الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(الثقافة التي يحتاج إليها الداعية)
الثقافة الدينية
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
إن أول ما يلزم الداعية المسلم من عُدّة فكرية أن يتسلح بثقافة دينية ثابتة الأصول، باثقة الفروع، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ونعني هنا بالثقافة الدينية الثقافة التي محورها دين الإسلام، مصادره وأصوله وعلومه المتعلقة به المنبثقة عنه، وهذا أمر منطقي فإن الداعية الذي يدعو إلى الإسلام لا بد أن يعرف ما الإسلام الذي يدعو الناس إليه، ولا بد أن تكون هذه المعرفة معرفة يقينية عميقة لا سطحية مضطربة، ولهذا كان لا بد أن يستمد هذه المعرفة عن الإسلام من مصادره الأصلية، ومن ينابيعه المصفّاة، بعيدًا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وبهذا يكون الداعية على بينة من ربه، وتكون دعوته على بصيرة، كما عرض الله عز وجل لرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه واهتدى بهداه قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) لا بد للداعية إذًا أن يقف على أرض صُلبة من دراسة العلوم الإسلامية دراسة وعي وهضم وتذوق، ثم يُخرج منها شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس.
ومما لا شك فيه: أن المصدر الأول للإسلام هو القرآن الكريم؛ فهو إذًا المصدر الأول للثقافة الإسلامية، فكل تعاليم الإسلام يجب أن ترجع في أصولها إلى القرآن؛ سواء في ذلك العقائد والمفاهيم، والقيم والموازين والعبادات والشعائر والأخلاق والآداب والقوانين والشرائع، كل هذه قد وضع القرآن الكريم أسسها، وأرسى دعائمها وجاءت السنة فبينت وفصلت، وأقامت عليها بنيانًا شامخ لا تنال منه الليالي والأيام.
وقد حوى القرآن الكريم من حقائق الغيب وحقائق النفس وحقائق الحياة، وحقائق الاجتماع الإنساني، وبيَّن من سنن الله تعالى، ومن آياته في الأنفس والآفاق ما لا يستغنى بشر عن معرفته والاهتداء به، وقد صاغ ذلك كله في أسلوب معجز هو نور من الكلام أو كلام من النور، لا يوصف إلا بأنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} (هود: 1) وصفه منزله بأنه نور، والنور من طبيعته أن يضيء ويهدي قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء: 174)، كما وصفه بأنه روح، والروح من طبيعتها أن يحرك ويحيي قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52).
ولهذا كان شأن المؤمنين المهتدين بالقرآن أن يُوصفوا بالحياة وبالنورانية معًا؛ لأنهم انتصروا على الموت وعلى الظلام جميعًا قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام: 122)، فعلى الداعية أن يعنى كل العناية وأن يهتم كل الاهتمام بالقرآن الكريم حفظًا ودراسة، وترتيلًا ووعيًا، وفهمًا، وتعليمًا، ودعوة.
ينبغي للداعية أن يحفظ من القرآن الكريم قدر ما يستطيع بل يحسن للداعية أن يحفظ القرآن كله، ويستظهره متى تيسر له أسباب ذلك؛ ليكون أقدر على استحضاره والاستشهاد به في كل مناسبة ممكنة، فالقرآن ذخيرة لا تنفد، ومعين لا ينضب لامتداد الدعاة، ومن اللازم للحافظ وغير الحافظ دوام التلاوة لكتاب الله عز وجل بخشوع وتأمل وتدبر، تنفتح معه أقفال القلوب وتنشرح الصدور لما جاء به من الحق، وتقتبس العقول منه أنور المعرفة، وتجتني ثمار الحقائق، ودوام هذه التلاوة مع التفهم والتدبر يجعل الداعية متمكنًا من استحضار الشواهد القرآنية التي يريد أن يؤيّد به فكرته، ويمنحها نسبة إلهية.
بل إن مما يلزم الداعية الموفق أن يُحسن تلاوة القرآن بإتقان وترتيل كما أمر الله، وأن يدرس من أحكام التجويد ما يصحح به قراءته حتى يتلوه بخشوع وتأثر وحزن، فإن وجد بكاء بكى، وإلا تباكى.
والقرآن الكريم له خصائصه؛ فينبغي لمن يريد أن يفهم القرآن أن يقرأه، وهو يعي خصائصه ومميزاته، ويدركها بعقله وقلبه، من أولى هذه الخصائص: أنه كلام الله تعالى خالصًا غير مشوب بأوهام البشر، ولا بأهواء البشر، ولا بتحريفات البشر، وانحرافات البشر، هو كله من الله مائة في المائة من ألفه إلى يائه، ليس لجبريل عليه السلام منه إلا النقل، ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم منه إلا التلقي والحفظ، ثم التبليغ والبيان، قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 92 - 95).
