المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين - أصول الدعوة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة

- ‌العجلة

- ‌ضعف اليقين

- ‌التقصير في عمل اليوم والليلة

- ‌الدرس: 2 أصول العقيدة (1)

- ‌علاقة الدعوة بأصول الإسلام

- ‌تعريف العقيدة وأصولها الستة

- ‌الركن الأول: الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني: الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين

- ‌الدرس: 3 أصول العقيدة (2)

- ‌الركن الرابع: الإيمان بالكتب

- ‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس: الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 العبادة

- ‌الركن الأعظم بعد الشهادتين: الصلاة

- ‌الركن الثاني بعد الصلاة: الزكاة

- ‌الركن الثالث بعد الصلاة: الصيام

- ‌الركن الرابع بعد الصلاة: الحج

- ‌الدرس: 5 الأخلاق

- ‌علاقة الأخلاق بالعقيدة

- ‌علاقة الأخلاق بالعبادة

- ‌تعريف الأخلاق وأهميتها

- ‌مكانة الأخلاق في الإسلام

- ‌خصائص الأخلاق في الإسلام

- ‌الدرس: 6 خصائص الإسلام

- ‌خاصية العالمية

- ‌خاصية الإنسانية

- ‌الدرس: 7 المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة

- ‌معنى أصول الدعوة، وموضوعه، وحكم تعلمه

- ‌موضوع علم أصول الدعوة

- ‌فضائل علم أصول الدعوة

- ‌نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها

- ‌روافد علم أصول الدعوة، ونسبته، وثمرته، ومسائله، ومصادره

- ‌الدرس: 8 التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة

- ‌الفرق بين العلم والمعرفة

- ‌الحس في الفكر الإسلامي

- ‌العلاقة بين العقل والنقل

- ‌الدرس: 9 دعوة المسلمين

- ‌أصناف المدعوِّين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة الكفار والمنافقين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين

- ‌الدرس: 10 أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها

- ‌الإيمان

- ‌الاجتهاد في الطاعات والتقرب بها إلى الله

- ‌التجرد والزهد

- ‌أن يكون في نفسه قدوة حسنة

- ‌أن يكون قوي الحجة مستظهرًا للأدلة

- ‌العلم

- ‌الدرس: 11 المدعوون

- ‌من هو المدعو

- ‌دعوة القرآن المشركين للإيمان

- ‌دعوة القرآن اليهودَ للإيمان

- ‌دعوة القرآن النصارى للإيمان

- ‌دعوة القرآن المنافقين للإيمان

- ‌الدرس: 12 المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌بيان القرآن الكريم للأحكام الشرعية

- ‌أهمية القرآن الكريم في حياة الداعية والمجتمع

- ‌الدرس: 13 المصدر الثاني: السنة

- ‌التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

- ‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا

- ‌الدرس: 14 الثقافة التي يحتاج إليها الداعية

- ‌الثقافة الدينية

- ‌معرفة علوم القرآن

- ‌الثقافة التاريخية

- ‌الثقافة الأدبية والواقعية

- ‌الدرس: 15 ركائز الدعوة في الإسلام

- ‌التصور الإسلامي للكون والحياة

- ‌التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع

- ‌الدرس: 16 علاقة الإسلام بالدعوات السابقة

- ‌الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه

- ‌حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة

- ‌الدرس: 17 الأخلاق ومكانتها في الإسلام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1)

- ‌الأخلاق ومكانتها في الإسلام

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الإخلاص

- ‌من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة

- ‌الدرس: 18 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2)

- ‌من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها: الإيجابية

- ‌من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية

- ‌الدرس: 19 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الصبر

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الرفق

- ‌الدرس: 20 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العدل

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو

- ‌الدرس: 21 من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح

- ‌(من خصائص الإسلام: الربانية

- ‌من خصائص الإسلام: الوسطية

- ‌من خصائص الإسلام: الوضوح

الفصل: ‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين

الرجل قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فلما أُخبر صلى الله عليه وسلم قال:((أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) قال: يا رسول الله قالها مخافة السيف قال: ((هل شققت عن قلبه)) فلنا الظاهر والله يتولى السرائر، فلا يجوز الحكم على شخص بأنه منافق نفاق اعتقاد إلا ببرهان أوضح من شمس الضحى.

ثانيًا: المنافق يُدعى إلى الإسلام ويوعظ ويُذكّر بالله، وتجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، ويغلّظ عليه عند مخالفته للشرع، قال الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (النساء: 63)، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 73) قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك؛ فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتفِ به يا نبينا فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: لا تعنفهم على ما في قلوبهم، {وَعِظْهُمْ} أي: وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلامٍ بليغ رادعٍ لهم.

‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين

وأخيرًا، وبعد أن عرفنا أصول الدعوة التي يجب اتباعها في دعوة الكافرين والمنافقين، بقي لنا أن نعرف أصول الدعوة للمسلمين، فإذا كانت دعوة الكافرين والمنافقين لها أصول فدعوة المسلمين أيضًا لها أصول، فنقول في بيان ذلك وبالله تعالى التوفيق:

للدعوة إلى الله تعالى بين المسلمين ميدانان، هما:

ص: 182

التربية والتعليم، وثانيًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكل ميدان من هذين الميدانين أصوله وقواعده.

أولًا: قواعد في التربية على الإسلام وتعاليمه:

التربية وهي التزكية والتعليم، هي مهمة النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمنين، فقد قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2)، فالتربية هي التزكية، والتربية هي تنشئة الإنسان وبناؤه، قال عليه الصلاة والسلام:((ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسّانه)) وهذه أهم قواعد التربية والتزكية.

أولًا: يجب أن يتضح أمام المربي والمعلم النموذج والمثال الذي يجب أن يربي على غراره، وهذا النموذج قد جاء وصف التفصيلي في آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل، منها قول ربنا سبحانه في أول سورة المؤمنون:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون: 1 - 11).

وقد رسم الله سبحانه وتعالى الشخصية المسلمة وأكثر من وصفها في القرآن الكريم في مواضع كثيرة؛ في سورة البقرة والأنفال والحجرات والإسراء، ذكر الله تبارك وتعالى النموذج الطيب للمؤمن الصالح الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذلك النموذج الطيب والإنسان الكامل والقدوة والأسوة الذي أمر الله تعالى المسلمين أن يتأسوا به؛ حيث قال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21).

ص: 183

ثانيًا: يجب على الداعي على الله ومعلم الخير، أن يعتمد لنفسه ومن يعلمهم نظام التعليم الدائم من المهد إلى اللحد، والمسلم الحق هو من يزداد في دينه كل يوم علمًا وعبادة، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114).

ثالثًا: يجب أخذ العلم والعمل جميعًا، وعدم إفراد العلم عن العمل؛ لأن هذا مدعاة لأن يقول المسلم ما لا يفعل، وأن يصبح العلم حجة على صاحبه لا حجة له، وقد كان منهج الصحابة في التعلم أخذ العلم والعمل جميعًا؛ فقد كان منهم من حفظ سورة البقرة في عدة سنوات؛ ليحفظ السورة وليعلمها وليعمل بها، كما قال الأعمش:"كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"، فتأخذ العلم والعمل جميعًا وهذا لمن جاوز مرحلة الصغر وسنوات الحفظ الذهبية، أما من كان صغيرًا فينبغي على المعلم أن يغتنم صغره وأن يهتم بتلقينه وتحفيظه القرآن الكريم والسنة النبوية والعلوم الشرعية، متمثلة في المتون، تلك المتون التي هي كليات العلوم وقضاياها الأساسية، وكثيرًا ما تكون نظمًا أو نثرًا، ثم في الكبر يعتني بعد ذلك بالفهم والتعلم والتفقه، بأن يستشرح الطالب ما حفظه في صغره من المتون، ومن قواعد التعليم تعلم الحق قبل تعلم الباطل؛ لأن السابق إلى الذهن يتمكن منه ويستقر فيه، وقد قال عليه الصلاة والسلام:((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) والفطرة في الحديث هي التوحيد، كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30).

فيجب تعليم الصغار كلمة التوحيد وتنشئتهم على الفضيلة والخلق الطيب، قبل اطلاعهم على أنواع الكفر والشرك ومعرفة الرزيلة، ثم يجب تعلم جواب الشبه قبل ورودها تحصنًا منها، كما كان الله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين ما يقولونه جوابًا

ص: 184

لشبهات الكفار قبل أن يلقيها الكفار كما في قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (البقرة: 142)، ويجب أن تكون الدعوة إلى الله بالأسوة الصالحة، قبل أن تكون بالتعلم فإن التربية بالقدوة أبلغ في الدعوة، فالعالم العامل المربي يدعو بسيرته وأخلاقه وأعماله أكثر من أن يدعو بأقواله، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أثّر في سلوك أصحابه بأخلاقه وشمائله أعظم من تأثيره بأقواله ومواعظه.

