرتك بها تبعث في نفسك الأمل، وتجعلك لا تيأس ولا تفتر، بل امضِ قُدمًا في طريق دعوتك، وأنت متفائل، وأنت على يقين من أن المستقبل لهذا الدين، وتأمّل التاريخ على مداره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والأزمنة المتتابعة إلى اليوم، تأمّل وخُذ من التاريخ العبر والدروس حتى لا تيأس أبدًا، ولا يضعف يقينك أن المستقبل لهذا الدين مهما كانت العقبات، ومهما عظمت الخطوب، ومهما ازدادت الكروب، ومهما تقوَّى وتحصّن أعداء الدين ضد أهل الدين إلا أن الله لا بد أن يُظهر دينه كما وعد، والتاريخ أكبر شاهد.

وإليك هذه الوقائع الثلاث: من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد أن استلم أبو بكر رضي الله عنه مقاليد الخلافة؛ ففي هذا الوقت من خلافة أبي بكر عظم الخطب، واشتدّ الحال، ونجم النفاق، وارتدّ من ارتد من أحياء العرب، وظهر مدعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، ولم يبقَ للجمعة مقام في بلد سوى مكة

ص: 19

والمدينة، وأصبح المسلمون كما يقول عروة بن الزبير رضي الله عنهما: كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم؛ حتى وجد من المسلمين من قال لأبي بكر رضي الله عنه: يا خليفة رسول الله، أغلقك بابك، والزم بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين -يعني: الموت- ولكن أبا بكر رضي الله عنه لم يعترِه اليأس، ولم يستحوذ عليه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث الجسام كلها بإيمان راسخ، وعزيمة ثابتة، وتفاؤل عظيم.

هو الذي قال للدنيا قولته الخالدة: "أينقص الدين وأنا حي".

وهو الذي قال لعمر رضي الله عنه حين جاء يعاتبه على قتال مانعي الزكاة: "مه يا عمر، رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، أجبّار في الجاهلية وخوَّار في الإسلام، ماذا عسيت أن أتألَّفهم بسحر مفتعل، أم بشعر يُفترى هيات هيات، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي؛ فوالله لأجاهدنّهم ما استمسك السيف في يدي، فوالله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فوالله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال؛ فعلمت أنه الحق".

وأبو بكر هو الذي أنفذ جيش أسامة رضي الله عنه وقال لمعارضيه: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني؛ لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته ما كنت أحلّ عقدًا عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه. ولم يزل أبو بكر رضي الله عنه يُخطّط ويجاهد ويرسل البعوث، ويسهر على مصالح الرعية؛ حتى استطاع أن يتغلَّب على الصعاب، وأن يقضي على الثورات والفتن، وأن ينتصر على المرتدّين ومدّعي النبوة، ومانعي الزكاة، ومبطلي

ص: 20

الصلاة، وأن يعيد للمسلمين عزتهم، ولليائسين تفاؤلهم، وللإسلام دولته، وللخلافة هيبتها.

من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لمّا استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية، والمسجد الأقصى ما يُقارب قرنًا من الزمان؛ حتى ظن الكثير من المسلمين وغير المسلمين ألَّا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وألَّا رجاء في ردّ أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ومن كان يظن أن هذه البلاد ستتحرّر في يوم ما على يد البطل المغوار صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويُصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما خرَّب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال وداسوا القيم، وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكًا ذريعًا. من كان يظن أن بلاد الإسلام بعد هذا الذي حدث ستتحرر في يوم ما على يد البطل المقدام قطز في معركة عين جالوت الحاسمة، ويصبح للمسلمين من المجد والعظمة والرفعة.

أيها الداعية؛ إن هذه الكوارث الثلاث التي وقعت في عصور مختلفة، وانتفاضة الأمة الإسلامية بعدها، ونهوض العرب يلتقي على نقطة واحدة، وهي وجود قيادة مؤمنة راسخة العقيدة، قوية الإيمان بوعد الله ونصره، وبصلاح الإسلام، وبالقوة الكامنة فيه، شديدة التمسك بتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، مجردة عن كل أنانية وعصبية جاهلية، ويلتقي هؤلاء القادة على أنهم كلهم كانوا يدعون إلى الإسلام، ويقاتلون بسيف محمد عليه الصلاة والسلام واستحقوا بذلك نصر الله، وتأييده الخارق للعادة، وظهرت المعجزة وكان حزب الله هم المفلحون كما قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 173).

ص: 21