ومن خصائص القرآن التيسير، فهو كتاب يسر الله تعالى تلاوته، ويسر فهمه، ويسر العمل به لمن أراد، لا يكلف الإنسان شططًا، ولا يرهقه من أمره عسرًا قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17)، قال بعض السلف: فهل من طالب علم فيُعان عليه، وقال تعالى:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الدخان: 58).
وكل هذا يوجب على الداعية أن يعرض القرآن سهل ميسر كما أنزله الله، ولا يضعه في إطار من الألغاز، والمعميات والتكلفات التي تُخرجه عن طبيعته المُيَسَّرة، والمُيَسِّرة كذلك، ومن خصائص القرآن أنه كتاب معجز أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدى به المشركين من العرب أن يأتوا بحديث مثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة مثله، أو من مثله، فغلبوا وانقطعوا، وسجَّل القرآن عليهم ذلك في جلاء وصراحة
فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88).
ومن خصائص القرآن أنه كتاب الخُلود ليس كتاب جيل ولا كتاب عصر، ولا كتاب أجيال أو أعصار محدودة، بل هو الكتاب الخاتم للرسالة الخاتمة، ولهذا تكفَّل الله بحفظه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، وقال {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42)، ومن خصائص القرآن الشمول، فكما أنه كتاب الزمن كله فهو كتاب الدين كله، جمع أصول الهداية الإلهية، والتوجيه الرباني في العقائد والشعائر والآداب والأخلاق، كما جمع أصول التشريع الإلهي في العبادات والمعاملات، وشئون الأسرة وعلاقات المجتمع الصغير والكبير، المحلي والدولي حتى إن أطول آية في القرآن أُنزلت لتنظم شأنًا من شئون الحياة الاجتماعية، وهي كتابة الدين.
وإلى جانب هذا هو كتاب الإنسانية كلها، وكتاب الحياة كلها، ولهذا جعله الله للناس وللعالمين كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} (البقرة: 185)، وقال سبحانه:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (يوسف: 104) فليس هو كتاب لجنس دون جنس، ولا لوطن دون وطن، ولا طائفة من الناس.
أودّ أن أنبه الداعية إلى عدة أمور: منها ضرورة العناية بالقصص القرآني وما اشتمل عليه من عبر وعظات وأسرار، وحكم بالغة، وعليه أن يعلم أن القرآن الكريم حين يقصّ القصص لا يهتَمُّ بذكر الأشخاص والبلدان، والتواريخ، ولا يهتم بالتفصيلات المملة؛ إنما يهتم برءوس العبر، ورسم ملامح الشخصيات التاريخية، واتجاهات الأحداث ونتائجها قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111)، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، قال الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 83) أي: لن أسرد الوقائع والأحداث سردًا، وإنما سأتلوا عليكم من هذه القصة ما فيه الذكر والعبرة والمنفعة والقصص في القرآن الكريم كثير جدًّا، وقد صنفت فيه مصنفات وألفت فيه مؤلفات.
كذلك على الداعية أن يعنى بالنماذج القرآنية التي تصور لنا الشخصية الإنسانية في مختلف المجالات والأحوال، كنموذج الغني الشاكر في شخصية سليمان بن داود عليهما السلام، وكنموذج الحاكم أو الملك العادل في شخصية ذي القرنين رضي الله عنه، وكنموذج المبتلى الصابر الراضي بالقضاء في شخصية أيوب عليه السلام، وكنموذج الشاب المتعفف عن الحرام بالرغم من فتوته وجماله ونضرة شبابه وقوة الدواعي كيوسف عليه السلام، وكنموذج الشاب الممتثل لأمر الله عز وجل وإن أودى بحياته كإسماعيل عليه السلام، وكنموذج الداعية صاحب الرسالة الذي يُحكم عليه بالسجن ظلمًا فلا ينسيه الظلم ولا تنسيه الظلمة السجن أن يقوم بواجب الدعوة إلى الله مع السجناء كشخصية يوسف عليه السلام.
نماذج كثيرة للشخصية الإنسانية امتلأ بها القرآن الكريم ينبغي للداعية أن يُعنى بها.
ومما ينبغي للداعية أن يتحرَّاه ويَحرص عليه ويُحكمه حسنُ الاستدلال بالقرآن وآياته على ما يريد تقريره، أو تثبيته بالأحكام، وتعاليم، وأفكار؛ فإنه إذا أحسن الاستدلال بالنص القرآني ووضعه في موضعه أزاح كل شبهة، وقطع كُل تعلة، وأخرص كل معارض، فلا دليل بعد القرآن ولا حديث بعد كلام الله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا} (النساء: 122). كما يجب على الداعية أن يحضر ويحذر من