وينبغي للعالم أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، يقول الإمام ابن عبد الوهاب رحمه الله: ينبغي للمعلم أن يعلم الإنسان على قدر فهمه، وإن كان مما يقرأ القرآن أو عرف أنه ذكي فيُعلم أصل الدين وأدلته والشرك وأدلته، ويُقرأ عليه القرآن ويجتهد أن يفهم القرآن فهم قلب، وإن كان رجلًا متوسطًا ذُكر له بعض هذا، وإن كان مثل غالب الناس ضعيف الفهم فيصرح له بحق الله على العبيد، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المسلم وحق الأرحام وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الميدان الثاني في دعوة المسلمين: فيتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أصوله أيضًا، منها:

لا يجوز لمن يأمر بالمعروف أن يُقدِم على ذلك إلا إذا علم أن ما يأمر به هو من المعروف حقًّا، ولا يجوز أن ينهى عن منكر إلا إذا علم أن ما ينهى عنه هو المنكر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"والله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به، والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لم يعلمه لا يمكنه النهي عنه".

ص: 185

وقال الإمام النووي رحمه الله: ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد؛ لم يكن للعوام مدخلٌ فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء.

ثانيًا: مراتب تغيير المنكر ثلاث، فيجب على الداعية أن يتبع الحكمة ويراعي القدرة على هذه المراتب، قال صلى الله عليه وسلم:((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) فالإنكار باليد أعلى درجات الإنكار، وإنما يكون لأولي الأيدي والأبصار، أهل القوة والتمكن والقدرة، ولا يكون ذلك إلا من ذي سلطان، فالرجل في بيته سلطان يأمر وينهى ويغير المنكر بيده، والرجل في أي دائرة أو مؤسسة يديرها ويرأسها ذو سلطان يغير بيده، وأما في الشارع فإن التغيير باليد قد يفضي إلى مضار كثيرة ومنكرات أعظم من المنكر الذي غيره، ولا يجوز تغيير المنكر إذا أفضى إلى منكر أعظم منه، فمن لم يستطع باليد لأي سبب تحول إلى الإنكار باللسان، بأن يذمّ المنكر وأهله ويبين فساده ويحذر منه، فإن لم يستطع بلسانه تحول إلى الإنكار بالقلب بغضًا للمنكر وأهله ومفارقة لمجالسهم، فلا يجوز لمن رأى منكرًا وعجز عن تغييره باليد أو باللسان أن يظلَّ قاعدًا مع أهله؛ لأن هذا ليس منه تغيير، بل من التغيير بالقلب أن ينهض منصرفًا تاركًا لهذا المجلس، فإن الله تبارك وتعالى قال:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 68)، وقال سبحانه:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (النساء: 140)، فإذا

ص: 186

رأى المسلم المنكر ولم يغيّره بيده ولا بلسانه وظلَّ جالسًا مع أهله- جلوسه هذا دليل على أنه لم يغيره بقلبه أيضًا ولذلك جلس معهم، فهو شريكهم في الإثم، ولذلك روي "أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أوتي بقوم شربوا الخمر فقال: اجلدوهم، قالوا: فيهم فلان كان صائمًا قال: به فابدءوا"، اجلدوه أولًا، لماذا جلس مع الذين يشربون الخمر وهو صائم؟!

ثالثًا: مما يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: أن يعلم المصالح والمفاسد الشرعية التي تترتب على أمره ونهيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وجماع ذلك داخلٌ في القاعدة العامة، فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي إن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأمورًا به، بل يكون حرامًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.

لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد إنما هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، ومن هذا الباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغرر القوم وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به واعتذر عنه وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه وصدقه، وتعصب لكل منهم قبيلته حتى كادت تكون فتنة.

ص: 187

وأهم الأصول التي يجب على الداعية أن يتبعها في دعوته: إخلاص النية لله والبعد عن الهوى، فيجب على كل ما يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون عمله لله خالصًا وأن يكون لهدي النبي موافقًا، وأن لا يتبع الداعية هواه، ويأمر أو ينهى لحظ نفسه، وذلك أن الضلال في الدين عظيم، ومن فقد الإخلاص ولم يتحرَّ الصواب أوقعه الشيطان في الهوى.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات، فإن أهل الكتاب أتبعوا أهواءهم فضلوا، قال الله تعالى عنهم:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50)، ولذلك نُهي نبينا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء أهل الكتاب، قال تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة: 120)، فاتباع الهوى هو الذي أفسد الديانات السابقة، وأوجد الفرقة بين أهل الدين الواحد، هو الذي خرج به من خرج عن موجب الكتاب والسنة وسماهم علماء الإسلام أهل الأهواء، فيجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون باعثه إخلاص النية، وأن يكون عمله على الكتاب والسنة، وأن يجانب الهوى، وهو أن يحب ويبغض بدافع من هواه لا اتباعًا للأمر والنهي.

وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 188